للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أحوال مسلمي روسية

جاءنا الخطاب الآتي مطبوعًا فنشرناه مع تصحيح قليل وحذف بعض المكرر
منه.
إلى العالم الإسلامي..
عالم الإسلام! هل تعرف كيف يعيش إخوانك المسلمون في روسيا؟ هل
تتصور كيف يتألمون من الظلم هناك؟ هل تشعر كيف ينال الثلاثين مليون مسلم
حربٌ دينية لم يسبق لها مثيل في التاريخ؟ لا، لا تعرف ذلك ولا ترى ولا تشعر
بذلك. أنت لا تسمع العويل من هذا الرق. فلو تصورت دماء المسلمين المراقة هناك
منذ ١٢ سنة والدموع السائلة، والزفرات الصاعدة، ما كنت ترضى بها دون أن تقوم
ضدها. ولو نظرت إلى الآلام التي يصاب بها المسلمون لأنهم مسلمون ما كنت
تحافظ على قلة اهتمامك حتى الآن.
عالم الإسلام! انظر إلى الأحوال هناك!
يعيش في روسيا في الأصقاع المختلفة مثل قريم والقوقاس والتوركستان
والولغا أورال ٣٠ مليون مسلم لم يهاجروا إلى تلك البلاد من بلاد أخرى بل هم أهلها
الأصليون. وقد وقعت بلادهم الغنية الجميلة في أيدي الروس المتعصبين الذين لا
يعرفون احترام الأديان الأخرى وصاروا رعيّتهم. وبذلك اضطروا إلى مقاومة
الظلم الروسي منذ عصور، الذي (كان) يرمي إلى تنصيرهم وجعلهم روسًا بالقوة.
وليس من النادر أن ماتوا في الحرب من أجل دينهم المحترم المحبوب موتة
فظاعة وشهادة. وهم أبوا إجابة طلب ظالمهم أن يخونوا مدنيتهم التي جاوروها
واتصلوا بها عصورًا طويلة ويتخذوا مدنية غريبة. وقد تحملوا لثباتهم تضحيات
كبيرة جدًّا. وبالرغم من الظلم قد دافعوا عن عقيدتهم حتى الآن، وإذ لم يستطع
الروس تنصيرهم فقد استطاعوا محو أكثر معالم مدنيتهم.
والآن (صارت) الأمة الروسية متهافتة على شيوعية متعصبة كما كانت
متهافتة على نصرانية متعصبة. وهي تفكر في جعل روسيا الواسعة شيوعية وفي
إدخال الثلاثين مليون مسلم في الدين الجديد اللينيني، وتريد قطعهم عن دينهم ذي
الألف سنة وعن عاداتهم الإسلامية وهكذا تخرب الجماعات الإسلامية التي تعيش
هناك وتهدم المدنية الإسلامية.
عالم الإسلام!
إن الأصقاع الإسلامية سواء كانت حرة سياسية أو تحت حكم حكومات أوربية
لم تَرَ ظلمًا مثل ما في روسيا. اسمعوا ماذا يحدث هناك:
في مدن وقرى هؤلاء الثلاثين مليون مسلم أغلقوا المدارس التي يدرس فيها
الدين. واليوم لا يوجد ولا مدرسة تعلم الأمة القديمة الإسلامية الإسلام، والتي
تخرِّج لهذه الأمة الإمام، والمؤذن، والخطيب والواعظ. هذه المدارس صارت
معسكرات (كومونيستية) وليس هناك حرية لإعادة المدارس ثانية. كانت تُطبع
من قديم لسد حاجة الثلاثين مليون مسلم في مطابع إسلامية ملايين من نسخ القرآن
والكتب الإسلامية. وكان هناك ٤٠-٥٠ مطبعة وآلاف من المكاتب التي لم تنشر
هذه الكتب بين المسلمين في روسيا فقط بل كانت ترسلها إلى عالم الإسلام أجمع.
الآن لا يوجد شيء من هذا، فحكومة موسكو امتلكت المطابع كافة. فبدلاً من
القرآن والكتب الأخرى تطبع الآن المقالات الشيوعية.
والمكاتب الإسلامية ومحتوياتها أُخذت من طرف الحكومة البولشفية ونُهبت،
ومنذ تحكم البولشفية في بلادنا لم يطبع القرآن ولا كتاب ديني؛ لأن طبع وتوزيع
أي كتاب ديني ممنوع، واستجلاب الكتب الدينية من الخارج مستحيل وفاعله يعاقب.
عالم المحمديين!
أنت حر في احترام دينك أينما تعيش في وطنك أو في أوربا أو في إفريقيَّة لا
يمنعك عن ذلك أحد، ويمكن أن تقوم في كل وقت بصلواتك وصيامك. ويمكنك أن
تعيد أعيادك في بلدان أوربا الكبرى كبرلين ولندرة وباريس ورومية كما تحب،
وإن الأوربي والأميركي يحترم دينك وصلاتك، ولكن الحال في روسيا
الكومونيستية الحالية غير ذلك. هناك تعد الصلاة والدعاء والصيام والذهاب إلى
الجامع جريمة. والموظف يضيع وظيفته إذا صلى وصام. وإذا ما عقد زوجان
شابان زواجهما على يد إمام يُطردان من وظيفتهما، وإذا رؤي عامل في الجامع
وجب عليه ترك شغله. وفي أيام العيد الإسلامية تقام مظاهرات بالموسيقى والأبواق
أثناء صلاة العيد لجرح عواطف المسلمين، وهؤلاء المظاهرون يدورون صارخين
حول الجامع ليشاغبوا على المصلين في صلاتهم وسكوتهم، ويرمون المصلين
بالأقذار، ويقذفون الإسلام ونبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بأقبح الكلام، ويغنون
أغاني قذرة على قديسي الإسلام، وفي عيد الأضحى يأتي هؤلاء المظاهرون
ببعض الخنازير ويدعوها تصيح أثناء الصلاة، ويذبحوها قرب الجامع وهم
يسمونها ضحية، وأولاد المسلمين الذين هم تلاميذ يضطرونهم لأكل طعام الضحية
من الخنزير، وكل هذه المسائل تحسب من ذنوب الحكومة الشيوعية، وبمساعدة
الحكومة يقوم عسكر وموظفون ودرك في مثال هذه الأعياد الإسلامية بهذه الفظائع
التي تثقل الضمير الإسلامي.
عالم الإسلام!
إن المؤمنين الشجعان يذهبون لنجاة أرواحهم كل سنة آلافًا مؤلفة إلى البلاد
المقدسة ويحجون إلى الكعبة المقدسة، ويمسون بوجوههم القبر المقدس للنبي عليه
الصلاة والسلام، ويطلبون رحمة القديسين [١] وهم يرجعون فرحين مؤمنين إلى
أوطانهم. وقد كان مسلمو الروسيا يزورون في السابق أيضًا البلاد المقدسة، وهناك
يقابلون المسلمين من أقطار أخرى، ويتزودون بحديثهم تجارب دينية، فكان يذهب
لا أقل من عشرة آلاف حاج إلى البلاد المقدسة، أما اليوم فلا يراهم ولا يسمعهم
هناك أحد ولم يُرَ منذ اثني عشر عامًا حاج واحد من روسيا؛ لأن السيادة الشيوعية
تمنع الحج [٢] .
عالم الإسلام!
في كل مكان - حيث أنت موجود - يمكنك أن تسير على القوانين الإسلامية
وتتبعها. وأئمتك ومؤذنوك ومدرسوك وجميع وكلاء الدين الآخرين محترمون وقد
كان الأمر في بلادنا أيضًا كذلك. أما الآن فمنذ وقعت بلادنا تحت الحكم البولشفي
فإن أئمتنا وخطباءنا ووعاظنا ومؤذنينا ليسوا محترمين. وإنهم خارجون عن كافة
الحقوق الإنسانية حسب القوانين الكومونيستية، ولا يمكنهم أن يتقلدوا وظائف
دنيوية أم معنوية، ولا يمكنهم أن يَنتخبوا أو يُنتخبوا، ولا أن يشتركوا بالرأي
والمشورة عقليًّا. بل تمامًا بلا حقوق. وقد وضع عليهم بصفتهم من طبقة دينية
خاصة ضريبة. وهي أن يدفعوا ٤٠-٥٠ في المئة بل ١٠٠ في المئة أكثر مما
يدفع سائر الناس من الضرائب، وإذا لم يستطيعوا الدفع لفقرهم فإن الحكومة
البوليشفية تصادر دورهم وأملاكهم وترسلهم إلى سيبيريا.
أيها المسلمون:
كان عندنا قريب ٢٥٠٠٠ جامع وهذه كانت تُبنى منذ ألف سنة من الجماعات
الإسلامية وقد اشتريت لها من دراهم المسلمين سجاجيد وما شابهها وأسست خزائن
مخصوصة للمحافظة على هذه الجوامع، وهذا كله مالنا وإرثنا من آبائنا، ولكن بعد
أن وقعت بلادنا في أيدي الكومنيست أعلنوا أن هذه الجوامع وخزائنها هي أميرية
أي ملك الروس المسكاو. وقد نهبت السجاجيد والأشياء الثمينة التي في الجوامع
وصودرت السجادة التي وهبها الخليفة السلطان محمد رشاد سنة ١٩١٧ لجامع
بطرسبورغ (اليوم لينينغراد) ويطلبون للصلاة في الجامع ضريبة خاصة، وهذه
الضريبة عالية فوق الطاقة. وإن الجوامع التي لا تدفع جماعاتها ضرائب تغلق أو
تجعل أندية عامة أو صالات رقص ولعب أو مدارس غير دينية، أو إلى حانات
حمراء. وكثير من الجوامع التاريخية القيمة تخرب وتهدم.
وأما في وطننا (إيدل أورال) (ولغا أورال) - وهي مركز الإدارة العليا
للمسلمين في روسيا - فإن حرب الأديان في منتهى الشدة. وفي سنة ١٩٢٩
تأسست في (إيدل أورال، قازان، أستراخان، أوفا، أورينبورغ) بمساعدة
الحكومة جمعيات لا دينية من العسكر والموظفين لهدم كافة الجوامع، وهؤلاء
يغلقون الجوامع بالقوة، وينهبون من المقابر الإسلامية الأحجار التاريخية والشبابيك
من قبور القديسين ويخربونها.
وقد أغلق في السنين الأخيرة في باشكيرستان - قسم من (إيدل أورال) -
عدد كبير من الجوامع، وأقيل كثير من الروحيين من وظائفهم، تأخذ هذا كله من
الجريدة الكومونيستية الرسمية (ينا أول) وأن عدد الذين استقالوا مضطرين ٥٠٢
من الأئمة و٣٦٣ مؤذنًا وأغلق ١٠٣ من الجوامع.
نحن ننظر إلى هذه المظالم في المسلمين في الروسيا ونعطي هذه التفاصيل
كمحاربين لاستقلال منطقة (إيدل أورال) ونرجو المساعدة منكم ومن باقي إخواننا
في العقيدة.
أفِقْ يا عالم الإسلام ولا تدع عقيدتك تدنس بأيدٍ وسخة، ولا تسمح بأن يداس
إخوانك بأرجل الظلم، فاستيقظ! اهـ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (ختم الجمعية)
(المنار)
جاءتنا هذه الرسالة في البريد مطبوعة مختومة بختم المركز العام لجمعية
استقلال (إيدل أورال) فنشرناها انتصارًا لإخواننا المسلمين المظلومين في البلاد
الروسية الذين انتقلوا من ظلم القياصرة إلى ظلم الشيوعية الذي يفوقه في القسوة
والاستعباد أضعافًا مضاعفة، والعجب من غفلة هؤلاء الأشقياء كيف يطمعون في
نشر نفوذهم في الأقطار الإسلامية حتى العربية منها مع هذا الاضطهاد الذي
يسومون به مسلمي بلادهم سوء العذاب.
إن الشعوب الإسلامية قد ضاقت صدورها من عدوان الدول الرأسمالية
المستعمرة واستبدادهم ولكنهم لا يرجحون عليها دولة كافرة معطلة تعادي الأديان
وتكفر بالرحمن، وتحتقر وجدان الإنسان، ولو لم تقهر الدولة البولشفية الناس
وتكرههم على ترك دينهم لكثر أنصارها في كل مكان.
إن احتجاج الصحف وحده لا يرد هؤلاء البغاة عن بغيهم، وإننا نذكِّر إخواننا
المسلمين الذين يرون بعض دعاة البولشفية في بلادهم بأنه يجب عليهم أن يبينوا لهم
سوء تأثير اضطهادهم لأبناء دينهم في بلادهم، ونقترح على كل حكومة إسلامية
عندها سفير أو ما دون السفير من المعتمدين السياسيين أن تخاطبه في ذلك وتفعل ما
فعلت دول أوربة في الاحتجاج على اضطهاد النصارى، وأولى الحكومات
الإسلامية بهذا حكومتا اليمن والحجاز ونجد؛ لأنهما دينيتان يلقب رئيس كل منهما
بإمام المسلمين.
هذا، وإن في قطر آخر من الأقطار الإسلامية اضطهادًا لشعب إسلامي كبير
ومحاولة منظمة لرد أولادهم عن دينهم بتعميم التربية والتعليم الإجباريين، وهذا لا
يقل خطره عن اضطهاد دولة الروس البلشفية لمسلمي بلادها، بل ربما كان هذا
الخطر الهادئ المنظم أشد وعاقبته أسوأ، والواقع عليهم يرون أنهم لا يستطيعون
التظلم والشكوى؛ لأن كل من اعترض منهم يسام سوء العذاب، والحق أنهم يجب
عليهم ذلك وأن ما يقع عليهم من العقاب لا يكون أشد مما هم صائرون إليه في الدنيا
ثم في الآخرة، ولكن لابد لذلك من نظام، ليكون له قوة الرأي العام.