(٣) (دمشق الشام) عدت في ٢٣ رمضان إلى بيروت، وفاءً بوعدي لأصدقائي وللوالي، فأقمت فيها أربعة أيام، كنت ألقي في كل يوم منها درسًا دينيًّا بعد العصر في أحد المساجد، وفي اليوم الأخير استبدلت بالدرس خطبةً سياسيةً في حظيرة الموقع العسكري، إجابةً لطلب الكثيرين. وفي صبيحة الخميس ٢٧ منه، ركبت القطار الحديدي إلى دمشق، وهو قطار رديء، الدرجة الأولى منه دون الدرجة الثانية من القطار الذي بين رياق وحِمْص، فبلغ بنا محطة دمشق قبيل المغرب، فإذا بانتظارنا صديقنا الكريم عثمان بك العظم وجمهور ممن نعرف ومن لم نعرف من المحبين العلماء والوجهاء، نخص منهم بالذكر أعلم علماء الشام الأستاذ الأكبر بركة الوقت بقية السلف الصالح الشيخ عبد الرزاق البيطار والأستاذ العامل المجد الذي يقتل وقته كله في التدريس والتصنيف وتصحيح الكتب النافعة الشيخ جمال الدين القاسمي، أدام اللهُ النفعَ بعلمهما وعملهما. نزلنا في دار عثمان بك، فأقبل للسلام علينا فيها كثير من الوجهاء، فرأينا من أدبهم وحسن محاضرتهم ما ينطبق على ما هو مشهور عنهم، وسمعنا منهم مذ الليلة الأولى أخبارًا سيئة عن جمعية الإخاء العربي، التي أسست في الآستانة، فقال بعضهم: إنها أسست بإيعاز من السلطان لتكون عضدًا له وعونًا على جمعية الاتحاد والترقي، وقال آخرون: إنها (ضد الترك) , وقالوا: إن ندره بك المطران جاء الشام ليدعو إلى هذه الجمعية، وهو يذم الترك ويدعو الناس إلى العصبية الجنسية العربية , وينفر من جمعية الاتحاد والترقي. وذكروا أن سيرة بعض أعضاء هذه الجمعية غير محمودة , وأن بعض أفرادها يحتقرون وجهاء البلد، ويفطرون في رمضان جهرًا، وأن هذا مما يمهد السبيل لندره المطران ويجعل دسائسه مقبولةً عند كثيرين. هذا ملخص ما سمعته من أكثر من واحد، وكنت أبيِّنُ لهم ولغيرهم أن تنفير العرب من الترك مفسدة من أضر المفاسد، وأننا في أشد الحاجة إلى الاتحاد بالترك والإخلاص لهم؛ لأن مصلحتنا ومصلحتهم في ذلك، على أننا أحوج إليهم منهم إلينا، فمن يسعى إلى التفرقة بيننا وبينهم فهو عدوٌّ لنا ولهم، فإن كان سعيه لهواه فهو شر الشياطين، وإن كان سعيه لغيره فهو شر الأُجَرَاء الخائنين، ولا عجب في صدور ذلك من بني المطران المفسدين. نعم يجب على العرب أن لا ينسوا في اتحادهم بالترك أنفسهم ويتكلوا على غيرهم، بل يجب عليهم مباراة إخوانهم في التربية التي تقتضيها حال العصر وتحصيل العلوم والفنون التي عليها مدار العمران؛ ليكونوا يدًا واحدةً في إحياء الدولة، وليقدروا على ترقية شأن بلادهم واستخراج خيراتها العظيمة، ثم ليكونوا أهلاً لإدارتها بأنفسهم إذا غلب في المستقبل حزب صباح الدين أفندي، ابن أخت السلطان، على غيره من الأحزاب التي ينتظر أن تتكون في الدولة، وهو - أي رأي صباح الدين - أن تكون كل ولاية من ولايات الدولة مستقلةً في إدارتها الداخلية، ويعبر عن ذلك بعدم المركزية (Décentralisation) ويرى بعض علماء السياسة أنه لا بد في المستقبل من استقلال كل جنس بنفسه، ويروي هذا الرأي عن نابليون، وإذا صح هذا في المستقبل البعيد، وكان الجنس العربي غير أهل للإدارة التي تقتضيها حال مدنية ذلك العصر الذي سيكون أرقى من عصرنا هذا - وإن قرب - وغير أهل لمشاركة سائر الأمم في السياسة العامة والحقوق المتبادلة بين الأجناس على أصول المساواة، فكيف تكون حاله يومئذ؟ ألا تكون (لا قدَّرَ الله) تحت وصاية غيرنا من الأجناس المرتقية في العلوم والأعمال؟ ومن هو الجنس الذي يتولى هذه الوصاية؟ وكيف تكون سيرته فيها؟ يجب علينا أن نفكر في حالنا الحاضرة وفي مستقبلنا القريب ومستقبلنا البعيد، وأن نعلم أن حسن المستقبل متوقف على ما قبله، والنهاية أثر البداية، ويجب أن يكون الأساس الذي نبني عليه في حاضرنا ومستقبلنا الإخلاص لدولتنا والاتحاد بالترك وسائر العناصر العثمانية، مادامت هذه العناصر متحدةً بالدولة مخلصةً لها، وأن نكون الآن من أشد الأعوان لجمعية الاتحاد والترقي على بث روح الدستور في جميع الطبقات، ورقباء على الحكومة في سيرها وأعمالها، حتى ترسخَ فيها الديمَقراطيةُ، وتسير بعد اجتماع المبعوثان على الأصول الدستورية. هذا ما كنت أبثه من الأفكار في مثل هذا المقام، وأستطرد منه إلى بيان وُجُوب العناية بتأسيس المدارس لنشر التعليم الأهلي في جميع طبقات الأهالي، وإن ذلك يتوقف على تأسيس الجمعيات الخيرية في كل لواء من ألوية كل ولاية؛ لأجل تعليم أولاد الفقراء بغير أجرة، وتعليم أولاد الأغنياء بالأجرة. ثم أُنَوِّه بالتعليم العالي، والرحلة إلى حيثُ توجد إلى أن يوجد في كل ولاية مدارس عالية يُسْتَغْنَى بها عن الرحلة. وهذا ما كنت أقوله في كل بلد. ومما سرني بدمشق وأهلها سرورًا عظيمًا حياة كثير من الصناعات فيها. وكيف لا ينشرح صدري لذلك وقد رأيت ذلك الجامع الفخم الذي كان هو الأثر العظيم في هذه العاصمة لأول دولة عربية تأسست فيها، فدمره عصر الظلم والاستبداد بالنار، فأعاده أهل دمشق إلى ما كان عليه، لا ينقصه إلا ما كان فيه أولاً من زينة الفسيفساء التي يعجز عنها حتى الإفرنج من أهل هذا العصر، ثم إنني رأيت معظم أثاث البيوت ورياشها من صنع أهل البلد، حتى في بيوت الكبراء، كبيت عبد الرحمن باشا اليوسف، أمير الحج، الذي هو أوسع أهل دمشق ثروة، وأعلاهم جاهًا ومنزلة، فقد تأملت أثاث بعض الحجرات ورياشها في داره، فلم يقع نظري على شيء فيها من غير صنع الشام، إلا السجاجيد العجمية، حتى إن القناديل الكهربائية النحاسية التي فيها هي من صنع الشام، فلنا أن نفتخر بصناعات الشام في النسج والحفر والبناء والتجارة وغير ذلك، وأن نجتهد في توسيع دائرتها بالطرق الحديثة. رغب إلي بعض الفضلاء أن أقرأ درسًا في الجامع الأموي، كما فعلت في بيروت وطرابلس، فأجبتهم إلى ذلك لرميهم فيه عن قوس عقيدتي وموافقتهم لرغبتي، واستحسنت أن يكون ذلك بعد صلاة الجمعة، فقيل: إن هذا هو الوقت الذي يختم فيه المدرسون الرسميون دروسهم، فيرونك فيه مزاحمًا لهم فيثقل عليهم، فالأولى أن يكون درسك بعد العصر، فوافقتهم على ذلك. وقد صلينا الجمعة في الجامع الأموي، ورجونا أن نسمع فيه خطبة تناسب في حسنها المعنوي ما في ذلك الجامع من الحسن الحسي، ولكن خاب رجاؤنا، فسمعنا ما مَلَّتْهُ أسماعُنا من عهد الحداثة، وهو مدح رمضان وتغرير العامة بحديث العتق فيه الذي بيَّنا في المنار من قبل ما قيل في وضعه. وشهدنا بعد الصلاة دروس المدرسين، فجلسنا زهاء ثلث ساعة في درس الكزبري الذي حضره الوالي والمشير، حسب العادة المتبعة، وخلق كثير. ووقفنا هنيهة على درس الشيخ بدر الدين، فإذا هو رجل يسرد الأحاديث الشريفة بأسانيدها بالضبط الصحيح، ويورد في معناها كل ما قاله بعض العلماء في شرحها أو جله، وينقل من المسألة إلى ما يناسبها من غير تلعثم ولا مكث. (درسنا الأول في الأموي) ثم خرجنا من المسجد وعدنا إليه في وقت العصر، وبعد صلاة الفريضة تلا بعض القراء آيات من الكتاب العزيز، فجعلتها موضوع الدرس، واستطردت منها إلى غيرها من الآيات الواردة في صفات المؤمنين، وما وعدهم الله تعالى به في الدنيا والآخرة مع تنبيه الأذهان إلى عرض أنفسنا في هذا العصر على هذه الآيات لنعلم هل هي منطبقة علينا أم لا.. . وذكرت ما يطلب من المسلمين في هذا العصر ليحافظوا على دينهم الذي يرشدهم إلى ما فيه سعادة الدارين، ويعدهم بذلك جزاء على نصره والقيام بحقوقه، وكون ذلك يتوقف في هذا العصر على العلوم والفنون التي يرتقي بها الاجتماع البشري وتعتز بها الأمة ويرفع شأن الدولة، ألا وهي العلوم والفنون الرياضية والطبيعية والاقتصادية. ومما قلته وكررته: إنني أرفع صوتي قائلاً: إننا لا تقوم لنا قائمة إلا بالأخذ بهذه العلوم والفنون التي يتوقف عليها امتثال قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: ٦٠) ، فإننا نستطيع أن ننشئ المدرعات البحرية، ونعمل المدافع والبنادق وقذائف الديناميت؛ لأجل حماية حقيقتنا وتعزيز دولتنا، وأن نعمل السكك الحديدية وغيرها من الأمور التي ترقي مدنيتنا وتحفظ ثروتنا، وكل ذلك يتوقف على العلوم الرياضية والطبيعية التي لا حياةَ لأمة في هذا العصر بدونها، إن علماءنا السابقين الذين كانوا يذمّون العلوم الطبيعية وينهون عنها لم يكونوا يعنون بها إلا تلك النظريات اليونانية التي تبحث في الإِلَهِيَّات بحثًا يخالف أصول الدين وقواعده، والعلوم الطبيعية في هذا العصر مباينة لتلك النظريات وناقضة لها، لأن أساسها التجربة والاختبار والعمل، فمن فروعها علم الكهرباء الذي ترون من آثاره النور الذي يتألق في مسجدكم هذا ليلاً، والمركبات التي تجري في شوارعكم وأسواقكم، ومنه علم البخار الذي تسير به قطارات السكة الحجازية من بلدكم إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. فهل يمكن أن يكون هذا العلم معارضًا للدين؟ كلا، إنه لا يضر الدين وأهله؛ ولكن يمكن أن يستخدم لحفظ الدين ورفعة شأن أهله، فكل من يصد المسلمين عنه فهو إما صديق جاهل بحقيقة هذا العلم وفائدته، وإما عدو غاشّ للمسلمين. ثم بينت لهم أن الإسلام على جمعه بين مصالح الدنيا والآخرة دين يسر لا عسر، ولا حرج فيه، وإنه يمكن للمسلمين أن يجمعوا بينه وبين جميع العلوم والفنون العصرية التي نوهت بفائدتها إذا أحسنوا التربية الدينية وأصلحوا طرق التعليم، وإن ذلك إنما يكون بإنشاء المدارس الأهلية، وهذه المدارس لا يقوم بها حق القيام إلا الجمعيات، فالذي يجب أن يبدأ به أهل بلادنا في هذا العصر هو تأسيس الجمعيات التي تنشر التعليم في جميع طبقات الأمة، وذكرت لهم موقع دمشق ومكانها من جزيرة العرب، وما ينبغي من السعي في جعلها ينبوعًا للمعارف والمدنية فيها، ثم قلت في آخر الدرس: إنه يمكنني أن أبين لكم في مجلس آخر كيف يمكن الجمع بين الإسلام تربيةً وتعليمًا، وبين تحصيل العلوم العصرية الكثيرة التي تقوى بها الأمة وتعتز الدولةُ، إن شئتم، فأظهر الرغبةَ في ذلك الجمهورُ. وقد حضر الدرس عدد كثير من الناس يبلغ المئات على ما قدره بعض الحاضرين. ومنهم العلماء الرسميون الذين أقبلوا عَلَيَّ بعد الدرس بالتحية والثناء وإظهار الإعجاب بالدرس والدعاء بأن ينفع الله بي وبه، والوجهاء كأحمد باشا ومحمد باشا العظم وعلي باشا الأمير وعبد الرحمن باشا اليوسف وشكروني على ما أبديته، وألحُّوا عَلَيَّ بأن أعيده في اليوم الثاني. (درسنا الثاني في الأموي والحادثة المشهورة) تحدث الناس في الدرس الأول في ليلتهم تلك، وأنه على غير ما يعهدون في الموضوع، وهو الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، والاستناد إلى آي القرآن - وفي الأداء، وهو أسلوب الخطابة، فرغب الناس بعضهم بعضًا في حضور الدرس الثاني، فلم نكد نصلي العصر في اليوم الثاني وننفتل إلا وقد تَحَلَّقَ الناس في مكان الدرس الأول (تحت القبة) وصار يلزّ ويزحم بعضهم بعضًا، فلما اتسعت مساحة القاعدين طفق الناس يتحلقون حولهم وقوفًا ثم ازدحموا فصاروا كالقاعدين على غير نظام حتى صاروا يقدرون بالألوف، فرأى بعض المهتمين بأمر الدرس أنه لا يمكن إسماعهم إلا بالقعود على شيء مرتفع؛ فأحضروا الكرسي الذي يقرأ عليه خطباء المسجد قصة المولد ونحوها في المواسم المحدثة في الإسلام، فصعدت إليه وشرعت في الدرس بعد ذكر الله والثناء عليه والصلاة والسلام على البشير النذير جزاه الله عنا أفضل ما جازى نبيًّا عن أمته. كان موضوع الدرس تعريف الدين وكونه هاديًا إلى ما فيه سعادة الدنيا والآخرة وكون الإسلام عامًّا لجميع البشر موافقًا لمصالحهم في كل زمان ومكان، وبيان إمكان الجمع بين هدايته وبين جميع العلوم والفنون التي عليها مدار العمران في هذا العصر إذا صلحت طريقة التربية والتعليم. قلت: إن القاعدة التي ينبغي لنا أن نبني عليها أساس اهتدائنا بالإسلام هي قول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) ؛ فيجب علينا أن نرجع إلى سيرة الصدر الأول، فننظر كيف تلقى الصحابة عليهم الرضوان دينهم عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكيف كانت سيرتهم في العمل به، وكيف تلقى عنهم التابعون، فنهتدي بهديهم في ذلك. ثم بينت أن ما جاء به الإسلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم العقائد؛ وقسم الأخلاق والآداب؛ وقسم الأعمال من العبادات والمعاملات، وشرعت في بيان طريقة التعليم التي ينبغي سلوكها لإحياء الإسلام في زمن قليل لا نحتاج فيه إلى مدارسة هذه الكتب الكثيرة في الكلام والفقه وغيرها التي لا يتفق تحصيلها في عشرات من السنين إلا للعدد القليل من المنقطعين لتحصيلها، وهؤلاء المنقطعون عشر معشار الأمة. فإذا كان الدين لا يؤخذ إلا من هذه الكتب التي اختارها علماؤنا للتعليم العام في هذه القرون الأخيرة، فكيف السبيل إلى تعليم الدين لجميع المسلمين؟ وههنا قلت: كم عدد مسلمي هذا البلد؟ فقال بعضهم: مائتا ألف أو يزيدون، فقلت هل يوجد فيهم ألفا عالم فهم كتب الكلام وكتب الفقه المتداولة؟ قيل: ولا ألف. فقلت: إذا كان هذا مبلغ تعلم الدين في مدينة تعد من أعظم أمصار الإسلام في الأرض، فكيف يكون حال مسلمي القرى وأهل البوادي ومثل مسلمي الصين؟ ثم شرعت في بيان الطريقة السهلة لتعميم تعليم العقائد، فقلت ما معناه: إن كتب الكلام المشهورة لم توضع لأجل تلقين المسلمين ما يجب عليهم اعتقاده، وإنما وضعت لرد شبهات الفلاسفة والمبتدعة عن العقائد الإسلامية والاحتجاج على حقيتها، وقد انقرض أولئك الفلاسفة والمبتدعة الذين عُنِيَ المتكلمون بإقامة الحجة عليهم، وظهر بطلان مذاهبهم إلا قليلاً من مسائلها، وحدثت لفلاسفة هذا العصر ومقلدتهم شبهات جديدة تولدت من الفلسفة الجديدة، يجب أن يُعْنَى متكلمو هذا العصر بكشفها، ولا ينبغي أن يذكر شيء منها لعامة المسلمين ولا لتلاميذ المدارس الابتدائية عند تلقينهم الدين، وإنما يخص بذلك طلاب العلوم العالية الذين يدرسون الفلسفة وعلم الكلام. المسلم لا يحتاج إلى الاستدلال على وجود الله تعالى بالطريقة الكلامية، وإن الدلائل التي تبنى على فرض خلاف المطلوب قد يكون إثمها أكبر من نفعها؛ لأنها تثير الشبهات، وتوقع كثيرًا من السامعين في الشك، وإنما الطريقة المثلى لذلك طريقة القرآن الحكيم، وهي عرض محاسن الخليقة وأسرارها على العقل وتذكيره بحكمة مبدعها البالغة وقدرته العظيمة وعلمه الواسع وتفرده بالخلق والتكوين والرحمة والإحسان (وذكرنا بعض الآيات في ذلك) . لماذا نقول للمسلم الخالي الذهن من الشبهات والشكوك، لو لم يكن للعالَم إله للزم الدور أو التسلسل، وكل منهما باطل، فما أدى إليه، وهو عدم وجود الإله باطل - فثبت نقيضه، وهو أن للعالَم إلهًا - ثم نحاول أن نفهمه معنى الدور والتسلسل والبرهان على بطلانهما، وما أصعبه مركبًا وأبعده مطلبًا! وقد رأينا كثيرين من المتصدرين لتدريس علم الكلام يذكرون ما كتب من الاستدلال على بطلان الدور والتسلسل، وهم لا يفهمون ما يقولون. إن الإيمان بوجود واجب، جل شأنه، عام في البشر باديهم وحاضرهم، حتى قال كثير من العلماء: إنه فطري مودع في النفوس بأصل الخلقة، فأكثر علماء أوربا وفلاسفتها يؤمنون بذلك، وكذا المؤمنون الذين ارتقت وثنيتهم كالبراهمة والبوذية حتى اليوم ومشركي العرب في زمن البعثة. ومن شذ من البشر فأنكروا وجود البارئ تعالى لشبهة أثارتها في نفسه تقاليد دينه أو نظريات فكره الضعيفة، فهو لا يمنع أن يكون لهذا الاعتقاد أصل في الفطرة البشرية، فقد قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى: إن الذين ينكرون وجود الله تعالى قليلون في مجموع البشر، فهم مرضى الأرواح - أو قال العقول - من هذه الجهة، وإن صحت أفكارهم من جهة أو جهات أخرى، ومرض الروح والعقل عرض يطرأ على بعض الناس كمرض البدن، فمرض الجسد مهما كثر لا يعد هو الأصل في المزاج، وكذلك مرض العقل والروح لا يعد في الأصل، وإن كثر المرضى به. قلنا: إن أكثر البشر يؤمنون بوجود الله تعالى، ونقول: إن الذين يؤمنون بالله تعالى يؤمنون بعلمه وقدرته وإرادته، ويعظمونه ويقدسونه، وقلما أخطأ الكفار في غير وحدانية الألوهية والربوبية من مسائل الإلهيات. فأما وحدانية الألوهية، أي العبادة، فهي عبادة غير الله تعالى بالدعاء ونحوه، وأما وحدانية الربوبية فهي اتخاذ بعض البشر شارعين، يشرعون للناس من الدين ما لم يأذن به الله. وقد بين الله لنا ذلك في كتابه الحكيم، فقال في بيان عقائد مشركي العرب {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} (الزخرف: ٩) ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون: ٨٤-٩١) ، فقد أثبت لهم الإيمان بوجود الله، وأنه هو الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء، وقال فيهم مع ذلك: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: ١٠٦) ؛ فما هو شركهم؟ هو ما بيَّنه في آيات أخرى، كقوله عز وجل: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: ٣) ، وقوله سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: ١٨) ، {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: ١٨) ، وقال في أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: ٣١) ، وقد روي في الصحيح أن عدي بن حاتم أسلم، وكان نصرانيًّا، فلما سمع هذه الآيات قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنهم لا يعبدونهم، فقال ما معناه: أليس يحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم؟ قال نعم، قال فذاك. فهذا وما قبله هو الذي فتن به الوثنيون، والذي طرأ على أهل الكتاب، وقد بينه القرآن الكريم تبيينًا. قلت كل هذا تمهيدًا لبيان ما يجب اتباعه من تلقين المسلمين عقائد دينهم على طريقة القرآن المُثْلَى، وأردت أن أشرع في المقصد، فإذا أنا برجل مغربي قد اخترق جمهور الواقفين حتى انتهى إلى دائرة القاعدين، وصاح: يا إخواننا المسلمين، اسمعوا لي كلمتين، وشرع في الكلام، فاضطرب الناس وكثر اللغط وقام كثير من القاعدين، فرغبت إليهم في السكوت والاستماع له. فأما إحدى كلمتيه ، فكانت في مشروعية زيارة القبور والتوسل بالصالحين الميتين، إلى الله تعالى ليقربوهم إليه! ويقضوا حوائجهم عنده! واعتقاد كرامات الأولياء، والتحذير ممن ينكرون ذلك ويضلون به الناس كما فعلت الوهابية، ثم ذكر ما هو شائع بين الناس من فتنة الوهابية ومحاربة السلطان وأمير مصر لهم. وأما الكلمة الثانية ففي وجوب تقليد الأئمة المجتهدين في الدين والثناء عليهم، وكون العمل بما في كتب الفقه هو عين العمل بالكتاب والسنة! وكان يقول ما مثاله: يا إخواننا، هل الذي يتوسل إلى الله تعالى بالأولياء يكون مشركًا بالله؟ هل الذي يحب الصالحين ويعظمهم يكون مشركًا بالله؟ هل الذي يؤمن بكراماتهم يكون مشركًا بالله؟ هل الذي يعظم الأئمة ويعمل بمذاهبهم يكون مشركًا بالله؟ ! ! . فلما أتم كلامه، قلت أيها الإخوان: إن من يسمع كلام هذا الشيخ ممن حضر في أثناء كلامه يظن أن ما قاله في درسي ليس إلا ردًّا علَيَّ، وإنني كنت أتكلم في هذه المسائل بخلاف ما قاله، ومن حضر المجلس من أوله يعلم أنني لم أتعرض لهذه المسائل بنفي ولا بإثبات، وليست هي من موضوع كلامي، فإن الذي قصدت إليه في هذا الدرس ووعدت به أمس هو بيان طريقة تعميم تعليم الدين لجميع المسلمين بأسلوب سهل وزمن قليل يبعث فيهم روح الدين، ولا يشغلهم عما هم في أشد الحاجة إليه من أمر الدنيا، وقد أشرت فيما قلت إلى أن هذه الطريقة هي طريقة القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام في تلقين الدين، لا طريقة المتكلمين، وقد سبقني إلى ذلك حجة الإسلام الغزالي فقال بمثل ما قلته في كتابه (إلجام العوام عن علم الكلام) وغيره، فصرح بأن كتب الكلام وضعت لحماية العقيدة من هجمات المخالفين، لا لإفادتها وتقريرها لعامة المسلمين، وإن طريقة القرآن هي التي يجب الاعتماد عليها في التعليم، وكل ما قلته تمهيد لبيان ذلك بعبارة ممحصة قريبة من الأذهان. وما خطر في بالي أن أحشر في درسي شيئًا من هذه المسائل التي قطع بها الرجل علَيَّ كلامي قبل أن أصل إلى المقصد منه. وكأني بأناس يقولون الكذب ويتجرءون علي، ويأخذون من كلامه تهمًا يلصقونها بي، فحَسْبي أن يعلم هذا الجمهور العظيم الذي سمع كلامي عني ويسمعوا مني بأنني ما أنكرت ولا أنكر زيارة القبور؛ لأجل الاعتبار وتذكر الآخرة والموت، كما ورد في حديث الإذن بها بعد النهي عنها، وإنني أزورها بالفعل، وأحب الصالحين ولا أنكر ما لهم من الكرامة عند الله تعالى، فإن من لا يحب الصالحين يكون أشقى الأشقياء، وأُعَظِّم الأئمة المجتهدين، وأعتقد أنهم كانوا على هدى وإخلاص في خدمة الدين، وإن من التوفيق والسعادة اتباعهم في الاهتداء بالكتاب والسنة. ثم صعد الكرسي الشيخ عبد القادر الخطيب وأراد أن يتكلم فأنزله عثمان بك العظم عن الكرسي، وصدّه عن التكلم ووقف عليه وقال ما معناه: أيها الإخوان، إنه لا ينبغي للعوام الخوض فيما يختلف فيه العلماء، فانصرفوا إلى شأنكم، ومن كان من العلماء يريد مناظرة الأستاذ في هذه المسائل أو غيرها فليتفضل بعد العشاء إلى منزلي. ثم نزل وقال لي: تفضل، فنزلت ومشينا معًا، فمشى معنا جمهور عظيم من الحاضرين، وسمعت بعض من بجانبي يقولون ما معناه: لا تخف ولا تحزن، فلا قيمة لهذا الرجل ولا تأثير لكلامه، وبعضهم يقول: هَلُمَّ وأسرع. وكان اللغط والضوضاء على أشدهما حتى خرجنا من باب صحن المسجد، وحينئذ رغب إلي الشيخ أديب تقي الدين أن أدخل داره، وهي بقرب المسجد للاستراحة ورد الزيارة (فقد كان زارني في دار عثمان بك) فأجبته إلى ذلك، فلما دخلت داره طفق يقبل رأسي، ويثني علي ويطري درسي، ويهون علَيَّ ما جرى ويحلف الأيمان بأنني ما قلت إلا الحق، وأن ما عورضت به ليس بشيء. فعجبت من ذلك كله؛ لأنني لم أكن أعد ما جرى في الجامع من قطع الدرس علَيَّ أمرًا عظيمًا ولا مصابًا يعزَّى عنه. وظننت أن السبب في كل ما رأيت من لهف الناس وعنايتهم بتسليتي هو عدم تعودهم في تلك المدينة مثل ما رأوا من ذلك الافْتِيَات. وخطر في بالي أن الباعث لذلك الرجل على ما فعل هو حب الظهور والشهرة أو سوء الظن والظِّنَّة، فإنه هو الرجل الذي ذكرت أنني رأيته يقرأ درسًا لا يحضره إلا قليل من الناس، وقد علمت بعد ذلك أن اسمه الشيخ صالح، وأنه داعية لأبي الهدى الصيادي، أرسله إلى دمشق ليبث دسائسه فيها. قبيل المغرب من ذلك اليوم ذهبت مع عثمان بك إلى دار عبد الرحمن باشا اليوسف؛ لأننا كنا مدعوين للفطر عنده، فلما كنا على المائدة جاء أسعد بك بيكباشي أركان حرب، وهو وكيل الشرطة في دمشق وأحد أعضاء جمعية الاتحاد والترقي الذين يشكو منهم أكثر وجهاء دمشق، فجلس معنا وأخبرنا أنه قبض على الشيخ صالح وأودعَه في السجن. فقال له عثمان بك: أخطأت في هذا العمل، فيجب أن نذهب بعد الفطور لأجل إخراجه؛ لأن ما حصل يجب أن يقف عند الحد الذي وصل إليه. وكان الأمر كذلك، فقد ذهب أسعد بك بين المغرب والعشاء لأجل إطلاق الشيخ صالح على ما فهمنا، وبعد صلاة العشاء في بيت عبد الرحمن باشا خرجت أنا وعثمان بك، فركب هو مركبته وتبع أسعد بك لينظر ماذا فعل، وركبت أنا مركبة أخرى إلى دار عثمان بك. ولما عاد عثمان بك أخبرني بأنهم أخرجوا الشيخ صالحًا من الحبس، وأن فتنة عظيمة أثيرت في الشام، فحمل ألوف من الناس السلاح واحتشدوا في الأسواق والشوارع، وذهب جمهور عظيم منهم إلى مجلس البلدية وجمهور إلى دار الحكمة، قال: وهذا الذي كنت أخشى بادرته في الجامع، فأحببت أن تختم الدرس وتخرج ولا تطيل في الرد على الشيخ صالح. قلت له: ما هو سبب ذلك، فإن ما حصل في الجامع لا يصح أن يكون سببًا لحمل السلاح ولا للفتن؛ لأنه لا يزيد على إساءة رجل بقطعه الدرس علَيَّ، وأنا لا أحب الانتقام، وليس لي عصبة تنتقم لي إن أحببت، ولا هذا الذنب مما يعاقب عليه بالسلاح، وإن أدري ألذلك الرجل عصبة قوية عظم عليها أمر حبسه، فأرادت أن تنتصر له؟ وهل يكون الانتصار في الشام دائمًا مثل هذا؟ أعني إذا حبس رجل له أنصار يطلب أنصاره من الحكومة إطلاقه بقوة السلاح! ! ! ؟ قال: إنني علمت من حال بعض الحاضرين في الدرس أن هناك فتنة مدبرة يراد إيقاعها في الجامع بأدنى مناسبة أو بخلق مناسبة ولست أنت المقصود بها. وإنه ليس للشيخ صالح عصبة ولا محبون، والذين هيجوا الناس ودفعوهم إلى المطالبة بإطلاقه لهم بذلك أغراض يتوسلون إليها بكل وسيلة تتيسر لهم، لا يهمهم فيها أن يُعَظَّم من لا يستحق التعظيم، ويُؤْذَى من لا يستحق الإيذاء، ولا حاجة إلى شرحها، ولكن أقول بالإجمال: إنها تتعلق بانتخاب المبعوثين. ولا أكتم عنك أنه لا يكاد يوجد أحد في الشام يخرج من بيته بغير سلاح. قلت إذًا ليس في الشام حرية شخصية تحميها الحكومة، فأنا مسافر في الصباح حتمًا، ولا أقيم في هذا البلد يومًا، فرضي مني بذلك على كره منه، وحرص على أن أقيم عنده أيامًا أرى فيها معاهد البلد وأعرف أحواله. فهذا ما دار بيني وبينه في الليل، ثم نمت طائفة من الليل واستيقظت وقت السحور، ولما طلع النهار سافرت من الشام قاصدًا رياق. اجتمعت في قطار سكة الحديد ببعض أدباء دمشق وتجارها، فسمعت منهم شيئًا كثيرًا من أخبار الفتنة الظاهرة والفتن الباطنة، منهم شابان ذكيان من محبي الإصلاح والعلوم العصرية، كاشفاني بما في صدورهما وذكرا لي أسماء شبان آخرين على مشربهما، وقالا: إنهم يكتمون ميلهم ورأيهم، ولا يحبون أن يعرف شيء عنهم. ثم اجتمعت ببعض باشوات الشام في بعلبك، فحدثني بما يعلم من أمر الحادثة ومن أحوال الشام، وهو ممن حضر الاجتماع عند الوالي ليلاً. واجتمعت أيضًا هناك ببعض أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، فسمعت منهم أنباء وآراء، فعلمت من ذلك، ومما سمعته في حمص، وقرأته من المكتوبات التي بعث بها من الشام إلى حمص وغيرها، جميع ما كان من المكايد والفتن، وهذا مجمل ما وصل إلي: (أسباب فتنة دمشق) الأصل في ذلك كله امتعاض بعض الوجهاء أصحاب النفوذ من أسعد بك وسليم بك الجزائري، كلاهما قائد ألف (بكباشي) من أركان الحرب، والدكتور حيدر، وكلهم من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، وكراهتهم لهذه الجمعية؛ لأنها جعلت لهؤلاء منزلة ونفوذًا في الشام يعلو نفوذ أولئك الوجهاء الممتعضين الذين يرون أنهم سادات الشام، وأنه يجب أن يكون النفوذ فيها مقصورًا عليهم ومحصورًا فيهم وخاصًّا بهم! ! قهرتهم جمعية الاتحاد بظهورها مؤيدة بالقوة العسكرية، ولكنهم لم يتجرءوا على الوقوف في وجهها ومناجزتها جهرًا، فتربصوا بها الدوائر حتى إذا ما جاء زمن انتخاب المبعوثين ورأوا من ذكرنا من أعضائها يشتغلون بأمره عيل صبرهم ولجئوا إلى الكيد، وجرأهم عليه ندره بك المطران، الذي جاء الشام ليرشح نفسه للانتخاب ويستعين عليه بمن يستميلهم إلى جمعية الإخاء العربي، فإنه كان يهون على الناس أمر جمعية الاتحاد والترقي، ويكبر في نفوسهم شأن جمعية الافتراق والتدلي، أي التي تفرق بين الترك والعرب، وتنصر الاستبداد وتخذل الدستور. فاندفع أولئك الوجهاء إلى الفتنة بقوة وهِمَّة، وبثوا دسائسهم في العامة الذين هم أتباع كل ناعق، كما قال سيدنا علِيّ كرم الله وجهه، حتى دخلت طائفة منهم الجامع الأموي مدججة بالسلاح، للتنكيل ببعض المشايخ المدرسين؛ لأنه ختم من بعض العوام ورقة يطلب فيها ترشيح مبعوث، ولكنه كان يقول لمن يطلب منه الختم: إننا نطلب بهذه العريضة إبطال رقص النساء في بعض الملاهي! ! ووقعت فتن ومشاغب أخرى أطلق فيها الرصاص وأصيب بعض الناس، كما قيل لنا، ولا نحب أن نخوض في ذلك. ولكن موقظي الفتن ومثيري الشغب لم يكن لهم سبيل للنيل من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي فيما جرى إلا بالكلام، كقولهم: إنهم علة اختلال الأمن وحدوث الاضطراب في البلد (رمتني بدائها وانسلت) وإنهم يريدون إبطال الدين بتجريئهم الناس على الفطر في نهار رمضان علنًا، وباحتقارهم لوجهاء البلد وعلمائه! ! ! هذا ما كانت عليه دمشق عند قدومي إليها، كانت تتمخض بالفتن التي يدبر أمرها رجال لا يزيد عددهم على عدد الذين دبروا أمر الصحيفة من قريش، وكان أشدهم إفسادًا أحد الباشوات الذي يرى أنه بعظمة بيته يجب أن يكون صاحب الأمر المطاع في البلد والقول المتبع في حكومتها وأهلها. واستعانوا على كيدهم ببعض أصحاب العمائم الجاهلين الذين جعل لهم الحكم الاستبدادي رياسة دينية علموا أنها لا تلبث أن تمحى وتزول في عهد حكومة العدل والشورى. رآني هؤلاء الكائدون تحت قبة الجامع الأموي أبين للناس أنهم دخلوا في طور جديد من الحكومة يمكنهم أن يحيوا فيه دينهم علمًا وعملاً وأخلاقًا وآدابًا، وأن يرقوا فيه دنياهم حتى يكونوا فيه من أوفر الأمم ثروةً وأعلاها جنابًا، ورأوا أن الناس قد قبلوا هذا الإرشاد ولهجوا بالثناء عليه، فقالوا: إن هذا السيل الآتي يأتي على ما بنينا من صروح الآمال، ويجرف ما نضع في طريق الدستور وجمعية الاتحاد والترقي من العقبات، ولكن الشعب يراه عذبًا فُرَاتًا، يطفئ غليلاً ويحيي مواتًا، فيجب أن نبادر إلى تحويله عن هذه الديار، قبل أن تروى منه القلوب والأفكار، فأجمعوا أمرهم وهم يمكرون، وعهدوا إلى أفراد من الجمعية العلمية أن يقطعوا علي الدرس الثاني، فولوا وهم يعتذرون، فقالوا: إن هؤلاء لا يملكون لنا نصرًا ولا أنفسهم ينصرون، فما لهذا الأمر إلا رجل يشتري ما يراد منه بالمال، وقد مرد على أمثال هذه الدسائس والأعمال، وما ذاك إلا داعية ابن صياد الدجال، المعروف في جميع البلاد بأبي الضلال، فذلك المغربي يطيعكم فيما يترفع عنه أهل الشام، إذا وعدتموه بالتعويض عن مرتبه الذي قطع في هذه الأيام. فلما لبى الشيخ صالح داعية أبي الهدى دعوتهم، وقبل صلتهم، أوعزوا إلى بعض أفراد حزبهم بأن يحضروا الدرس مستعدين للكفاح والصيال، إذا جر إلى ذلك ما ينتظرون من القيل والقال، وقد علم هذا كثير ممن كانوا معنا في مجلس الدرس من الأهالي الواقفين على حال البلد، وكان هو السبب في رغبة عثمان بك في عدم إطالة المراجعة والمدافعة، وإن لم يصرح لي به، وفي تحويم الفضلاء علي وتسليتهم إياي كما تقدم. لطف الله تعالى، ولم يقع في المسجد ما كانوا يرومون من العدوان، وعلم أسعد بك - وهو أخبر من هناك بكيدهم - أنهم لا يقفون عند ذلك الحد، وأن الخيبة في هذه تدفعهم إلى ما هو شر منها، وأن الشيخ صالحًا هو الذي رضي أن يكون مثيرًا لفتنتهم ورأى أعوانهم قد أدلوا إليه يوسوسون له ويمدونه في الغي ثم لا يقصرون، فظن أن حبسه يسد باب الفتنة، فحبسه، فطاروا بذلك فرحًا، وفُتِحَ لهم به باب جديد أقرب إلى مقصدهم، لأنهم يصلون منه إلى الإيقاع بعدوهم أسعد بك نفسه وجمعيته بلا وسيلة ولا واسطة، فأنفذوا أناسًا إلى المساجد يستغيثون المسلمين ويستنفرونهم؛ لإعانة الدين وحماية علمائه من ظلم جمعية الاتحاد والترقي والحكومة الجديدة! فصاح أولئك المنفذون صيحتهم بعد صلاة التراويح، فأقبل الناس يتساءلون: أي خطب دهى الإسلام، وأي بلاء نزل بالعلماء؟ ويجيبهم خطباء الفتنة إن فلانًا العالم الفاضل دافع عن الدين فقبض عليه أسعد بك وزجه في السجن، فإذا لم نبادر إلى إنقاذه بقوة الشعب، فإن هذه الحكومة تقضي على جميع العلماء وتمحو دين الإسلام من الشام! ! ويقال: إنهم أنفذوا أناسًا آخرين يقولون مثل ذلك في الأسواق، وأعطوا كل واحد منهم (بشلكا) [١] فاجتمع الناس من كل فج حتى صاروا يعدون بالألوف وصاروا ينادون: ليسقط أسعد بك، لتسقط جمعية الاتحاد والترقي. وبلغني أنهم قالوا أيضًا: ليسقط القانون الأساسي وليعش الوالي! (ولكن الله أسقط الوالي ورفع الجمعية والقانون؛ فكان دعاؤهم في ضلال) ، ولولا أن توارى أسعد بك لقضوا عليه كما قيل. وقد ظهر من ضعف الوالي (شكري باشا) وأَفْن رأيه، ما لا ينتظر أكثر منه من مدمني السكر وأسرى الشهوات مثله، فإنه لما رأى الجموع قد حشرت، وزمرة الوجهاء قد حضرت، وعظمت عليه الأمر وأرجفت، رجفت في قلبه الراجفة، وتلتها الرادفة، فخنع لمكرهم، وخضع لأمرهم، وأمر بأن يؤتى بالشيخ صالح، فجيء به، وطاف بالناس في مركبته (مركبة الوالي) من بعد ما آذنه المشير بأن لديه من الجند ما يكفي لقمع الفتنة الأهلية، بل لإعلان الأحكام العرفية، ولو أخذ الوالي يومئذ بالحزم، لاستقرت هيبة الحكومة في النفوس مذ ذلك اليوم، لا أقول في دمشق وحدها، بل في الولايات السورية كلها. فعلم من هذا الشرح الذي أخذته من مصادر كثيرة أنني لم أكن مقصودًا بالإيذاء الذاتي، ولا مؤاخذًا عَلَيَّ قولٌ زل به في الدرس الثاني لساني؛ (لأنني لم أذكر فيه نعمة الدستور، ولا نوهت بجمعية الاتحاد!) وإنما كثر في القيل والقال، لكثرة من كان يسأل بماذا دافع فلان عن الدين حتى حبس؟ فكان كل مسئول يجيب بجواب حتى كان مما سمعته في بعلبك وحمص، أنه قام رجل في الجامع الأموي فأنكر القرآن، وقال آخرون: إنه سب الأنبياء! ولكن الذي لقنه دعاة الفتنة للأكثرين هو أنه دعا الناس إلى مذهب الوهابية، وأنكر زيارة القبور والتوسل بها. وهذا هو الذي كتبوا به إلى جرائد بيروت وطرابلس ومصر والآستانة، وقد علمت أنه كذب وبهتان. نال محركو الفتنة من أسعد بك ما أرادوا، وانتهت هذه الحادثة بخروجه من الشام، وضعف جمعية الاتحاد والترقي وعجزها عما كانت تحاول من أمر الانتخاب، وذلك جل ما كانوا يبغون في نفس الشام، فكان من المعقول مع هذا أن يسكتوا عني؛ لأني لم أكن الغرض الذي يرمون سهامهم إليه، وإنما عرضت بينهم وبينه فرموني؛ لأتنحى، فتصل سهامهم إليه وحده، فما هو السبب يا تُرَى في استمرار عداوتهم لي ومكاتبة الجرائد بسبي وثلبي؟ يظهر لي أن لذلك أسبابًا: منها أن الشر داعية الشر، وأن الرجل الخبيث إذا حاول شرًّا، فتم له كما يجب، تضرى نفسه بالشر، فإذا ظلم إنسانًا بالإهانة والتسخير مثلاً فذل له المظلوم ولم يجد له نصيرًا، فإنه يستمر على إهانته وتسخيره له استلذاذًا بذلك وتبجحًا، ومنها أنه اغتنم هذه الفرصة رجل من أدعياء العلم، حاقد عَلَيَّ، فزج نفسه في حمأة هذه الفتنة، وطفق يكتب ويستكتب غيره مقالات في الطعن عَلَيَّ، ولكن الجرائد ترفعت عن نشر ما بعثوا به إليها من السخف، فلم تقبله إلا مثل جريدة بيروت، التي هي جريدة المتقهقرين، أعداء حكومة العدل والدستور، وأعداء الإصلاح. ذلك الرجل الذي كان استأجر أحد أرباب العمائم، فكتب له رسالة في الرد على المنار في مسألة طهارة الكحول، زاد هو فيها ما زاد، فرد عليه المنار يومئذ ردًّا صريحًا، صرح فيه باسمه، ففضح جهله وجهل من كتب له [٢] ، ولعل هذا الرجل هو الذي تصدى للكتابة بيده وماله، وأعانه عليها نفر من أقتاله، ولي ههنا استدراك، وهو أن أكثر الجرائد التي انتصرت للحق في هذه الحادثة قد أسندت البغي والعدوان فيها إلى أهل دمشق الشام على الإطلاق، لاستخفاء المعتدين منهم، وذلك تساهل في التعبير، أدى إلى خلاف ما يريده الكاتبون، فَبُنِىَ عليه حكم فاسد خفي عن الأكثرين فساده لخفاء المراد من العبارة التي أخذ منها. أعني أنه صار يقال: إن أهل الشام ناصبوا صاحب المنار العداء وآذوه بالكلام، وإن أهل بيروت انتصروا له، وأهانوا أهل الشام بما كتب في جرائدهم ودار في محافلهم.. . والصواب أن صاحب المنار لم يسمع من أحد من أهل الشام كلمةً شاذةً عن النزاهة والأدب، بل سمع من كل من لقيه منهم أرق الكلام وأعذبه، وألطف عبارات الترحيب والثناء، وإنما تصدى لقطع درسه، وإيهام العامة أنه أخطأ فيه، رجل غريب عنهم لم يكن محبوبًا عندهم؛ لأنهم يعدونه من جواسيس الشيخ أبي الهدى والدعاة له، وشاب آخر من طلاب العلم أراد أن يسأل عن شيء سؤال متبرم مستاء، فكفاه ذلك الرجل الغريب ما كان يريده من ذلك. وأما زعماء الحركة الذين أشرنا إلي كيدهم آنفًا فهم لا يتجاوزون جمع القلة، على أنني لم أكن غرضهم، وإنما عرضت أمام غرضهم كما تقدم. على أني لو بقيت في دمشق لتصدوا لإيذائي بتحريض العامة على ذلك، ولكن لا يؤخذ من هذا أن أهل الشام فعلوا ذلك. وقد زارني في ليلة الحادثة بعض الوجهاء المحبين للمنار الذين كانوا يقرءونه في زمن الاستبداد، ونصح لي بأن أسافر، ثم كتب إلي بعد أن عدت إلى طرابلس كتابًا قال فيه: (وإني لمخجول وايم الله من فضيلتكم ومقابلتي إياكم بدار عثمان بك تلك المقابلة، لكن ربنا عليم بأني لم أحضر تلك الليلة لمقابلتكم وتكليفكم السفر إلا خوفًا عليكم، وحفظًا لكرامتكم من سفهاء العمائم المتزيين بِزِيّ العلم، والعلم بعيد عنهم بُعْد السماء عن الأرض، فترى أن الواحد منهم يظن أنه إذا كبر العمامة وطول الذقن ووسع أكمام الجبة وركب البغلة وغش البسطاء بهيكله - وإن لم يكن تحت القبة ولا حبة - أنه صار عالمًا) ، ومع ذلك كله أقول: إنني لست على يقين من طعن رجل معين من أهل الشام في إلا ذلك الحاقد الذي أشرت إليه آنفًا، فأهل الشام ليسوا خصمًا لي ولا لأهل بيروت، وليس أهل بيروت خصمًا لهم. وجملة القول أن الذين ابتغوا الفتنة من أهل الشام نفر لا يخرجون من مضيق جمع القلة، ومَنْ صدقهم من العامة يندر في الجملة، وإنه لم يتصد أحد من علمائهم للرد علَيَّ في شيء سمعه مني أو قرأه من كلامي، مظهرًا نفسه، مبينًا اسمه، وقد حضر كثير منهم درسي، فإن كانوا يعلمون أني أخطأت، فلماذا سكتوا لي على الخطأ، وقد سألت مفتيهم، وكان من حاضري درسي، أن يكتب إلَيَّ مبينًا خَطَئِي إن كنت أخطأت. سألته ذلك في مقالة نشرتها في جريدة الاتحاد العثماني، وأسأله هو وسائر علماء الشام ذلك بلسان المنار، وأنا أنشر لهم ما يكتبون في المنار، وأذعن له إن كان حقًّا، وأبين ما عندي فيه إن كان خطأً. وهذه هي حجتي عليهم، فإذا هم سكتوا عن هذا البيان فهم لا يخرجون عن أحد أمرين: إما أنه لم يثبت عندهم أنني قلت شيئًا مخالفًا للشريعة، وهذا كافٍ لتكذيب أولئك المذاعين الذين خاضوا في الإثم، وإما أنهم يكتمون الحق وهم يعلمون، ولا يخفى عليهم ما ورد في القرآن والأحاديث من وعيد الكاتمين. (تنبيه) سقط اسم السيد (حسين وصفي رضا) من ذيل مقالة التقاريظ سهوًا؛ إذ إنه هو الكاتب لها. ((يتبع بمقال تالٍ))