ما أكثر الذين استخدموا اعتقاد الناس بأن رجلاً يسمي (المهدي) أو يلقب بالمهدي يظهر لإعادة الإسلام إلى شبابه , فظهروا يدعي كل واحد منهم أنه ذلك المنتظر , وكان ما كان من ظهورهم من الفتن والبلاء على الإسلام. لأنهم لم يحسنوا ذلك الاستخدام. بأن يقوموا به على طريقة يقبلها الخاص والعام. ويسيروا به في سنن الكون التي لا يقوى على معارضتها الحكام. وأما استخدام الاعتقاد بظهور المسيح فلم يفتن به المسلمون هذه الفتنة. ولم يمتحنوا فيه من قبل بمثل هذه المحنة. وذلك لأسباب منها: أن ظهوره لا بد وأن يكون مسبوقًا عندهم بظهور المهدي , حتى قام في هذا العصر من ادعى هذه الدعوى كما تقدم في مقالة (الدعوة حياة الأديان) , وذكرنا ثَمَّ أن رجلاً آخر في الهند يدعي أنه (المهدي) , وألمعنا إلى بعض ما بلغنا من خبره ومن عنايته بالدعوة إلى الإسلام , ثم أرسل إلينا صديق فاضل بعض كتبه من الهند فإذا به يدعي فيه أنه هو (المسيح عيسى ابن مريم) بعينه وأن أتباعه ينشرون دعوته في الحجاز وغيرها. ويذكر أن بعض أتباعه ألف رسالة في تأييد دعوته سماها: (إيقاظ الناس) وهو الشيخ محمد سعيد النشار الحمداني الطرابلسي الشامي , وإننا نعرف هذا الشاب ونعرف أنه كان ذهب هائمًا إلى الهند قبل الدخول في سنة العسكرية , ثم شاع عنه في طرابلس أنه تشيع أو دخل في مذهب جديد. نذكر نبذًا من رسالة هذا المسيح المعروف في الهند بالقادياني المسماة (حمامة البشرى إلى أهل مكة وصلحاء أمّ القرى) قال يخاطب تلميذًا له فيها بعد كلام يذكر فيه بعض خواص أتباعه ويشكو من عمال السلطان الذين يفتشون الكتب في الطريق ويقرءونها (ويحرقونها بأدنى ظن) لأنهم تركوه في حيرة لا يهتدي إلى طريقة أمينة يرسل فيها السائل إلى مكة؛ قال ما نصه: (وإن بعض علماء هذه الديار لم يزالوا يبتغون بي الغوائل , ويريدون بي السوء , ويتربصون عليّ الدوائر , ويتطلبون لي العثرات , ويكتبون فتاوى التفكيرات. وكنت أقول في نفسي: {اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: ٤٦) . فألهمني ربي مبشرًا بفضل من عنده وقال: إنك من المنصورين , وقال: يا أحمد بارك الله فيك {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: ١٧) , {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} (يس: ٦) , {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} (الأنعام: ٥٥) , وقال: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} (هود: ٣٥) , {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: ٣٣) , {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (الأنعام: ٣٤) {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ} (الحجر: ٩٥) وقال: أنت على بينة من ربك رحمة من عنده , وما أنت بفضله من مجانين. ويخوفونك من دونه إنك بأعيننا سميتك المتوكل يحمدك الله من عرشه. {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى} (البقرة: ١٢٠) , {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} (الأنفال: ٣٠) فأدخل سبحانه في لفظ اليهود معشر علماء الإسلام الذين تشابه الأمر عليهم كاليهود , وتشابهت القلوب والعادات والجذبات والكلمات من نوع المكائد والبهتانات والافتراءات , وإن تلك العلماء قد أثبتوا هذا التشابه على النظارة بأقوالهم وأعمالهم وانصرافهم واعتسافهم وفرارهم من ديانة الإسلام ووصية خير الأنام صلى الله عليه وسلم , وكونهم من المسرفين العادين) . (وكنت أظن بعد هذه التسمية أن (المسيح الموعود) خارج , وما كنت أظن أنه أنا حتى ظهر السر المخفي الذي أخفاه الله عن كثير من عباده ابتلاءً من عنده وسماني ربي (عيسى ابن مريم) في إلهام من عنده وقال: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} (آل عمران: ٥٥) إنا جعلناك عيسى ابن مريم , وأنت مني بمنزلة لا يعلمها الخلق , وأنت مني بمنزلة توحيدي وتفريدي , وإنك اليوم لدينا مكين أمين) . (فهذا هو الدعوى الذي يجادلني قومي فيه ويحسبونني من المرتدّين , وتكلموا جهارًا , وما رجوا لملهم الحق وقارًا , وقالوا: إنه كافر كذاب دجال وكادوا يقتلونني لولا خوف سيف الحكام , وحثّوا كل صغير وكبير على إيذائي وايذاء أصدقائي , والله يعلم تطاول المعتدين. وبعزة الله وجلاله إني مؤمن مسلم , وأومن بالله وكتبه ورسله وملائكته والبعث بعد الموت , وبأن رسولنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل وخاتم النبيين. وإن هؤلاء قد افتروا عليّ وقالوا: إن هذا الرجل يدعي أنه نبي ويقول في شأن عيسى ابن مريم كلمات الاستخفاف ويقول: إنه توفي ودفن في أرض الشام , ولا يؤمن بمعجزاته , ولا يؤمن بأنه خالق الطيور ومحيي الأموات وعالم الغيب وحي قائم إلى الآن في السماء , ولا يؤمن بأن الله قد خصّه وأمه بالمعصومية التامة من مس الشيطان ومن كل ما هو من لوازم اللمس , ولا يقرّ بأنهما مخصوصان متفردان في العصمة المذكورة لا شريك لهما فيها أحد من الرسل والنبيين. ويقولون: إن هذا الرجل لا يؤمن بالملائكة ونزولهم وصعودهم , ويحسب الشمس والقمر والنجوم أجسام الملائكة , ولا يعتقد بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ومنتهى المرسلين لا نبي بعده. فهذه كلها مفتريات وتحريفات , سبحان ربي , ما تكلمت مثل هذا , إن هو إلا كذب , والله يعلم أنهم من الدجالين , وقد سقطوا علي , وما أحاطوا معارف أقوالي , وما فهموا حقائق مقالي , وما بلغوا معشار ما قلنا , وخانوا وحرفوا البيان , ونحتوا البهتان , ووقعوا في حيص بيص , وظنوا ظن السوء , فويل لتلك الظانين. والله يعلم أني ما قلت إلا ما قال الله , ولم أقل قط كلمة يخالفه , وما مسها قلمي في عمري) اهـ بحروفه. ثم أنشأ يرد عليهم تفصيلاً وسنذكر بعض ذلك فيما سيأتي إن شاء الله. ((يتبع بمقال تالٍ))