مساعدة منكوبيها وضروب من العبر فيها ريف المغرب الأقصى بقعة صغيرة، اشتهر أهلها بعزة النفس، وشدة البأس، ورسخ فيهم حب الاستقلال أو غريزته، فلم يذلوا لفاتح ولا خنعوا لمقاتل، ولما ظهر للعالم كله عجز دولة إسبانية عن قهرهم في هذا العصر، وأنها باءت في جميع معاركها معهم بالخيبة والخسر، وذاع صيت أميرهم وقائدهم العظيم محمد عبد الكريم في الغرب والشرق، خافت فرنسة أن يستفحل أمره؛ فيستولي على فاس، ويفضي ذلك إلى تحيز جميع القبائل له؛ فيتجرأ أهل الجزائر فتونس على الانتقاض عليها وإلقاء نير العبودية الثقيل عن أعناقهم، وقد يئسوا من إنصافها إياهم إذ اشتد إعناتها وإرهاقها لهم بعد الحرب الكبرى التي سفكوا فيها دماءهم دفاعًا عنها، نعم خافت ذلك؛ فبادرت إلى قتال الريفيين كما قلنا في الجزء الماضي. قد كان ذلك ومن المعقول أن يكون , ثم من المعهود المألوف أن تتهم فرنسة الأمير محمد عبد الكريم وقومه بالبغي والعدوان , وأن تتهمهم بالتعصب الإسلامي الذي هو عند الأوربيين كراهة المسلمين لاستعباد أوربة لهم، وحبهم للاستقلال بأمر أنفسهم , ومن المعهود المألوف أن يرى صدى هذه التهمة في جميع ممالك أوربة , ومن المعهود المألوف أن تتفق دولها وساسة شعوبها على الدعوة إلى التنكيل بهم؛ لئلا يطمع المسلمون المستبعدون في سائر أفريقية وآسية في الحرية والاستقلال، والتفصي مما وضع في أيديهم وأرجلهم من السلاسل والمقاطر والأغلال. ولكن الأمر الذي لم يكن مثله معهودًا مألوفًا ولا منتظرًا عند أكثر الناس هو أن تمتد هذه الدعوة الصليبية إلى الولايات المتحدة الأمريكانية؛ فترسل سربًا من الطيارات إلى قتال أهل الريف انتصارًا لفرنسة وإسبانية، ومن تطوع للقتال معهما من ممالك أوربة، فيا ليت شعري هل يعتقد هؤلاء الأمريكيون الأحرار المتساهلون الذين يبرئهم نصارى الشرق من التعصب الديني المذموم، أن هؤلاء الشراذم من الريفيين الفقراء يمكن أن يكسروا جيش الدولتين، وينقذوا بلاد المغرب الإسلامي من العبودية، فعز عليهم ذلك فتطوعوا لوقاية هاتين الدولتين المسيحيتين أو المدنيتين من هذه الخسارة الخطرة؟ أم نفروا لمساعدتهما؛ ابتغاء وجه الله تعالى وطلبًا لرضوان يسوع المسيح يوم الدينونة بقتل أعدائه بقذائف الطيارات التي لا تفرق بين المحارب وغيره، فلا ترحم طفلاً ولا امرأة ولا حيوانًا، والرحمة لا يستحقها مسلم عند إعياء أتباع رسول الرحمة والسلام والزهد الآمر بمحبة الأعداء عليه الصلاة والسلام؟ ولعلهم يرون أنه لا يستحق الوجود أيضًا عملاً بنصائح مبشرهم القس زويمر الأمريكاني الذي لا يزال يحرض الدول المسيحية وشعوبها على مسلمي العالم كله؟ نعم ولكن هل يتدبر هذه المعاملة متفرنجة المسلمين؟ لا لا. وإن تعجب أيها المسلم فأعجب من هذا أن جمعية الهلال الأحمر المصرية قد اهتمت بإرسال بعثة طبية إلى جدة؛ لمساعدة جيش الشريف علي بن حسين في قتاله للنجديين والحجازيين المشايعين لهم بالفعل، وإن كانت لمساعدة الفريقين بالقول، وساعدتها الحكومة المصرية على ذلك بجمع الإعانات من الأهالي، ولكنها لم تتصد لإرسال بعثة طبية إلى الريف وهو أشد احتياجًا إليها من جنود الشريف علي في جدة، وقد سعينا إلى ذلك كغيرنا وكلمنا بعض أعضاء الجمعية، فسمعنا ممن ترجى منهم المساعدة جمجمة وغمغمة، واعتذارات مضطربة، لم نقنع بها ولا نقدر على الطعن الصريح فيها. وكنا اقترحنا في الاجتماع العام لجمعية الرابطة الشرقية أن تتصدى الجمعية للسعي في إرسال بعثة طبية إلى الريف، فاستحسن الحفل المجتمع ذلك، وصفقوا له، ثم أحيل الاقتراح على مجلس إدارتها؛ لينظر فيه فبحث فيه مرارًا، ولكنه أرهقه صعودًا، وألفى عقبته كئودًا ومرامه بعيدًا، وكان الله على ذلك شهيدًا. ثم انتدب لهذا الواجب شرعًا وعقلاً وإنسانية صاحب السمو والهمة السامية الأمير (عمر باشا طوسون) ، فألف لجنة للنهوض به تحت رياسته، ونشرت الدعوة إلى التبرع لها في الجرائد، ولكننا لم نر الإقبال عليها من الشعب كما يجب، ولا كما يليق بصيت بلادنا هذه وبثروتها وبنجدتها، ولا كما يعهد من تاريخها، فهي قد ساعدت الطليان في نكبات الزلازل والبراكين التي انتابت مسيني وغيرها، وساعدت أهل طرابلس وبرقة عند إغارة الطليان عليهم بغيًا وعدوانًا، وفي تلك الأثناء أسست جمعية الهلال الأحمر المصري. وما لي لا أذكر مساعدة هذه الجمعية الإسلامية لجمعية الصليب الأحمر المسيحية بألوف الجنيهات، ومساعدة البلاد المصرية كلها حتى علماء الأزهر (لأيام) الإعانات الإنكليزية كذلك، على كون الإنكليز أعداء للبلاد باحتلالهم إياها، ثم (إعلان الحماية عليها) - وعلى كونهم كانوا يحاربون دولة الخلافة صاحبة السيادة عليها - وعلى إرهاقهم إياها، وتحكمهم في استخدام رجالها وجمالها وحميرها وبغالها، كتحكمهم في أموال حكومتها ومرافقها ومبانيها وسككها. (فإن قلت) : إن هذا قد كان بقوة الحكومة المحلية وإكراهها للأهالي على ذلك، (قلت) : هذا بيت القصيد، والتعليل الأول لفتور الشعب في إعانة الريف، فالحكومة في مصر هي التي كانت ولا تزال تفعل كل شيء، وما كان يفعل فيها شيء مهم إلا بنفوذها أو برضاها وإقرارها على الأقل، ولا تستثن جمع الإعانات للوفد المصري ومظاهرة الأمة له، وإن وقع في إثر ثورة وطنية كانت أول عهد بجرأة الشعب على الإنكليز، ثم على الحكومة المصرية، فإن الوزارة كانت مرتاحة إلى تأليف الوفد، ولما شرع مستشار الداخلية الإنكليزي في مقاومة أعمال الوفد وأخذه وثائق التوكيل من وجهاء الأمة، صرح يومئذ رئيس الوزارة ووزير داخليتها بأن المستشار إنما فعل ذلك من تلقاء نفسه، وقد بينا في مقالنا التاريخي المبسوط في المسألة المصرية الذي نشرناه في المجلد ٢٢ (سنة ١٣٣٩ هـ ١٩١٩ م) ما كان من الشأن لمساعدة وزارة رشدي باشا في تكوين الوفد المصري، ثم ما كان من الشأن لوزارة عدلي باشا في الاحتفال الأعظم الذي استقبلت البلاد به سعد باشا عند عودته من أوربة، وقد صدقت الأيام بعد ذلك صحة رأينا على ما لا ينكر من نهضة الأمة وعملها مرارًا بما يخالف رغبة الحكومة، وما ساعد على بعثة جمعية الهلال الأحمر الأخيرة إلا كارهة أو مكرهة، إذ لا تجد باعثًا يرغبها فيه، ولكن ما بالها لم تقبل على التبرع لجرحى الريف مع كثرة الدواعي والأواصر التي تعطفها عليه، وتدعوها إلى تخفيف آلامه، من أخوة دينية، وآصرة عربية، ووطنية إفريقية، ورابطة شرقية، وجامعة إنسانية، وتألم من تألب الشعوب الأوربية، واعتبار بغيرتها الملية، إن لهذا الفتور موانع أكثرها فيما أرى سلبية من عدم رغبة الحكومة وعطفها، ومن صد ملاحدة المتفرنجين عن مثل هذا العمل؛ لئلا يقوي الجامعة الإسلامية، ومن عدم تنظيم لجنة الإعانة للعمل واتخاذ الوسائل المؤثرة لتعميمه، فعسى أن تعني اللجنة بذلك، وتنشر دعوتها في الجرائد المصرية وغيرها، وتنشئ لها لجانًا فرعية، في كل محافظة ومديرية، فحينئذ يقبل عليها المصريون الإقبال الذي يكونون به قدوة لغيرهم. وأما مجلس جمعية الرابطة الشرقية فقد قرر استنجاد الشعوب الشرقية كافة والشعب المصري خاصة، وحض الجميع على مساعدة لجنة الأمير طوسن باشا، وتبرع بعض أعضائه وأعضاء الجمعية لذلك قبل نشر نداء الاستنجاد واستنداء الأكف في الصحف، وتوزيع ألوف منه في المعاهد العامة والطرق، وهذا نصه: *** نداء جمعية الرابطة الشرقية لإعانة جرحى الريف في المغرب الأقصى لئن كان من سيئات هذا العصر أن صارت نكبات الحروب وفتكها فيه أشد مما كانت في جميع عصور التاريخ، فإن من حسناته كثرة الوسائل لتلافي شرور هذه المصائب وتخفيف آلامها، ومنها - ولعلها أفضلها - تضامن الشعوب البشرية بالعطف على المصابين والمنكوبين من جرحى الحرب وغيرها من النوازل العامة بعاطفة الإنسانية الجامعة بين الناس على اختلاف مللهم ونحلهم وأوطانهم وحكوماتهم وإننا نرى جميع هذه الشعوب قد أعرضت عن مد أيديها لمساعدة منكوبي الريف وجرحاهم في المغرب الأقصى، على ما يعلم الجميع من عدم وجود الأطباء والجراحين والممرضين في تلك المنطقة، ومن فقد الأدوات الطبية التي لا بد منها لمواساة الجرحى ومعالجتهم، فكأن هذا الشعب المنكوب ليس من البشر، فهو يقاسي جميع نكبات الحرب منذ سنين، ولم يعطف عليه أحد من الشرقيين ولا من الغربيين. إذا كانت مساعدة منكوبي البشر حقًّا على جميع البشر للاشتراك العام في الجامعة البشرية، فإن هنالك جامعات أخرى تجعل هذا الحق على بعض الناس آكد، وتوجب أن يكون الشعور به أقوى، كالجامعة الشرقية والجامعة الجنسية والجامعة اللغوية والجامعة الدينية، بداعية هذه الجامعات العامة والخاصة ارتفعت أصوات كثير من الكتاب في الجرائد الشرقية من عربية وعجمية بطلب جمع التبرعات؛ لمساعدة جرحى الريف ومنكوبي الحرب فيه، وتجاوبت الجرائد فيه بين مصر والهند. وقد كانت الجمعية العامة للرابطة الشرقية استحسنت اقتراحًا عرض عليها بجمع الإعانة لهؤلاء المنكوبين، وتبرع بعض أعضائها لذلك بالفعل، ثم نظر مجلس إدارتها في تنفيذ ذلك، ولما لم يجد وسيلة أو طريقة لإرسال بعثة طبية لم يتصد لذلك، ثم تألفت في هذه الأيام لجنة؛ للقيام بجمع التبرعات لهم برئاسة سمو الأمير الجليل عمر طوسون باشا، وعهدت بأمانة صندوقها إلى حضرة السيد أبي بكر بك راتب، بناء على وقوف سموه على طريق مأمون لإرسالها إليهم، فعاد مجلس إدارة الرابطة الشرقية إلى البحث في المسألة، وقرر استنهاض الهمم واستنداء الأكف؛ لمساعدة هذه اللجنة في عملها هذا. فالرابطة الشرقية تنادي كل شرقي كريم الخيم رقيق القلب سخي النفس من مصري وسوري وعراقي وإيراني وهندي وجاري وتركي، وقوقاسي وياباني وصيني قائلة: إن شعبًا صغيرًا من أكرم شعوبكم منبتًا، وأعزهم نفسًا، وأسوئهم في الحياة حظًّا، يعاني على فقره وقلة ذات يده، حربًا عاتية يدافع فيها عن نفسه، فتجندل أبطاله في حومة الوغى بقذائف الطيارات والمدافع والبنادق؛ فيكون أسعدهم حظًّا من يلاقي حتفه لساعته، وأشقاهم وأشدهم بؤسًا أولئك الذين تفصل القذائف الجهنمية أيديهم وأرجلهم من أبدانهم، أو يخترق الرصاص صدورهم فينفذ من ظهورهم، أو يقطع أمعاءهم ويمزق أكبادهم، ويبقى مستكنًا في طيات أحشائهم، ولا يجد طبيبًا ولا ممرضًا يأسو له قرحًا، أو يطهر له جرحًا، أو يحفظ له بقية دمه، أو يخفف عنه بعض ألمه {وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (إبراهيم: ١٧) . أولئك أيها الشرقيون إخوانكم في الرابطة الشرقية، أولئك أيها العرب إخوانكم في الوشيجة العربية، أولئك أيها الأفريقيون أشقاؤكم في القارة الأفريقية، أولئك أيها المسلمون أخوتكم في الجامعة الإسلامية، أولئك أيها الناس أبناء أبيكم وأمكم في الإنسانية، فليعطف عليهم كل واحد منكم بما يجده في قلبه من عطف الجامعة التي تجمعه بهم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. وأما أنتم أيها المصريون الكرام فقد عرف الزمان لكم كل مكرمة، وحفظ لكم مواقف بركم بالمنكوبين من الأمم المختلفة، ولو لم يكن لكم من آثار البر إلا إنشاء جمعية الهلال الأحمر المصرية لكفى، فأنتم أجدر بأن تكونوا أسبق الشعوب إجابة لنداء جمعية الرابطة الشرقية التي سبقتم إلى تأسيسها، ولا زلتم خير أهل للبر والإحسان اهـ.