للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أبو الكلام


خطاب أحد زعماء النهضة الإسلامية الهندية
الذي قدَّمه عند محاكمته للمحكمة الإنكليزية

ومقدمة مترجمه في وصف ثورة الهند السياسية السلبية
وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية [*]
المقدمة:
إن الجهاد العظيم الذي قامت به الهند المستعبدة منذ خمس سنوات متواليات
لصون الخلافة الإسلامية، وحرية البلاد العربية - يكاد يكون فذًّا في تاريخ العالم، لا
لأنه جهاد بلاد استعبدت استعبادًا شديدًا، وحكمت بالنار والحديد أجيالاً، وصبت
على رأسها المصائب تلو المصائب، ودهمتها الدواهي - بل لأن أصوله جديدة،
وطرق عمله عجيبة، ومظاهراته سلمية، وروحه العاملة فيه خالية من كل حقد
وشدة، وليس فيه إلا الإيثار وهضم النفس وكظم الغيظ وتقديم المُهج، وتحمل
الشدائد. القائمون به يُقْتَلُون ولا يَقْتُلُون، يُضرون ولا يَضرون [١] ، يصابون ولا
يصيبون، يقاومون القوة لا بالشدة والبطش، بل بالصبر والحلم والسلم، ويحاربون
الاستبداد لا بالسيف والرمح، بل بالإيمان واليقين والثقة بالله ربهم، فهو جهاد
سلمي حقًّا، وحرب روحانية مدنية، لا شائبة فيها من القوة والغلظة، بل هو في
الحقيقة صحيفة عِبر، وكتاب بصائر لسائر الأمم المستضعفة يبين لها أن الفوز
والنصر لا يتوقف على بسطة الجسم والقوة المادية، بل منبعه الحقيقي من القوة
المعنوية وروحانية القلوب التي في الصدور، وهو أول مثال للمقابلة السلمية
للقوات المتسلحة القتالة، وإنه ليهب سلاحًا ماضيًا صائبًا من الإيمان والصدق
للشرق المسكين، ليحارب به الغرب الجائر المتسلح بالقوات المادية، فهل يقبله
الشرق وينجو به من الخزي والعار؟
ألا لا يتهمني أحد بأني أبالغ في هذا الجهاد، أو أهيم بوصفه في وديان
الخيال، أو أتخيل كالشعراء في المحال. بل أُبين كُنه الحال، وأتكلم عن حقيقة
وبرهان، فإنه جهاد زعزع أساس الدولة البريطانية في البلاد، وتركها في حيرة
وارتباك، فظلت طول هذه المدة مغلولة الأيدي مع ما تملك من القوة والسلاح، ولم
تستطع قهره ومقارعته بما أوتيت من البطش والجلاد، ولكن هل سمعت سيفًا يقتل
روحًا، وأن صُرَعة يصرع قلبًا، نعم قهرت بريطانية عدوتها ألمانية؛ لأنها كانت
أقوى منها وأدهى [٢] ، ولكنها ما كان لها أن تقهر هذا الجهاد السلمي؛ لأنه ليس
أمامها قوة مادية مثلها فتكسرها، ولا يد فتاكة فتجذمها، وإنما كل ما هنالك عنق
للقتل وقلب للحياة، وجسم للصلب، وروح للبقاء، فما أعجب هذا الجهاد، وما
أسلم هذا العراك!
ولقد كان من نتائج هذا الجهاد أن اضطرت بريطانيا على رغم أنفها أن تخفف
وطأتها عن الإسلام، ولا تصر على إظهار العداوة للخلافة الإسلامية، والتمادي في
حماية ربيبتها الدولة اليونانية، فإن الحكومة الهندية الإنكليزية لما أرسلت بلاغها
الرسمي الشهير في فبراير سنة ١٩٢٢ إلى الحكومة المركزية في لندن تؤكد فيه
المطالب الهندية في مسألة الخلافة، وتحذرها من سياستها الخرقاء في معاداة الدولة
العثمانية والبلاد الإسلامية، تأثر به الرأي العام الإنكليزي أيَّمَا تأثر، حتى
تدحرجت وزارة المستر لويد جورج القاهر لألمانيا، وسقطت سقوطًا مخزيًا،
وكانت قد امتازت بعداوة الأتراك والمسلمين واستعمار البلاد الإسلامية المحتلة باسم
الوصاية.
نعم قد تم هذا، ولكن الأيام حبلى ولا ندري ما يكون وراء مؤتمر الصلح،
ومهما يكن من الأمر، فسيظل هذا الجهاد حتى تتحرر البلاد الإسلامية، ويغادر كل
جندي محتل أرض الشام وفلسطين والعراق ومصر والقسطنطينية، فتصبح كلها
حرة مطلقة من قيودها تحكم نفسها بنفسها كيف تشاء.
وإن مما يُحزن القلب، ويُبكي العين أن هذه البلاد الإسلامية التي تلتهب الهندُ
غيرة عليها، وتتفانى في حبها، وترخص كل غال وثمين لأجلها - لا تعلم عن هذا
الجهاد إلا شيئًا لا يُذْكَر، مع أن سيل المصائب الذي غمر العالم الإسلامي قاطبة
كان يجب أن يعرّف به المسلمون بعضهم بعضًا، ويتعاونوا ويتناصروا ويبحثوا
عن خطة مشتركة للنجاة من هذه الورطة، وللفوز والفلاح والحياة في المستقبل.
وهذا الذي دعاني إلى أن أقدم إلى مسلمي مصر والشام والعراق وسائر البلاد
العربية والإسلامية، الخطاب الجليل الذي خاطب به المحكمةَ الإنكليزية زعيمُ الهند
الحلاحل الهمام (الشيخ أبو الكلام أحمد) عندما حوكم فيها؛ لأنه فوق ما فيه من
البصائر والعبر، يبين مقاصد ذلك الجهاد، وطرق السير فيه بأحسن بيان غير أنه
لا بد لإيضاح كُنْه هذا الخطاب من بيان وجيز لحركة اللاتعاون السلمي التي سببته
هذه الواقعة.
***
(حركة اللاتعاون السلمي في الهند)
قامت حركة هذا الجهاد بعد هدنة الحرب الكبرى مباشرة، فظلت زمنًا
محصورة في قيام المظاهرات وحشد المحافل واجتماع المؤتمرات، وإرسال الوفود
إلى إنكلترا وأوروبا، وغيرها من الطرق السياسية المعهودة، ولما لم تنتج هذه
الأعمال شيئًا، تشاورت جمعية الخلافة والجمعية الوطنية الكبرى في وضع خطة
للعمل، ثم أعلنتا في أغسطس سنة ١٩٢٠ (اللاتعاون السلمي) الذي هو داخل تحت
الأوامر الشرعية؛ لأنه قسم من أقسام ترك الولاء للمحاربين، والذي يسمى بالإنكليزية
OPERATION - EA - NON MONUIOLENT ومعنى (كوابريشن)
المساعدة والمشاركة في العمل، فكان الغرض منه أن تقطع عن بريطانيا جميع تلك
العلائق التي تساعدها في حكمها واستبدادها وقيامها في البلاد؛ لأن الهند ليس في
وسعها أن تقوم بحركة مسلحة؛ ولأنها تريد أن تقدم مثالاً عمليًّا لمقاومة القوة بالطرق
السلمية، فلذا جعل عنوان هذه الحركة أن تكون سلمية بالمرة، فلا تقابل القوة المادية
بقوة مثلها، بل بالحلم والتضحية والثبات على الحق، تتعب القوة من الظلم والعسف،
ولا يتعب أصحاب الحق من الصبر والتضحية وكانت لائحة عملها كما يلي:
(١) تُرد إلى الحكومة جميع مناصبها وألقاب شرفها وأوسمتها.
(٢) تقاطع جميع مدارسها وكلياتها، وتؤسس للصبيان المدارس الوطنية،
والشبان يشتغلون بنشر الحركة وترويجها.
(٣) تقاطع جميع المحاكم العدلية، فلا يذهب إليها المحامون ولا أصحاب
الدعاوى، بل تؤسس المحاكم الوطنية فتفصل فيها الدعاوى على الطرق البسيطة.
(٤) تقاطع إصلاحات الحكومة التي تمن بها على البلاد، فلا يرشح
أحد نفسه للمجالس النيابية، ولا ينتخب لها أحد.
(٥) تقاطع البضائع الإنكليزية، ولا سيما القماش منها، ويجب على
الوطنيين أن يغزلوا القطن بأيديهم، فينسج منه القماش، وهو الذي يستعمله
الناس.
(٦) يجب ترك الخدمة العسكرية لأن الدولة البريطانية تستعمل الجيش
الهندي لاستعباد هذه البلاد وغيرها من البلاد الحرة.
(٧) يجب أخيرًا أن يمنع كل ما يدفع إلى الحكومة من أموال الضرائب
وغيرها فلا يؤدى إليها فلس واحد، وإن سجنت وعذبت.
لا يخفى خطر هذه اللائحة، فإنها لم تكن إلا دعوة إلى الإيثار وهضم النفس
وتحمل الخسائر، والتعرض للنوائب؛ إذ لا يلبيها أحد إلا وينفض يده من وسائل
معيشته، فيذر نفسه وأهله للضنك والفقر والفاقة، ثم يعرض عن كل ما عند
الحكومة من الرتب والمنافع والشرف والفخار، وبعد ذلك يعرض نفسه للحبس
والتعذيب، وقد يلقى إلى القتل والصلب، إلا أن البلاد رحبت بها وتقبلتها بقبول
حسن، فأخذت جماعات تاركي التعاون تظهر من كل جهة وتعلن هذه الأمور وتعمل
بها، والحكومة تراها بعينها ولا تعرف كيف تصد تيارها.
(مقاطعة ولي العهد)
ولما رأت الحكومة أن الحركة لا تزال تتقوى وتنتشر، وأنها لا تقدر على
قهرها لجأت إلى الحيل السياسية، فدبر الوالي العام الجديد اللورد ريدنج الداهية
الشهير، سياحة لولي عهد إنكلترا في البلاد الهندية، ظنًّا منه أن البلاد لا تأبى
استقباله والترحيب بضيفها لأن العائلة الملكية تعتبر عندهم فوق المنازعات
السياسية، فتضعف الحركة وتعود المياه إلى مجاريها.
ولكن سرعان ما خاب أمله، فإن الأمة ما سمعت بهذه السياحة إلا وقررت
مقاطعتها، وأعلنت جمعية الخلافة وجمعية العلماء أن هذه السياحة تنوب (عن)
الإمبراطورية البريطانية، التي تحارب الخلافة والبلاد الإسلامية، وتريد استعبادها
واستعمارها، فلذا لا يجوز لأحد من المسلمين أن يشترك في استقبال ولي العهد،
ولا في الاحتفالات التي تقيمها الحكومة له.
ولقد قامت المنازعات الشديدة في البلاد بعد هذا الإعلان، فكانت الحكومة
في جهة تجدُّ وتكدُّ بجميع وسائلها الكثيرة ومواردها العظيمة لإنجاح هذه السياحة،
وفي جهة أخرى كان زعماء البلاد الذين لا حول لهم ولا قوة إلا قوة الأمة مصرين
على مقاطعتها، وكانت النتيجة مدهشة جدًّا، كانت هزيمة شنيعة تسجل في التاريخ
على أقوى دول الأرض أمام الرأي العام لبلاد ضعيفة الجسم، قوية الروح، فلقد
رأى نجل إمبراطور العالم بعيني رأسه منظرًا مدهشًا، لم يُشَاهد مثله من قبل، وربما
لم يخطر في باله، فإنه ما دخل مدينة إلا وجد الأسواق فيها معطلة والدكاكين مقفلة،
والأبواب موصدة، والشوارع مهجورة، المدينة كلها في سكون كسكون المقابر،
كأنه لم يغن فيها أحد بالأمس! وقد شاهد ما شاهد عم أبيه (الدوق أوف كوت) مثل
ذلك في سياحته التي تقدمت سياحته بسنة، وصفه أحد مكاتبي الجرائد في باريس
قائلا: (إن الهند اليوم مثل ما كانت باريس عند دخول الجيوش الألمانية إياها في
حرب السبعين) .
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))