للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ملكة الإنكليز

تقدم في الجزء الثاني والثلاثين من السنة الثالثة ذكر مولد هذه الملكة العاهلة
ونشأتها وجلوسها وتتويجها وزواجها، ونلم هنا بباقي سيرتها.
أخلاقها ودينها:
تقدم في مطاوي الكلام ما يُشْعِر بدماثة أخلاق الملكة فيكتوريا وتهذيبها،
ويُؤْثَر عنها شدة التمسك في مذهبها البروتستانتي؛ ولكنها كانت تُظهر الاستياء من
التحامل على رعاياها الكاثوليك، ومما يُؤثر عنها في المحافظة على يوم الأحد أن
أحد الوزارء أراد أن يعرض عليها أوراقًا ذات بال في مساء السبت، فرأى الوقت
يضيق عن النظر فيها، فاستأذنها بأن يحضر لعرضها في صباح اليوم التالي فقالت:
إن غدًا الأحد يا حضرة اللورد. فقال: إن مصلحة البلاد لا تسمح بالتأجيل.
قالت: إذن لا بأس. وفي صبيحة ذلك اليوم حضر ذلك الوزير سماع الوعظ في
الكنيسة مع الملكة كعادة أمثاله، وكان الوعظ في (الواجب على المسيحي يوم الأحد)
فلما انتهى قالت الملكة للوزير: (هل أعجبك الوعظ؟) قال: كثيرًا يا جلالة
الملكة. قالت: (لا أخفي عنك أنني أنا التي أوعزت إلى الخطيب بهذا الموضوع
فعسى أن يؤثر كلامه فينا) ، ثم أمرته أن يحضر في اليوم التالي لعرض الأوراق
ففعل، ويُؤثر عنها أنها قالت: (إن السر في عظمة إنكلترا هو الكتاب المقدس.
وقالت: إن التجارة وحدها لا تجعل الأمة عظيمة وسعيدة، وإنكلترا إنما بلغت ما
بلغت من العظمة والسعادة بمعرفة الإله الحقيقي)
نعم إن الإنكليز أشد تمسكًا بالدين، وأقل تعصبًا على المخالفين من جيرانهم
الفرنساويين، ولذلك تقدموا عليهم؛ ولكن البوير أشد تدينًا من الإنكليز؛ ولذلك
انتصروا عليهم وقاووهم إلى الآن، ولا يزال الحرب بينهما سجالاً مع أنهم في الإنكليز
كالشامة في جلد البعير، فليعتبر شبان المصريين الذين يتوهمون أن المدنية إنما تكون
بالكفر والتعطيل، واتباع الشهوات البهيمية، والغرور بالزخارف الظاهرية.
سياستها:
الممالك إنما تنهض وترتقي برجالها ووزرائها المسؤولين المحنكين، ودولة
إنكلترا أغنى الدول بالساسة، وقد رزقت الملكة فيكتوريا بأنصار منهم نهضوا
بالبلاد في عهدها نهوض الأسود وهم: واللورد ملبرن، والسر روبرت بيل، واللورد
جون رسل، واللورد بامرستون، واللورد بيكنسفيلد، وأرل دربي، وأرل إبردين،
والمستر غلادستون، واللورد روزبري، واللورد سالسبري، هؤلاء هم الذين تولوا
الوزارة الكبرى على عهدها، ولهم من سائر الوزراء والنواب والحكام أعوان
وأنصار على شاكلتهم؛ لأنهم نتائج تعليم وتربية واحدة، ويظن كثيرون أن الملكة
لم تكن إلا آلة صماء لا عمل لها بذاتها، ولا إرادة لها في حكومتها، والصواب أنها
كانت تنظر الأشياء الكلية وتبدي رأيها فيها، ومن الشواهد على هذا أن اللورد
ملبرن حاول إقناعها بالأدلة الخطابية بأن تُصَدِّق على مشروع مهم، وكان يخاف أن
لا ينجح في ذلك، فنوه بأمر المشروع ما شاء أن ينوه، وقال: إنه يا جلالة الملكة
عظيم الأهمية. فقالت له: (إن أعظم المسائل وأهمها عندي الآن هو أمر التوقيع
على مشروع لم أقتنع به) .
وقد اتسع عمران الدولة البريطانية على عهدها، فقد كانت مساحة البلاد
الإنكليزية ومستعمراتها يوم تولت عليها ٨٣٢٩٠٠٠ ميل مربع، وعدد سكانها
١٦٨ مليونًا، وما تولت عنها إلا ومساحتها تزيد على ١١٢٥٠٠٠٠ ميل مربع،
وسكانها يزيدون على ٤٠٠ مليون، وكان دخل الحكومة الإنكليزية حين وُليت ٥٠
مليون جنيه من بلادها، و٢٥ مليونًا من الهند، وبلغ قبل أن وَلَّت ١٢٠ مليونًا من
بريطانيا وحدها، ونحو ٧٠ مليونًا من الهند، وثلاثين من أستراليا و٢٠ مليونًا من
سائر المستعمرات.
وكان للملكة نفوذ شخصي عظيم في أوربا لكونها امرأة، ولكبر سنها،
ولوشيجة الرحم المشتبكة بينها وبين أعظم ملوك الأرض كعاهل الألمان، وقيصر
الروس، فكانت تحل بكتاب تخطه بيمينها ما لا تحله النفاثات في عقد السياسة منه
بواقع الرجال، ولذلك يُظن أن بريطانيا قد فقدت بفقدها شمس المجد ونجم السعد،
وأنها لن تكون بعدها كما كانت، والله علام الغيوب.
* * *
(تهنئة واستماحة) : نهنئ القراء الكرام بعيد النحر المبارك وبمناسبة العيد
وترك عمال المطبعة العمل قبيل نصف الشهر لا يصدر منار نصف ذي الحجة
فنرجوهم السماح.
(وسام الافتخار المرصع) أنعم مولانا السلطان الأعظم أيده الله تعالى على
أخلص المخلصين لذاته الكريمة عطوفتلو أحمد عزت بك العابد بهذا الوسام العلي
الشأن الذي هو جدير به، فنهنئ عطوفته بذلك.