في صبيحة يوم السبت الخامس والعشرين من هذا الشهر ذي القعدة الحرام أكتوبر، فجعت مصر بأكبر سياسي فيها، وأشهر كاتب من كتاب صحفها، النابغة العصامي الكبير، صديقنا الشيخ علي يوسف منشئ جريدة المؤيد أشهر الجرائد الإسلامية في العالم وأعلاها قيمة، وشيخ السادات الوفائية بمصر، فاهتز القطر المصري لوفاته، واضطرب اضطرابًا ظهر أثره في جمهور العقلاء والمفكرين، وشعر بأنه فقد ركنًا من أركان حياته السياسية والاجتماعية يعز أن يرى له خلفًا، أو يجد عنه عوضًا، وأن الفراغ الذي حدث بفقده واسع يعز أن يوجد من يملؤه، وسيشارك القطر المصري في مصابه سائر الأقطار الإسلامية ولا سيما العربية. حسب الرجل نبوغًا وفضلاً أن يوصف في قومه ببعض أسماء التفضيل، ويكون وصفه بها حقًّا لا مراء فيه، وفي مصر كثير من الكتاب والمشتغلين بالسياسة، ولا خلاف بين العارفين والمنصفين في كون الفقيد أوسعهم في الشئون المصرية خبرة، وأسدّهم رأيًا، وأمضاهم عزمًا، وأكتبهم قلمًا، وإنك لتجد العقلاء المفكرين يجيلون الآن قداح الفكر، ويراجع بعضهم بعضًا الرأي، ويتساءلون بينهم: من يخلف عليًّا في سياسته المصرية الإسلامية؟ فلا يكون الجواب إلا: يجب التفكير والبحث. كيف نبغ هذا الرجل في مصر بين ألوف ممن نالوا ما لم ينله من شهادات المدارس الدينية والمدنية، ونشئوا في بيوت أكبر من بيته جاهًا وأكثر مالاً؟ نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما إن المدارس لا تعطي أبناءها نبوغًا، ولكنها تعطيهم آلات للعمل وسلاحًا للجهاد أو تدلهم على ذلك، وما كل من وجد الآلة يحسن العمل، ولا كل من يحمل السيف والقنا يصيب بهما مقاتل العدو، وبيوت الجاه والمال لا تستطيع أن تُكَوِّنَ عظماء الرجال، وإنما ينبغ النابغون باستعدادهم الذاتي وصفاتهم النفسية، وقد أودع الله في فطرة فقيدنا حظًّا عظيمًا من هذه الصفات والسجايا، أعلاها قوة الإرادة وصحة العزيمة، والإقدام مع الروية، والثبات والصبر، والبصيرة في العواقب، وحب معالي الأمور واحتقار سفسافها، وقد دفعه استعداده للظهور إلى التطفل على الصحافة من غير استعداد لها بتعليم معلم، أو تربية مرب، فأقدم غير هيَّاب ولا وَكِل، وعلم نفسه الكتابة بالتمرن والعمل، حتى صار طفيلي الكتابة هو صاحب مائدتها الكبرى في وطنه، وما تلك المائدة إلا المؤيد ويا لها من مائدة كان يفضلها على غيرها أكبر كتاب العصر، فيرغبون أن يكونوا طهاة يهيئون لها الطعام الطيب تارة، وضيوفًا يأكلون ما طاب لهم مما يطبخه صاحبها أو يختاره من طيبات غيره. وإن شئت قلت: كان المؤيد مدرسة جامعة عليا يلقي فيها أكبر علماء المسلمين وكتابهم الدروس العالية في العلم والدين والسياسة والاقتصاد والإدارة في سائر المعارف الاجتماعية، فكان من أساتذتها وأعوانها الأستاذ الإمام والشيخ عبد الكريم سلمان وأمين باشا فكري وحسن باشا عاصم وسعد باشا زغلول وقاسم بك أمين وعلي بك فخري والمويلحي والهلباوي وغيرهم من الكتاب والمفكرين، وكان أكبر أنصارها ومروجيها وزير مصر العظيم مصطفى باشا رياض، وناهيك بمن كانوا يتعاهدونها برسائلهم من سائر الأقطار الإسلامية. وأما الذين تربوا فيها، وتعلموا الكتابة والسياسة بإرشاد فقيدنا اليوم، فكثيرون جدًّا، ومن أشهرهم مصطفى باشا كامل، ومحمد أفندي مسعود وحافظ بك عوض. مولده ونشأته ومؤيده: ولد الفقيد في بلدة صغيرة تسمى بلصفورة في مديرية جرجا سنة ١٢٨٠ هـ وبعد تعلم مبادئ القراءة والكتابة مال إلى طلب العلم فابتدأ بالطلب على شيخ من شيوخ العلم والتصوف في بني عدي كان له عناية كبيرة بتربية أخلاق تلاميذه قلما يلتفت إلى مثلها أمثاله في هذا الزمان، ثم في سنة ١٢٩٩ هـ جاء الأزهر للمجاورة فيه فأقام فيه ثلاث سنين أو أربعا يشتغل كما يحب، وعني من نفسه بالأدب ونظم الشعر، وفي السنة الخامسة ملَّ الطلب، وجنحت نفسه لما هي مستعدة له من العمل، فأنشأ مجلة الآداب بالاشتراك مع الشيخ أحمد الماضي، ثم استبدلا جريدة المؤيد بمجلة الآداب سنة ١٣٠٧ ثم استقل الفقيد بها بعد ذلك، فرباها بعزمه وحزمه وثباته وذكائه، وربته بما أدخلته فيه من الحوادث السياسية والمدنية، وما جعلت له من الصلة بكبار رجال الحكومة وسمو الأمير والتعاون مع كبار الكتاب والمفكرين، فلولا صبر الشيخ علي وثباته وفطنته لما قوي المؤيد على ما لقيه من المقاومة وتحامل الاحتلال والأجانب وناهيك بنفوذهم في مصر، ولولا المؤيد لما كان الشيخ علي ذلك السياسي المحنك والكاتب القدير، فإنه لم يتعلم الكتابة والسياسة في بني عدي ولا في الأزهر، وما ثم من كتابة ولا سياسة، فظهر بهذا أن الرجل قد نبغ بأخلاقه وسجاياه التي دفعته إلى الإقدام على العمل، وأقدرته على مصارعة الحوادث، ومقارعة الحوادث، حتى صار أشهر رجال السياسة في قومه، وأقدر كتابها في وطنه، وعرف اسمه الشرق والغرب، فتقدم إلى الأمام، وتخلف أصحاب الشهادات العالية في العلوم القديمة والحديثة فصاروا وراءه في هذا الميدان، فبهذا يعلم القارئ أن الرجل دخل في عالم العمل وهو لا يحمل من آلاته الصناعية والفنية شيئا يذكر، ولم يمنعه ذلك أن يبذَّ حاملي أحدث الآلات الصناعية والفنية، وإنه خاض معامع الجلاد في الجدال وهو أعزل، فجدل فرسانها المدججين بأمضى أسلحتها الحديثة هذا وما ... فكيف لو ... كانت الصحافة المصرية قبل المؤيد وقفًا على السوريين المسيحيين، والسوري من أقدر الناس على الاصطباغ بصبغة الوطن الذي يهاجر إليه، وعلى خدمته للعلم والأدب والسياسة فيه كما يخدم في وطنه. فإذا هاجر إلى أوربة يقدر أن يكون أوربيًّا، وإذا هاجر إلى أمريكة يقدر أن يكون أمريكيًّا، فأجدر به أن يكون مصريًّا في مصر التي يصح أن تسمى وطنًا أصليًّا له؛ لأنه يشارك أهلها في اللغة وأكثر العادات؛ لقرب الجوار وكثرة الاختلاط، وناهيك بهما وبمكانتهما من مقومات الأمم وروابط الجنسيات، لهذا كانت خدمة أكثر السوريين الذين اشتغلوا بالصحافة مرضية عند المصريين، ولولا ذلك لما نجحوا وعاشوا هذه العيشة الراضية، وصار بعضهم صاحب ثروة واسعة. بل أقول: إن أكثر الصحف السورية ومديريها ومحرريها قد صادفوا في مصر قبولاً ومساعدة من جمهور الأمة وهم المسلمون، وما نجح من نجح منهم إلا بمساعدة الأمة برضاها واختيارها، اللهم إلا المقطم فإنه أنشئ مشايعًا للاحتلال الإنجليزي، فكره ذلك منه المسلمون فكان نجاحه بنفوذ الاحتلال والحكومة المصرية، مع قدرة أصحابه وبراعتهم، وسعة علمهم واختبارهم وما شعر المسلمون بشدة حاجتهم إلى جريدة وطنية إسلامية إلا بعد ظهور المقطم بهذه السياسة، وإن كانت مصبوغة بصبغة وطنية، تحاول إقناع المصريين بأن كل ما ترمي إليه هو الموافق لمصلحة مصر في هذه العهد أو الطور الذي دخلت فيه، وإذا جاز إقناع بعض الناس بأن هذا صواب في الجملة، فلا يمكن إقناعهم بأن كل ما يحاول الإنجليز عمله في مصر إما موافق لمصلحة المصريين، أو يجب سكوتهم عليه وإن لم يكن موافقا لمصلحتهم، وهو ما كانت تدور عليه سياسة المقطم. ظهور المقطم في وقته كان طبيعيًّا، وظهور المؤيد وقيامه بمعارضته كان ضروريًّا، وقد كانت جريدة الأهرام معارضة للمقطم في سياسته الاحتلالية، ولكن ذلك لم يكن مغنيًا للمصريين المسلمين عن إنشاء جريدة تشعر بشعور الأمة الإسلامية وتعبر عن رأيها ووجدانها من كل وجه، ومهما صدقت وطنية المخالف للأمة في دينها، وأخلص في خدمتها، فإنه لا يمكنه أن يشعر بشعورها، ويدرك كُنْه مصالحها، ويغار عليها كغيرتها، فكيف إذا كان مبلغ صدقه لها لا يعدو صدق الصانع الأمين الذي يجيد الصنعة على قدر الأجرة. هذا وإن للدين دخلاً كبيرًا في المصالح السياسية والوطنية لا ينكره إلا جاهل أو مكابر، فها نحن أولاء نرى طائفة القبط كانت وما زالت أشد معارضة للمسلمين في منازعهم السياسية والمصالح والمنافع المصرية من الأجانب أنفسهم، بل نرى مثل هذا في أرقى البلاد مدنية، فإن طائفة البروتستانت في أرلندة غير راضية بالاستقلال الذي رضيته الحكومة الإنكليزية لوطنها؛ لأن أكثر أهله من طائفة الكاثوليك، وكلهم نصارى. إذن كان من أكبر تقصير مسلمي مصر وإهمالهم وتوكلهم أن لا يكون لهم جريدة إسلامية سياسية، أو عدة جرائد إسلامية سياسية أو غير سياسية، وقد كان فقيدنا اليوم هو الذي أزال هذه النقص، والفضل الأكبر فيه له، ومما ينتقد على القطر كله أنه لم يستطع إيجاد شقيقة أخرى للمؤيد، بل مرض المؤيد بما أصاب مؤسسه من الأمراض الجسدية والنكبات المالية، وخيف عليه السقوط على قوة أساسه، ونور نبراسه، ولم تظهر الكفاءة من أحد لإنشاء مثله، وأسست له شركة فلم تستطع الاضطلاع بأمره، وإنما كان أعضاء شركته كغيرهم يرجون أن يعود إلى ما كان عليه بعودة الصحة إلى مؤسسه، فلما وقع قضاء الله تعالى شعروا وشعر جميع أهل الرأي والغيرة بوجوب العناية به، كما يليق بمكانته وأفقه، وهذا هو موضوع حديثهم وهمهم اليوم. لا يمكن أن تحل محل المؤيد جريدة أصحابها وكتابها من غير المسلمين، ولا من المسلمين المتفرنجين، بل لا بد أن يكون الروح المدبر لمثل هذه الجريدة كروح من فقدنا اليوم، إسلامي قبل كل شيء، بأن تكون تربيته إسلامية وعنده من المعارف الإسلامية والوقوف على حال العصر ما يعرف به كيف يحافظ على مصالح أمته الملية، من غير إخلال بالحقوق العامة والمنافع الوطنية، ليعرف كيف يدبر السفينة في مهاب العواصف الاجتماعية والسياسية التي تمس الدين ومصالح أهله، كالعاصفة التي هبت منذ بضع عشرة سنة على المحاكم الشرعية بسعي بطرس باشا غالي فكادت تقوض بناءها المعنوي، وكعاصفة القبط التي أرادوا بها أن يأتوا على ما آخر ما بقي للمسلمين من شيء في حكومة هذه البلاد، حتى شعائر الجمعة والأعياد، وكعاصفة متفرنجي المسلمين الذين يدعون إلى فرنجة النساء، وهتك ما بقي من آثار العفاف والصيانة والحياء، باسم تحرير المرأة وتمدينها، وترقية الأمة وتعليمها، وكالعاصفة التي أثارها بعض أهل الأهواء من المسلمين لمقاومة مشروع الدعوة والإرشاد، فهل يرجى أن يدير سفينة المصلحة الإسلامية في مهاب أمثال هذه العواصف مسيحي مهما كان محبًّا للبلاد وأهلها، أو متفرنج جاهل بحقيقة الإسلام يصدق عليه المثل: صديق أحمق شر من عدو عاقل؟ ألا إنه قد علم المسلم وغير المسلم أنه لم توجد في مصر جريدة سياسية إسلامية بحق إلا جريدة المؤيد، وإن وجودها ضروري من الضروريات، لا من الحاجيات أو التحسينات، نعم وجدت صحف للمسلمين ولكنها غير إسلامية المشرب والسياسة. وقد أكثر بعضها الجعجعة باسم الإسلام والمسلمين، وأظهرت الغلو في التشنيع على المعارضين والمخالفين، تحاول بذلك أن تميت المؤيد وتحل محله، وإنما تلك نزعات أهواء، ومظاهر سمعة ورياء، وكان أمثلها جريدة اللواء، وأين اللواء من المؤيد: وأين الثريا وأين الثرى ... وأين معاوية من علي ما كان اللواء إلا إعلانًا لوطنية صاحبه وشاعرًا يطريه في كل عدد، على حين تمر السنة والسنين ولا ينشر في المؤيد شيء في تعظيم صاحبه، اللهم إلا في الحوادث التي يكتب فيها شيئا يكون شديد الوقع في البلاد، فيحبذه الناس بالبرقيات والرسائل، ويرى أن في نشرها بيانًا لرأي الجمهور في موضوعها، ولا يصده عن النشر كونه هو الموضوع أو كون الموضوع يتضمن الثناء عليه، فالفصل بين المؤيد واللواء أن المؤيد جريدة المصلحة العامة للدين والدولة ومصر وأميرها، على قاعدة أن مصلحة مصر مرتبطة بسلطة أميرها، وأما اللواء فهو وإن أنشئ محاكاة للمؤيد؛ لأن صاحبه تربى في حجر صاحب المؤيد، لم يكن إلا جريدة مصطفى كامل نفسه، فكانت تكون مع الأمير تارة وعليه تارة، وتوافق أحكام الإسلام ومصلحته تارة وتخالفها تارة، يدور ذلك كله على ذلك المحور الشخصي، وليس هذا مقام إثبات هذه المسألة بالشواهد والبينات. وحسبي أن أذكر الواعين بتهييج اللواء اليهود على الأستاذ الإمام؛ لأنه فسر ما ذمهم الله تعالى به في القرآن وبتشنيعه للقصاص في القتل عند دفاعه عن ضابط قتل آخر في السودان - وقد كتب الله علينا القصاص في القرآن - دع انقلابه على أمير البلاد الذي لولا نعمه عليه لم يكن شيئا مذكورًا، وقد مات اللواء وصاحبه ومات صاحب المؤيد أيضًا، فلا هوى لأحد في ترجيح إحدى الجريدتين على الأخرى، وإنما غرضنا بيان الحقيقة إنصافًا للتاريخ، وتنبيهًا للأمة إلى مزيد المؤيد وفضله لتحافظ عليه، وتذكيرًا لشركة المؤيد ولأصحاب النفوذ في البلد، بوجوب انتقاء رئيس لتحريره يحفظ مزاياه كلها من حيث هو جريدة إسلامية عربية مصرية. وسنتكلم على سياسة الفقيد وسائر ما نرى فيه العبرة من سيرته فيما يأتي إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))