للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

الباب الثاني (الولد) من كتاب
(٢٥) من هيلانة إلى أراسم في ٦ مايو سنة - ١٨٥
كانت عاقبة جدي في السعي أن فزت بوصل حبل المراسلة من وراء ما بيننا
من المسافات الشاسعة بعد طول انقطاعه ولست أعد من الترسل ما تناوبناه منذ
ثلاث سنين من المكاتيب [١] غير المهمة التي كان دأب كل منا فيها الإقلال من
القول جهده فأنا محتاجة في تخاطبي معك إلى مناجاة قلبك بفكر تام الاختيار
وضمير كامل الحرية.
لا أرجع إلى ما مضى من الحوادث فالكلام فيه عديم الجدوى وإنما أقول: إني
قد عراني لخبر نقلك من سجنك إلى غيره من الألم ما لج بي في التصميم على
اللحاق بك لجاجة لم أحس بمثلها من قبل ولم يمنعني من المضيّ معها سوى ما
غلبني من الإحساس بوجوب طاعة أمرك وسماع نصائح صديقك الدكتور ورعاية
مصلحة ولدنا فانصعت لذلك الإحساس آسفة مرتقبة تحقق أملي في اللقاء.
علمت مما سبق من رسائلي ما عليه (أميل) من صحة البدن وأريد الآن أن
أحدثك عن تقدمه في اكتساب العلم فأقول: ليس ولدنا بدعًا في الأطفال (وهو أمر
أعترف به وأنا في غاية الاستكانة والغضاضة) بل إن الناس هنا يجدون فيه شيئًا
من توحش سكان أطراف العالم , ولكني أحبه كما هو؛ لأني أرى جميع ما فيه
منبعثًا عن الفطرة ولم أعن حتى الآن بتعليمه مواضعات المعاشرة وآداب الاختلاط
لأن جل عنايتي كان مصروفًا إلى النظر في أخلاقه وأحوال نفسه والاجتهاد في
تقويم طبعه وتربية إدراكه , وسأسرد لك عن تجاربي معه ما تحكم به على مبلغ
نجاحي في ذلك.
قد لاحظت أن فيه نهمة وهي عامة في جميع الأطفال فأي واحد منهم سلم منها؟
ولكن قد أتت علي معه ساعة ارتعدت فيها فرائصي خوفًا عليه من تلوث نفسه
برذيلة أفظع من النهمة وأشنع منها كثيرًا ألا وهي الكذب. ذلك أن جورجيا كانت
تخبز ذات يوم قرصًا فطيرًا فلما استوى أخرجته من الفرن ووضعته ساخنًا على
الخوان ثم دعتنا شئون مختلفة للخروج إلى البستان فتركناه وخرجنا إلا (أميل) فقد
لاحظت منه أمرًا دهشت له وهو اجتنابه الذهاب وراءنا فلما عدنا إلى المطبخ لم
نجد للقرص أثرًا فاستولت علي ريبة شديدة في أمره ولكنني تجاهلت السارق
والتفت إلى جميع الحاضرين مظهرة أني أخاطب الكل , فقلت: ليت شعري من ذا
الذي أخذ القرص من فوق الخوان؟ فأما قوبيدون , وجورجيا فإنهما لم ينبسا بكلمة
لعلمهما البراءة من نفسيهما، وأما (أميل) فلما لم يكن شأنه كذلك لم يسعه إلا أن
خجل وصاح قائلا: (الدُّبَّة هي التي أخذته)
فلما سمعت منه هذا الجواب انجرح فؤادي غمًّا , وقد علمت من أحد مكاتيبي
السالفة أن الدبة هي كلبة البيت ولما أعلمه بينه وبينها من الألفة والارتباط رأيت أن
هذه فرصة سنحت لإيقاظ وجدان العدل في نفسه فصممت على اغتنامها وقلت: إن
كانت الدبة هي الآثمة فلا بد من جلدها , وأشرت إلى قوبيدون بتنفيذ هذا الحكم ,
وكنت في كل هذه المدة أتأمل في وجه (أميل) وأحس بأن فؤادي يطير شعاعًا ولا
غرو فأي شيء كنت أرجوه منه إذا كان أصر على الكتمان وإنكار الحق؟ أدرك
الزنجيُّ بلا ريب موجب جزعي وفهم ما قصدته , فتقدم إلى الدُّبة المتجنى عليها
تلوح عليه سمات جلاد ممن تمثلهم الروايات المحزنة , وكانت قد بدت عليها منذ
حين علائم الأنس بمن في البيت والسكون إليهم لفراغها من أداء واجب العناية
والحماية لجرائها , وكأنها أدركت جميع ما حصل لأنها كانت تنظر إلى (أميل)
نظر المستعطف الآمل ولسان حالها يخاطبه بقوله: (أهكذا تدعني أعاقب ظلمًا)
فاضطرب الغلام من هذا المنظر ثم أجهش بالبكاء واستلقى بين يديَّ قائلاً: كلا
ليست الدبة هي التي أخذته بل أنا الآخذ.
عند ذلك تسرى عني ما كان أبهظ نفسي من تراكم الكدر , ولكني رأيت أن
من الواجب عليّ في هذا المقام الثبات وعدم التعجل في إظهار الحنو , فصحت قائلة
له: من حيث إنك تجنيت على الدبة ما لم تجنه فهي التي ينبغي الرجوع إليها في
طلب العفو. ففهم أنه في الحقيقة قد فرط منه في حقها هفوة يجب الاستقالة منها ,
فعمد إلى جيب صدرته فأخرج منه نصف القرص لأنه لم يكن تيسر له أكله كله ,
ومد يده به إليها قائلاً: خذي. فتدللت عليه في بداية الأمر ولكنها لما رأت أن
استماحة العفو منها صادرة عن قلب سليم ازدردت تلك اللقمة اللذيذة وسمات الرحمة
والشره بادية على وجهها فبعثنا ذلك على أن قهقهنا جميعًا.
أنا وإن كنت لا أقوّم طاعة الأطفال لوالديهم بأكثر مما تراه فيها أجدني في
بعض الأحيان مضطرة اضطرارًا شديدًا إلى قمع أهواء (أميل) والحيلولة بينها
وبين الوصول إلى ما قد يضره , ورأيت أن من الواجب عليَّ أن أستعين في هذا
الأمر باستعداد فطري يوجد قطعًا في جميع الأطفال على السواء ذلك أن (أميل)
لمَّا يحصل في ذهنه من حوادث العالم الخارجي إلا صورة مبهمة , فتراه يعتبر ما
يتعاصى عليه من الأشياء ولا يوافي رغبته ذا قوة متمردة وإرادة متصرفة. خذ
لذلك مثلاً وهو أن له كَلَفًا بأن يقلب مربعًا من البستان بمقلب صغير فإذا باشر هذا
العمل سلاني وأضحكني منه أن أراه يسحق ما يخرج من المدر برجليه الضعيفتين
مبديًا دلائل الابتهاج بالظفر كأنما في كل مدرة منها عدو له قد أرغمه وأذله وإذا
اخترق الأسوجة النباتية فأصابه فرع منها في وجهه تناوله بيده وجعل يهزه ويعبث
به ولسان حاله يخاطبه موبخًا له بقوله: (علام تؤذيني أيها الغصن الحقير) وإني
لأخاله يجلد البحر إذا أغرق مركبه الصغير على نحو ما فعل به كزرسيس [٢] .
هذه الشكاسة التي في الأشياء - وإنما أسميها بذلك موافقة لأفكار الأطفال -
تدعو (أميل) إلى إظهار الطاعة للكبار الذين يعلمون من نواميس الكون وسننه
أكثر مما يعلم , فإن خضوع العالم لتلك النواميس والسنن هو الذي ألزم الإنسان
المحافظة على رعاية أحكام التجربة واقتفاء آثار السلف , ولذلك قد اتفقت مع
قوبيدون على طريقة بها يعاقب (أميل) كلما عصى أوامري وأغفل الأخذ
بنصائحي بحيث إني لا أتولى عقابه بنفسي بل أَكِلُهُ للجمادات المحيطة به فإنه بذلك
يعتاد على أن يلتمس في الطاعة جُنَّة تقيه شر ضعفه وشر ما للفواعل الكونية من
الطغيان والعتو.
وقد جريت معه على هذه الطريقة بعينها في ضرب آخر من ضروب سيرته
وإني وإن لم أصل بها في جميع الأحوال إلى النجاح المقصود إخالني على
الطريقة الموصلة إليه. ذلك أني رأيته شغفًا بالاندلاق من البيت , وكثيرًا ما
أنذرته بأن في خروجه منه وحيدًا ضررًا عليه فلم يجد ذلك نفعًا , فلما رأيت منه قلة
الإصغاء إلى نصائحي في هذا الأمر أوعزت إلى قوبيدون بأن يغري به بعض
أطفال القرية فكانوا كلما رأوه في الخارج تظاهروا له بأنهم يحسبونه وليدًا ضل بيته
وقبضوا عليه وردوه إليَّ قهرًا فأدرك من ذلك الحين الموعظة التي أردت أن أعظها
إياه وهي أن الانقياد والطاعة أمثل من القسر.
على أنني رأيتني قد عرفت فيه أنه لم يخلق لأن يعيش وحيدًا , ولا لأن
يقضي جميع زمانه مع الكبار لأنه ما دام ذا عقل وقُصِرَ على مخالطتنا يشيخ قبل
بلوغه زمن الشيخوخة , وأما إذا اختلط بلداته وعاشر أترابه أشرق في وجهه نور
الفرح بابتهاجهم وسرى إلى نفسه روح السرور منهم , ولهذا رأيت من مصلحته أن
يتخذ له رفقاء من أطفال القرية جعلت أمر اصطفائهم موكولاً إليَّ حتى لا يكون له
فيهم أُسًى سيئة , ولم ألاق في هذا الأمر صعوبة لأن الناس هنا لاشتغالهم طول
النهار بتحصيل رزقهم يرون في تسليم أطفالهم لمن يقوم بشأنهم تخفيفًا من حملهم ,
وقد أصبح بيتنا من هذه الجهة شبيهًا بملجأ من ملاجئ الأطفال فأذكر لك من أخصاء
(أميل) اثنين فقط وهما: غلام اسمه وليم يكاد يساويه في سنه أعني أنه في
الخامسة أو السادسة من عمره , وفتاة في السابعة من عمرها عليها مخايل الحسن
تسمى إزابلي , ولكن الناس يختزلون هذا الاسم اختزالاً لا شبهة في وجه مناسبته
فيدعونها بلِّي (كلمة تليانية معناها جميلة)
أخص ما أعنى به في شأن أولئك الأطفال الثلاثة هو إيجاد رابطة اختلاط
وعشرة بينهم فتراني إذا صرَّحت لهم بالانطلاق إلى التنزه أوزع عليهم ثلاثة
أصناف من الطعام ولكني أراعي في هذا التوزيع أن يكون الخبز كله لواحد منهم
واللحم البارد مثلاً للثاني والفاكهة للثالثة فإذا حانت لهؤلاء المبتطلين ساعة اشتهاء
الأكل وهي قلما تتأخر لأنهم يأكلون أكل صغار الذئاب دعا من نال الخبز منهم
رفيقيه إلى مقاسمتهما إياه على شرط أن يقاسماه أيضًا ما معهما من اللحم والتفاح
مثلاً فتقبل منه هذه الدعوة على طيب نفس لأن لكل منهم مصلحة فيها وبهذه
الطريقة يتعلمون بالغريزة الجري على سنة المعاوضة التي هي على ما أدري حقيقة
معنى المساواة.
من أصول الرذائل الخبيثة التي أصرف في استئصالها من نفس أميل جل
اهتمامي الأثرة. فإن الأطفال مجبولون على الاستئثار بكل شيء , وهذا الاستعداد
الفطري مبني في الغالب على الشره والحرص ذلك ما أراني قد لاحظته فيهم وأود
أن أكافحه وأغالبه وقد رأيت أنه لا ينجع فيه زخرف القول وبلاغة المنطق وأن
الواجب عليَّ كما رأيت فأصبت أن أستخلص لولدي ما أسوقه له من العبر في
الأعمال. ولعلك سائلي عما فعلته للوصول إلى هذه الغاية فأقول: إنني انتقيت من
بين الأشجار المثمرة في بستاننا ثلاثًا جعلت لكل من غلماني واحدة منها مدة السنة ,
ولكوني أنا التي توليت توزيعها عليهم قد أعطيت (لأميل) كرزة ولوليم خوخة
ولبلي إجاصة طعَّمها قوبيدون ولمَّا تثمر واحدة منها لتأخر فصل الصيف , وإني-
والحق أقول- في شك من وفرة إحمالها هذه السنة , وعلى كل حال أرى أن هؤلاء
البستانية الصغار الثلاثة مهتمون بملاحظة ما وضعوا عليه أيديهم , وقلما يفترون
عن ذود الدود وغيره من الحشرات المهلكة عنه , وليس يبعد على (أميل) في إبان
الكرز أن يأكل جنى شجرته جميعه دون أن يعطي منه شيئًا لرفيقيه. إن فعل ذلك
فصبرًا لأنه لابد أن يأتي يوم مقايضة الجزار بمثله ذلك أنه متى أنشأ الخوخ
والإجاص ينضجان ذكر وليم وبلَّي معاملة (أميل) لهما وقابلاه بنظيرها ما لم يكونا
أكرم منه نفسًا وأسخى كفًّا فيرضيا مقاسمته ما لهما على ما فيه من الميل مع الأثرة
وفي كلتا الحالتين عقوبة له.
للمكتوب بقية
((يتبع بمقال تالٍ))