للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المسألة السورية والأحزاب

بينما كان العرب في سورية والعراق يُمنون أنفسهم بالنجاة من طغيان
الطورانيين , وما سامهم جلادهم جمال باشا وغيره من سوء العذاب إلى نعيم
الاستقلال الصحيح والحرية التامة، ويتلذذون بما يقرءون في المنشورات والجرائد
التي تنقلها إليهم العيون، أو تنثرها عليهم الطيارات (كالقبلة والمقطم والكوكب) كان
السير مارك سايكس والموسيو بيكو (صديقا العرب) يضعان أصول الاتفاق بين
دولتيهما على اقتسام هذه البلاد بينها، ويضعان لها خارتةً [١] تحدد منطقة كل قسم
منها، كما فعل غيرها من رجال دول الأحلاف في بلاد الترك أيضًا، وقد كان أول
من كشف النقاب عن أسرار هذه المعاهدات السرية، أحرار الروس لما أسقطوا
حكومتهم القيصرية ونشروا أسرارها المطوية.
وقد اشتهر أمر معاهدة تقسيم ولايات سورية والعراق بين فرنسة وإنكلترة ,
وكثر كلام الجرائد الأوربية والعربية فيه، ولما ظهرت شروط الرئيس ولسن
واتفقت الدول المتحاربة على جعلها أساسًا للصلح باعتبار ما فسرها من خطبه التي
نشرنا أهمها من قبل، كان يُظَن أنها تنسخ هذه المعاهدة ونظائرها من المعاهدات
السرية التي وضعت لاستيلاء الأقوياء على بلاد الضعفاء نسخًا تامًّا، ولكننا
وجدنا أن عهد عصبة الأمم الذي يحسب الرئيس ولسن أنه غيَّر به نظام الدول
والأمم، ونقل البشر من طور سافل إلى طور عالٍ من الحرية والسلام - قد أجاز
تقسيم بلاد الشعوب الضعيفة بين الأقوياء، بشرط أن يسمى تصرف كل دولة فيما
تأخذه منها وصايةً وتوكيلاً، لا حمايةً ولا امتلاكًا ولا استعمارًا، وزاد على ذلك أن
الشعوب الراقية من أولئك الضعفاء التي يعترف باستقلالها مؤقتًا بشرط قبول هذه
الوصاية (أي: بشرط أن لا تكون مستقلةً) يسمح لها بأن يكون لها صوت في اختيار
الدولة الموكلة بها؛ ليكون ذلك حجةً عليها، وإذا احتج الضعيف على هذا بأنه مناقض
لما قاله ولسن وأمثاله من كبار رجال دول الحلفاء من أن أحد أغراضهم الرئيسية من
الحرب تحرير الشعوب المغلوبة واستقلالها، إذ هو عبارة عن وضع اسم جديد
للاستعمار والاستعباد يخدع الجاهلين ويصرفهم عن المقاومة - قال له من عساه
يتعطف بالجواب: ليس المراد من تحرير الشعوب غير الأوربية جعلها حرةً
كالأوربيين، كما يفهم البلداء الذين يفسرون الألفاظ بما يرونه في معاجم اللغة المخالفة
لمعاجم السياسة، وإنما المراد منه إنقاذها من حكامها الظالمين، وجعلها تحت سيادتنا
العادلة التي هي أفضل للشعب الضعيف من الحرية المطلقة التي لا يقدر على القيام
بأعبائها وشؤونها، وإذا كان ما قارب الشيء يُعطى حكمه، فما القول في ما هو أفضل
منه؟
فإذا قيل: إن صحت هذه النظرية، فاسترقاق الراقين في الحضارة من
الأفراد لمن دونهم خير لهم من الحرية، فلماذا تحرمون استرقاقهم؟ ثم لماذا تبيحون
حرية الفسق والفجور للشعوب الجاهلة، وأنتم ترون ما يجني عليها فشو الزنا
والسكر من الأمراض والفقر وفساد البيوت (العائلات) والأمة؟ إن قيل هذا سكت
لسان المقال، وصاح لسان الحال:
قتل امرئ في غابة ... جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن ... مسألة فيها نظر

كان أولو الإلمام بالسياسة من السوريين يعتقدون منذ آذن دول الحلفاء الدولة
العثمانية بالحرب، أن انتصارهم يفضي إلى تقسيم بلادها بينهما على قاعدة مطامعهم
القديمة فيها بأن تكون الآستانة لروسية وسورية لفرنسة، والعراق لإنكلترة، ولم
تكن أقوال رجال السياسة منهم أنهم يبغون تحرير الأمم والشعوب مضعفةً
لاعتقادهم هذا، ولكن منهم مَن حسَّن الظن بالرئيس ولسن إذ نادى بهذه الحرية
وبوجوب تعميمها وتعميم العدل وعدم التفرقة بين من يجب أن يعدل فيهم، إذ
حسبوا ذلك ناسخًا لما جرت عليه أوربة من وجوب حصر حرية الشعوب في
أقوامها دون الشعوب الآسيوية والأفريقية، ومنهم من لم يحسن الظن به، ولم
يفضله على ساسة أوربة في شيء، وربما كان هؤلاء السيئو الظن هم الأقلين من
أهل الإلمام بالسياسة، وكان سائرهم على رأي عامة شعبهم، وعامة سائر الشعوب
من حسن الظن والرجاء، إلى أن ظهر عهد عصبة الأمم فقال المتمرسون
بالسياسة: إن قواعد ولسن وخطبه لم تأت بشيء جديد إلا زيادة كليمات في معجم
السياسة الخادع، وظل أكثر العامة يفهمون أن المراد من مساعدة الدول الموكلة
للشعوب ليس إلا عبارةً عن إمدادها بما يعوزها من المال والسلاح وغيره كما
يرون من مساعدة إنكلترة لحكومة الحجاز الموالية لها.
هذا، وإن من المعلوم المشهور أن لكل من الفرنسيس والإنكليز صنائع
وأولياء من السوريين يلقون إليهم بالمودة، فطائفة من الموارنة من صنائع فرنسة
وأوليائها، ولها أفراد من الطوائف أخرى قد اجتهد رجالها في تكثير عددهم بعد
احتلال سورية، وطائفة من الدروز من صنائع إنكلترة وأوليائها، وكذلك اليهود
صاروا من أوليائها بوعدها إياهم بجعل بيت المقدس وما حوله من سورية
الجنوبية وطنًا قوميًّا لهم، يرجون أن يستعيدوا فيه ما فقدوا من الملك، وقد استمال
رجالها بعد احتلال هذه البلاد كثيرًا من أفراد الطوائف الأخرى، واستمال إليها
الأمير فيصل كثيرًا من المسلمين، زد على ذلك أن جمهور المتعلمين بالمدارس
الفرنسية يفضلون فرنسة على إنكلترة، والمتعلمين بالمدارس الإنكليزية والأمريكانية
يفضلون أمريكة وإنكلترة على فرنسة، وللدين والمذاهب تأثير عظيم في تفضيل دولة
على دولة وأمة على أمة، ودعاة الدين والمذاهب ما زالوا يتبارون في جذب قلوب من
يربونهم ويعلمونهم في مدارسهم إلى أنفسهم، وينفرونها من المخالفين لهم.
لم يكن للدولة التركية أدنى عناية بمقاومة دعاة النفوذ الأجنبي في بلادها، ولا
اهتمام بمعارضته بمثله فيها، ولا في بلاد أولئك الأجانب أو مستعمراتهم بالأولى،
وليس لغيرها من أمم المشرق الإسلامية ولا غيرها دولة ولا إمارة لها دعاة
يستميلون الناس باسم الدين، ولا باسم الحضارة ولا المصالح، لهذا كان الذين
ينفرون من الترك بالتأثير الأجنبي أو بسبب الظلم وسوء الإدارة - والذين
يتوقعون إفضاء ما عليه الترك من سوء الإدارة إلى سقوط دولتهم، واقتسام الدول
الكبرى لها - لم يكن أحد من هؤلاء ولا أولئك يفكر في مستقبل بلاده، ولا تتمثل
له إحدى الدول الأوربية الطامعة مسيطرةً عليها، متمتعةً بخيراتها، مستخرجةً
لكنوزها.
كان الأمر كذلك إلى أن قام الاتحاديون الطورانيون من الترك ببث دعوة
الجنسية التركية، ومحاولة تتريك جميع الخاضعين لحكمهم من الأجناس الأخرى
بالقوة القاهرة، حتى دَعُّوا هذه الأجناس دعًّا إلى المحافظة على جنسياتها، وإحياء
ما أماته الجهل والإهمال من لغاتها، ثم إلى التفكر في حريتها واستقلالها، فلما
اتخذ الاتحاديون الحرب ذريعةً إلى تنفيذ خطتهم في القضاء على العرب في سورية
والعراق بالقوة القاهرة، وشرعوا ينكلون بهم تقتيلاً وتصليبًا وتغريبًا ومصادرةً
وتخريبًا - كما فعلوا بالأرمن والروم - واشتعلت نار الثورة العربية في الحجاز ,
وانضوى أميره إلى دول الأحلاف المحاربة للترك والجرمان - تعلقت آمال السوريين
الذين يسامون سوء العذاب في سورية وغيرهم من العراقيين بأن تكون لهم دولة
عربية، يكون المؤسس لها ملك الحجاز، وكان النصارى كالمسلمين في تمني ذلك؛
لأن الشدائد التي ذاقوها بأنهم عرب قد أزالت كل خلاف وشقاق كان بينهم.
ولما احتل الحلفاء سورية بعد جلاء الترك عنها، وأخذ جزء من جنوبيها عنوةً
أقاموا فيها ثلاث حكومات عسكريةً على قاعدة معاهدة سنة ١٩١٦: حكومة
إنجليزية في سورية الجنوبية (فلسطين) لأنها منطقة إنكلترة، وحكومة فرنسية
في سواحل سورية الشمالية؛ لأنها منطقة فرنسة، وحكومة عربية في الداخلية؛
لأنها منطقة العرب، وكانت كل حكومة تبث نفوذها في منطقتها حتى اعتقد
المتمرسون بالسياسة من أهل البلاد في كل منطقة أنها صارت ملكًا خالصًا لمحتلها،
مهما يكن الاسم الذي يسمى به هذا الملك، وكانت كل حكومة تشدد في منع الاتصال
بين كل قسم من سورية وبين مصر بشدة المراقبة على البريد، وشدة التدقيق في
منع السفر من أحد القطرين إلى الآخر، إلا لمن يوثق بمشايعته للحلفاء في سياستهم
ثم لمن يوثق بأنه لا يخالفهم ولا يشتغل بسياسة غير سياستهم، ذلك بأن من في
مصر أجدر بمعرفة حقائق السياسة وخفاياها من أهل سورية وسائر أقطار الشرق
الأدنى، ولكن الأخبار والأفكار كانت تنقل بالتدريج بتلقين بعض ضباط الجيش
العربي وغيرهم من خدمة الحكومة العربية الذين كانوا يترددون بين مصر والحجاز
وسورية، ثم بتلقين غيرهم، وبما كان يحمل كل من الرسائل، فعرف بذلك
الكثيرون من أهل سورية حقائق المسائل، وكان مما ترتب عليه قوة رجائهم بما
يحبون من الاستقلال التام، وضعف أملهم وتغير رأيهم في ارتباط سورية بحكومة
الحجاز، فلم يعد يرغب في هذا أحد يعتد به من الذين عرفوا حقيقة الحال، ولكن
الأمير فيصلاً نجح بلطفه وسخائه وبمظاهرة الإنكليز له في تأليف حزب كبير يرغب
في جعله ملكًا لسورية مستقلة.
***
الأحزاب السورية
من فقه ما تقدم لم يعجب مما يراه من كثرة اختلاف السوريين في أمر بلادهم،
كما يعجب من لا يعرف من شؤونهم سوى الظواهر التي تتجلي له في جرائدهم
ومجلاتهم، وبراعتهم في التجارة بمصر وأوربة والممالك الأميركية، وإدارتهم
لبعض أعمال الحكومة المصرية، والسودانية.
قال عالم أوربي لشاب سوري من تلاميذه: إنني وقفت على كثير من شؤون
السوريين الاجتماعية وغيرها، وحضرت بعض أنديتهم ومحافلهم، فلم أر بيننا
وبينهم فرقًا يذكر؛ لهذا أخذ مني العجب مأخذه، لما علمت أن كثيرًا منهم يطلبون
أن يكون وطنهم تحت حماية أو وصاية أجنبية، هذه خطة خسف وضِعة لا
يرضى لنفسه بمثلها من نعلم أنهم أدنى من السوريين في كل علم وعمل، وأقل
شعورًا بمعنى الحرية والشرف. ولو علم هذا العالِم أن مصدر هذا الخسف
والضعة بعض أولئك الذين إذا رآهم تعجبه أجسامهم، وإن يقولوا يسمع لقولهم، دون
الجمهور السوري الأعظم الذي لم يسلبه التفرنج ولا التعصب الديني ما عرف
به السوريون وسائر العرب من الشمم والإباء، ثم علم سائر ما أشرنا إليه من
أسباب الخلاف - لما احتقر السوريين كافةً بما صدر عن الأقلين منهم بعذر من
الأعذار التي أشرنا إليها في هذا المقال أو بغير عذر.
من جراء ذلك ألف السوريون في البلاد وفي الممالك الأمريكية ومصر
عدة أحزاب وجمعيات كلها تطلب الاستقلال لسورية برمتها متحدةً غير متجزئة،
ومنها فلسطين ولبنان، إما وحدها وإما متحدة مع العراق وجزيرة العرب، وبعض
اللبنانيين منهم يطلب أن يكون لبنان مملكةً مستقلةً، ويُضَم إليه معظم ولاية بيروت
وجزء من ولاية الشام مما يكثر فيه النصارى بحيث يكون أكثر الأهالي منهم، فتكون
البلاد السورية مملكتين: الساحلية منهما مسيحية، والداخلية إسلامية. بهذا صرح لي
بعض كبرائهم، وأدبائهم، فما الظن بما يصرح به بعضهم لبعضهم؟ ثم إن طلاب
الاستقلال لسورية من هؤلاء السوريين المهاجرين منهم من يطلبه تامًّا مطلقًا ناجزًا،
كحزب الاتحاد السوري بمصر وبعض الأحزاب والجمعيات في الممالك الأمريكية
الموافقة لهذا الحزب، ومنهم من يطلب استقلالها إداريًّا تحت وصاية إحدى الدول
الأوربية الكبرى، أو الولايات المتحدة.
وأما السوريون الذين في البلاد، فالسواد الأعظم منهم كانوا يطلبون الاستقلال
المطلق الناجز مع الارتباط بالوحدة العربية التي يرغبون أن تتألف من جميع
الولايات العربية العثمانية على قاعدة اللامركزية، وقد بثت فيهم دعوة طلب
الوصاية الأجنبية باسم المساعدات، فراجت بين الكثيرين لاعتقادهم أنها عبارة
عن مساعدة بالمال لا تنافي الاستقلال، لا بتشريع ولا بتنفيذ، فلما فهموا المراد
منها نبذها الأكثرون.
أول حزب ألف بمصر (حزب الاتحاد السوري) وكان أعضاؤه المؤسسون من
المسلمين والنصارى والدروز، وأساس برنامجه الاستقلال التام الناجز، والمراد
بالناجز: الحال، ويقابله الاستقلال المستقبل الذي يتوقف على مساعدة أجنبية، ترشح
الشعب له وتقوده إليه، إن كانت تريد ذلك، وإنما فسرناه لأن بعض الناس لم يفهم
المراد منه، حتى قالت إحدى الجرائد السورية: إن المراد بالناجز: التام، فحسبته
تأكيدًا للتام، والمراد بالتام: ما يشمل السياسي والاقتصادي والقضائي، وإن كان
مؤجلاً.
أُلف الحزب أولاً من فريقي الاستقلاليين والاحتلاليين، وكانت المواد الأولى
التي وضعت له مشتملةً على الجمع بين النقيضين: الاستقلال والاحتلال، فكان كل
فريق يقوي المادة الموافقة لمشربه، ويدعى الاحتلالي أنه استقلالي، وأنه إنما طلب
مساعدةً مؤقتةً للضرورة.
وكل يدعي وصلاً بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا

فاشتغلا بالجدال والنضال عدة أشهر، كان الفلج فيها للاستقلاليين، وكان
الاحتلاليون يتسللون منه لواذًا، وينفصلون مثنى وأفذاذًا، وتقرر البرنامج المؤلف
من أربع عشرة مادة بالإجماع في بعضها، وأكثر الآراء في بعض، ورضي كاتب
هذه السطور بأن يكون من مؤسسي هذا الحزب المخالف لمذهبه السياسي في
الجامعة العربية من وجوب اتحاد جزيرة العرب بالولايات العربية العثمانية؛
للحرص على تعاون المسلمين مع النصارى على طلب الاستقلال التام الناجز
لسورية بعد أن أطال الدعوة إلى مذهبه، فلم يستجب له من فضلاء النصارى
بمصر إلا أفراد قليلون؛ ولأن التعاون على استقلال بعض الأقطار العربية لا ينافي
السعي لاستقلال سائرها من طريق آخر، كما صرح به في بعض أيمان الجامعة
العربية، وأنا أصرح هنا بأنني لم أكن موافقًا على كل مواد البرنامج، بل منها ما
أسفر النضال فيه بيني وبين بعض الأعضاء عن فوزي بموافقة الأكثرين من
الأعضاء لي، ثم برجوع بعضهم إلى رأي المخالفين لي إرضاءً لهم؛ لئلا يخرجوا
من الحزب، ولكنهم خرجوا بعد ذلك، على أن كل قانون وكل نظام يشترك في
وضعه كثيرون يتقرر بعض مواده بالاتفاق، وبعضها برأي الأكثرين.
وتلا حزب الاتحاد السوري الحزب الفرنسي الذي يطلب جعل سورية برمتها
(ومنها فلسطين ولبنان) مملكةً واحدةً مستقلةً في إدارتها تحت حماية فرنسة
أو وصايتها، ولم يوجد في مؤسسي هذا الحزب أحد من الطوائف الإسلامية إلا
حقي بك العظم ومختار بك الجزائري، وتلاه الحزب الحر المعتدل الذي يتفق مع
الحزبين السابقين في طلب وحدة سورية وحدودها، ويخالفها في طلب جعل حكومة
الولايات المتحدة وصيةً على سورية ومُساعدةً لها على الاستعداد للاستقلال التام
المطلوب، وليس في مؤسسي هذا الحزب أحد من الطوائف الإسلامية التي تبلغ
أربعة أخماس أهل سورية.
وكان في مصر قبل هذه الأحزاب - بل قبل الحرب أيضًا - جمعية تعرف
بجمعية الاتحاد اللبناني، تطالب الدولة العثمانية بحقوق للبنان المعروف أو الصغير،
فتحولت بعد الحرب إلى مطالبة الحلفاء باستقلال الجبل وتوسيع حدوده وجعله تحت
حماية جميع الدول الكبرى، وكان لمهاجري لبنان في البلاد الأمريكية جمعية أخرى
تعرف بجمعية النهضة اللبنانية، تطالب بتوسيع حدود لبنان وتقوية استقلاله، وجعلة
إمارةً ذات علَم خاص، وجعل أميره أوربيًّا، يُطلب اختياره من الدول الست الضامنة
لاستقلال الجبل، ولهم مطالب أخرى متعارضة نشرناها في المجلد السابع عشر، ثم
كانت هذه الجمعية من طلاب الحماية الفرنسية، وبعد انكشاف الحقائق تغير رأي
مؤسسيها في ذلك، وأشيع أن رئيسها المندوب عنها في باريس طلب الاستقلال التام
وانضم إلى جماعة الأمير فيصل، ولجمعية الاتحاد اللبناني فروع في البلاد الأمريكية
وفي لبنان نفسه، وكان أكثر طائفتي الموارنة والروم الكاثوليك من غير أعضاء هذه
الجمعية يودون أن يكون لبنان وكذا سائر سورية تحت حماية فرنسة، كجمعية النهضة
اللبنانية، ولما انتهت الحرب بظفر الحلفاء، وأعلنوا أن الولايات العربية لن تعود إلى
الحكومة التركية وتألفت الأحزاب السورية للمطالبة باستقلال سورية - على ما تقدم
بيانه - انضم إلى كل من حزبي الاتحاد السوري والحر المعتدل كثير من أعضاء
الجمعيتين، ودخل أناس منهم في أحزاب أخرى استقلالية واحتلالية من طلاب
وصاية الولايات المتحدة، أو وصاية دولة غير معينة، وبقي بعضهم ثابتًا على
المطالبة بفصل لبنان من جسم سورية.
الذي نعلمه أن حزب الاتحاد السوري فاق غيره في بث دعوته في سورية
والمهاجر السورية؛ لأنه على تبرع جميع أعضائه بالعمل وظف له عمال للإدارة
والترجمة والنسخ، واستعان على عمله بسخاء رئيسه ميشيل بك لطف الله ,
وشقيقه جورج بك الذي تبرع له في أول تأسيسه بألفي جنيه مصري، حتى كان
ينفق في بعض الأيام بضع مئين من الجنيهات أجور برقيات إلى أوربة وأمريكة
حيث أجاب دعوته خلق كثير، وبث دعوته في جميع البلاد السورية، ولم يستطع
ذلك غيره، وأما الحزب الحر المعتدل أو الأمريكاني رجع إليه كثير من
الاحتلاليين الذين كانوا راضين بوصاية فرنسة من مهاجري السوريين في مصر
وأمريكة، وقليل من الاستقلاليين، فظلوا السواد الأعظم، ولا سيما في البلاد نفسها
ولم يكن له فروع ولا دعاة فيها، على أن الدعوة إلى طلب مساعدة الولايات
المتحدة قد ظهرت قبل تأسيس هذا الحزب في كل مكان، ونسبتها الجرائد الإنكليزية
إلى الأمير فيصل منذ كان في أوربة، ثم اشتهر أنه بث هذه الفكرة في سورية بعد
عودته إليها، ثم فكرة الدعوة إلى مساعدة إنكلترة إذا لم تقبل حكومة الولايات
المتحدة، وهذا هو الذي وقع، كما سنبينه بعد، ومن البديهي أن السوريين الذين
في الولايات المتحدة وفي غيرها من الدنيا الجديدة كان كثير منهم قبل ذلك يفضل
مساعدة الولايات المتحدة على مساعدة كل دولة أوربية، بل قلما يفضل دولة أوربية
على الولايات المتحدة في هذا الأمر أو ما يشابهه من كل ما يطلب للخير
والإنسانية إلا جاهل غبي، أو متعصب قوي، أو مستأجَر دني، وما كل من طلب
مساعدة دولة أخرى ابتداءً يفضلها على حكومة الولايات المتحدة في ذلك، بل منهم
من طلب غيرها لليأس منها، ومنهم من نفر منها بإقناعه بأنها ميالة إلى مساعدة
اليهود على امتلاك الأرض المقدسة وجعلها وطنًا قوميًّا لهم، والاستقلاليون
يفضلونها على غيرها أيضًا، ولكنهم لا يرضون أن يكون لها أدنى سيادة أو
سلطان في بلادهم بأي اسم من الأسماء.
وجملة الأقوال في الجمعيات والأحزاب أنها على كثرتها ترجع إلى هذه
الثلاثة الأنواع، وأن تأليفها كان خسارًا على نفوذ فرنسة فقد كان أكثر طوائف
النصارى معها فصار أكثرهم عليها، فما القول في المسلمين، وكلهم استقلاليون إلا
الشاذ النادر الذي لا حكم له؟
***
لجنة الاستفتاء الدولية
كان مؤتمر الحلفاء عزم على إرسال لجنة دولية إلى سورية وغيرها من
بلاد الدولة العثمانية؛ لتقف على رأي أهل البلاد في أمر مستقبلها وشكل حكومتها
والدولة التي تفضل أن تندب لمساعدتها على الاستعداد للاستقلال المعترف لها به
مؤقتًا إلى أن تصير قادرةً على النهوض به وحدها، ثم اكتفى بجعل اللجنة من
فضلاء الأمريكيين فأحسن صنعًا؛ لأن هؤلاء أبعد من الأوربيين عن الهوى في
هذه المسألة.
طافت هذه اللجنة أمهات البلاد في الولايات والمتصرفيات الممتازة
والتابعة للولايات، وقابلت في كل منها رجال الأديان والأحزاب والجماعات
المنتخبة، وممثلي الأندية العلمية والأدبية والجمعيات، فظهر لها أن السواد
الأعظم من الأهالي يطلب الاستقلال التام الناجز، ولا يرضى أن يكون لدولة أجنبية
حماية على بلاده ولا وصاية ولا مساعدة تمس الاستقلال، ويزيد أهل سورية
الجنوبية (فلسطين) التصريح بمنع مهاجرة اليهود الصهيونيين إلى بلادهم، وأهل
سورية الشمالية يوافقونهم على ذلك، كما صرح به الوفد السوري الآتي ذكره
وغيره، وأنه إذا أصر مؤتمر الصلح على ندب دولة من الدول العظمى لمساعدة
الأهالي على النهوض بأمر الاستقلال، فيشترطون أن تكون هذه الدولة هي
الولايات المتحدة الأمريكية؛ لأنها غير استعمارية ولا طامعة في البلاد، وأن
تكون مساعدتها مؤقتةً لا تزيد على ١٥ سنةً، أو ٢٠ , وأن تكون في الأمور الفنية
والاقتصادية التي لا تمس الاستقلال، وصرح بعضهم بعدم قبول المساعدة ألبتة،
وبعضهم بطلبها من الولايات المتحدة دون سواها، وبعضهم من إنكلترة، وأكثر هذا
الفريق من الدروز، وبعضهم من فرنسة، وأكثر هؤلاء من موارنة لبنان
وبيروت، وما كل الموارنة يرضى بوصاية فرنسة ومساعدتها، وأما المسلمون
فقد صرحوا في كل بلد بعدم قبول مساعدتها بحال من الأحوال، وما شذ إلا أفراد لا
يعتد بهم، ولأجل الفرار من مساعدتها أو وصايتها، قال بعض المرجحين
لمساعدة الولايات المتحدة: إنها إذا لم تقبل فإنهم يرجحون إنكلترة على غيرها
بالشروط التي رجحوا بها الأولى، إذا كان لا بد من هذه المساعدة التي احتجوا
عليها وعلى المادة الثانية والعشرين من عهد عصبة الأمم المتضمنة لها.
ذلك بأنه قد ألف في سورية مؤتمر بأمر الأمير فيصل؛ لأجل مقابلة لجنة
الاستفتاء وإطلاعها على رأي أهل البلاد ووضع (مشروع) قانون أساسي لها
انتخب أعضاؤه في أكثر البلاد من قبل المنتخبين الثانويين الذين انتخبوا نواب
البلاد في مجلس المبعوثين العثماني الأخير، ومنهم أعضاء من طوائف لبنان كلها،
لا ندري كيف انتخبوا؟ ولم يمكن إقناع هؤلاء ولا غيرهم بالرضا بمساعدة
الولايات المتحدة ثم إنكلترة بالشروط التي أشرنا إليها، إلا بعد أن بثت الدعوة
فيهم بهذه الصفة: إن انتداب دولة من الدول الكبرى لمساعدة البلاد على السير في
سبيل الاستقلال أمر مقرر في المؤتمر لا مرد له، وإن فرنسة تَمُتُّ إلى المؤتمر
وجميع الدول بدعاوى كثيرة ليندبها لذلك، أهمها أن أهل البلاد يفضلونها، وأن
لها صنائع يصدقونها ويتمنون مساعدتها، فإذا اقتصر الأكثرون على طلب الاستقلال
بدون مساعدةٍ ما، يُخشى أن تُرجَّح فرنسة بحجة أن بعض الأهالي يطلبها،
والآخرون لا يفرقون بينها وبين غيرها، بناءً على هذا وعلى العلم بأن رئيس
الحكومة البريطانية صرح بأن دولته لا تقبل الانتداب لمساعدة سورية؛ لأن ما بينها
وبين فرنسة من عهد وميثاق يحول دون ذلك، وما هو بالذي يجعل قصاصة
ورق، وضع المؤتمر القرار الذي قدمه إلى لجنة الاستفتاء وسنذكره بنصه في
مكان آخر من المنار.
إذا لم يكن جميع أعضاء المؤتمر الذي قرر هذا منتخبين من الأمة لينوبوا
عنها فيه، فقد جعلهم في معنى المنتخبين موافقة أكثر من استفتهم اللجنة لهم كما
شرحته الجرائد السورية في بيانها لأعمال اللجنة في البلاد المختلفة، فجاء ما تقدم
كله مصداقًا لما كنا قلناه مرارًا لبعض الباحثين معنا من الأجانب والوطنيين، وهو
أن السواد الأعظم في سورية يطلب الاستقلال التام المطلق، ولله الحمد من قبل
ومن بعد.
((يتبع بمقال تالٍ))