للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكاتب: أمين المعلوف


الكوليرا [*]

كثر تحدث الناس هذه الأيام بالكوليرا ولا غرابة في ذلك؛ لأنها من أشد
الأمراض فتكًا بالبشر، وقد صارت منا على قاب قوسين أو أدنى، فرأيت أن أكتب
شيئًا عنها معولاً في ذلك على أحدث ما كتب في هذا الموضوع، وأقتصر على ذكر
ما يهم معظم القراء معرفته من تاريخ هذا الداء وانتشاره وأسبابه وعدواه وأعراضه
وتشخيصه والوقاية منه، وأحاول أن أوضح ذلك كله أيضًا بأسلوب يفهمه جمهور
القراء.
(أسماؤها)
لهذا الداء على حداثة العهد به في الأنحاء الغربية من المعمورة أسماء كثيرة
أشهرها الكوليرا، وهي لفظة يونانية منحوتة من كلمتين معناهما جريان الصفراء،
وقد أطلقها أطباء اليونان قديمًا على الداء المعروف بالهيضة عند أطباء العرب،
وهي شبيهة جدًّا بالكوليرا الأسيوية، وسببها في الغالب خلل في الهضم، وربما
كان بعضها ناشئًا عن مكروبات لا تزال مجهولة.
وأهم أعراضها القيء والإسهال، وقد تنتهي بالموت، فيتعذر حينئذ تمييزها
عن الكوليرا الأسيوية بغير الفحص البكتيريولوجي، ومن هذا القبيل حادثة باب
الشعرية والحوادث الأخرى التي اشتبه فيها أطباء الصحة والكورنتينات، فلم
يجزموا بصحة التشخيص قبل الفحص البكتريولوجي، وحسنًا فعلوا بالرغم من انتقاد
بعض الكتاب؛ لأن التمييز بين هذين الدائين قد يستحيل بغير هذا الفحص،
علاوة على أن المسؤولية الكبيرة التي تلقى على هؤلاء الأطباء تجعلهم شديدي الحذر
والريب.
وقد غلب اسم الكوليرا على هذا الداء الوافد الخبيث، ولكن الأطباء يميزون
بين الداءين بقولهم كوليرا أسيوية أو وافدة أو هندية وكوليرا منفردة أو محلية،
ويراد بالكوليرا المنفردة الداء المعروف بالهيضة عند أطباء العرب؛ لذلك أطلق
بعض أطبائنا اسم الهيضة الوافدة أو الأسيوية على الداء المعروف بالكوليرا
الأسيوية عند الإفرنج، وهي تسمية عربية صحيحة.
ومن أسمائها الهواء الأصفر، وهو أكبر شيوعًا في الشام منه في مصر،
ولعله سمي بذلك في أوائل القرن الماضي؛ لاعتقاد الناس في تلك الأيام أن منشأه
تغيره في الجو أو الهواء.
(تاريخها ومنشؤها)
لم تكن الكوليرا معروفة عند أطباء اليونان والعرب، ولم يذكر التاريخ أنها
تجاوزت حدود الهند وبعض الجزر المجاورة لها قبل أوائل القرن الماضي. وهي
قديمة جدًا في الهند، ذكرها كتابهم منذ أكثر من ألفي سنة. ولم يذكر مؤلفو العرب
في ما أعلم شيئًا عنها، فليست الهيضة كما مر ولا هي الوباء، ويراد به الطاعون
في المؤلفات العربية طبية كانت أو تاريخية، على أن لفظة الهيضة شبيهة جدًّا
بلفظ (هيجة) وهي اسم الكوليرا بلغة الهند، فهل أخذ أطباء العرب هذه اللفظة عن
الهنود أو هو أصلي في العربية؟ تلك مسألة تستحق البحث والنظر.
وقد كان أول عهد الإفرنج بالكوليرا في أوائل القرن السادس عشر أي بعد
دخول البرتغاليين والإنكليز إلى الهند، على أنها لم تحول أنظارهم إليها حينئذ؛
لأنها كانت مستقرة هناك شديدة الفتك والانتشار، فلما كانت سنة ١٨١٧ انتشرت
انتشارًا هائلاً في الهند، وفتكت بأهلها فتكًا ذريعًا، ثم أخذت في الانتقال حتى بلغت
الصين واليابان شمالاً وجزر المحيط الهندي جنوبًا، وسارت غربًا فدخلت بلاد
إيران إلى أن وصلت سنة ١٨٢٣ إلى بر الأناضول وشمال سورية ثم توقف سيرها،
ولم تتجاوزهما إلى أوربا ولا إلى الحجاز أو مصر.
ثم حدثت وافدة أخرى سنة ١٨٣٠، ففشت الكوليرا في بلاد أفغانستان وإيران،
ودخلت روسيا عن طريق استراخان، وأخذت تنتشر في أوربا فبلغت ألمانيا
وفرنسا والنمسا وأسبانيا، ووصلت إلى بلاد الإنكليز سنة ١٨٣١، وانتقلت من
أوربا إلى أميركا ولم يتقلص ظلها عن أوربا قبل سنة ١٨٣٩، وأما في المملكة
العثمانية فقد كان انتشارها هائلاً، دخلت الحجاز عن طريق العراق وانتقلت إلى
الشام ومصر وشمال أفريقيا، وكان ذلك سنة ١٨٣١، وهي أول مرة عرف فيها
هذا الداء في الحجاز ومصر والأماكن التي لم يدخلها قبلاً في الشام.
ثم أخذت الوافدات تتوالى بعد ذلك فكان عددها كلها في مصر تسع وافدات
وهي؛ وافدة ١٨٣١ وفدت مع الحجاج، ووافدة سنة ١٨٣٨ جاءتها من أوربا،
ووافدة سنة ١٨٤٨ فشت أولاً في طنطا ولا يعلم من أين جاءتها، ووافدة سنة
١٨٥٠ وفدت مع الحجاج، ووافدة سنة ١٨٥٥ وفدت مع الحجاج، ووافدة سنة
١٨٦٥ فشت في البلاد بعد رجوع الحجاج وكانت أشدها فتكًا، ووافدة سنة ١٨٨٣
فشت أولاً في دمياط ويظن أنها انتقلت إليها من الهند ووافدة سنة ١٨٩٦ وفدت مع
الحجاج، ووافدة سنة ١٩٠٢ وهي الأخيرة فشت في موشه من قرى الصعيد بعد
رجوع الحجاج، وعسى أن تكون هذه آخر الوافدات.
أما الحجاز فكان عدد الوافدات تسع عشرة وافدة أشدها فتكًا وافدة سنة ١٨٦٥
وقد كانت أيضًا أشد وافدات الشام فتكًا.
والكوليرا متوطنة في الهند لاسيما في بنغال السفلى أي: وادي نهر الكنج،
فإنها مستقرة هناك لا تنقطع ألبتة. وهذه الأماكن التي تكون الأوبئة مستقرة فيها
كالطاعون والكوليرا تسمى في عرف الأطباء بؤر جمع بؤرة، وهي في اللغة
موضع النار، فاستعارها أطباؤنا لما يسميه الإفرنج Foyer أو Focus وهما
بمعنى البؤرة تمامًا أي: موضع النار، ويريد بهما علماء الطبيعيات نقطة تجمع
النور أو الحرارة، والأطباء نقطة تجمع الداء، وللطاعون بؤر كثيرة منها مصر
على زعم بعضهم. وللكوليرا ثلاث بؤر غير البؤر التي في الهند وهي؛ كانتون
وشنغاي وبانكوك، ويقال: إنها قلما تنقطع من هذه المدن الثلاث في أشهر الصيف،
على أن أهم بؤرة لها وادي الكنج كما مر.
وتشتد الكوليرا في بعض السنين لأسباب لا تزال غامضة، فتنتشر من البؤر
التي تكون مستقرة فيها وتنتقل من بلد إلى آخر. فليس الخوف منها هذه السنة لأنها
قريبة منا فقط، بل لأنها سريعة الانتشار على ما يظهر.
الطرق التي تدخل منها إلى الشام والحجاز ومصر ثلاث: طريق البحر
الأحمر، وطريق إيران والعراق وطريق أوربا. على أنها لم تدخل الحجاز إلا من
طريق البحر الأحمر مع الحجاج الهنود وطريق إيران والعراق.
***
(٢)
(انتقالها)
تنتقل الكوليرا مع الناس فتسير في طرق المواصلة التي يسيرون فيها،
وسرعة انتقالها متوقف على سرعة انتقالهم، فقد كان سيرها بطيئًا قبل زمن سكك
الحديد والبواخر، أما الآن فهي سريعة الانتقال جدًّا. وتظهر غالبًا في المواني
البحرية أو الأماكن التي تحتشد فيها الناس؛ لإقامة المواسم والأسواق، لكن ذلك
ليس مضطردًا، فالوافدة الأخيرة التي فشت في هذا القطر كان ظهورها أولاً في
قرية من قرى الصعيد.
وهي غير منتظمة في سيرها، فقد تتخطى عدة أماكن على طرق المواصلة،
وتفشو في غيرها كما حدث سنة ١٩٠٢، فإنها تخطت مدنًا كثيرة في صعيد مصر،
وفشت في حلفا، فإذا لا سمح الله دخلت القطر وفشت في الإسكندرية مثلاً، فقد
تظهر في مدينة من مدن الصعيد قبل ظهورها في القاهرة.
والعزلة تقي منها، فإن بعض الجزر في المحيط الهندي وغيره لم تدخلها
الكوليرا قط، وكذلك أستراليا ونيوزيلاندا وغرب أفريقية ومواضع كثيرة من
السودان، فإنها فتكت بالجيش المصري سنة ١٨٩٦، لكنها لم تنتقل إلى الأماكن
التي كان العدو مقيمًا فيها لقلة المواصلة.
ويقال بالإجمال: إن السواحل البحرية والأماكن المطمئنة الرطبة على مقربة
من الأنهار والمزدحمة بالسكان أكثر تعرضًا لها من الأماكن المرتفعة الجافة مثل قرى
جبل لبنان والأماكن البعيدة عن النيل. وقد قيل لي: إنه حالما ابتعد الجيش
المصري عن النيل سنة ١٨٩٦ وخيم في الصحراء قلت الإصابات كثيرًا بين
العساكر ثم انقطع الداء تمامًا.
والماء أعظم وسائل نقل الكوليرا، والأدلة على ذلك كثيرة، فمدينة بيروت
مثلاً لم تنتشر فيها الكوليرا منذ سنة ١٨٧٥، مع أنها فشت بعد ذلك في مدن كثيرة
من مدن الشام كدمشق وطرابلس وغيرهما، وكانت تحدث إصابات في محجرها
وفي المدينة نفسها كلما فشت الكوليرا في القطر المصري أو غيره من البلدان
المجاورة، لكن الداء لم ينتشر فيها قط؛ لنظافة مائها وصعوبة تلوثه بخلاف دمشق
وحِمْص وحماة وطرابلس وغيرها من مدن الشام.
أما في القطر المصري، فيستبعد تلوث الماء الذي توزعه الشركات في
البيوت. والخوف ليس منه بل من استقاء الماء من الآبار والترع والنيل قرب الشاطئ
، أو من تلوث الآنية التي يوضع الماء فيها كالأزيار لاسيما هذه الأزيار القذرة التي
نراها على جوانب الشوارع في القاهرة، فإن زيرًا واحدًا من هذه الأزيار قد يكون
سببًا لهلاك مئة نفس إذا تلوث بجراثيم الداء. وقد فتكت الكوليرا سنة ١٩٠٢ ببعض
أهل القاهرة، وكان عدد الجنود المصريين فيها نحو ثلاثة آلاف لم تحدث بينهم
إصابة واحدة؛ لأنهم عزلوا في ضواحي المدينة، واعتني اعتناءً تامًا بالماء الذي
كانوا يشربونه، وهذا كان شأن الجنود الإنكليزية فيها، وإنما أصيب منهم جندي أو
اثنان شربا ماءً في إحدى فهوات المدينة على ما أتذكر.
(سببها)
لم يكن سبب الكوليرا معروفًا قبل وافدتها التي فشت في مصر سنة ١٨٨٣،
فانتدبت الحكومة الألمانية حينئذ لجنة رئيسها الدكتور كوخ، وأرسلتها إلى مصر
للبحث عن سبب هذا الداء، فاكتشف الدكتور كوخ في مبرازت المصابين وأمعاء
المتوفين منهم مكروبًا، ترجح له أنه مكروب الكوليرا، لكنه لم يجزم بذلك قبل أن
سافر إلى الهند موطن هذا الداء، ووجد المكروب نفسه في مبرازت المصابين هناك
أيضًا، فتحقق لديه أنه سبب الداء. ولكن هذا المكروب لم يستوف الشروط الأربعة
التي كان كوخ قد سبق فوضعها؛ ليثبت أن مكروبًا معلومًا يسبب مرضًا معلومًا،
ولكن الأدلة الأخرى كثيرة على أنه علة الكوليرا.
***
(٣)
(مكروبها)
لقد مر بنا أن سبب الكوليرا نوع من المكروبات اكتشفه كوخ في مصر سنة
١٨٨٣. وليس غرضي الآن البحث في هذا المكروب بحثًا علميًّا وافيًا، ولا ذكر
المشاحنات التي قامت بسببه، بل غاية ما أريد إيضاح شيء عنه لغير الأطباء؛
لأن الوقاية من الأمراض المعدية تقتضي معرفة ماهية المكروبات المسببة لها،
فأقول: المكروبات أحياء صغيرة جدًّا لا ترى بالعين المجردة أي: بغير الآلة
المعروفة بالمكرسكوب، ولشدة صغرها لا يقاس طولها وعرضها بالمقاييس المعتادة
بل بمقياس خاص بها يعرف بالمكرومليمتر أي المليمتر الصغير، وهو جزء من
ألف جزء من المليمتر أو جزء من مليون جزء من المتر، ويعبر عنه بالحرف
اليوناني الذي يقابل حرف الميم بالعربية، فلا بأس بالتعبير عنه بحرف الميم في
لغتنا، فيقال: إن مكروب التدرن مثلاً طوله ثلاث ميمات أي: ثلاثة أجزاء من
ألف من المليمتر. ومكروب الكوليرا نوع من هذه الأحياء الصغيرة، وهو أصغر
عن باشلس التدرن لكنه ليس أقل منه خبثًا، طوله من ميم ونصف إلى ميمين،
وعرضه نحو نصف ميم، فإذا فرضنا أننا وصلنا واحدًا منه بآخر وهذا بآخر وهلم
جرا، حتى يكون من هذه المكروبات حبل طوله مليمتر واحد فقط لاقتضى لذلك
خمسمائة مكروب على الأقل. وإذا وضعنا حبلاً من الحبال بجانب حبل آخر ثم
آخر بجانب هذا وهلم جرا، حتى تصير الحبال مليمتر مربع، لاقتضى ذلك مليون
ميكروب أي: أن مليونًا من هذه المكروبات الواحد منها بجانب الآخر لا تزيد
مساحة سطحها على مليمتر مربع. فتأمل كم يكون عددها في المليمتر المكعب أو
في زير من أزيار الماء في بركة أو صهرج، وكم يعلق منها على أصبع واحدة إذا
تلوثت ببراز المصابين. فمتى عرفنا ذلك سهل علينا أن نفهم كيف يتلوث الماء
بمكروب الكوليرا. فإذا فرضنا أن الواحد منا لمس مصابًا أو لمس ثيابه، وكان
على المصاب أو على ثيابه أثر من برازه؛ ثم على غير انتباه منه أخذ إناءً وغمسه
في زير الماء ليملأه منه، فإن الزير يتلوث بالمكروبات لا محالة. والمكروبات
سريعة النمو جدًا إذا وافقتها الأحوال، فلا تمضي بضع ساعات حتى يصير في
الزير ملايين منها. ومثلها لو فرضنا أن براز المصاب طرح في بركة ماء أو في
ترعة أو على شاطئ النيل، حيث يكون الماء بطيء الجري، أو لو غسلت ثياب
المصاب في هذه الأماكن أو طرحت فيها فإنها تتلوث بالداء، وتكون سببًا في انتقاله
من شخص إلى آخر.
أما شكل هذا المكروب فهو كالضمة العربية؛ لذلك يعرف عند بعضهم
بالباشلس الضمي، وقد يكون هلالي الشكل، وربما التصق اثنان منه فيصيران مثل
شكل حرف S الإفرنجي، وقد تتصل أفراد كثيرة منه فتصير خيوطًا كاللوالب
ومقر الباشلس في الأمعاء فقط، فإنه لم يعثر عليه في غيرها من أنسجة
الجسم، ولم ير إلا في محتوياتها، وقيل: إنه عثر عليه في القيء أحيانًا، على أن
ذلك نادر، وربما كان القيء في مثل هذه الأحوال مختلطًا بالبراز.
***
(كيفية إثبات الداء)
قلنا: إن مكروب الكوليرا يكون في الأمعاء بالبراز، فإذا اشتبه أطباء الصحة
بإصابةٍ، أخذوا شيئًا من هذا البراز وفحصوه بالمكرسكوب، فإذا كانت المكروبات
كثيرة جدًّا عثروا عليها حالاً وعرفوها ببعض الصفات الخاصة بها دون غيرها،
ويتفق أحيانًا أنهم لا يعثرون على شيء منها، فلا يكون ذلك دليلاً على أن الإصابة
المشتبه فيها ليست بالكوليرا أو أن المكروبات غير موجودة، فعدم رؤيتها ليس دليلاً
على عدم وجودها؛ لأنها قد تكون قليلة جدًّا، فلا يعثر عليها، فيلجؤون حينئذ إلى
الفحص البكتريولوجي القائم على المبدأ الآتي: وهو أن المكروبات تنمو في بعض
المواد كالجلاتين والمرق، ولها في نموها خواص يميز بها النوع الواحد منها على
غيره، فمتى نمت في هذه المواد كثرت جدًّا، وانفصل كل نوع منها على حدة
وعرف بهذه الخواص وبغيرها، ولكن هذا الفحص يستغرق بعض الزمن من ست
ساعات إلى يومين أو ثلاثة.
ثم إن مصلحة الصحة لا تكتفي بفحص براز المصابين فقط، بل تفحص
براز الذين اختلطوا بهم؛ خوفًا من وجود المكروب في أمعائهم قبل ظهور الداء فيهم؛
لأن بعض الأمور المختصة بهذا الداء لا تزال غامضة، ويظن أن بعض الناس
القادمين من الأماكن الموبوءة، قد يكون الداء كامنًا فيهم لا تظهر أعراضه. وربما
كان أمثال هؤلاء الناس سببًا لانتشار الوباء، وقد ثبت هذا الأمر في الحمى
التيفودية، فإن مكروبها قد يكون في أمعاء شخص غير مصاب بها، فينتقل منه إلى
شخص آخر، ويكون سببًا لإصابته بها.
***
(٤)
(هل الباشلس الضمي وحده علة الكوليرا)
مما لا شبهة فيه أن الكوليرا مرض شديد العدوى، وأن للباشلس الضمي
علاقة كبيرة به، لكن ذلك ليس دليلاً على أن هذا الباشلس هو سببه الحقيقي، فإنه
لم يستوف الشروط الأربعة التي وضعها كوخ؛ ليثبت أن مكروبًا معلومًا يسبب
مرضًا معلومًا. والشروط هي هذه:
أولاً - يجب إثبات وجود المكروب في دم المصاب أو أنسجته.
ثانيًا - يجب زرع هذا المكروب خارج الجسم في منبت يصلح له، والحصول
على نبت خالص منه بعد أعقاب متوالية.
ثالثًا - إذا أدخل هذا النبت إلى جسم حيوان سليم، يجب أن يصيبه الداء
المذكور.
رابعًا - يجب إثبات وجود المكروب في جسم الحيوان الذي أدخل إليه أو في
أنسجته.
فمكروب الكوليرا قد استوفى الشرطين الأولين ولم يستوف الشرطين
الأخيرين استيفاء تامًّا؛ إذ لا بد لاستيفائهما من إيصال نبت خالص من المكروب
إلى الإنسان أو غيره من الحيوان وإصابته بالداء، وهذا لم يتم حتى الآن في بعض
حوادث. على أن العلاقة بين الباشلس الضمي وبين الكوليرا من الأمور الثابتة.
وغاية ما يهم الجمهور معرفته أن الكوليرا من الأمراض المعدية، وأن عدواها
تنتقل بالبراز، سواء كان هذا الباشلس هو سببها الحقيقي وحده أو كان له أعوان
يساعدونه على ذلك.
ولا بأس بذكر بعض الحقائق التي اتضحت بعد اكتشاف هذا الباشلس، وهذه
أهمها:
(١) اكتشفت أنواع كثيرة من الباشلس شبيهة بالباشلس الضمي في بنائها
ونموها أهمها: باشلس الهيضة الفردية، وباشلس اللعاب الضمي. ويرى كوخ
وأنصاره أن هذه الميكروبات وإن كانت شبيهة بالباشلس الضمي في بنائها، فهي
مختلفة عنه في نموها في المنابت المعروفة.
(٢) شرب كثير من الباحثين نبتًا خالصًا من الباشلس الضمي على سبيل
التجربة، فأصيب بعضهم بإسهال خفيف، وعثر على الباشلس في برازهم، لكنه
لم يصب أحد منهم بأعراض تشبه أعراض الكوليرا الحقيقة إلا فيما ندر؛ لذلك
يرى بعضهم أن الباشلس الضمي ليس هو المكروب الحقيقي الذي يسبب هذا الداء
فرد قولهم بأنه لا بد من عوامل أخرى تساعد الباشلس الضمي على إحداث الكوليرا؛
كاستعداد الجسم أو اشتراك مكروب آخر لا يزال مجهولاً في العمل معه. ولا يخفى
أيضًا أن المكروبات إذا كرر زرعها ضعفت كثيرًا، فربما كانت المكروبات التي
جربت قد تلاشت قواها.
(٣) حدثت إصابات لا تختلف في أعراضها عن الكوليرا قط، ولم يعثر
على الباشلس فيها بالرغم من شدة العناية في البحث عنه؛ لذلك يرى بعضهم أن
الكوليرا قد يكون سببها غير الباشلس المذكور. ورد قولهم بأن البحث في مثل هذه
الإصابات لم يكن وافيُا، وإن عدم العثور على الباشلس ليس دليلاً على عدم وجوده
(٤) عثر على هذا الباشلس في براز أشخاص غير مصابين بالكوليرا،
ففسر بعضهم ذلك بأنه لا بد من استيفاء شروط أخرى للإصابة بهذا الداء، ولم تكن
هذه الشروط مستوفاة في هؤلاء الأشخاص.
(كيفية فعل الباشلس في إحداث الكوليرا)
قلنا: إن مقر الباشلس في الأمعاء فقط، وعلى فرض أنه سبب الكوليرا
الحقيقي، فأعراضها المعروفة ناشئة عن تهييج موضعي في الأمعاء وعن سم خاص
يفرزه الباشلس فيها ويمتصه الجسم، فيؤثر في بعض الأعصاب، ويحدث القيء
واعتقال العضلات وانقباض الأوعية الدموية على سطح الجسم والتهور الجليدي
والزرقة.
(مدة الحضانة)
يراد بالحضانة أو التفريغ الزمن الذي ينقضي بين التعرض للعدوى أو دخول
المكروب إلى الجسم وظهور أعراض الداء، فمدة الحضانة في الجدري مثلاً من
عشرة أيام إلى اثني عشر يومًا أي: أنه إذا دخل سليم على مصاب بالجدري
وانتقلت إليه العدوى، لا تظهر فيه أعراض الداء قبل مضي عشرة أيام إلى اثني
عشر يومًا. فمدة الحضانة في الكوليرا تختلف كثيرًا، وهي من بضع ساعات إلى
عشرة أيام، لكنها على الغالب من ثلاثة أيام إلى ستة أيام.
* * *
(٥)
(الوقاية منها)
الوقاية من الكوليرا قسمان: وقاية عامة أو إدارية، وهي ما تتخذه الحكومة
من التدابير لمنع دخول الداء إلى البلاد أو انتشاره فيها. ووقاية خاصة أو شخصية
وهي ما يتخذه الأفراد من الوسائل التي تمنع انتقال العدوى إليهم.
(الوقاية العامة)
أهمها التدابير التي تتخذها الحكومة في المواني والثغور؛ لمراقبة القادمين من
الأماكن الموبوءة والحجر عليهم وعزل المصابين منهم، ومن التدابير الحجر
الصحي أو الكورنتينا، وكان يراد بها قديمًا الحجر أربعين يومًا على القادمين من
الأماكن الموبوءة بالطاعون.
وأول حكومة فعلت ذلك حكومة البندقية، فإنها أقامت محجرًا صحيًّا سنة
١٤٠٣ في إحدى الجزر القريبة منها وقاية من الطاعون، ثم حذت الحكومات
الأخرى حذوها إلى أن فشت الكوليرا في أوربا سنة ١٨٣١، ففعلت مثل ذلك
لاتقائها، وما برحت تفعل ذلك إلى أن اتضح لبعضها أن هذا الحجر يعرقل التجارة
ويوقع البلاد في خسارة كبيرة، وأنه لم يكن كافيًا لدفع الوباء في كثير من الأحيان،
فأخذت الحكومة الإنكليزية تقلل من هذا التضييق على البضاعة والركاب، إلى أن
ألغت الحجر إلغاءً تامًّا سنة ١٨٩٦، وسنت نظامًا خاصًا للسفن القادمة من الأماكن
الموبوءة.
وكانت الحكومات الأوربية تعقد المؤتمرات لدفع الأوبئة التي قد تدخل أوربا
من الشرق، وأول مؤتمر عقدته لهذه الغاية كان سنة ١٨٥٢ وآخرها سنة ١٨٩٧،
وهذا الأخير كان للبحث في أمر الطاعون فقط. وكانت نتيجة هذه المؤتمرات أن
الحكومات الأوربية عدلت عن التضييق الشديد على البضائع والركاب، واتخذ
بعضها التدابير المتبعة في بلاد الإنكليز، وبقي بعضها يضرب الحجر الصحي على
واردات الأماكن الموبوءة. فالحكومات التي لا تزال تضرب الحجر الحجر الصحي
هي الدولة العلية ومصر وحكومة اليونان وروسيا وأسبانيا والبرتغال. أما
الحكومات الإنكليزية فتضرب الحجر الصحي في بعض أملاكها فقط؛ ومنها قبرص
ومالطة وجبل طارق في البحر المتوسط، وتكتفي في موانيها الأخرى بمراقبة
القادمين فتحجر على السفن التي حدثت فيها إصابات مدة سفرها إلى أجل مسمى،
وتنقل المصابين إلى مستشفيات خاصة، ثم تطهر السفن وتراقب القادمين خمسة
أيام في منازلهم.
وأهم المؤتمرات التي عقدت في أمر الكوليرا مؤتمر البندقية سنة ١٨٩٢،
وكان الغرض منه النظر في أمر دخول الكوليرا إلى أوربا بطريق السويس ,
ومؤتمر درسدن سنة ١٨٩٣، وكانت الغاية منه البحث في انتشار الكوليرا في
البلدان الأوربية , ومؤتمر باريس سنة ١٨٩٤ للنظر في أمر الكوليرا في زمن الحج،
وأهم هذه المؤتمرات مؤتمر درسدن، ولا يزال معمولاً بقرارته حتى الآن.
وللحكومة المصرية قانون خاص للمحاجر بوجه عام، وقانون آخر للحجر
الصحي في زمن الكوليرا، وهو مبني على قرارات مؤتمر درسدن وباريس،
وهاك ما يهم الجمهور الاطلاع عليه من مواد مؤتمر درسدن والقانون المصري:
أولاً - على الحكومات الموقعة لاتفاق درسدن أن يُعْلم بعضها بعضًا؛ متى
فشت الكوليرا في إحدى مقاطعاتها، وتواصل الأخبار عن سير الداء مرة في
الأسبوع على الأقل.
ثانيًا - تعد إحدى المقاطعات ملوثة متى أعلن رسميًّا حدوث إصابات فيها،
وتعد نظيفة متى مضت خمسة أيام لم تحدث فيها وفاة أو إصابة جديدة، واتخذت
التدابير لتطهير الأماكن الملوثة.
ثالثًا - تعد السفينة ملوثة متى كان أحد ركابها مصابًا بالكوليرا عند وصولها،
أو حدثت فيها إصابات قبل وصولها بسبعة أيام على الأكثر. وتعد مشتبهًا فيها متى
حدثت فيها إصابة قبل وصولها بسبعة أيام على الأقل , ونظيفة إذا لم تحدث فيها
إصابة أو وفاة بالكوليرا قبل سفرها وفي مدة السفر وبعد وصولها ولو كانت قادمة
من إحدى المواني الموبوءة. ويظهر أن مصلحة الصحة البحرية تعد الذين في
برازهم مكروب الكوليرا كأنهم مصابون بها، ولو لم تكن أعراض الداء ظاهرة فيهم.
رابعًا - تتخذ التدابير الآتية في معاملة السفن الملوثة:
يعزل الركاب المصابون ويبقى الآخرون تحت الحجر الصحي زمنًا لا يزيد
على خمسة أيام، وتطهر الأمتعة التي يرى رجال الصحة أنها ملوثة، ثم تطهر
السفينة.
أما السفن المشتبه فيها فتطهر، ويفرغ ماء الشرب منها ويستبدل بماء نظيف
ويستحسن الحجر على الركاب مدة لا تزيد على خمسة أيام بعد وصولهم. وقد
اشترطت الحكومة الإنكليزية أن لا يحجر على ركاب السفن الملوثة والمشتبه فيها،
بل يراقبون في منازلهم.
والسفن النظيفة يفرج عن ركابها حالاً، لكن الحكومة المصرية تراقب
القادمين من مواني البحر المتوسط في منازلهم ولو كانت سفنهم نظيفة.
خامسًا - جاء في القانون المصري أن ملابس المصابين القديمة والضمادات
الملوثة والأوراق والأشياء التي لا قيمة لها تتلف بالنار.
أما الملابس النظيفة وأدوات الفراش والأوراق ذات القيمة، فتطهر بفرن
خاص لذلك.
وجاء في مؤتمر درسدن أن الثياب القديمة والخرق وأدوات الفراش يمنع
دخولها أو تطهر. أما البضاعة فلا يجوز إتلافها عند تطهيرها، ولا يجوز تطهير
الرسائل والمطبوعات.
سادسًا - لا يحجر على الحيوانات، بل يفرج عنها حالاً بعد غسلها.
سابعًا - يجيز القانون المصري لمجلس الصحة البحرية أن يعد السفن
المزدحمة بالركاب الذين أحوالهم ليست على ما يرام؛ كأنها ملوثة أو مشتبه بها،
ولو لم تكن قادمة من أماكن موبوءة أو يكن أحد ركابها مصابًا بالكوليرا.
هذا أهم ما جاء في اتفاق درسدن والقانون المصري، ولم أر فيهما ذكرًا لمنع
الفاكهة، وهي المسألة التي تناولتها الجرائد هذه الأيام.
والمنصف لا يسعه في هذا المقام إلا الثناء على رجال الصحة البحرية؛ لما
يبذلونه من اليقظة والنشاط لوقاية البلاد من هذا الداء الوبيل، فإذا نجت البلاد منه
وستنجوا بإذن الله، يكون الفضل الأكبر في ذلك إليهم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور أمين المعلوف