زي الأمة من مشخصاتها ينبغي لها أن تحافظ عليه وأن تحترمه وتحتقر من يحتقره كما تحترم العلم الذي هو شارة حكومتها، فالعلم لا يحترم لشكله ولا للونه أو ألوانه، وليس من العقل ولا من الحكمة أن تذم الأعلام أو تُمدح لشكلها أو ألوانها، وكذلك أزياء الأمم من حيث هي أزياؤها، ولكن بين الزي والعلم فرقًا واحدًا وهو أن الزي يُقصد به من المنفعة ما لا يقصد بالعلم، فإذا اشترك مع العلم في أن كلاً منهما مشخص للأمة مهما يكن شكله ولونه وصفته فإنهما يفترقان في أن بعض الأزياء لا تفي بما يقصد بها من وقاية الجسم من أذى الحر أو البرد أو سهولة القيام بالأعمال العسكرية والصناعية والزراعية. ومن الناس من يرجع في اختيار الأزياء إلى مراعاة الذوق والجمال، ولكن هذا ليس له قاعدة ثابتة، وإنما يستحسن جماهير الرجال في كل أمة ما يختاره كبراؤها وحكامها، وإنما يعنى بالذوق والجمال في زي النساء وهن في كل آونة يستحدثن زيًّا جديدًا يبطلن به ما كان قبله مستحسنًا، ولا يرجع ذلك إلى فضيلة في زي اليوم على زي أمس تثبت بدليل علمي أو عقلي، وإنما فائدة الجديد لهن جذب الأنظار إلى السابقات إليه، وفائدته المالية لتجار الأنسجة وصناعة الخياطة لا تخفى ويقابل ربح هؤلاء من الأزياء خسارة المسرفات فيها، فكم من بيوت خربت بمثل هذا الإسراف. من أكبر جنايات الأفراد على أمتهم أن يحتقر أحد منهم زيها، ويستبدل به زي أمة أخرى تقليدًا وتفضيلاً لها، فإذا كان بعض أزيائها ضارًّا بها، فالواجب في استبدال غيرها به أن يكون برأي أهل الحل والعقد فيها، الذين يراعون في التغيير المنفعة دون التقليد الذي يبث في الأمة الشعور بمهانتها وتفضيل غيرها عليها، وقد وفينا هذا الموضوع حقه من البيان في المنار وقبل المنار في كتابنا الحكمة الشرعية الذي كتبناه في عهد طلب العلم، واقتبسنا منه نبذا في المنار إذ طرقنا باب هذا البحث مرارًا. ولست أبحث الآن في أزيائنا هل يحسن تغيير شيء منها وكيف ينبغي أن يكون التغيير، وإنما أريد أن أقول: إن بعض الإفرنج ينفرون من أزياء الشرقيين ويكرهون أن يأكل في مطاعمهم الخاصة بهم وبالأغنياء المتفرنجين منا من لا يلتزم عاداتهم وآدابهم في الطعام، ومنهم من يرى أن كل من لا يلبس الزي الإفرنجي لا ينبغي أن يأكل في تلك المطاعم، ولهم في ذلك أعذار ومآرب، وقد روت جريدة وادي النيل الإسكندرية أن اثنين من المعممين دخلا مطعمًا إفرنجيًّا فطُردا منه لأنهما معممان , وقالت في لومهما: إنه لا يبعد أن يكونا ذهبا منه إلى آخر مثله لعله يقبلهما. وأشارت أيضا إلى انتقاد صاحب المطعم الإفرنجي، أما نحن فإننا نختص باللوم فريقين من أمتنا: فريق الذين يتصدون لمؤاكلة الإفرنج في مطاعمهم، وهم لا يلتزمون آدابهم وعاداتهم , ومنهم من لا يلتزم الآداب الإسلامية التي هي أرقى الآداب، وفريق المتفرنجين الذين يحتقرون زي أمتهم وعاداتها وآدابها، ويستبدلون بها غيرها تقليدًا للأغيار وتفضيلاً لهم على أنفسهم، ويكونون آلة لإضعاف مشخصات أمتهم ومقوماتها وهم لا يشعرون بما وراء ذلك كما يشعر به غيرهم، ومن أراد أن يعرف رأي الإفرنج في ذلك فليقرأ خطبة الدكتور سنوك المستشرق الهولندي في الإسلام ومستقبله التي ألقاها في جامعة كولومبيا من الولايات المتحدة، وقد نشرنا ترجمتها في المجلد السابع عشر من المنار مع تعليق طويل عليها [١] ، ومن أراد أن يعرف قيمة هؤلاء المتفرنجين في نفس الإفرنج فليقرأ ما كتبه في شأنهم لورد كرومر في كتابه (مصر الحديثة) . من أهان أمته باحتقار شيء من مقوماتها أو مشخصاتها بإزاء احترام ما يقابل ذلك من أمة أخرى فقد احتقر نفسه أشد الاحتقار، وما قيمة الرجل الذي ليس له أمة محترمة في نفسه، ومن ذا الذي يكرم من يحتقر نفسه باحتقار أمته. ومن لم يكرم نفسه لم يكرم ... إذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه
يجب على كل من أوتي نصيبًا من الفهم أو حظًّا من الشرف أن يقاوم جهد طاقته كل ما فيه احتقار لأمته مهما يكن رأي المحتقر وقصده، ومن ذلك أن لا يأكل أحد من المصريين في مطعم يهين أصحابه مصريًّا لزيه أو عادته أو غير ذلك، ولا أن يشتروا شيئًا من تاجر يهين مصريًّا، ويجب على أمثال هؤلاء أن يبذلوا جهدهم لمنع الإهانة عن أمتهم وإغنائها عن معاملة كل من يقصر في احترامها، وإنما يتيسر هذا بتعاضد الأندية والجمعيات الأدبية والشركات التجارية. كانت شركات البواخر الإفرنجية في الخط الذي بين الهند وخليج فارس وشط العرب تحتقر المسافرين فيها من العرب والفرس ولا تسمح لهم بالأكل على مائدة الدرجة الأولى فلما أنشأ تجار العرب في بومبي شركة البواخر العربية زال ذلك الاحتقار وبطلت تلك المعاملة. واتفق لي منذ بضع عشرة سنة أنني دخلت مطعمًا سوريًّا في القاهرة وقت العشاء وجلست إلى مائدة من موائده فطلب رجل إنكليزي أن أترك تلك المائدة؛ لأنه يجلس إليها للطعام ولا يحب أن يأكل مع شيخ أزهري، فلم أبالِ بطلبه، فطلب من صاحب المطعم ذلك فاعتذر إليه بأنه لا يمكنه ذلك، وقد سألت عن اسم الرجل وعمله وذكرت ذلك لصديقي مستر متشل أنس الذي كان وكيلاً لنظارة المالية وقتئذ فاستاء من ذلك وكتب كتابًا إلى رئيس ذلك الرجل في مصلحة السكة الحديدية كلفه فيه أن يلزمه الاعتذار إليّ، وأخذت الكتاب بنفسي وعدت راضيًا مكرمًا. ولا يخفى على عاقل أن ما نحتاج إلى اقتباسه من علوم أوربة وفنونها وصناعاتها لا يقتضي هذا التفرنج الذي نذمه ولا يأتي من طريقه بل ينافيه؛ لأن التفرنج تقليد في الأزياء والعادات يحدث التفرق في الأمة وانحلال روابطها واقتباس العلم النافع والعمل الرافع يجب أن يكون بطريق الاستقلال لا التقليد، وأن تراعى فيه حاجة الأمة في العمل ويقصد به ترقية ثروتها وعزة دولتها، ولم نرَ هؤلاء المتفرنجين من الترك والمصريين ساروا على ذلك الدرب وصلوا إلى هذه الغاية، بل هم الذين نسفوا ثروة بلادهم وقطعوا روابطها حتى وصلت إلى ما هي عليه، وليس في بلادهم شيء من العمران إلا وقد كان بعمل الأجانب ومعظم فائدته لهم، وإنما سار على ذلك شعب اليابان الذي شرع في اقتباس الفنون الأوربية بعد الترك والمصريين منا، فكل طلاب العلوم منهم في أوربة يتلقون العلوم العملية، إذ يتلقى الطلاب منا العلوم النظرية والسياسية، وكانوا مثال الجد والعمل والاقتصاد، إذ كان أكثر طلابنا مظهر الفسق والسرف والفساد. وإليك من العبرة هذا المثال: كان بعض الأوربيين والأوربيات مع بعض اليابانيين في بلاد اليابان فخلع ياباني نعله في المجلس، فأنكر عليه ذلك بعض الأوربين؛ لأن خلع النعال أو الجلوس بغير نعلين مستهجن في عاداتهم ولا سيما حيث يوجد النساء، فقال الياباني: أنا ياباني لا أوربي وهذه البلاد يابانية لا أوربية فبأي حق تطالبوننا باتباع عاداتكم في بلادنا والواجب عكسه؟ أو قال كلاما بهذا المعنى، فهذه هي الوطنية لا ما يتشدق به المتفرنجون الذين لا يعقلون عاقبة ما يأتون وما يدعون. قلنا: إن اقتباس الفنون النافعة من الغربيين، وكذا ما يستلزمه من اعترافنا بجهلنا وبحاجتنا إلى علمهم، لا يعد احتقارًا للأمة بل إصلاحًا، ونقول أيضًا: إننا في حاجة إلى الإصلاح في كثير من العادات الضارة، وإن ذلك لا يعد احتقارًا للأمة وطالما كتبنا في ذلك، ومن أبواب المنار الواسعة باب: البدع والخرافات والتقاليد والعادات، وإنما الواجب أن نعتمد في هذا الإصلاح على شريعتنا وهي أكمل الشرائع وآداب ديننا وهي أكمل الآداب.