للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

الكرامة والمعجزة
(س٨) السيد محمد بن هاشم علوي (بجاوة) أسألك عن كلمة: (كل معجزة
لنبي فهي كرامة لولي) هذه الكلمة تلهج بها الناس عندنا لا سيما عبدة الخوارق، ولا
أدري هل هي حديث أو أثر وما معناها؟
(ج) العبارة ليست حديثًا ولا أثرًا عن الصحابة، وهذه الاصطلاحات
من المعجزة، والكرامة، والولاية قد حدثت بعدهم، وإنما هي كلمة لبعض
المشايخ وافقت هوى الناس، فتلقوها بالقبول، وصارت عندهم من قبيل القواعد
الدينية، وسارت بها الأمثال فيما بينهم، ونحمد الله أننا لم نعدم في شيوخ التصوف
والعلم من أنكرها.
ينقل عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والحليمي من أئمة الأشعرية، أنهما
وافقا المعتزلة على إنكار الكرامات. وذكر التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى
أنه يزداد تعجبه من نسبة إنكارها إلى الأستاذ (وهو من أساطين أهل السنة
والجماعة) وكذَّب ذلك، ثم قال ما نصه:
(والذي ذكره الرجل في مصنفاته، أن الكرامات لا تبلغ مبلغ خرق العادة
قال: وكل ما جاز تقديره معجزة لنبي، لا يجوز ظهور مثله كرامة لولي. قال:
وإنما مبلغ الكرامات إجابة دعوة، أو موافاة ماء في بادية في غير موقع المياه، أو
مضاهي ذلك مما ينحط عن خرق العادة، ثم مع هذا قال إمام الحرمين: من أئمتنا
هذا المذهب متروك. قلت: وليس بالغًا في البشاعة مبلغ مذهب المنكرين للكرامات
مطلقا، بل هو مذهب مفصل بين كرامة وكرامة، رأى أن ذلك التفصيل هو المميز
لها من المعجزات. وقد قال الأستاذ الكبير أبو القاسم القشيري في الرسالة: إن
كثيرًا من المقدورات يعلم اليوم قطعا، أنه لا يجوز أن تظهر كرامة للأولياء
لضرورة أو شبهة ضرورة يعلم ذلك، فمنها حصول إنسان لا من أبوين وقلب جماد
بهيمة أو حيوانا، وأمثال هذا كثير. انتهى، وهو حق لا ريب فيه، وبه يتضح أن
قول من قال: (ما جاز أن يكون معجزة النبي، جاز أن يكون كرامة لولي) ليس
على عمومه، وأن قول من قال: (لا فارق بين المعجزة والكرامة إلا التحدي) ليس
على وجهه اهـ. كلام السبكي هنا.
وقال بنفي العموم أيضًا في جوابه عن شبهة القائلين بأنه لو جازت الكرامة
لاشتبهت بالمعجزة. وقال في الكلام على إحياء الموتى نحوه، ومنه قوله: (ولا
أعتقد الآن أن وليًّا يحيي لنا الشافعي وأبا حنيفة حياة يبقيان معها زمانًا طويلا، كما
عمرا قبل الوفاة، بل ولا زمنًا قصيرًا يخالطان فيه الأحياء، كما خالطاهم قبل
الوفاة) .
***
محو الناس للأسماء من اللوح المحفوظ
(س٩) ومنه معطوفًا على السؤال السابق: وأسألك سيدي عن قول من
سمعته يقول: (فلان محينا اسمه من اللوح المحفوظ) وهذا القائل ممن يدَّعون
الكرامات والتصوف، وهو غبي عن أول ما يجب عليه، وإذا فرضنا حسن استقامته
ومعرفته، فهل يسوغ له هذا القول؟ وما معناه؟ وهل هو مدح لمحو اسمه أم ذم؟
وقد أنكرت عليه قوله فلامني الناس المتهافتون على الخزعبلات؛ لصغر سني
وعدم كبر عمامتي، وعدم قولي لمن يطلب من الدعاء، أنت في رقبتي. تفضل يا
سيدي بين لي ما أشكل علي، فقد اختلج بخاطري أنهم مصيبون في تصديقهم قوله،
وأنه ما قال منكرًا من القول، وأني مخطئ في إنكاري، وما يدريني أن الحق معهم،
أجبني يا والدي.
(ج) إنك مصيب في إنكارك وهم المخطئون، وليس الحق بكبر السن
أو العمامة، فقد ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عتاب بن أسيد على مكة
وهو ابن إحدى وعشرين سنة، فاثبت على فطرتك السليمة، ولا تقبل من أحد قولاً
بغير دليل بيِّن. أما كلمة الدجالين، فلا تفهم إلا بالقرينة، فإنهم قد يريدون بمحو
الاسم الحكم بالموت، وقد يريدون به إخراج المسمى من أهل المرتبة التي هو
فيها حقيقة، كالولايات الدنيوية أي عزله منها، أو ادعاء كالذين يعترفون لهم
بالولاية.
ومهما كان المراد، فهذا القول من الجرأة على الله، لا يصدر إلا من جهول،
غرَّه افتتان العامة بدعاويه، وتقبيلهم ليديه. فصدقهم، وافتتن بنفسه، أو نسي بهذا
الجاه ربه فأنساه نفسه. وينبغي لك أن تتلطف في الإنكار على هؤلاء؛ لئلا تأخذهم
العزة بالإثم، فيؤذوك، فإنهم لخضوع العامة لهم يطغون، ويستحلون الإيذاء لاسيما
إذا أمكنهم إخفاء سببه؛ ليدعوا أن المعترض قد عاقبه الله كرامة لهم، فإن
أكثر كراماتهم المزعومة هي الإيذاء للناس، ولم نسمع أن أحداً منهم قد نال من
الكرامة أن أنقذ بعض بلاد المسلمين من الظلم أو أخرجهم من ظلمات البدع
والخرافات.
***
قتلى مسلمي الروس في الحرب اليابانية
(س١٠) يوسف أفندي هندي بالبريد المصري (تأخر)
ما حكم الشرع الشريف فيمن قُتل من مسلمي الجند الروسي في حرب اليابان؟
هل ماتوا طائعين أم عاصين؟ ولا أظنهم يُعدون شهداء؟ أرجو التكرم بالإفادة؛
لازلتم ملجأ لكل مستفيد.
(ج) إنني أعتقد أن محاربة مسلمي روسيا لليابان، ليست معصية لله -
تعالى - ولا ممنوعة شرعًا، وأنها قد تكون مما يثابون عليها عند الله، إذا كانت
لهم فيها نية صالحة، إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، وللنية الصالحة
في حرب المسلم مع دولته غير المسلمة وجوه، منها أن طاعته إياها، تدفع
عن إخوانه من رعيتها شيئا من ظلمها وشرها، إذا كانت استبدادية ظالمة، وتساويهم
بسائر أهلها في الحقوق والمزايا، إذا كانت نيابية عادلة، أو تفيدهم ما
دون ذلك إذا كانت بين بين، ومنها أن العلوم والأعمال الحربية لا تزال من أهم
عناصر الحياة الاجتماعية في البشر، فإذا حرم منها شعب من الشعوب ضعفت
حياته، والضعيف لا يكون إلا ذليلاً مهينا. والخير للمسلمين من رعايا تلك الدول أن
يكونوا مشاركين لسائر أهل الملل فيها في جميع مقومات الحياة الاجتماعية،
أقوياء بقوتهم، أعزاء بعزتهم، لا أن يكونوا فيهم ضعفاء أذلاء بدينهم، فإن دين
الإسلام لا يبيح لأهله أن يختاروا الضعف والذلة على القوة والعزة، وإذ هم
اختاروا ذلك، عجزوا عن حفظ دينهم، فكان ذلك إضاعة للدين نفسه، فلا تلتفت
إلى متعصب جهول، يقول لك: إن المنار يبيح للمسلمين أن يعتزوا بالكافرين،
إلا إذا رأيته يعقل الكلام. فقل له: إنه ينصح للمسلمين بأن يختاروا العز على
الذل، - مهما كان مصدر العز - والقوة على الضعف، ويرى أن حفظ الإسلام
في غير داره لا يكون إلا بذلك. ويتمنى نصارى العثمانيين لو تدخلهم الدولة في
الجندية لذلك.
***
الدخان هل هو نجس وضار
(س١١) من محمد أفندي زيدان بسنورس الفيوم (تأخر)
ما قولكم - جعلكم الله منار الإسلام، وينبوع العلم، ومنهل الوارد - في مسألة
الدخان التي أخذ اختلاف الناس فيها كل مأخذ، ضاربًا أطنابه على أفكارهم
وعقولهم، فأصبح معظمنا - والحمد لله - إن لم أقل الكل مغمورًا في غياهب الجهل
بكنهها مضطرب الضمير، تلعب به أيدي الخلاف على موائد الجهالات، مختلج
الصدر بالسؤال عما يكشف لثامها ويرفع نقابها، وعن بيان أحكامها، وهل
الدخان نجس، أو منع منه الإمام؟ وهل يضر؟ وهل يكون حجابًا بين العبد وربه
من الأنوار؟ وإني لأرى هذه المسألة أهم مسألة توجه إليها أنظار النظار بالبحث
في خبايا أسرارها؛ ليستخرجوا معادنها الجوهرية، ولا أرى مقدامًا على خوض
بحارها، وسلوك سباسبها إلا منار الإسلام، فوليت وجهي شطره بلسان حال الأمة؛
مريدًا بيان حقيقتها بما يسر الضمير، ويرتاح إليه الخاطر، مشدودًا نطاقه بساطع
براهين مناركم، كما عهدنا من قبل، ولازلنا نعهد نشر لواء المنارعلى عويص
المسائل، فأدحض سحاب الجهل بقوى الحجة، وبياض المحجة، فلعله يتفضل عليَّ
بل على الشعب بأسره، بنقطة من بحار علومه الفياضة، أو بشعاع من شمس
معارفه، فنهتدي بها سواء السبيل، والسلام.
(ج) قد نشرنا هذا السؤال بنصه؛ لما فيه من الفكاهة، وبيان استعداد
الناس للإحفاء والاستقصاء في كل شيء، وأن ما يراه بعضهم من الأمور التي لا يؤبه
لها، يراه آخرون ذا بال بل من أهم المهمات.
أما كون الدخان نجسًا أو غير نجس فالجواب عنه: أن هذا النبات الذي يسمى
دخانا - لأنه يستعمل إحراقًا ليتمتع بدخانه - هو كسائر النبات طاهر، ولا يوجد
في الدنيا نبات نجس، وأما كونه ضارًّا أم لا، فهذا مما يرجع فيه إلى الأطباء لا
إلى الفقهاء، والمعروف في الفقه أن كل ضار محرم على من يضره، وما كان من
شأنه أن يضر قطعًا إلا في أحوال نادرة، يمكن إطلاق القول بحرمته، أو ظنًّا يحكم
بكراهته. والمشهور عن الأطباء أن في هذا النبات المعروف بالدخان، وبالتبغ،
والتتن، وبالتنباك، مادة سامة تسمى نيكوتين، فهو لذلك يضر المصدرين قطعًا، وأن
صحيح الجسم إذا تعوده بالتدريج، فإنه لا يضره ضررًا بيِّنًا، ولا شك أن تركه خير
للصحة من استعماله. فينبغي لمن لم يُبْتَلَ به أن لا يقلد الناس فيه، فإنه إذا لم يخلُ
من ضرر ما، يكون مكروهًا شرعا، وعلى من ابتلي به أن يراجع الطبيب الحاذق
فإذا جزم بضره، وجب عليه تركه، وإذا قال: يحتمل أن يضره، استحب له تركه،
وإذا قال: إنه لا يضره مطلقًا، أبيح له استعماله، وإذا اتفق أن كان نافعًا له
لمقاومة مرض ما، كما ينفع كثير من السموم في مقاومة بعض الأمراض، صار
مطالبًا باستعماله شرعًا، وقد يكون حينئذ واجبًا، إذا جزم الطبيب بتوقف منع الضرر
على استعماله، وإلا كان مخيرًا بينه وبين ما يقوم مقامه. فعلم من ذلك كله أنه قد
تعتريه الأحكام الخمسة كما يقولون.
***
النهي عن الجمع بين الأختين
والتزوج بامرأة الأب إلا ما قد سلف
(س١٢) عكاشة أفندي خليل بالأبيض من السودان: أرشدني أرشدك الله إلى
الصراط المستقيم إلى تفسير قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: ٢٣) وقوله: {وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: ٢٢) ورجائي نشره في مناركم ولكم الثواب.
(ج) معنى قوله عز وجل: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: ٢٢) لكن ما
سلف أي سبق لكم من ذلك في زمن الجاهلية لامؤاخذة عليه، وكانوا في الجاهلية
يجمعون بين الأختين في الزواج، ويتزوجون بنساء آبائهم إذا ماتوا عنهن، فنهى
الله عن ذلك، وبيّن أن ما سبق في الجاهلية لا يؤاخذ عليه. وهذا الاستثناء يسميه
النحاة الاستثناء المنقطع.
ويقول بعض المفسرين: إن الاستثناء متصل ولا حاجة إلى بيان قوله لمن يريد
فهم المعنى، ولا حاجة له في الاصطلاحات النحوية.
***
الحب وهل هو اختياري أم اضطراري؟
(س١٣) ... التلميذ بمدرسة الناصرية بمصر: ما هو الحب؟ وهل هو
اختياري أم اضطراري؟ أفيدونا بأجلى بيان، وأعظم برهان، وإن شئتم فأرسلوا لنا
الرد على غير صفحات المنار، ويكون لكم الفضل، والله لا يحرمنا من أمثالكم.
(ج) ورد لنا هذا السؤال منذ سنة وشهر، ولم يأمر السائل بكتمان اسمه
ولا بالرمز إليه، وكنا ترددنا في الجواب عنه، ثم نسيناه، ولما راجعنا في هذه الأيام
ما تأخر من الأسئلة التي جاءتنا في السنة الماضية؛ ولم نجب عنها رأيناه فيها،
واستحسنا أن نجيب عنه جوابًا مفيدًا، لأمثال السائل من الناشئين الذين أنشأت بوادر
الحب تعبث بنفوسهم، وتنشئ له في مخيلاتهم جنات باسقة الأشجار، بهيجة
الأزهار، تجري من تحتها الأنهار، وتغرد من فوقها الأطيار، تتهادى في أفيائها
كواعب الأبكار، فيتراءى لهم من سعادة الحياة في مناغاة أولئك الغادات، في حدائق
هاتيك الجنات، ما قد يشغلهم عن تحصيل العلم، ويعوقهم عن تربية النفس،
ويجذبهم إلى مطالعة قصص الغرام التي تغذي تلك التخيلات والأوهام، حتى يزين
لهم التعرض للحب اختيارًا، أو يقعوا في حبالته اضطرارًا، فيجني عليهم ما
يجني مما لا محل لذكره هنا.
معنى الحب بديهي، لا يمكن تعريفه بما هو أجلى عند النفس منه، فإذا قلت
لك: إن حبك للشيء عبارة عن ميلك إليه، أو هو انفعال ارتياح، وأنس بالشيء
المحبوب، أو شعور ملائم للطبع، مثاره أو منشؤه ذلك الشيء، أو غير ذلك، لا
يزيدك ذلك معرفة بالحب، وإنما يزيدك معرفة بالألفاظ المترادفة، أو المتقاربة في
المعنى، فمن أحب شيئًا ما، عرف معنى الحب المطلق في الجملة، وحب ذلك
الشيء بالتحديد، وإذا فرضنا أنه يوجد في البشر من لا يحب شيئًا قط، فإننا نجزم
بأن إفهامه معنى الحب محال، ومن أحب شيئًا دون شيء، فإننا نعرفه معنى الحب
المجهول عنده؛ بتشبيهه بالمعروف له، ولكن هذا التعريف يكون بالتقريب لا
بالتحديد؛ لأن حب الاحترام غير حب الشفقة، وحب القرابة والصداقة، غير حب
الزوجية. وصفوة القول أن الحب من الوجدانات التي لا يعرفها إلا من ذاقها
كالسرور، والفرح، والخوف، والحزن.
وأما كونه اختياريًّا أو اضطراريًّا؛ فهو مما اختلف فيه الباحثون، فقال
بعضهم بالأول، وبعضهم بالثاني، وذهب آخرون إلى أن أوله اختياري وآخره
اضطراري، وقد نظموا هذه الآراء، واشتهرت فيها أشعارهم، وإذا رجع الإنسان
إلى نفسه، وإلى ما يعرف عن أبناء جنسه، ودقق النظر في ذلك، يتجلى له أن
لكل قول وجهًا ولكنه قاصر عن تمحيص الحقيقة؛ وذلك أن الإنسان قد يحدث له
الحب فجأة، وقد يختار معاشرة بعض من يستحسن، والتودد إليه لأجل أن يحبه
فيحبه، وقد يحب امرأً أو امرأة فجأة، أو بعد تحبب، ثم يفطن إلى أن هذا الحب لا
خير فيه، وأن تركه خير من البقاء عليه، فيتكلف السلوّ بالبعد وترك المعاشرة حتى
يسلو، وقد يكون ضعيف الإرادة فاقد العزيمة، لا يقوى على مغالبة الحب،
وإن هو اعتقد عبثه بشرفه ودينه، وذهابه بماله، وإفساده لمصالحه، فيظل مغلوبًا
له خاضعًا لسلطانه.
كل أولئك كان واقعًا معروفًا للمختبرين، وما قال من قال: إن الحب اختياري
دائما، أو اضطراري مطلقا، أو أوله اختياري وآخره اضطراري - إلا حكاية عما
يجد في نفسه، مع الغفلة عما عليه غيره من الناس، وإلا فهو جاهل بنفسه
وبغيره.
وإن شئت تفصيلاً ما لهذا الإجمال، فلا تنس أن موضع الخلاف هو حب
الشهوة الذي يسمى عشقًا: كحب الرجل للمرأة التي يشتهي أن يقترن بها، حبًّا يملك
شعوره ووجدانه، لا مطلق حب الإنسان الجميل، أو القريب، أو المحسن، أو
الفاضل، فإن الحب المطلق للجميل المستحسن من الإنسان وغير الإنسان، مما
غرز في طبائع البشر، واصطبغت به فطرتهم، لا يملكون دفعه ولا اختيار لهم فيه.
وقلما يكون العشق اضطرارًا، بل الغالب فيه أن يستحسن المستعد للعشق، من
تحسن صورته أو صورتها في عينه، وتحل محلاًّ من قلبه، فيطيل في ذلك الفكر
والتخيل، ويعود إلى النظر والتأمل، ويتدرج من ذلك إلى المكالمة والمعاشرة،
حتى يصير عاشقا، واسترساله في هذه الأمور يكون باختياره في الأكثر، وما
كان من الخواطر والتخيلات الأولى بغير اختيار، تسهل مدافعته بتكلف التفكر في
غيره قبل أن يتمكن، ولذلك عبَّرنا بلفظ الاسترسال، ومن سبر هذا وفقهه حق الفقه،
يجزم بأن أكثر الذين عشقوا ما بلغوا في ميلهم واستحسانهم إلى درجة العشق، إلا
بأعمال نفسية وبدنية، استرسلوا فيها باختيارهم، ولو شاءوا لما استرسلوا، ولو لم
يسترسلوا لما عشقوا، ولكنهم اختاروا أن يعشقوا؛ لأنهم توهموا أن في العشق غبطة
وهناء، ونعمة وسعادة.
ومن النادر الذي يبعد تصوره ويعسر تعليله، أن ينظر الإنسان إلى صورة
جميلة، فيفجأه عشقها مستغرقًا شعوره ووجدانه، مالكًا عليه أمره، سالبًا منه إرادته
واختياره، ولو قال قائل: إن هذا غير ممكن أو غير واقع، لما صلحت حكايات
(ألف ليلة وليلة) ، وأشباهها من القصص (الروايات) ناقضًا لقوله، ذلك بأن
الانفعالات التي تعرض للنفوس، لا تكون بالغة منتهى القوة والشدة إلا إذا
اصطدمت بوجدان يقابلها: كالحزن الشديد لفقد المحبوب العزيز، والفرح الشديد
بلقائه بعد اليأس منه، وكالخوف على الحياة من خطر مفاجئ.
وقد يقال أيضًا: إن داعية النسل قد تقوى في بعض الناس الذين ليس لهم
شواغل عقلية، فتحدث استعدادًا يستغرق الوجدان، ويعم تأثيره المجموع العصبي،
فيتفق أن يرى صاحب هذا الوجدان في هذه الحال من الصور ذوات الجمال ما
يشاكله، فينفعل لرؤيته انفعالاً شديدًا، ويتمكن تأثيره في نفسه لأول وهلة، فلا
يكون له اختيار فيه، ولا مطمع في تلافيه، ولكن هذا نادر كما قلنا آنفًا، والنادر
لا حكم له كما يقولون.
والغرض من هذا البيان، أن الحب الذي تثيره داعية النسل كسائر أنواع
الحب، يخضع للتربية والتهذيب، وليس من شأنه سلب الاختيار بطبيعته،
وإنما ينمو كغيره بالأعمال الاختيارية، حتى يخرج عن طوق الاختيار أحيانًا لا سيما
مع ضعفاء الإرادة، وأهل البطالة، فقد يولع المرء بلعب الشطرنج أو اللهو
بإطارة الحمام، حتى يرى تركهما فوق إرادته واختياره، فعلى السائل وأمثاله
من الناشئين أن لا يسترسلوا مع أهوائهم في الحب؛ لئلا يحكم عليهم سلطانه
الجائر حكمًا يتجرعون غصصه طول حياتهم.