للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد بهجت البيطار


نداء للجنس اللطيف
يوم ذكرى المولد النبوي الشريف
في حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام

نشرنا في جزء المنار الماضي ما اقترحته علينا لجنة (ذكرى يوم النبي) في
لاهور الهند من كتابة رسالة في هذا الموضوع، لأجل ترجمتها بأشهر لغات العالم
المدني ونشرها في يوم المولد من سنة ١٣٥١، وإننا قد شرعنا في كتابتها في شهر
ذي الحجة الذي صدر الجزء الرابع من المنار في آخره.
وأقول الآن: إنني لما شرعت في كتابة الرسالة توخيت فيها الاختصار، وفاقًا لاقتراح لجنة لاهور في كتاب خاص، وقد أرسلت ثلاث كراسات (ملازم) منها
بالبريد الجوي في رابع المحرم، وكراستين أخرتين في الحادي عشر منه، ونبذة
ثالثة في ١٨ منه، ولما لم يرد إلي جواب من اللجنة ترجح عندي أنها لن تتمكن من
ترجمتها ونشرها في يوم مولد هذا العام، وكان عرض لي أن أبسط بعض المسائل
ولا سيما مسألة تعدد الزوجات، وحكمة كثرة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
بأكثر مما تطلبه اللجنة على أن أختصر الرسالة لها إذا أرادت ترجمتها لسنة أخرى.
بيد أنني رأيت أن أنشر الرسالة كلها في المنار، ثم أطبعها على حدة وأنشرها
في يوم المولد الشريف من هذا العام، مشاركة لإخواننا مسلمي الهند في إحياء هذه
الذكرى ببيان ما اشتدت إليه حاجة هذا العصر من بيان الإصلاح الإسلامي العام
للبشر، الذي يعلم به أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة للعالمين، ومكملاً
لدين الله على ألسنة النبيين والمرسلين، ومصلحًا لما أفسده البشر من الأديان
والشرائع وشؤون الاجتماع البشري كلها، وهذا نص الرسالة:
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد رسول الله وخاتم النبيين
الذي أرسله لإصلاح جميع البشر في أمور دينهم ودنياهم، وإزالة التعادي
والتناكر بين شعوبهم وقبائلهم بالتعارف والتآلف بينهم، وإثبات المساواة في الحقوق
والأحكام بين أجناسهم وأفراد رجالهم ونسائهم على اختلاف عروقهم وألوانهم،
وبقاعهم وأقطارهم، ومنع التمايز بين الطبقات والعشائر بالأنساب والتقاليد العرفية
أو الوراثية، وتحقيق التوحيد بينهم في جميع المقومات الإنسانية، والأخوة الروحية،
والتفاضل بالفضائل النفسية، من علمية وعملية، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: ١٣) .
أما بعد، فيقول محمد رشيد رضا الحسيني منشئ مجلة المنار الإسلامي
ومؤلف التفسير السلفي العصري الأثري السياسي الاجتماعي في مصر - القاهرة:
إن الجماعة التي تألفت من إخواننا مسلمي الهند في مدينة لاهور لإذاعة سيرة
رسول الإنسانية الأعظم، وهديه وإصلاحه الأقوم، وخصصت لذلك يوم مولده من
كل سنة قد اقترحت علي أن أكتب رسالة في أهم ما جاء في كتاب الله تعالى المنزَّل
عليه، وفي سنته المبينة له من حقوق النساء، والإصلاح الذي يجب على الجنس
اللطيف أن يعرفه في كل شعب ويطالب به الرجال، ليترجم باللغات المشهورة
وينشر في الآفاق في يوم ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم من سنة ١٣٥١ لهجرته
الشريفة.
فقبلت الاقتراح، وأجبت الدعوة بالارتياح، شاكرًا لإخواني تفضلهم عليَّ
واختصاصهم إياي ببيان هذا الواجب الكفائي، داعيًا أن يلهمني الله تعالى فيه
الصواب، ويؤتيني الحكمة وفصل الخطاب، وقد استحسنت أن أبدأ ما أكتب بنداء
عام للنساء، ليعرفن حقوقهن ويعرفها الرجال، فأقول:
نداء للجنس اللطيف
يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف من سنة ١٣٥١
في حقوق النساء في الإسلام، وحظهن من الإصلاح المحمدي العام

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: ٢١) .
ألا يا معشر النساء وبنات حواء، في الشرق والغرب والجنوب والشمال، هل
تدرين كيف كانت عيشة جداتكن قبل بعثة مصلح البشر الأعظم، محمد النبي الأمي
صلى الله عليه وسلم؟ أم تدرين أن البشر لما يفقهوا كنه الأقانيم الثلاثة للحياة
الزوجية التي نزل بيانها من لدن رب العالمين، على قلب محمد خاتم النبيين،
أعني: السكون النفسي الجنسي الذي يتحد به الزوجان فيكونان حقيقة واحدة كالماء
والهواء. والمودة التي تتعدى الزوجين إلى أسرتيهما فيسري بها الحب والتعاون من
الأقارب إلى البعداء. والرحمة التي تكمل لهما بالولد المنفصل منهما الممثل لهما
فينتشر التراحم بين الأحياء.
تعالين أحدثكن عما كانت عليه جداتكن بالإجمال، وبما جاء به محمد صلى الله
عليه وسلم بشيء من التفصيل، لقد كان جميع نساء البشر مرهقات بظلم الرجال
في البدو والحضر، لا فرق فيه بين الأميين والمتعلمين، ولا بين الوثنيين
والكتابيين.
كانت المرأة تُشترى وتباع، كالبهيمة والمتاع، وكانت تكره على الزواج
وعلى البغاء، وكانت تورث ولا ترث، وكانت تُملَك ولا تَملِك، وكان أكثر الذين
يملكونها يحجرون عليها التصرف فيما تملكه بدون إذن الرجل، وكانوا يرون
للزوج الحق في التصرف بمالها من دونها، وقد اختلف الرجال في بعض البلاد
في كونها إنسانًا ذا نفس وروح خالدة كالرجل أم لا؟ وفي كونها تلقن الدين وتصح
منها العبادة أم لا؟ وفي كونها تدخل الجنة أو الملكوت في الآخرة أم لا؟ فقرر أحد
المجامع في رومية أنها حيوان نجس لا روح له ولا خلود؛ ولكن يجب عليها العبادة
والخدمة وأن يكم فمها كالبعير والكلب العقور لمنعها من الضحك والكلام؛ لأنها
أحبولة الشيطان، وكانت أعظم الشرائع تبيح للوالد بيع ابنته، وكان بعض العرب
يرون أن للأب الحق في قتل بنته، بل في وأدها (دفنها حية) أيضًا، وكان منهم
من يرى أنه لا قصاص على الرجل في قتل المرأة ولا دية.
وكان أهم إنصاف للمرأة منحها إياه الشعب الفرنسي في أوربة بعد ميلاد محمد
صلى الله عليه وسلم وقبل بعثته أن قرروا بعد خلاف وجدال أن المرأة إنسان إلا
أنها خُلقت لخدمة الرجال.
ولد محمد صلى الله عليه وسلم في سنة ٥٧١ من ميلاد المسيح عليه السلام،
وأصدر الفرنسيس هذا القرار النسوي في سنة ٥٨٦ أي بعد مولده بخمس عشرة
سنة، ولم يكن يدري هو ولا غيره بما سيجيء به من الإصلاح البشري العام،
والإصلاح النسوي الخاص.
فهل أتاكن يا بنات حواء أنباء ما جاء به محمد نبي الرحمة من التعاليم في
حقكن؟ هذا ما اقترح علي أن أقصه عليكن وعلى رجال الأمم كلها في هذه الرسالة
في هذا اليوم من ذكرى مولد محمد صلى الله عليه وسلم سنة ١٣٥١ من هجرته.
بعث محمد صلى الله عليه وسلم في أوائل القرن السابع للمسيح عليه السلام
مبشرًا ونذيرًا للبشر كافة يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وإلى إصلاح أنفسهم التي
أفسدتها التقاليد الدينية، والعصبيات القومية والوطنية، وكان للنساء حظ كبير من
هذا الإصلاح لم يسبق الإسلام به دين، ولم يبلغ شأوه تشريع، ودونكن التفصيل:
١- المرأة إنسان هي شقيقة الرجل
قام محمد صلى الله عليه وسلم يتلو على البشر آيات الله عز وجل في كون
النساء والرجال من جنس واحد، لا قوامة للإنسانية إلا بهما وهذه أربع شهادات
منها:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: ١٣) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} (النساء: ١) .
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: ١٨٩) .
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} (النحل: ٧٢) .
وكان يقول: (إنما النساء شقائق الرجال) [١] .
٢- إيمان النساء كالرجال
قام محمد صلى الله عليه وسلم يتلو على الناس ما أثبته الله تعالى من إيمان
النساء كالرجال، فمن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ
مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى
الكُفَّارِ} (الممتحنة: ١٠) الآية.
ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ
احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} (الأحزاب: ٥٨) .
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ
وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ} (البروج: ١٠) .
وأخبرهم بأن الله تعالى أمره أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات جميعًا بقوله:
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ
وَمَثْوَاكُمْ} (محمد: ١٩) .
ومن المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة أن على النساء ما على الرجال
من أركان الإسلام إلا أن الصلاة تسقط عن المرأة في زمن الحيض والنفاس مطلقًا،
فتتركها ولا تعيدها لكثرتها، وأما الصيام فيسقط عنها في زمنهما وتقضي ما أفطرته
من أيام رمضان لقلتها، وأما حجها فيصح في كل حال؛ ولكنها لا تطوف بالبيت
الحرام إلا وهي طاهرة.

٣- جزاء المؤمنات في الآخرة كالمؤمنين
وقام يتلو على العالم في جزاء المؤمنات كالمؤمنين آيات من الله تعالى منها
قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: ٩٧) .
وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ
أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} (غافر:
٤٠) .
وقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ
أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} (النساء: ١٢٣-
١٢٤) .
وقوله تعالى في أولي الألباب الذين يذكرونه كثيرًا ويتفكرون في خلق السموات
والأرض ويدعونه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ
أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ} (آل عمران: ١٩٥) الآية، وفيها وعدهم جميعًا
بإدخالهم الجنة وحسن الثواب.
وقوله تعالى: {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ
وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ
وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب:
٣٥) .
وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} (التوبة: ٧٢) .
٤- مشاركة النساء للرجال في الشعائر الدينية
(والأعمال الاجتماعية والسياسية)
النساء يشاركن الرجال في العبادات الاجتماعية كصلاة الجماعة والجمعة
والعيدين فتشرع لهن؛ ولكن لا تجب عليهن تخفيفًا عليهن، وصح أن النبي صلى
الله عليه وسلم أذن لِلْحُيَّضِ [٢] منهن بحضور اجتماع العيد في المصلى دون صلاته،
وعبادة الحج الاجتماعية مفروضة عليهن كالرجال كما تقدم، ويحرم عليهن وضع
النقاب على وجوههن ولبس القفازين في أيديهن مدة الإحرام، وقد شرع لهن من
الأمور الاجتماعية والسياسية ما هو أكثر من ذلك.
قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: ٧١) فأثبت الله
للمؤمنات الولاية المطلقة مع المؤمنين، فيدخل فيها ولاية الأخوة والتعاون المالي
والاجتماعي، وولاية النصرة الحربية والسياسية، إلا أن الشريعة أسقطت عن
النساء وجوب القتال بالفعل، فكان نساء النبي وأصحابه يخرجن في الغزوات مع
الرجال يسقين الماء، ويجهزن الطعام، ويضمدن الجراح، ويحرضن على القتال،
وقد ثبت في الصحيح أن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها السلام
كانت تحمل قِرَب الماء هي وأم سليم وغيرها إلى الجرحى في غزوة أحد يسقينهم
ويغسلن جراحهم، ولما جُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم تولت فاطمة غسل
جرحه وتضميده.
٥- أمان المرأة للحربيين
ومن حقوق المرأة السياسية في الإسلام أنها إذا أجارت أو أمنت أحدًا من
الأعداء المحاربين نفذ ذلك، فقد قالت أم هانئ للنبي صلى الله عليه وسلم - وهي
بنت عمه أبي طالب - يوم فتح مكة: إنني أجرت رجلين من أحمائي، فقال صلى
الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) وهذا حديث صحيح متفق عليه،
وفي بعض الروايات أنها أجارت رجلاً فأراد أخوها علي كرم الله وجهه قتله،
فشكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأشكاها وأجاز جوارها، وفي حديث حسن
عند الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرأة لتأخذ
للقوم) يعني تجير على المسلمين اهـ. وفي معناه عن عائشة أم المؤمنين قالت:
(إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين فيجوز) ونقل ابن المنذر أن المسلمين
أجمعوا على صحة إجارة المرأة وأمانها.
٦- أمر المرأة بالمعروف ونهيها عن المنكر
وما في الآية من فرض الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على النساء
كالرجال يدخل فيه ما كان بالقول وما كان بالكتابة، ويدخل فيه الانتقاد على الحكام
من الخلفاء والملوك والأمراء فمن دونهم، وكان النساء يعلمن هذا ويعملن به.
رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب تغالي الناس في مهور النساء حين
اتسعت دنياهم في عصره، فخاف عاقبة ذلك وهو ما يشكو منه الناس منذ عصور،
فنهى الناس أن يزيدوا فيها على أربعمائة درهم، فاعترضت له امرأة من قريش
فقالت: أما سمعت ما أنزل الله؟ يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ
شَيْئاً} (النساء: ٢٠) فقال: (اللهم غفرًا، كل الناس أفقه من عمر) وفي رواية
أنه قال: (امرأة أصابت وأخطأ عمر) وصعد المنبر وأعلن رجوعه عن قوله.
٧- مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم
للنساء كالرجال
كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الرجال على السمع والطاعة والنصرة،
وكانت أول بيعة منه لنقباء الأنصار في عقبة منى قبل الهجرة على بيعة النساء كما
في السيرة؛ ولكن آية بيعة النساء لم تكن نزلت، وبايعهم البيعة الثانية الكبيرة على
منعه - أي حمايته - مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وبايع المؤمنين تحت
الشجرة في الحديبية على أن لا يفروا من الموت، سنة ست من الهجرة، وخصت
بيعة النساء بذكر نصها في سورة الممتحنة، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا
جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ
يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي
مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الممتحنة: ١٢) نزلت
يوم فتح مكة، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم بها النساء على الصفا بعدما فرغ
من بيعة الرجال على الإسلام والجهاد، وكان عمر بن الخطاب يبلغه عنهن وهو
واقف أسفل منه.
وقد حضرت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان بن حرب بيعة النساء هذه وهي
متنقبة متنكرة مع النساء لئلا يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي التي
كانت أخرجت كبد عمه حمزة رضي الله عنه يوم قتل في أحد فمضغتها ولاكتها
شماتة وانتقامًا؛ ولكنها كانت تتكلم عند كل جملة، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (أبايعهن {عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} (الممتحنة: ١٢) فرفعت هند
رأسها وقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمرًا ما رأيناك أخذته على الرجال - وكان بايع
الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد - فقال النبي صلى الله عليه وسلم:] وَلاَ
يَسْرِقْنَ [فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصبت من ماله هنات فلا
أدري أيحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو
لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: وإنك لهند بنت
عتبة، قالت: نعم، فاعف عما سلف عفا الله عنك، فقال:] وَلاَ يَزْنِينَ [فقالت:
أو تزني الحرة؟ فقال:] وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ [فقالت هند: ربيناهم صغارًا
وقتلتموهم كبارًا فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر،
فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال:] وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ [وهو أن تقذف ولدًا على
زوجها وليس منه، قالت هند: والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم
الأخلاق فقال:] وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا
وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء، فأقر النسوة بما أخذ عليهن) .
وكان صلى الله عليه وسلم يقول لهن عند المبايعة: (فيما استطعتن وأطقتن)
فيقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا.
أقول: وأية رحمة ويسر في الإسلام أوسع من تقييد الله طاعة رسوله
بالمعروف، وهو لا يأمر إلا بالمعروف، ومنه منع عادات الجاهلية في الموتى، ثم
تقييد الرسول نفسه ذلك بالاستطاعة والطاقة وفاقًا لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: ١٦) وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة:
٢٨٦) وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: ١٨٥)
وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: ٧٨) .
وقتل الأولاد يدخل فيه ما كان يفعله بعض العرب من وأد البنات أي دفنهن
حيات اتقاء لعارهن أن يسبين أو يفجرن، وقتل الصغار لأجل الفقر أو خوف الفقر
إذا كبرن. وقال بعض المفسرين: إن منه تعمد المرأة إسقاط الجنين لأي سبب من
الأسباب. وأما البهتان الذي أخذ عليهن ألا يفترينه بين أيديهن فهو أن يلحقن
بالرجل ولدًا ليس له كما فسر في الحديث، أي ولو لقيطًا يلتقطنه؛ فإن المرأة تضع
طفلها كذلك، وهذه الكناية من أبدع كنايات القرآن بلاغة ونزاهة.
ثم بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال بيعة النساء كما في حديث
عبادة بن الصامت المتفق عليه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
مجلس فقال: (تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا
تقتلوا أولادكم، وقرأ الآية التي أخذت على النساء {إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ} (الممتحنة: ١٢) فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب
به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء
غفر له وإن شاء عذبه) .
وروى الإمام أحمد أن فاطمة بنت عتبة جاءت تبايع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فأخذ عليها {أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ} (الممتحنة:
١٢) الآية، فوضعت يدها على رأسها حياء، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة:
(أقري أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلى على هذا) قالت: فنعم إذًا، فبايعها بالآية.
٨- حقوق النساء في التعليم والتأديب
بيَّن الله تعالى في مواضع من كتابه أنه أرسل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم
في الأميين ليخرجهم من الأمية، فيتلو عليهم آيات الله ويعلمهم الكتاب والحكمة
ويزكيهم، ومدح العلم في آيات كثيرة، ومدحه رسوله في مواضع لا محل لسرد
شيء منها هنا، وقد فسَّر بعضهم الكتاب في هذه الآيات بصناعة الكتابة؛ لأنه في
الأصل مصدر (كتب) ثم أُطلق على المكتوب، وكان النبي يحث أصحابه على تعلم
الكتابة وقد أمر الله بها في آية الدين (البقرة: ٢٨٢) وقد ثبت من عدة طرق أن
الشفاء بنت عبد الله المهاجرة القرشية العدوية علَّمت حفصة بنت عمر أم المؤمنين
الكتابة.
وقد اشتركت النساء مع الرجال في اقتباس العلم بهداية الإسلام فكان منهن
راويات الأحاديث النبوية والآثار، يرويه عنهن الرجال، والأديبات والشاعرات
والمصنفات في العلوم والفنون المختلفة، وكانوا يعلِّمون جواريهم وقيانهم كما
يعلِّمون بناتهم.
وقد أجمع المسلمون على أن كل ما فرضه الله تعالى على عباده، وكل ما
ندبهم إليه، فالرجال والنساء فيه سواء إلا ما استثني مما هو خاص بالنساء
لأنوثتهن في الطهارة والولادة والحضانة، وما رفع عنهن من القتال وغير ذلك مما
هو معروف.
وقد بلغ من عناية محمد رسول الله وخاتم النبيين بتعليم النساء وتربيتهن أن
ذكر فيمن يؤتيهم الله تعالى أجرهم مرتين يوم القيامة - أي مُضاعَفًا - قوله: (أيما
رجل كانت عنده وليدة فعلَّمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها
وتزوجها فله أجران) فقرن ثواب التعليم والتأديب بثواب العتق الذي كان يرغِّب
فيه كثيرًا فوق ما شرعه الله تعالى فيه من أسباب تحريره وعتقه، والحديث متفق
عليه عن أبي موسى رضي الله عنه، وله ألفاظ أخرى.
وإن حديث: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) يشمل المسلمات باتفاق
علماء الإسلام، وإن لم يرد فيه لفظ (ومسلمة) وقد صحح في الجامع الصغير
بعض طرقه، وأما متنه فصحيح بالإجماع.
وسيأتي في الكلام على أمهات المسلمين أن الغرض الأول من تعددهن أن يكن
معلمات للنساء ومفتيات لهن، بل كان الرجال حتى الخلفاء يرجعون إليهن فيما
يشكل عليهم من بعض الأحكام الشرعية، ولا سيما السيدة عائشة رضي الله عنها.
٩- حقوق النساء المالية
قد أبطل الإسلام كل ما كان عليه العرب والعجم من حرمان النساء من التملك،
أو التضييق عليهن في التصرف بما يملكن، واستبداد أزواج المتزوجات منهن
بأموالهن، فأثبت لهن حق الملك بأنواعه والتصرف بأنواعه المشروعة، فشرع
الوصية والإرث لهن كالرجال، وزادهن ما فرض لهن على الرجال من مهر
الزوجية، والنفقة على المرأة وأولادها وإن كانت غنية، وأعطاهن حق البيع
والشراء والإجارة والهبة والصدقة وغير ذلك، ويتبع ذلك حقوق الدفاع عن مالها
كالدفاع عن نفسها بالتقاضي وغيره من الأعمال المشروعة، وإن المرأة الفرنسية لا
تزال إلى اليوم مقيدة بإرادة زوجها في جميع التصرفات المالية والعقود القضائية.
١٠- حقهن في الميراث
قال الله تعالى في إبطال ظلم الذين كانوا يمنعون النساء من الإرث ويجعلونه
للرجال خاصة من سورة النساء: {لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ
وَلِلنسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} (النساء: ٧) .
ثم بيَّن نصيب كل وارث من الرجال والنساء في آيات المواريث من هذه
السورة (أعني ١٠ - ١٢ و١١٦) وهي مبنية على قاعدة {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنثَيَيْنِ} (النساء: ١١) من الآية العاشرة المفصلة في سائر الآيات، وحكمة
جعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل أن الشرع الإسلامي أوجب على الرجل
أن ينفق على المرأة، فبهذا يكون نصيب المرأة مساويًا لنصيب الرجل تارة وزائدًا
عليه تارة أخرى باختلاف الأحوال.
إذا مات رجل عن ولدين ذكر وأنثى وترك لهما ثلاثة آلاف دينار مثلاً كان
للذكر ألفان ولأخته ألف، فإذا تزوج هو فإن عليه أن يعطي امرأته مهرًا وأن يعد
لها مسكنًا وأن ينفق عليها من ماله سواء أكانت فقيرة أم غنية، ففي هذه الحالة
تكون الألفان له ولزوجه، فيكون نصيبه بالفعل مساويًا لنصيب أخته أو أقل منه،
ثم إذا وُلد له أولاد يكون عليه نفقتهم وليس على أمهم منها شيء، وفي هذه الحالة
يكون ماله الموروث دون مال أخته؛ فإنها إذا تزوجت كما هو الغالب فإنها تأخذ
مهرًا من زوجها وتكون نفقتها عليه فيمكنها أن تستغل ما ورثته من أبيها وتنميه
لنفسها وحدها، فلو لم يكن للوارثين إلا ما يرثونه من أمواتهما لكانت أموال النساء
دائمًا أكثر من أموال الرجال، إذا اتحدت وسائل الاستغلال، فيكون إعطاؤهن
نصف الميراث تفضيلاً لهن عليهم في أكثر الأحوال، إلا أن سببه أن المرأة أضعف
من الرجل عن الكسب، ولها من شواغل الزوجية وما يتصل بها من حمل وولادة،
ثم من شواغل الأمومة ما يصرفها عن الكسب الذي تقدر عليه وهو دون ما يقدر
عليه الرجل في الغالب، فمن ثم لم يكن فرض نفقة الزوجية والدار والأولاد على
الرجل ظلمًا له وتفضيلاً للمرأة عليه في المعيشة، ووجه إعطاء المرأة ما تعطى من
الميراث أن يكون لها مال تنفق منه على نفسها إذا لم يتح لها الزواج، أو مات
زوجها ولم يترك لها ما يقوم بأودها، فهو من قبيل المال الاحتياطي لها وللأسرة
وقد شرحنا هذه المسألة بالتفصيل في مقالات أخرى.
١١- مهر الزواج
إن مما امتازت به الشريعة الإسلامية المحمدية في تكريم النساء على جميع
الشرائع والنظم التي يجري عليها البشر في الزواج أنها فرضت على الرجل أن
يدفع لمن يقترن بها مهرًا مقدمًا على البناء بها، من حيث تفرض الشعوب غير
المسلمة على المرأة أن تدفع هي المهر للرجل - ولكنهم يسمونه باسم آخر - فترى
البنت العذراء مضطرة إلى الكد والكدح لأجل أن تجمع مالاً تقدمه لمن يقترن بها إذا
لم يكن لها ولي من والد أو غيره يبذل لها هذا المال، وكثيرًا ما تركب الأوانس
الناعمات أخشن المراكب وتتعرض للعنت، والتفريط في العرض والشرف، في
سبيل تحصيل هذا المال.
وشريعة اليهود تفرض للمرأة مهرًا لكنها لا تملكه بالفعل إلا إذا مات زوجها أو
طلقها؛ لأنه ليس لها أن تتصرف بمالها وهي متزوجة.
فرض الله المهر على الرجل للمرأة فرضًا حتمًا وحرَّم عليه أن يأكل شيئًا منه
بعد الزواج بدون رضاها وطيب نفسها فقال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: ٤) والنحلة في اللغة العطاء الذي لا يقابله عوض، فقول الفقهاء: إن
المهر في معنى ثمن الاستمتاع، مخالف للغة، وردَّ عليهم شيخنا الأستاذ الإمام
(الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية رحمه الله) فقال: كلا، إن الصلة بين
الزوجين أعلى وأشرف من الصلة بين الرجل وفرسه أو جاريته ولذلك قال: (نحلة)
فالذي ينبغي أن يلاحظ أن هذا العطاء آية من آيات المحبة وصلة القربى وتوثيق
عرى المودة والرحمة، وأنه واجب حتم لا تخيير فيه كما يتخير المشتري
والمستأجر، وترى عرف الناس جاريًا على عدم الاكتفاء بهذا العطاء بل يشفعه
بالهدايا والتحف اهـ كلامه. ولكنه قال في موضع آخر: إن حكمة المهر للمرأة أن
تطيب نفسها برياسة الرجل عليها، وهو مع ذلك تكريم لها وسيأتي.
والخطاب يحتمل وجهًا آخر، وهو أن الخطاب للأولياء الذين يزوجون اليتامى
وغير اليتامى، فقد كان ولي المرأة في الجاهلية يزوجها ويأخذ صداقها لنفسه دونها،
فنهى الله الأولياء في الإسلام أن يفعلوا ذلك، قال تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن
شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} (النساء: ٤) أي: فإن طابت أنفسهن عن
شيء من المهر فأَعْطَينه من غير إكراه ولا إلجاء بسبب سوء العشرة، ولا إخجال
بالخلابة والخديعة، وقال ابن عباس رضي الله عنه: من غير ضرار ولا خديعة.
{فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} (النساء: ٤) أي سائغًا لا غصص فيه ولا تنغيص، فإذا
طلب منها شيئًا فحملها الخجل أو الخوف على إعطائه ما طلب فلا يحل له،
وعلامات الرضا وطيب النفس لا تخفى.
١٢- الزواج وحقوق النساء فيه
كان عند العرب في الجاهلية أنواع من الزواج الفاسد الذي كان يوجد عند كثير
من الشعوب، ولا يزال بعضه إلى اليوم في البلاد التي تغلب عليها الهمجية، فمنها
اشتراك الرهط من الرجال في الدخول على امرأة واحدة وإعطاؤها الحق في الولد
أن تلحقه بمن شاءت منهم.
ومنها نكاح الاستبضاع: وهي أن يأذن الرجل لزوجه أن تمكن من نفسها رجلاً
معينًا من الرؤساء والكبراء الممتازين بالشجاعة والكرم؛ ليكون لها منه ولد مثله.
وهذان النوعان لا يزالان موجودان بصفة مطلقة دائمة في بعض البلاد كالتبت
وغيرها، وكان عند العرب مؤقتًا ومقيدًا بما ذكرنا.
(ومنها) السفاح بالبغاء العلني، وكان عند العرب خاصًّا بالإماء دون
الحرائر (ومنها) اتخاذ الأخدان أي الصواحب العشيقات، وكان عرب الجاهلية
يستترون به ويعدون ما ظهر منه لؤمًا وخسة، وهذان النوعان عامّان شائعان في
بلاد الإفرنج كلها جهرًا، وقد سرى فساده منهم إلى بلاد الشرق التي غلب نفوذهم
عليها أو على حكامها كالهند وتونس والجزائر ومصر وسورية ولبنان والعراق
وقد قررت حكومة فرنسة أخيرًا جعل أولاد الأخدان كالأولاد الشرعيين في الميراث
وغيره بعموم الفساد فيه.
(ومنها) نكاح المتعة: وهو المؤقت وقد شاع في بلاد الإفرنج أخيرًا،
ويسمونه نكاح التجربة، وتبيحه الشيعة الإمامية من المسلمين (ومنها) نكاح البدل
والمبادلة وهو أن ينزل رجلان كل منهما عن امرأته للآخر، ونكاح الشغار وهو أن
يزوج كل من الرجلين الآخر بنته أو أخته أو غيرهن ممن تحت ولايتهما بدون
صداق، وهذان النوعان مبنيان على قاعدة حسبان المرأة ملكًا للرجل يتصرف فيها
كما يتصرف في بهائمه وأمواله، ولا يزالان يوجدان في بعض الشعوب الفاسدة أو
الهمجية كالغجر، والغبن في كل ذلك على النساء فهن اللائي يحملن أثقاله وأوزاره
الجسمية والأدبية والمالية.
وأما المرتقون من العرب كقريش فكان نكاحهم هو الذي عليه المسلمون وبعض
الشعوب الراقية من الخطبة والمهر والعقد، وهو الذي أقره الإسلام مع إبطال بعض
العادات الظالمة للنساء فيه من استبداد في تزويجهن كرهًا، أو عضلهن أي منعهن من
الزواج، أو أكل مهورهن، وكذا تعددهن بغير حد في العدد ولا قيد في المصلحة
ولا شرط في العدل ولا في الحقوق، أبطل الإسلام كل المظالم الخالصة وقيد منها
ما فيه وجهان بما يرجح المصلحة على المفسدة والعدل على الظلم.
١٣- ولاية النكاح وحرية المرأة
واختيارها فيه
جمع الإسلام بين جعل حق التزويج لولي المرأة وحق المرأة في قبول من
ترضاه من الأزواج ورد من لا ترضاه، فمنع الأولياء من الاستبداد في تزويج
مولياتهم من بنات وأخوات وغيرهن بغير رضاهن، وكان من ظلم الجاهلية لهن،
بل لا يزال الوالدان يكرهن بناتهم على الزواج بمن يكرهن من الرجال في جميع
الأمم على ما فيه من الشقاء والفساد، كذلك منع المرأة من التزوج بغير كفؤ يرضاه
أولياؤها وعصبتها، فيكون تزوجها به سببًا لوقوع العداوة والشقاق بينهم وبين
عشيرته بالتبع له، بدلاً من تجديد مودة وتعاون بمصاهرته، وليس للأولياء ولا
للوالد نفسه أن يمنع من زواجها بأي كفؤ ترضاه.
روى الجماعة كلهم [٣] عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(لا تنكح الأيم [٤] حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن قالوا: يا رسول الله،
وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت) ورووا (إلا البخاري) عن ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في
نفسها وإذنها صماتها) أي سكوتها يكتفى به فلا تكلف التصريح لحيائها، كما روي
عن عائشة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن استئذان البكر فقالت: (إن
البكر تستأذن فتستحي فتسكت) فقال: (سكاتها إذنها) متفق عليه، وروى
الجماعة إلا مسلمًا عن خنساء بنت خدام الأنصارية أن أباها زوَّجها وهي ثيب،
فكرهت ذلك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها أي أبطله، قال بعض
المحققين: لا يكون سكوت البنت إذنًا للأب بتزويجها إلا إذا كانت تعلم ذلك، فإن
كانت لا تعلم فينبغي إعلامها.
وروى أحمد والنسائي من حديث ابن بريدة وابن ماجه من حديث عبد الله بن
بريدة عن أبيه قال: (جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن
أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، قال: فجعل صلى الله عليه وسلم
الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي؛ ولكن أردت أن أعلم النساء أنه ليس
إلى الآباء من شيء) تعني أنه ليس لهم إكراههن على التزوج بمن لا يرضينه.
وروى الترمذي من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا
خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد
كبير) رواه من حديث أبي حاتم المزني بلفظ: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه
فأنكحوه) ... إلخ ورواه أبو داود في المراسيل.
١٤- أركان الزوجية الفطرية في الإسلام
أرشد الله البشر بكتابه القرآن الحكيم إلى أن للحياة الزوجية ثلاثة أركان (أو
أقانيم) يجب عليهم تحريها فيها، وهي ما أشرنا إليه في صدر هذه الرسالة
وصدرناها بآيتها من قوله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: ٢١) .
فالسكون النفسي الجنسي وهو الركن الأول من هذه الأركان خاص بالزوجين،
وهو تعبير بليغ عن شعور العشق واللذة والحب الذي يجده كل منهما باتصالهما،
والملابسة بإفضاء أحدهما إلى الآخر الذي به تتم إنسانيتهما فتكون منتجة أناسي
مثلهما، وبه يزول أعظم اضطراب فطري في القلب والعقل لا ترتاح النفس
وتطمئن في سريرتها بدونه.
وإنما تكون المحافظة على هذا الركن بما أرشد كتاب الله تعالى إليه من قصد
الإحصان في النكاح، وهو أن يقصد به كل من الزوجين إحصان الآخر، أي
إعفافه وحفظه من صرف داعية النسل الطبيعية إلى المسافحة أو اتخاذ الأخدان
لأجل اللذة فقط، وقصارى هذا الإحصان أن يقصر كل منهما هذا الاستمتاع على
الآخر ويقصد حكمته وسيلة النسل وحفظ النوع البشري على أسلم وجه وأفضله.
قال الله تعالى بعد بيان محرمات النكاح من سورة النساء: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (النساء: ٢٤) الآية، ثم قال بعدها في نكاح الإماء:
{فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ
وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (النساء: ٢٥) .
وقال في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ
حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (المائدة: ٥) .
والركن الثاني من أركان الزوجية المودة أي المحبة التي يظهر أثرها في
التعامل والتعاون وهو مشترك بين الزوجين وأسرة كل منهما. والركن الثالث الرحمة
التي لا تكمل للإنسان إلا بعواطف الأمومة والأبوة، ورحمتهما لأولادهما، فيكون لكل
البشر أو الأحياء حظ من هذه الرحمة الكاملة، إذا لم يكن فساد التربية والمعاشرة أو
تعاليم العداوات أو العصبيات بين البشر مفسدة لها، أو قاصرة لها على المشاركين في
القومية أو العقيدة أو الوطن، ومن تفكر في هذه الأركان الثلاثة حق التفكر علم أن
عليها مدار سعادة الزوجية التي هي جل سعادة الإنسانية، ولذلك قال تعالى بعد بيانها:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: ٢١) [٥] .
١٥- المساواة بين الزوجين
ودرجة الرجال عليهن
إن الإصلاح الأكبر الذي جاء به الإسلام، ونزل به القرآن في شأن النساء هو
الآية (٢٢٨) من سورة البقرة، فهذه الآية قد هدمت جميع ما كان من النظريات
والدعاوى والعادات والتقاليد التي يستبد بها الرجال الأقوياء ويستعلون على النساء
الضعيفات في أنفسهن وأموالهن وأولادهن، وقد فسَّرنا هذه الآية في الجزء الثاني من
تفسيرنا بما بيَّنا به هذه الدرجة وننشر هنا ملخصه وهذا نصه:
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: ٢٢٨) .
هذه كلمة جليلة جدًّا جمعت على إيجازها ما لا يؤدى بالتفصيل إلا في سِفر
كبير، فهي قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق إلا أمرًا
واحدًا عبر عنه بقوله:] وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [وهذه الدرجة مفسرة بقوله تعالى:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (النساء: ٣٤) الآية، وقد أحال في معرفة ما لهن
وما عليهن على المعروف بين الناس في معاشرتهن ومعاملاتهم في أهليهن، وما
يجري عليه عرف الناس هو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم، فهذه الجملة
تعطي الرجل ميزانًا يزن به معاملته لزوجه في جميع الشؤون والأحوال، فإذا همَّ
بمطالبتها بأمر من الأمور يتذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه، ولهذا قال ابن عباس
رضي الله عنهما: (إنني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي) لهذه الآية.
وليس المراد بالمثل المثل لأعيان الأشياء؛ وإنما أراد أن الحقوق بينهما متبادلة
وأنهم أكفاء، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وللرجل عمل يقابله لها إن لم يكن
مثله في شخصه، فهو مثله في جنسه، فهما متماثلان في الحقوق والأعمال، كما
أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل، أي أن كلاًّ منهما بشر تام له
عقل يتفكر في مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويسر به، ويكره ما لا يلائمه وما
ينفر منه، فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر، ويتخذه عبدًا يستذله
ويستخدمه في مصالحه، لا سيما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة المشتركة
التي لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه.
قال الأستاذ الإمام قدَّس الله روحه: هذه الدرجة التي رفع النساء إليها لم
يرفعهن إليها دين سابق، ولا شريعة من الشرائع، بل لم تصل إليها أمة من الأمم
قبل الإسلام ولا بعده، وهذه الأمم الأوربية التي كان من تقدمها في الحضارة
والمدنية أن بالغت في تكريم النساء واحترامهن، وعنيت بتربيتهن وتعليمهن العلوم
والفنون، لا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من حق التصرف في مالها بدون إذن
زوجها، وغير ذلك من الحقوق التي منحتها إياها الشريعة الإسلامية من نحو ثلاثة
عشر قرنًا ونصف.
وقد كان النساء في أوربا منذ خمسين سنة بمنزلة الأرقاء في كل شيء، كما
كن في عهد الجاهلية عند العرب أو أسوأ حالاً، ونحن لا نقول إن الدين المسيحي
أمرهم بذلك؛ لأننا نعتقد أن تعليم المسيح لم يخلص لهم كاملاً سالمًا من الإضافات
والبدع، ومن المعروف أن ما كانوا عليه من الدين لم يُرقِّ المرأة؛ وإنما كان
ارتقاؤها من أثر المدنية الجديدة في القرن الماضي.
وقد صار هؤلاء الإفرنج الذين قصرت مدنيتهم عن شريعتنا في إعلاء شأن
النساء يفخرون علينا، بل يرموننا بالهمجية في معاملة النساء، ويزعم الجاهلون
منهم بالإسلام أن ما نحن عليه هو أثر ديننا. ذكر الأستاذ الإمام في الدرس أن أحد
السائحين من الإفرنج زاره في الأزهر وبينا هما ماران في المسجد رأى الإفرنجي
بنتًا مارة فيه فبهت وقال ما هذا؟ أنثى تدخل الجامع، فقال له الإمام: وما وجه
الغرابة في ذلك؟ ، قال: إننا نعتقد أن الإسلام قرر أن النساء ليس لهن أرواح
وليس عليهن عبادة، فبيَّن له غلطه وفسَّر له الآيات فيهن، قال: فانظروا كيف
صرنا حجة على ديننا؟ وإلى جهل هؤلاء الناس بالإسلام حتى مثل هذا الرجل
الذي هو رئيس لجمعية كبيرة [٦] فما بالكم بعامتهم؟
إذا كان الله قد جعل للنساء على الرجال مثل ما لهم عليهن إلا ما ميزهم به من
الرياسة، فالواجب على الرجال بمقتضى كفالة الرياسة أن يعلموهن ما يمكنهن من
القيام بما يجب عليهن، ويجعل لهن في النفوس احترامًا يعين على القيام بحقوقهن
ويسهل طريقه؛ فإن الإنسان بحكم الطبع يحترم من يراه مؤدبًا عالمًا بما يجب عليه
عاملاً به، ولا يسهل عليه أن يمتهنه أو يهينه، وإذا بدرت منه بادرة في حقه رجع
على نفسه باللائمة، فكان ذلك زاجرًا له عن مثلها.
خاطب الله تعالى النساء بالإيمان والمعرفة والأعمال الصالحة في العبادات أو
المعاملات كما خاطب الرجال، وجعل لهن عليهم مثل ما جعله لهم عليهن، وقرن
أسماءهن بأسمائهم في آيات كثيرة، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنات كما
بايع المؤمنين، وأمرهن بتعلم الكتاب والحكمة كما أمرهم، وأجمعت الأمة على ما
مضى به الكتاب والسنة من أنهن مجزيات على أعمالهن في الدنيا والآخرة،
أفيجوز بعد هذا كله أن يحرمن من العلم بما عليهن من الواجبات والحقوق لربهن
وبعولتهن ولأولادهن ولذي القربى وللأمة والملة؟ .
العلم الإجمالي بما يطلب فعله شرط في توجه النفس إليه؛ إذ يستحيل أن تتوجه
إلى المجهول المطلق، والعلم التفصيلي به المبين لفائدة فعله ومضرة تركه يعد سببًا
للعناية بفعله والتوقي من إهماله، فكيف يمكن للنساء أن يؤدين تلك الواجبات
والحقوق مع الجهل بها إجمالاً وتفصيلاً؟ وكيف تسعد في الدنيا أو الآخرة أمة
نصفها كالبهائم لا يؤدي ما يجب عليه لربه ولا لنفسه ولا للناس؟ والنصف الآخر
قريب من ذلك؛ لأنه لا يؤدي إلا قليلاً مما يجب عليه من ذلك ويترك الباقي ومنه
إعانة ذلك النصف الضعيف على القيام بما يجب عليه أو إلزامه إياه بما له عليه من
السلطة والرياسة.
إن ما يجب أن تعلمه المرأة من عقائد دينها وآدابه وعباداته محدود؛ ولكن ما
يطلب منها لنظام بيتها وتربية أولادها ونحو ذلك من أمور الدنيا كأحكام المعاملات
- إن كانت في بيت غنى ونعمة - يختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، كما
تختلف بحسب ذلك الواجب على الرجال، ألا ترى الفقهاء يوجبون على الرجل
النفقة والسكنى والخدمة اللائقة بحال المرأة؟ ألا ترى أن فروض الكفايات قد
اتسعت دائرتها، فبعد أن كان اتخاذ السيوف والرماح والقسي كافيًا في الدفاع عن
الحوزة صار هذا الدفاع متوقفًا على المدافع والبنادق والبوارج، وعلى علوم كثيرة
صارت واجبة اليوم ولم تكن واجبة ولا موجودة بالأمس؟ ألم تر أن تمريض
المرضى ومداواة الجرحى كان يسيرًا على النساء في عصر النبي صلى الله عليه
وسلم وعصر الخلفاء رضي الله تعالى عنهم، وقد صار الآن متوقفًا على تعلم فنون
متعددة وتربية خاصة؟ أي الأمرين أفضل في نظر الإسلام: أتمريض المرأة
لزوجها إذا هو مرض، أم اتخاذ ممرضة أجنبية تطلع على عورته وتكتشف مخبآت
بيته؟ وهل يتيسر للمرأة أن تمرِّض زوجها أو ولدها إذا كانت جاهلة بقانون
الصحة وبأسماء الأدوية؟ نعم يتيسر لكثير قتل مرضاهن بزيادة مقادير الأدوية
السامة أو بجعل دواء مكان آخر.
(وقد ذكرنا في التفسير هنا كلامًا للمحدثين والفقهاء في حقوق كل من
الزوجين على الآخر كقول الأكثرين: إن المرأة لا يجب عليها للرجل غير الطاعة
في نفسها وحفظ نفسها وماله دون خدمة الدار، ورده بأمر النبي صلى الله عليه
وسلم بنته فاطمة بخدمة البيت وبأمر علي بما كان في خارجه، وجزم بعض
المحققين من الحنابلة أن ذلك يرجع إلى عرف الناس، ثم قلنا: وما قضى به النبي
صلى الله عليه وسلم بين بنته وربيبه وصهره عليهما السلام هو ما تقضي به فطرة
الله تعالى وهو توزيع الأعمال بين الزوجين: على المرأة تدبير المنزل والقيام
بالأعمال فيه، وعلى الرجل السعي والكسب خارجه، وهذا هو المماثلة بين الزوجين
في الجملة، وهو لا ينافي استعانة كل منهما بالخدم والأجراء عند الحاجة إلى ذلك مع
القدرة عليه، ولا مساعدة كل منهما للآخر في عمله إذا كانت هناك ضرورة؛ وإنما
ذلك هو الأصل والتقسيم الفطري الذي تقوم به مصلحة الناس وهم لا يستغنون في ذلك
ولا في غيره عن التعاون {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦)
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (المائدة:
٢) .
وإذا أردت أن تعرف مسافة البعد بين ما يعمل أكثر المسلمين وما يعتقدون من
شريعتهم فانظر في معاملتهم لنسائهم تجدهم يظلمونهن بقدر الاستطاعة، لا يصد
أحدهم عن ظلم امرأته إلا العجز، ويحملونهن ما لا يحملنه إلا بالتكلف والجهد،
ويكثرون الشكوى من تقصيرهن، ولئن سألتهم عن اعتقادهم فيما يجب لهم عليهن
ليقولن كما يقول أكثر فقهائهم: إنه لا يجب عليهن خدمة ولا طبخ ولا غسل ولا كنس
ولا فرش، ولا إرضاع طفل، ولا تربية ولد، ولا إشراف على الخدم الذين
نستأجرهم لذلك، إن يجب عليهن إلا المكث في البيت والتمكين من الاستمتاع،
وهذان الأمران عدميان، أي عدم الخروج من المنزل بغير إذن وعدم المعارضة
بالاستمتاع، فالمعنى أنه لا يجب عليهن للرجال عمل قط، بل ولا للأولاد مع
وجود آبائهم.
وأما قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: ٢٢٨) فهو يوجب
على المرأة شيئًا وعلى الرجال أشياء، ذلك أن هذه الدرجة هي درجة الرياسة
والقيام على المصالح المفسَّرة بقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ
اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: ٣٤) فالحياة الزوجية
حياة اجتماعية ولا بد لكل اجتماع من رئيس؛ لأن المجتمعين لا بد أن تختلف
آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس
يُرجع إلى رأيه في الخلاف، لئلا يعمل كل على ضد الآخر فتنفصم عروة الوحدة
الجامعة ويختل النظام، والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على
التنفيذ بقوته وماله، ومن ثم كان هو المطالب شرعًا بحماية المرأة والنفقة عليها
وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف ... إلخ.
١٦- مقتضى الفطرة في أعمال الزوجين
هذا وإن ما تقرر في السُّنة من اقتسام أعمال الزوجين بين الرجل والمرأة هو
مقتضى الفطرة - والإسلام دين الفطرة - فقد فضَّل الله الرجل في خلقته بقوة في
الجسم والعقل كان بها أقدر على الكسب والحماية والدفاع الخاص بالأسرة، والعام
للأمة والدولة، ومن ثم فرض عليه النفقة، وبها كان الرجال قوامين على النساء
يتولون الرياسة العامة والخاصة التي لا يقوم النظام العام ولا الخاص بدونها، فعليه
جميع الأعمال الخارجية في أصل الفطرة، وهذا ما عليه جميع أمم الحضارة.
ومن مقتضى الفطرة اختصاص المرأة بالحمل والرضاع وحضانة الأطفال
وتربيتهم وتدبير المنزل بجميع شؤونه، ولها الرياسة في جميع الأعمال الداخلية
المحضة فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن
رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته والرجل راعٍ في أهله وهو مسئول عن
رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها) الحديث، وهو
متفق عليه.
ولا ينازع في تفضيل الله الرجل على المرأة في نظام الفطرة إلا جاهل أو
مكابر، فهو أكبر دماغًا وأوسع عقلاً، وأقوى عضلاً، وأعظم استعدادًا للعلوم وأقدر
على مختلف الأعمال، بل هو يؤدي وظيفته من حكمة الزوجية وهي النسل كإفراغ
مادته بإرادته واختياره في عامة أحواله، والمرأة ليس لها قدرة على مثل هذا؛
وإنما تنشأ فيها بويضات النسل في أوقات مخصوصة لا إرادة لها فيها، والحيوان
المنوي الذي يلقح هذه البويضات هو الذي يسعى إليها في مكانها من مدخل الرحم
إلى مستقره فيلقحها، وليست هي التي تسعى إليه، بل هي لا تشاركه أيضًا في هذا
المسعى؛ وإنما تنتظره انتظارًا، فمنه الحصول والفعل، وعليها القبول والانفعال،
ويجد في البيضة التي يلقحها الغذاء الذي يكون به النمو؛ وإنما الحركة والنمو من
خاصيته لا منها، إلى أن تتكون النطفة المتحدة بالتنقل في الأطوار فتكون جنينًا
لإنسان كامل، فكذلك يسعى الرجل ويكدح وينقل ما يكسبه إلى المرأة في الدار
فتتصرف فيه بما تقتضيه حاجة الأسرة من غذاء وغيره.
ومن استقرأ طباع النساء السليمات الفطرة من جناية سوء التربية وفساد النظام
يرى أن الثابت في غرائزهن أن خير الأزواج وأولاهم بالاختيار من كان قادرًا على
الكسب وحماية النسل وصيانته، وما تتوقف عليه تربيته إلى أن يبلغ أشده، وقد
ألقت غير واحدة من الصحف الإفرنجية ولا سيما الإنكليزية أسئلة على النساء فيمن
يفضلن من الأزواج وصفات الرجال، فجاءت أكثر أجوبتهن على ما ذكرنا.
على أن هذا النظام الفطري الشرعي في الزوجية لا يمنع غير المتزوجات
والأمهات من المسلمات أن يشتغلن بالتوسع في بعض العلوم والأعمال العامة بقدر
استعدادهن ورغبتهن؛ وإنما الفضل والأنفع لهن ولأمتهن وللإنسانية كلها أن يتقنَّ
العلوم والأعمال الخاصة بالزوجية والأمومة، وقد صارت في هذا العصر كبيرة
وكثيرة.
١٧- رياسة الرجل في الأسرة
شورية لا استبدادية
وردت النصوص الكثيرة في كتاب الله وسنة رسوله محمد خاتم النبيين في
جعل إدارة المنزل والأسرة مقيدة بأوامر الشريعة ونواهيها، وبالعرف المرعي بين
الناس في المعاشرة بالمعروف وحفظ الكرامة في حالتي الحب والكره والرضا
والسخط، قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن
تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: ١٩) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك [٧] مؤمن مؤمنة: إن كره منها
خلقًا رضي آخر) رواه مسلم من حديث جابر، والفرك ضد العشق بين الزوجين،
فالحديث بمعنى الآية، والنهي فيه مبني على أن الأصل في الزوجين التحاب التام،
فإن حرما منه فليتجنبا أسباب الكره والبغض، وخص النبي صلى الله عليه وسلم
الرجل بالنهي عن الفرك لزيادة العناية بشأن المرأة - وهو يتضمن نهيها عن فركه
بالأولى - لأن العرب كانت تسند الفرك إلى النساء في الأكثر، والفارك منهن ضد
العَروب - بفتح العين - المتحببة إلى زوجها.
والقاعدة الشرعية في نظام المنزل التزام كل من الزوجين العمل بإرشاد الشرع
في كل ما هو منصوص عليه، والتشاور والتراضي في غير المنصوص عليه
ومنع الضرر والضرار بينهما وعدم تكليف أحدهما الآخر ما ليس في وسعه،
والأصل في قاعدة هذه الأحكام كلها قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نُفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى
الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ} (البقرة:
٢٣٣) الآية، وهي في الوالدات المُطلَّقات، فالثابتات الزوجية أولى منهن
بالتراضي والتشاور مع الوالد فيما فيه المصلحة لولدهما، وهو يدخل في وصفه
تعالى للمؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} (الشورى: ٣٨) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإن المرأة خلقت من
ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم
يزل أعوج) [٨] ومعناه أن في طبع المرأة عوجًا في صلابة خلقية لحكمة في ذلك،
فهي كالضلع في عوجه وتقوسه لحكمة، فيجب على الرجل أن لا يحاول تقويم هذا
العوج بالقوة، وأن يستوصي بها خيرًا على ما هي عليه مما هو طبع لها؛ وإنما
يكون التأديب على العوج والميل عن الصواب والمصلحة في الأمور العادية التي
يمكن تركها بدون مقاومة للطبع.
وقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) [٩]
وقال: (خيركم خيركم للنساء) [١٠] وقال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم
لأهلي، ما أكرم النساء إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم) [١١] وقال صلى الله عليه
وسلم لعمر حين سأله عن آية الوعيد على كنز الذهب والفضلة: (ألا أخبرك بخير
ما يكنز؟ المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب
عنها حفظته) [١٢] .
وإننا نزيد موضوع تفضيل الرجال على النساء والمساواة شرحًا لما قد تجدد
في هذا العصر من البحث فيه ومن طلب المساواة التامة بين الجنسين التي جرَّأ
نساء أوربة على المطالبة بها وإلحاحهن في الطلب بعد الحرب العالمية الكبرى أنهن
تولين فيها أكثر أعمال الرجال في الكسب والإنفاق ووُجد منهن ألوف الألوف أرامل
وعوانس لا كافل لهن من الرجال، فنشرحه بما يعلم به القارئ أن نساء العرب
استشرفن إلى مثله في صدر الإسلام بما نفخه من روح الحياة فيهن، وأن الوحي
عالجه علاجًا لا يمكن أن يعالج في بلاد الإفرنج إلا به، فنقول:
١٨- وظائف الرجال والنساء وأعمالهما
قال الله تعالى في سورة النساء: {وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى
بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (النساء: ٣٢) .
ذكرنا في الجزء الخامس من تفسير المنار أنه ورد في سبب نزول هذه الآية
وموضوعها ثلاث روايات (الأولى) عن مجاهد أن أم سلمة زوج النبي صلى الله
عليه وسلم قالت: (يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف
الميراث) (الثانية) عن عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن: وددنا أن الله جعل
لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال (الثالثة) عن قتادة والسدي قالا:
لما نزل قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: ١١) قال الرجال:
إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا كما فضلنا عليهن في الميراث، فيكون
أجرنا على الضعف من أجر النساء، وقالت النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر
علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم
في الدنيا. كل هذا قد قيل ونزلت الآية فاصلة فيه وفي غيره مما في معناه، ونقلنا
عن أستاذنا الإمام في تفسيرها ما نصه:
سبب تلك الروايات الحيرة في فهم الآية، ومعناها ظاهر، وهو أن الله تعالى
كلف كلاًّ من الرجال والنساء أعمالاً، فما كان خاصًّا بالرجال لهم نصيب من أجره
لا يشاركهم فيه النساء، وما كان خاصًّا بالنساء لهن نصيب من أجره لا يشاركهن
فيه الرجال، وليس لأحد أن يتمنى ما هو مختص بالآخر، وجعل الخطاب عامًّا
للفريقين مع أن الرجال لم يتمنوا أن يكونوا نساء، ولا أن يعملوا عمل النساء وهو
الولادة وتربية الأولاد وغير ذلك مما هو معروف؛ وإنما كان النساء هن اللواتي
تمنين عمل الرجال، وأي عمل الرجال تمنين؟ تمنين أخص أعمال الرجولة وهو
حماية الذمار والدفاع عن الحق بالقوة، ففي هذا التعبيرعناية بالنساء وتلطف بهن
وهن موضع للرأفة والرحمة لضعفهن وإخلاصهن فيما تمنين، والحكمة في ذلك أن
لا يظهر ذلك التمني الناشئ عن الحياة الملية الشريفة منهن، فإن تمني مثل هذا
العمل غريب من النساء جدًّا، وسببه أن الأمة في عنفوان حياتها يكون النساء
والأطفال فيها مشتركين مع الرجال في هذه الحياة وفي آثارها، وإنها لتسري فيها
سريانًا عجيبًا، ومن عرف تاريخ الإسلام ونهضة العرب به وسيرة النبي صلى الله
عليه وسلم والمؤمنين به في زمنه يرى أن النساء كن يسرن مع الرجال في كل
منقبة وكل عمل، فقد كن يأتين ويبايعن النبي صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة
المذكورة في سورة الممتحنة، كما كان يبايعه الرجال، وكن ينفرن معهم إذا نفروا
للقتال، يخدمن الجرحى ويأتين غير ذلك من الأعمال، فأراد الله أن يختص النساء
بأعمال البيوت والرجال بالأعمال الشاقة التي في خارجها ليتقن كل منهما عمله،
ويقوم به كما يجب مع الإخلاص له، وتنكير لفظ (نصيب) لإفادة أن ليس كل ما
يعمله العامل يؤجر عليه؛ وإنما الأجر على ما عمل بالإخلاص، أي: ففي الكلام
حث ضمني عليه {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} (النساء: ٣٢) أي ليسأله كل
منكم الإعانة والقوة على ما نيط به حيث لا يجوز له أن يتمنى ما نيط بالآخر،
ويدخل في هذا النهي تمني كل ما هو من الأمور الخلقية كالجمال والعقل، إذ لا
فائدة في تمنيها لمن لم يعطها، ولا يدخل فيه ما يقع تحت قدرة الإنسان من الأمور
الكسبية، إذ يحمد من الناس أن ينظر بعضهم إلى ما نال الآخر ويتمنى لنفسه مثله
وخيرًا منه بالسعي والجد، كأنه يقول وجهوا أنظاركم إلى ما يقع تحت كسبكم ولا
توجهوها إلى ما ليس في استطاعتكم؛ فإنما الفضل بالأعمال الكسبية فلا تتمنوا شيئًا
بغير كسبكم وعملكم. اهـ المراد نقله.
١٩- درجة الرجال على النساء الرياسة
(وكونهن معهم قسمين: صالحات وناشزات)
بعد هذا النهي لكل من الرجال والنساء عن تمني ما اختص به الآخر بمقتضى
الفطرة التي أكملها الله بدين الفطرة بين لنا عز وجل سبب التفضيل بقوله:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ
فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِياًّ كَبِيراً} (النساء: ٣٤) .
وقد كتبت في تفسيرها من الجزء الخامس ما نصه:
أي أن من شأنهم المعروف المعهود القيام على النساء بالحماية والرعاية
والولاية والكفاية، ومن لوازم ذلك أن يفرض عليهم الجهاد دونهن فإنه يتضمن
الحماية لهن، وأن يكون حظهم من الميراث أكثر من حظهن؛ لأن عليهم من النفقة
ما ليس عليهن، وسبب ذلك أن الله تعالى فضَّل الرجال على النساء في أصل الخلقة،
وأعطاهم ما لم يعطهن من الحول والقوة، فكان التفاوت في التكاليف والأحكام،
أثر التفاوت في الفطرة والاستعداد، وثم سبب آخر كسبي يدعم السبب الفطري،
وهو ما ينفق الرجال على النساء من أموالهم؛ فإن المهور تعويضًا للنساء ومكافأة
على دخولهن بعقد الزوجية تحت رياسة الرجال، فالشريعة كرَّمت المرأة إذ فرضت
لها مكافأة عن أمر تقتضيه الفطرة ونظام المعيشة وهو أن يكون زوجها قيمًا عليها
فجعل هذا الأمر من قبيل الأمور العرفية التي يتواضع عليها الناس بالعقود لأجل
المصلحة، كأن المرأة تنازلت باختيارها عن المساواة التامة، وسمحت بأن يكون
للرجل عليها درجة واحدة هي درجة القيامة والرياسة ورضيت بعوض مالي عنها،
فقد قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: ٢٢٨) فالآية أوجبت لهم هذه الدرجة التي تقتضيها الفطرة، لذلك كان من
تكريم المرأة إعطاؤها عوضًا ومكافأة في مقابلة هذه الدرجة، وجعلها بذلك من قبيل
الأمور العرفية لتكون طيبة النفس مثلجة الصدر قريرة العين، ولا يقال إن الفطرة
لا تجبر المرأة على قبول عقد يجعلها مرءوسة للرجل بغير عوض، فإنا نرى
النساء في بعض الأمم يعطين الرجال المهور ليكن تحت رياستهم، فهل هذا إلا
بدافع الفطرة الذي لا يستطيع عصيانه إلا بعض الأفراد؟
الأستاذ الإمام: المراد بالقيام هنا هو الرياسة التي يتصرف فيها المرءوس
بإرادته واختياره، وليس معناها أن يكون المرءوس مقهورًا مسلوب الإرادة لا يعمل
عملاً إلا ما يوجهه إليه رئيسه؛ فإن كون الشخص قيمًا على آخر هو عبارة عن
إرشاده والمراقبة عليه في تنفيذ ما يرشده إليه أي ملاحظته في أعماله وتربيته،
ومنها حفظ المنزل وعدم مفارقته ولو لنحو زيارة أولي القربى إلا في الأوقات
والأحوال التي يأذن بها الرجل ويرضى.
(قال) والمراد بتفضيل بعضهم على بعض تفضيل الرجال على النساء ولو
قال (بما فضلهم عليهن) أو قال (بتفضيلهم عليهن) لكان أخصر وأظهر فيما قلنا
أنه المراد؛ وإنما الحكمة في هذا التعبير هي عين الحكمة في قوله: {وَلاَ تَتَمَنَّوْا
مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (النساء: ٣٢) وهي إفادة أن المرأة من
الرجل والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من بدن الشخص الواحد: فالرجل
بمنزلة الرأس والمرأة بمنزلة البدن.
(أقول) يعني أنه لا ينبغي للرجل أن يبغي بفضل قوته على المرأة ولا
للمرأة أن تستثقل فضله وتعده خافضًا لقدرها؛ فإنه لا عار على الشخص إن كان
رأسه أفضل من يده وقلبه أشرف من معدته مثلاً، فإن تفضيل بعض أعضاء البدن
على بعض بجعل بعضها رئيسيًّا دون بعض؛ إنما هو لمصلحة البدن كله لا ضرر
في ذلك على عضو ما؛ وإنما تتحقق وتثبت منفعة جميع الأعضاء بذلك، كذلك
مضت الحكمة في فضل الرجل على المرأة في القوة والقدرة على الكسب والحماية،
ذلك هو الذي يتيسر لها به القيام بوظيفتها الفطرية وهي الحمل والولادة وتربية
الأطفال وهي آمنة في سربها، مكفية ما يهمها من أمر رزقها، وفي التعبير حكمة
أخرى وهي الإشارة إلى أن هذا التفضل إنما هو للجنس على الجنس لا لجميع أفراد
الرجال على جميع أفراد النساء، فكم من امرأة تفضل زوجها في العلم والعمل به
وفي قوة البنية والقدرة على الكسب؟ ... إلخ.
٢٠- صفة الزوجات الصالحات
ثم قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (النساء:
٣٤) هذا تفصيل لحال النساء في هذه الحياة المنزلية التي تكون المرأة فيها تحت
رياسة الرجل، ذكر أنهن فيها قسمان: صالحات وغير صالحات، وإن من صفة
الصالحات القنوت، وهو السكون والطاعة لله تعالى وكذا لأزواجهن بالمعروف،
وحفظ الغيب.
قال الثوري وقتادة: حافظات للغيب يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه
في النفس والمال، وروى ابن جرير والبيهقي من حديث أبي هريرة أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها
أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها) وقرأ صلى الله عليه وسلم الآية.
وقال الأستاذ الإمام: الغيب هنا هو ما يستحيا من إظهاره أي حافظات لكل ما
هو خاص بأمور الزوجية الخاصة بالزوجين فلا يطلع أحد منهن أحدًا على شيء مما
هو خاص بالزوج.
أقول: ويدخل في قوله هذا وجوب كتمان كل ما يكون بينهن وبين أزواجهن في
الخلوة، ولا سيما حديث الرفث، فما بالك بحفظ العرض؟ وعندي أن هذه العبارة
أبلغ ما في القرآن من دقائق كنايات النزاهة، تقرأها خرائد العذارى جهرًا، ويفهمن
ما تومئ إليه مما يكون سرًّا، وهن على بعد من خطرات الخجل أن تمس وجدانهن
الرقيق بأطراف أناملها، فلقلوبهن الأمان من تلك الخلجات التي تدفع الدم إلى
الوجنات، ناهيك بوصل حفظ الغيب (بما حفظ الله) فالانتقال السريع من ذكر ذلك
الغيب الخفي، إلى ذكر الله الجلي، يصرف النفس عن التمادي في التفكر فيما
يكون وراء الأستار، من تلك الخفايا والأسرار، وتشغلها بمراقبته عز وجل.
وفسروا قوله تعالى: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (النساء: ٣٤) بما حفظه لهن في
مهورهن وإيجاب النفقة لهن، يريدون أنهن يحفظن حق الرجال في غيبتهم جزاء
على المهر ووجوب النفقة المحفوظين لهن في حكم الله تعالى، وما أراك إلا ذاهبًا
معي إلى وهن هذا القول وهزاله، وتكريم أولئك الصالحات بشهادة الله تعالى أن
يكون حفظهن لذلك الغيب من يد تلمس، أو عين تبصر، أو أذن تسترق السمع،
معللاً بدراهم قبضن، ولقيمات يرتقبن، ولعلك بعد أن تمج هذا القول يقبل ذوقك ما
قبله ذوقي وهو أن الباء في قوله: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (النساء: ٣٤) هو صنو باء:
(لا حول ولا قوة إلا بالله) وأن المعنى حافظات للغيب بحفظ الله، أي بالحفظ
الذي يؤتيهن الله إياهن بصلاحهن؛ فإن الصالحة يكون لها من مراقبة الله تعالى
وتقواه ما يجعلها محفوظة من الخيانة، قوية على حفظ الأمانة أو حافظات له بسبب
أمر الله بحفظه، فهن يطعنه ويعصين الهوى، فعسى أن يصل معنى هذه الآية إلى
نساء عصرنا اللواتي يتفكهن بإفشاء أسرار الزوجية، ولا يحفظن الغيب فيها [١٣] .
٢١- حكم الزوجات الناشزات
الأستاذ الإمام: إن هذا القسم من النساء ليس للرجال عليهن شيء من سلطان
التأديب؛ وإنما سلطانهم على القسم الثاني الذي بينه وبين حكمه بقوله عز وجل:
{وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (النساء: ٣٤) النشوز في الأصل بمعنى الارتفاع، فالمرأة التي تخرج عن حقوق
الرجل قد ترفعت عليه وحاولت أن تكون فوق رئيسها، بل ترفعت أيضًا عن
طبيعتها وما يقتضيه نظام الفطرة في التعامل، فتكون كالناشز من الأرض الذي
خرج عن الاستواء، وقد فسَّر بعضهم خوف النشوز بتوقعه فقط وبعضهم بالعلم به؛
ولكن يقال: لِمَ ترك لفظ العلم واستبدل به لفظ الخوف؟ أو: لمَ لمْ يقل (واللاتي
ينشزن؟) لا جرم أن في تعبير القرآن حكمة لطيفة، وهي أن الله تعالى لما كان يحب
أن تكون المعيشة بين الزوجين معيشة محبة ومودة وتراضٍ والتئام لم يشأ أن يسند
النشوز إلى النساء إسنادًا يدل على أن من شأنه أن يقع منهن فعلاً، بل عبر عن ذلك
بعبارة تومئ إلى أن من شأنه أن لا يقع؛ لأنه خروج عن الأصل الذي يقوم به نظام
الفطرة وتطيب به المعيشة، ففي هذا التعبير تنبيه لطيف إلى مكانة المرأة وما هو
الأولى في شأنها، وإلى ما يجب على الرجل من السياسة لها وحسن التلطف في
معاملتها، حتى إذا آنس منها ما يخشى أن يأول إلى الترفع وعدم القيام بحقوق
الزوجية فعليه أولاً أن يبدأ بالوعظ الذي يرى أنه يؤثر في نفسها.
والوعظ يختلف باختلاف حال المرأة، فمنهن من يؤثر في نفسها التخويف من
الله عز وجل وعقابه على النشوز، ومنهن من يؤثر في نفسها التهديد والتحذير من
سوء العاقبة في الدنيا كشماتة الأعداء، والمنع من بعض الرغائب كالثياب الحسنة
والحلي، والرجل العاقل لا يخفى عليه الوعظ الذي يؤثر في قلب امرأته.
وأما الهجر فهو ضرب من ضروب التأديب لمن تحب زوجها ويشق عليها
هجره إياها، ولا يتحقق هذا بهجر المضجع نفسه وهو الفراش، ولا بهجر الحجرة
التي يكون فيها الاضطجاع؛ وإنما يتحقق بهجر في الفراش نفسه، وتعمد هجر
الفراش أو الحجرة زيادة في العقوبة لم يأذن بها الله تعالى، وربما يكون سببًا لزيادة
الجفوة، وفي الهجر في المضجع نفسه معنى لا يتحقق بهجر المضجع أو البيت
الذي هو فيه؛ لأن الاجتماع في المضجع هو الذي يهيج شعور الزوجية، فتسكن
نفس كل من الزوجين إلى الآخر ويزول اضطرابهما الذي أثارته الحوادث قبل ذلك،
فإذا هجر الرجل المرأة، وأعرض عنها في هذه الحالة رُجي أن يدعوها ذلك
الشعور والسكون النفسي إلى سؤاله عن السبب ويهبط بها من نشز المخالفة، إلى
صفصف [١٤] الموافقة، وكأني بالقارئ وقد جزم بأن هذا هو المراد، وإن كان
مثلي لم يره لأحد من الأموات ولا الأحياء.
وأما الضرب فاشتُرط فيه أن يكون غير مبرح، وروى ذلك ابن جرير
مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والتبريح: الإيذاء الشديد، وروي عن ابن
عباس رضي الله عنه تفسيره بالضرب بالسواك ونحوه، أي كالضرب باليد أو
بقصبة صغيرة.
وقد وردت أحاديث كثيرة في تقبيح الضرب والتنفير عنه، منها حديث عبد الله
ابن زمعة في الصحيحين وغيرهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجلد
أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم) وفي رواية عن عائشة عند
عبد الرزاق: (أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يُضرب العبد، يضربها
أول النهار ثم يجامعها آخره) يذكِّر الرجل بأنه إذا كان يعلم من نفسه أنه لا بد له
من ذلك الاجتماع والاتصال الخاص بامرأته وهو أقوى وأحكم اجتماع يكون بين
اثنين من البشر يتحد أحدهما بالآخر اتحادًا تامًّا، فيشعر كل منهما بأن صلته بالآخر
أقوى من صلة بعض أعضائه ببعض، إذا كان لا بد له من هذه الصلة والوحدة
التي تقتضيها الفطرة، فكيف يليق به أن يجعل امرأته وهي كنفسه، مهينة كمهانة
عبده، بحيث يضربها بسوطه أو يده، حقًّا إن الرجل الحيي الكريم ليتجافى به
طبعه عن مثل هذا الجفاء، ويأبى عليه أن يطلب منتهى الاتحاد بمن أنزلها منزلة
الإماء، فالحديث أبلغ ما يمكن أن يقال في تشنيع ضرب النساء.
وأذكر أنني هديت إلى معناه العالي قبل أن أطلع على لفظه الشريف، فكنت
كلما سمعت أن رجلاً ضرب امرأته أقول: يالله العجب، كيف يستطيع الإنسان أن
يعيش عيشة الأزواج مع امرأة تُضرب؟ تارة يسطو عليها بالضرب فتكون منه
كالشاة من الذئب، وتارة يذل لها كالعبد، طالبًا منتهى القرب! ولكن لا ننكر أن
الناس متفاوتون فمنهم من لا تطيب له هذه الحياة، فإذا لم تُقدِّر امرأته بسوء تربيتها
تكريمه إياها حق قدره، ولم ترجع عن نشوزها بالوعظ والهجران، فارقها بمعروف
وسرحها بإحسان، إلا أن يرجو صلاحها بالتحكيم الذي أرشدت إليه الآية، ولا
يضرب فإن الأخيار لا يضربون النساء، وإن أبيح لهم ذلك للضرورة فقد روى
البيهقي من حديث أم كلثوم بنت الصديق رضي الله عنها قالت: كان الرجال نهوا عن
ضرب النساء، ثم شكوهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهن تمردن عليهم
حتى قال عمر: يا رسول الله قد ذئر النساء على أزواجهن - أي:تمردن وعتين في
النشوز والجرأة - فخلى بينهم وبين ضربهن، ثم قال: (ولن يضرب خياركم) فما
أشبه هذه الرخصة بالحظر. وجملة القول: إن الضرب علاج مر، قد يستغني عنه
الخيِّر الحر؛ ولكنه لا يزول من البيوت بكل حال، أو يعم التهذيب النساء والرجال.
قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} (النساء: ٣٤) قال
الأستاذ الإمام: أي إن أطعنكم بواحدة من هذه الخصال التأديبية فلا تبغوا بتجاوزها
إلى غيرها طريقًا، فابدأوا بما بدأ الله به من الوعظ، فإن لم يفد فليهجر، فإن لم
يفد فليضرب، فإذا لم يفد هذا أيضًا يلجأ إلى التحكيم، ويفهم من هذا أن الصالحات
القانتات لا سبيل عليهن حتى في الوعظ والنصح، فضلاً عن الهجر والضرب
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِياًّ كَبِيراً} (النساء: ٣٤) فإن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على
نسائكم، فإذا بغيتم عليهن عاقبكم، وإذا تجاوزتم عن هفواتهن كرمًا وشممًا تجاوز
عنكم، قال الأستاذ: أتي بهذا بعد النهي عن البغي لأن الرجل إنما يبغي على المرأة
مما يحسه في نفسه من الاستعلاء عليها وكونه أكبر منها وأقدر، فذكره تعالى بعلوه
وكبريائه وقدرته عليه ليتعظ ويخشع ويتقي الله فيها، واعلموا أن الرجال الذين
يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادة في بيوتهم؛ إنما يلدون عبيدًا لغيرهم اهـ،
يعني أن أولادهم يتربون على ذل الظلم فيكونون كالعبيد الأذلاء لمن يحتاجون إلى
المعيشة معهم.
٢٢- التحكيم بين الزوجين
قال تعالى بعدما ذكر: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً
مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: ٣٥) الخلاف بين
الزوجين قد يكون بنشوز المرأة وقد يكون بظلم من الرجل، فالنشوز يعالجه الرجل
بأقرب التأديبات الثلاثة المبينة في الآية التي قبل هذه الآية، فإذا تمادى هو في
ظلمه أو عجز عن إنزالها عن نشوزها، وخيف أن يحول الشقاق بينهما دون
إقامتهما لحدود الله تعالى في الزوجية بإقامة أركانها الثلاثة: السكون والمودة
والرحمة، وجب على المؤمنين المتكافلين في مصالحهم ومنافعهم أن يبعثوا حكمًا
من أهله وحكمًا من أهلها، عارفين بأحواله وأحوالها، ويجب على هذين الحكمين
أن يوجها إرادتهما إلى إصلاح ذات البين، ومتى صدقت الإرادة كان التوفيق
الإلهي رفيقها إن شاء الله تعالى، ويجب الخضوع لحكم الحكمين والعمل به،
فخوف الشقاق: توُّقعه بظهور أسبابه، والشقاق هو الخلاف الذي يكون به كل من
المختلفين في شق أي في جانب، والحَكَم (بالتحريك) من له حق الحكم والفصل
بين الخصمين، والمراد ببعثهما إرسالهما إلى الزوجين لينظرا في شكوى كل منهما،
ويتعرفا ما يرجى أن يصلح بينهما، ويسترضوهما بالتحكيم، وإعطاؤهما حق
الجمع والتفريق. اهـ المراد هنا من تفسيرنا للآية.
٢٣- نشوز الرجل وإعراضه
وعلاجه بالصلح أيضًا
قال الله تعالى في نشوز الرجل: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ
إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ
الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: ١٢٨) أرشد
الله الزوجين إلى الصلح عند خوف المرأة نشوز زوجها وإعراضه التام عنها،
وذكرهما بما يحول دون الوفاق من طباع النفس، وهو بُخل كل منهما بأداء ما عليه
من الواجب وحرصه على استيفاء كل ما له من الحق، بل يقصر كل فيما عليه،
ويطالب الآخر بأكثر مما عليه، ولا سيما المرأة؛ فإن الشح جامع لمعنيي البخل
والحرص، فإحضار الأنفس الشح عبارة عن كونها حاضرة له بطبعها لا تكاد
تفارقه إلا بمعالجة وعزيمة قوية، ثم وصف لهما هذا العلاج بما يرغبهما فيه وهو
الإحسان في المعاملة الذي قد يكون فوق أداء الواجب، واتقاء الله في منع الحقوق
أو المطالبة بأكثر منها طاعة لشح النفس، وهاك خلاصة معنى الآية من تفسير
المنار (ص ٤٤٥ ج ٥) .
أي وإن خافت امرأة] مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً [وترفعًا عليها] أَوْ إِعْرَاضاً [عنها،
بأن ثبت لها ذلك وتحقق ولم يكن وهمًا مجردًا، أو وسواسًا عارضًا، وذلك أن
المرأة إذا رأت زوجها مشغولاً بأكبر العظائم المالية أو السياسية، أو حل أعوص
المسائل العلمية، أو بغير ذلك من المشاكل الدنيوية أو المهمات الدينية، لا تعد ذلك
عذرًا يبيح له الإعراض عن مسامرتها أو منادمتها، أو الرغبة عن مناغاتها
ومباعلتها، والواجب عليها أن تتبين وتتثبت فيما تراه من أمارات النشوز والإعراض
فإذا ظهر لها أن ذلك لسبب خارجي لا لكراهتها والرغبة عن معاشرتها بالمعروف،
فعليها أن تعذر الرجل وتصبر على ما لا تحب من ذلك، وإن ظهر لها أن ذلك
لكراهته إياها ورغبته عنها] فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً [أي: فلا
جناح عليها ولا عليه في الصلح الذي يتفقان عليه بينهما كأن تسمح له ببعض حقها
عليه في النفقة أو المبيت معها أو بحقها كله فيهما أو في أحدهما لتبقى في عصمته
مكرمة [١٥] ، أو تسمح له ببعض المهر ومتعة الطلاق أو بكل ذلك ليطلقها، فهو كقوله
تعالى في سورة البقرة {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة: ٢٢٩) وإنما
يحل للرجل ما تعطيه من حقها إذا كان برضاها لاعتقادها أنه خير لها، من غير أن
يكون ملجئًا إياها إليه بما لا يحل له من ظلمها أو إهانتها.
قال تعالى:] وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [أي من التسريح والفراق وإن كان بإحسان وأداء
المهر والمتعة وحفظ الكرامة كما هو الواجب على المطلق؛ لأن رابطة الزوجية من
أعظم الروابط وأحقها بالحفظ، وميثاقها من أغلظ المواثيق وأجدرها بالوفاء.
] وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [البخل الناشئ عن الحرص، ومعنى إحضاره
الأنفس أنها عرضة له، فإذا جاء مقتضى البذل ألم بها ونهاها أن تبذل ما ينبغي بذله
لأجل الصلح وإقامة المصلحة، فالنساء حريصات على حقوقهن في القسم والنفقة
وحسن العشرة شحيحات بها، والرجال أيضًا حريصون على أموالهم أشحة بها،
فينبغي لكل منهما أن يتذكر أن هذا من ضعف النفس الذي يضره ولا ينفعه، وأن
يعالجه فلا يبخل بما ينبغي بذله والتسامح فيه لأجل المصلحة؛ فإن من أقبح البخل أن
يبخل أحد الزوجين في سبيل مرضاة الآخر بعد أن أفضى بعضهما إلى بعض،
وارتبطا بذلك الميثاق العظيم، بل ينبغي أن يكون التسامح بينهما أوسع من ذلك وهو
ما تشير إليه الجملة الآتية:
] وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [أي وإن تحسنوا العشرة
فيما بينكم فتتراحموا وتتعاطفوا، ويعذر بعضكم بعضًا وتتقوا النشوز والإعراض،
وما يترتب عليهما من منع الحقوق والشقاق؛ فإن الله كان بما تعملونه من ذلك خبيرًا
لا يخفى عليه شيء من دقائقه وخفاياه، ولا من قصدكم فيه، فيجزي الذين أحسنوا
منكم بالحسنى، والذين اتقوا بالعاقبة الفضلى. اهـ باختصار.
ثم بيَّن لنا في الآيتين اللتين بعد هذه أن عدل الرجل بين النساء غير مستطاع
ولا سيما في الحب؛ وإنما عليه ما يملك من العدل في النفقة والمعاشرة، وأن يكبح
جماح الميل النفسي بقوة الإرادة حتى لا يفحش فيه، فتكون المائل عنها كالمعلقة
التي لا هي متزوجة ولا خلية، وأنهما إذا تفارقا لتعذر إقامة حدود العدل والتراضي؛
فإن الله يغني كلاًّ منهما عن الآخر بفضله.
تعدد الزوجات
أيتها السيدات الكرائم:
كأني بكن وقد سمعتن أو قرأتن ما كتبته لكن مما جاء به محمد رسول الله
وخاتم النبيين من تكريمكن وإثبات مشاركتكن للرجال في جميع الأمور الدينية
والحقوق الإنسانية، ترفعن أصواتكن قائلات: آمنا وصدقنا بأن هذا إصلاح لم
يسبق الإسلامَ إليه دينٌ، ولم يبلغ شأو محمد فيه نبي ولا حاكم ولا حكيم؛ ولكن ما
بال تعدد الزوجات بقي في دينه مباحًا حتى أنه هو نفسه لم يتنزه عنه، بل أباح له
شرعه الإلهي منه أكثر مما أباح لغيره من رجال أمته؟
ألا إن لكن أن تسألن هذا السؤال، وعليَّ أن أدلي إليكن بالجواب:

٢٤- مقدمة في تاريخ تعدد الزوجات وأصله
يقول الباحثون في طبائع البشر وتواريخ البدو والحضر: إن تعدد الزوجات
في الأقطار الكثيرة التي اعتاده أهلها هو أثر ما كان من استرقاق النساء، واتخاذ
الأقوياء والأغنياء العدد الكثير منهن للاستمتاع والخدمة والعظمة؛ ولذلك كان خاصًّا
بالملوك والأمراء والرؤساء والأغنياء، وكان يكثر في البلاد الحارة التي يفتن أهلها
بشهوة الاستمتاع، وكثرة التنقل بين الحسان وصغار السن من النساء، وكان عند
بعضهم استرقاقًا محضًا، ثم وجد الجمع بين نكاح الحرائر والاستمتاع بالجواري
المملوكات، فقدماء اليونان الأثينيين كانوا يبيعون النساء في الأسواق، ويبيحون
تعدد الزوجات بغير حساب، وقد أباح الإسبرطيون تعدد الأزواج للمرأة الواحدة
كأهل (التبت) دون تعدد الزوجات للرجل، وكان التعدد فاشيًا في أوربة عند
الغولوا في زمن سيزار ومعروفًا عند الجرمانيين في زمن ناسيت، وقد فشا في
الرومان فعلاً لا قانونًا حتى حظره جوستيان في قوانينه؛ ولكنه ظل فاشيًا بالفعل،
وأباحه بعض البابوات لبعض الملوك بعد الإسلام كشرلمان ملك فرنسة الذي كان
معاصرًا للخليفتين المهدي والرشيد من العباسيين، وقد اختلفت عادات الناس فيه
بين الأمم في جميع القارات والجزائر الجنوبية وما شذَّ عن ذلك إلا أهل أوربة في
القرون الأخيرة؛ ولكنهم استبدلوا بتعدد الزوجات الشرعيات السفاح واتخاذ الأخدان
كما تقدم، وسيأتي مزيد بسط له في بحث التسري.
على أن النساء في أوربة قد كن مهينات كالإماء عند أولئك الوثنيين حتى في
أعراضهن، إلى ما بعد ظهور الإصلاح الإسلامي المحمدي بقرون، والشواهد
التاريخية على هذا كثيرة.
يقول الفيلسوف هربرت سبنسر الإنكليزي في كتابه (علم وصف الاجتماع)
إن الزوجات كانت تباع في إنكلترا فيما بين القرن الخامس والقرن الحادي عشر،
وإنه حدث أخيرًا في القرن الحادي عشر أن المحاكم الكنسية سنت قانونًا ينص على
أن للزوج أن ينقل (أو يعير) زوجته إلى رجل آخر لمدة محدودة حسبما يشاء
الرجل المنقولة إليه المرأة [١٦] وشر من ذلك ما كان للشريف النبيل (الحاكم)
روحانيًّا كان أو زمنيًّا من الحق في الاستمتاع بامرأة الفلاح إلى مدة أربع وعشرين
ساعة من بعد عقد زواجها عليه (أي على الفلاح) .
وفي سنة ١٥٦٧ ميلادية صدر قرار من البرلمان الإسكوتلاندي بأن المرأة لا
يجوز أن تُمنح أي سلطة على أي شيء من الأشياء.
وأغرب من هذا كله أن البرلمان الإنكليزي أصدر قرارًا في عصر هنري
الثامن ملك إنكلترا يحظر على المرأة أن تقرأ كتاب العهد الجديد أي يحرم على
النساء قراءة الأناجيل وكتب رسل المسيح، فأين هذا من وضع الصحابة المصحف
الأول الذي كتب في خلافة أبي بكر عند امرأة وهي حفصة أم المؤمنين، ثم كتابة
نسخ المصاحف التي وزعت على الأمصار في خلافة عثمان عن ذلك المصحف،
ولم تخل البلاد الإسلامية من نساء يحفظن القرآن كله حفظًا تامًّا من عصر الصحابة
إلى عصرنا هذا [١٧] .
ومن العجيب أن بعض الناس الذين جمعوا بين الزواج والتسري كانوا
يحرصون على شرف الزوجات، ويبذلون جواريهم لضيوفهم وأكابر قومهم
يستمتعون بهن، كما نُقل عن أهل جزيرة فيتي، ونقل عن بعض وثنيي أمريكا
الشمالية أن من تزوج امرأة منهم حلَّت له جميع أخواتها، وقالوا: إن هذا قد انتشر
كثيرًا في كولومبيا وغيرها.
وكان تعدد الزوجات شائعًا بين اليهود قبل السبي في ملوكهم وأنبيائهم وناهيك
بداود وسليمان عليهما السلام، وكانت البنت مهينة عندهم حتى كان بعضهم يبيح
لأبيها بيعها، وهاك النص المقدس عندهم - لا عندنا - في نساء أعظم أنبيائهم
وملوكهم داود وسليمان عليهما السلام.
جاء في الفصل الخامس من سفر صموئيل الثاني (٧ قال ناثان لداود: أنت هو
الرجل، هكذا قال الرب إله إسرائيل: أنا مسحتك ملكًا على إسرائيل، وأنقذتك من
يد شاول وأعطيتك بيت سيدك ونساء سيدك في حضنك) ثم وبَّخه على قتله لأوريا
الحثي وأخذ زوجته وقال: (١١هكذا قال الرب: ها أنا ذا أقيم عليك الشر من
بيتك وآخذ نساءك أمام عينيك، وأعطيهن لقريبك، فيضطجع مع نسائك في عين
هذه الشمس) وسأذكر خبر أوريا مع داود عند الكلام على زينب أم المؤمنين.
وفي الفصل الحادي عشر من سفر الملوك الأول ما نصه (١ وأحب سليمان
نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون، موآبيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات
وحثيات ٢ من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلون إليهم وهم يدخلون
إليكم لأنهم يجعلون قلوبكم وراء آلهتهم، فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة ٣ وكانت له
سبعمائة من النساء السيدات وثلاثمائة من الجواري فأمالت نساؤه قلبه) ... إلخ.
٢٥- الإصلاح الإسلامي في تعدد الزوجات
لما بعث الله محمدًا خاتم النبيين في العرب وأبطل شرعُه الزنا، وكل ما هو
في معناه من أنواع الأنكحة، وكل ما هو مبني على عدِّ المرأة كالمتاع أو الحيوان
المملوك - لم يحرِّم تعدد الزوجات تحريمًا مطلقًا ولم يدع الرجال على ما كانوا عليه
من الإسراف في العدد وفي ظلم النساء، بل قيَّده بالعدد الذي قد تقتضيه مصلحة
النسل وحالة الاجتماع ويوافق استعداد الرجال له، وهو أن لا يتجاوز الأربع
وبالقدرة على النفقة عليهن واشترط فيه العدل بين الزوجين أو الأزواج لمنع ما كان
من ظلم النساء بقدر الاستطاعة، وهو ما قد يفضي بالمتدين بالإسلام إلى الاقتصار
على زوج واحدة إلا لضرورة.
قال تعالى في سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا
طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} (النساء: ٣) .
العول: الجور، أي: ذلك الاقتصار على امرأة واحدة أو ملك اليمين أقرب
الوسائل لعدم وقوعكم في الجور والظلم المانع من تعدد الزوجات لمن خاف الوقوع
فيه، فالآية تدل على تحريم التعدد على من يخاف على نفسه ظلم زوجة محاباة
لأخرى وتفضيلاً لها عليها، وعلى تحريمه بالأولى إذا كان عازمًا على هذا الظلم
بأن كان يريد أن يضارها لكرهه لها، ثم قال تعالى في الآية ١٢٩ من هذه السورة
نفسها:] وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [فإذا قرنت هذه القضية
بقضية {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: ٣) أنتجتا وجوب الاقتصار
على امرأة واحدة؛ ولكنه قال بعدها: {فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء: ١٢٩) فعلم به أن غير المستطاع هو العدل في الحب وأثره من ميل
النفس، فيجب ضبط النفس في أثره وما يترتب عليه من المعاملة المستطاعة في
النفقة والمبيت وغيرها وهو العدل المشروط في الأولى.
ههنا ثلاث مسائل قطعية (إحداها) أن الإسلام لم يوجب تعدد الزوجات ولم
يندب إليه؛ وإنما ذكره بما يدل على أنه قلما يسلم فاعله من الظلم المحرَّم، وحكمة
هذا وفائدته أن يتروى فيه الرجل الذي تطالبه نفسه به ويحاسبها على قصده وعزمه
وما يكون من مستقبل أمره في العدل الواجب.
(الثانية) أنه لم يحرِّمه تحريمًا قطعيًّا لا هوادة فيه لما في طبيعة الرجال
وعاداتهم الراسخة بالوراثة في جميع العالم من عدم اقتصارهم في الغالب على
التمتع بامرأة واحدة، ومن حاجة بعضهم إلى النسل في حال عقم المرأة أو كبرها أو
علة أخرى مانعة من الحمل، ومن كثرة النساء في بعض الأزمنة والأمكنة، ولا سيما
أعقاب الحروب بحيث تكون الألوف الكثيرة منهن أيامى لا يجدن رجالاً يحصنونهن
وينفقون عليهن مع وجود الأقوياء الأغنياء القادرين على إحصان امرأتين أو أكثر
الراغبين فيه.
(الثالثة) أنه لهذا وذاك تركه مباحًا إلا أنه قيَّده بما تقدم بيانه آنفًا من العدد
والشرط الذي يتقى به ضرره، ويرجى به نفعه إذا التزم فاعله جميع أحكام الإسلام
وآدابه في معاملة النساء وقد تقدم أهمها، وقد رأينا بأعيننا وسمعنا بآذاننا من أهل
عصرنا أن من المتدينين المتقين من لم يرزق ولدًا من زوجه الأولى، فعز عليهن
ذلك فرغبنهم في التزوج بغيرهن وخطبن لهم وعشن مع الزوج الثانية كعيشة
الأخوات في حجر والدهن، وقد كان هذا هو أكثر حال المسلمين في قرون الإسلام
الأولى؛ ولكنه قل في هذا الزمن بما طرأ على أكثر الشعوب الإسلامية من الجهل
بالإسلام، وبحكمه وأحكامه وآدابه في الزواج، وفسدت تربيتهم بالتبع لفساد
حكوماتهم، فصار تعدد الزوجات في الأمصار مثارًا لمفاسد لا تحصى في الأزواج
والأولاد وعشائر الزوجين حتى انقلب ما بيناه من أركان الزوجية الثابتة في كتاب
الله تعالى من حب ومودة ورحمة إلى أضدادها. وقد حمل شيخنا الأستاذ الإمام في
سياق تفسيره للآية في الأزهر حملة منكرة شديدة على هذه المفسدة في مصر وقرر
أنه يستحيل تربية الأمة تربية صحيحة مع كثرة هذا التعدد الإفسادي الذي صار
يجب منعه عملاً بقاعدة لا ضرر ولا ضرار الثابتة في الحديث [١٨] ، وقاعدة تقديم
درء المفاسد على جلب المصالح وهي متفق عليها، وقد نشرنا أقواله في تفسيرها
من الجزء الخامس وذكرنا في أول المجلد ٢٨ من المنار أنه أفتى فتوى غير رسمية
بأن للحكومة منع التعدد لغير ضرورة مبيحة لا مفسدة فيها.
وشرحنا في تفسيرها أيضًا ما أجملناه في المسألة الثانية هنا من وجوه الحاجة
إلى التعدد من شخصية وطبيعية واجتماعية وآراء بعض علماء الإفرنج ونسائهم
الكاتبات في تفضيله على بذل النساء من أبكار وثيبات أعراضهن للرجال في
اختلاطهن بهم في المعامل وخدمة البيوت، وما في ذلك من المفاسد والمضرات
التي لا يعد تعدد الزوجات بالنسبة إليها شيئًا قبيحًا أو ضارًّا إذا التزم فيه شرع
الإسلام، وقد زاد ما كتبناه في موضوعها على ثلاثين صفحة ولا تتسع هذه الرسالة
لنقله كله، فيراجع تفصيله في محله [١٩] .
بيد أنني أكتب هنا كلمة في استعداد كل من الزوجين للنسل الذي هو غاية
الزوجية ومقصدها الفطري، بما تظهر به حكمة جعل الحد الأقصى في عدد
الزوجات أربعًا، وأقفي عليه ببيان الأسباب التي يكون بها التعدد حاجة أو ضرورة
تقتضيها مصلحة الزوجية، بل مصلحة الإنسانية، ثم أنقل بعض ما أشرت إليه من
ذلك التفصيل.
٢٦- استعداد كل من الذكر والأنثى للنسل
من المعلوم بالمشاهدة أن الذكر قد يكون مستعدًّا لوظيفة النسل من سن البلوغ
إلى نهاية العمر الطبيعي وهو مائة سنة، وأن الأنثى ينقطع استعدادها في سن
الخمسين إلى ٥٥، ثم إنها إذا حملت كان حملها شاغلاً لها عن غيره إلى نهاية مدته
وهي تسعة أشهر في الغالب، ثم إلى انتهاء النفاس وهو أربعون يومًا في المتوسط،
وقد يمتد إلى شهرين ولكن لا حد لأقله، ثم إن استعدادها للحمل في مدة الرضاعة
يكون ضعيفًا جدًّا ومن مصلحتها ومصلحة طفلها أن لا يقع وإن كان ممكنًا، ومدة
الحمل والرضاعة المشتركة بين البدو والحضر سنتان ونصف كما قال تعالى:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: ١٥) ولكن الرجل يكون في كل هذه
المدة مستعدًّا للقيام بوظيفة الزوجية إن لم يكن في كل يوم، ففي كل أسبوع أو أقل
أو أكثر على حسب قوة المزاج وسلامة البنية وحسن الغذاء، وما يقابل ذلك من
الأضداد، فإذا فرضنا أن زوجين اقترنا في متوسط سن البلوغ وهو ١٥ سنة كان
أقصى ما تلده له ٢٠ ولدًا في أربعين عامًا، وهو على كونه نادرًا يبلغ ربع ما
يمكن أن يولد له من أربع نسوة إلى سن الثمانين.
وقد بيَّنت في آخر فصل المساواة بين الزوجين ما يفضل به الرجل على المرأة
في مادة النسل وعملها في العلوق والحمل الذي للمرأة فيه ما هو معروف مما هو
خاص بها.
وقد علم بالاختبار أنه يوجد من النساء الزاهدات في الرجال لضعف استعدادهن
للنسل أضعاف ما يوجد في الرجال من الزاهدين في النساء، وأن موانعه الخلقية
فيهن أكثر من موانعه فيهم.
٢٧- مصلحة الزوجية أو الإنسانية
في تعدد الزوجات
سبق لي أن بينت هذا الموضوع في فتوى عن سؤال ورد من طالب طب في
أمريكا نشرت في مجلد المنار السابع (سنة ١٣٢١) ثم في جزء التفسير الرابع،
وبدأتها بخمس مقدمات قفيت عليها بما يلي:
إذا أنعمت النظر في هذه المقدمات كلها، وعرفت فرعها وأصلها، تتجلى لك
النتيجة أو النتائج الآتية: إن الأصل في السعادة الزوجية والحياة البيتية هو أن
يكون للرجل زوجة واحدة، وأن هذا هو غاية الارتقاء البشري في بابه، والكمال
الذي ينبغي أن يُربى الناس عليه ويقتنعوا به، وأنه قد يعرض له ما يحول دون أخذ
الناس كلهم به، وقد تمس الحاجة إلى كفالة الرجل الواحد لأكثر من امرأة واحدة،
وأن ذلك قد يكون لمصلحة الأفراد من الرجال والنساء جميعًا كأن يتزوج الرجل
بامرأة عاقر فيضطر إلى غيرها لأجل النسل، وقد يكون من مصلحتها أو
مصلحتهما معًا أن لا يطلقها وترضى بأن يتزوج بغيرها، لا سيما إذا كان ملكًا أو
أميرًا، أو تدخل المرأة في سن اليأس ويرى الرجل أنه مستعد للإعقاب من غيرها،
وهو قادر على القيام بأود غير واحدة وكفاية أولاد كثيرين وتربيتهم، أو يرى أن
المرأة الواحدة لا تكفي لإحصانه؛ لأن مزاجه يدفعه إلى كثرة الإفضاء ومزاجها
بالعكس، أو تكون فاركًا منشاصًا - أي تكره الزوج طبعًا - أو يكون زمن حيضها
طويلاً ينتهي إلى خمسة عشر يومًا في الشهر، ويرى نفسه مضطرًّا إلى أحد
الأمرين: التزوج بثانية أو الزنا الذي يضيع الدين والمال والصحة، ويكون شرًّا
على الزوجة من ضم واحدة إليها مع العدل بينهما كما هو شرط الإباحة في الإسلام،
ولذلك استبيح الزنا في البلاد التي يمنع فيها التعدد بالمرة.
وقد يكون التعدد لمصلحة الأمة كأن تكثر فيها النساء كثرة فاحشة كما هوالواقع
في مثل البلاد الإنكليزية، وفي كل بلاد تقع في حرب مجتاحة تذهب بالألوف
الكثيرة من الرجال، فيزيد عدد النساء زيادة فاحشة تضطرهن إلى الكسب والسعي
في حاج الطبيعة ولا بضاعة لأكثرهن في الكسب سوى أبضاعهن، وإذا هن بذلنها
لا يخفى على الناظر ما وراء بذلها من الشقاء على المرأة التي لا كافل لها إذا
اضطرت إلى القيام بأود نفسها، وأود ولد ليس له والد ولا سيما عقب الولادة ومدة
الرضاعة، بل الطفولية كلها، وما قال من قال من كاتبات الإنجليز بوجوب تعدد
الزوجات إلا بعد النظر في حال البنات اللواتي يشتغلن في المعامل وغيرها من
الأماكن العمومية وما يعرض لهن من هتك الأعراض، والوقوع في الشقاء والبلاء؛
ولكن لما كانت الأسباب التي تبيح تعدد الزوجات هي ضرورات تقدر بقدرها
وكان الرجال إنما يندفعون إلى هذا الأمر في الغالب إرضاء للشهوة لا عملاً
بالمصلحة، وكان الكمال الذي هو الأصل المطلوب عدم التعدد - جُعل التعدد في
الإسلام رخصة لا واجبًا ولا مندوبًا لذاته، وقيد بالشرط الذي نطقت به الآية
الكريمة، وأكدته تأكيدًا مكررًا فتأملها اهـ.
وكتبنا في الرد على لورد كرومر إذ ألقى خطبة انتقد بها الشريعة الإسلامية ما
نصه نقلاً عن (ص ٢٢٥) من مجلد المنار العاشر:
طالما انتقد الأوربيون على الإسلام نفسه مشروعية الطللاق وتعدد الزوجات،
وهما لم يطلبا ولم يحمدا فيه؛ وإنما أجيزا لأنهما من ضرورات الاجتماع كما بيَّنا
ذلك غير مرة، وقد ظهر لهم تأويل ذلك في الطلاق فشرعوه وإن لم يشرعه لهم
كتابهم الإنجيل إلا لعلة الزنا، وأما تعدد الزوجات فقد تعرض الضرورة له فيكون
من مصلحة النساء أنفسهن كأن تغتال الحرب كثيرًا من الرجال، فيكثر من لا كافل
له من النساء فيكون الخير لهن أن يكن ضرائر ولا يكن فواجر يأكلن بأعراضهن
ويعرضن أنفسهن بذلك لمصائب ترزحهن أثقالها، وقد أنشأ القوم يعرفون وجه
الحاجة، بل الضرورة إلى هذا كما عرفوا وجه ذلك في مسألة الطلاق، وقام غير
واحدة من نساء الإنكليز الكاتبات الفاضلات يطالبن في الجرائد بإباحة تعدد
الزوجات رحمة بالعاملات الفقيرات، وبالبغايا المضطرات، وقد سبق لنا في المنار
ترجمة بعض ما كتبت إحداهن في جريدة (لندن ثروت) مستحسنة رأي العالم
(تومس) في أنه لا علاج لتقليل البنات الشاردات، إلا تعدد الزوجات. وما كتبت
الفاضلة (مس أني وود) في جريدة (الإسترن ميل) والكاتبة اللادي كوك في
جريدة (الأيكو) في ذلك (راجع ص٤٨١ م٤ منار) .
إن قاعدة اليسر في الأمور ورفع الحرج لهي من القواعد الأساسية لبناء الإسلام
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: ١٨٥) و {مَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} (المائدة: ٦) ولا يصح أن يبنى على هذه القاعدة تحريم
أمر تلجئ إليه الضرورة أو تدعو إليه المصلحة العامة أو الخاصة - كما بينا ذلك
في مقالات الحياة الزوجية وغيرها - وهو مما يشق امتثاله دفعة واحدة لا سيما على
من اعتادوا المبالغة فيه كتعدد الزوجات، كذلك لا يصح السكوت عنه وترك الناس
وشأنهم فيه على ما فيه من المفاسد، فلم يبق إلا أن يقلل العدد ويقيَّد بقيد ثقيل،
وهو اشتراط انتفاء الخوف من عدم العدل بين الزوجات، وهو شرط يعز تحققه
ومن فقهه واختبر حال الذين يتزوجون بأكثر من واحدة يتجلى له أن أكثرهم لم
يلتزم الشرط، ومن لم يلتزمه فزواجه غير إسلامي.
وجملة القول في هذه المسألة أن القرآن أتى فيها بالكمال الذي لا بد أن يعترف
به جماهير الأوربيين ولو بعد حين، كما يعترف به بعض فضلائهم وفضلياتهم الآن،
وأما المسلمون فلم يلتزموا هدايته فصاروا حجة على دينهم، ونحن أحوج إلى
الرد عليهم والعناية بإرجاعهم إلى الحق منا إلى إقناع غير المسلمين بفضل الإسلام،
مع بقاء أهله على هذه المخازي والآثام، إذ لو رجعوا إليه لما كان لأحد أن
يعترض عليه اهـ.
٢٨- أقوال بعض فضليات الإنكليزيات في تعدد الزوجات
أما ما أشرنا إليه من اقتراح بعض كاتبات الإفرنج تعدد الزوجات فهو ما
أودعناه مقالة عنوانها (النساء والرجال) نُشرت في (ص ٤٨١ م ٤) من
المنار [٢٠] وهاك المقصود منها:
لما تنبه أهل أوربا إلى إصلاح شؤونهم الاجتماعية وترقية معيشتهم المدنية
اعتنوا بتربية النساء وتعليمهن، فكان لذلك أثر عظيم في ترقيتهم وتقدمهم؛ ولكن
المرأة لا تبلغ كمالها إلا بالتربية الإسلامية، وأعني بالإسلامية ما جاء به الإسلام لا
ما عليه المسلمون اليوم ولا قبل اليوم بقرون، فقد قلت آنفا إنهم ما رعوا تعاليم
دينهم حق رعايتها، ولهذا وجدت مع التربية الأوربية للنساء جراثيم الفساد ونمت
هذه الجراثيم فتولدت منها الأدواء الاجتماعية والأمراض المدنية، وقد ظهر أثرها
بشدة في الدولة السابقة إليها - وهي فرنسا - فضعف نسلها وقلت مواليدها قلة تهددها
بالانقراض، والذنب في ذلك على الرجال.
حذر مغبة هذه الأمراض العقلاء، وحذَّر من عواقبه الكُتَّاب الأذكياء، وصرَّح
من يعرف شيئًا من الديانة الإسلامية، بتمني الرجوع إلى تعاليمها المرضية،
وفضائلها الحقيقية، وصرَّحوا بأن الرجل هو الذي أضل المرأة وأفسد تربيتها،
وأن بعض فضليات نساء الإفرنج صرَّحن بتمني تعدد الزوجات للرجل الواحد
ليكون لكل امرأة قيم وكفيل من الرجال.
(١) جاء في جريدة (لاغوس ويكلي ركورد) في العدد الصادر في ٢٠
أبريل (نيسان) سنة ١٩٠١ نقلاً عن جريدة (لندن ثروت) بقلم كاتبة فاضلة ما
ترجمته ملخصًا:
لقد كثرت الشاردات من بناتنا، وعم البلاء وقل الباحثون عن أسباب ذلك،
وإذ كنت امرأة أراني أنظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزنًا،
وماذا عسى يفيدهن بثي وحزني وتوجعي وتفجعي وإن شاركني فيه الناس جميعًا؟
لا فائدة إلا في العمل بما يمنع هذه الحالة الرجس ولله در العالم الفاضل (تومس)
فإنه رأى الداء ووصف الدواء الكافل الشفاء، وهو أن يباح للرجل التزوج بأكثر
من واحدة، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة وتصبح بناتنا ربات بيوت،
فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة، فهذا التحديد
هو الذي جعل بناتنا شوارد وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال، ولا بد من تفاقم
الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة.
أي ظن وخرص يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين
أصبحوا كلاًّ وعالة وعارًا على المجتمع الإنساني؟ فلو كان تعدد الزوجات مباحًا لما
حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من العذاب الهون، ولسلم عرضهن
وعرض أولادهن؛ فإن مزاحمة المرأة الرجل ستحل بنا الدمار، ألم تروا أن حلل
خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس على الرجل وعليه ما ليس عليها؟ وبإباحة تعدد
الزوجات تصبح كل امرأة ربة بيت وأم أولاد شرعيين.
ونشرت الكاتبة الشهيرة (مس أنرود) مقالة مفيدة في جريدة (الإسترن ميل)
في العدد الصادر منها في عشرة مايو (أيار) سنة ١٩٠١ نقتطف منها ما يأتي:
لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن
في المعامل، حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد، ألا
ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة ردء الخادمة والرقيق
يتنعمان بأرغد عيش، ويُعاملان كما يُعامل أولاد البيت، ولا تمس الأعراض بسوء،
نعم إنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتنا مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال،
فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل على ما يوافق فطرتها الطبيعية من
القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال؛ سلامة لشرفها؟
وقالت الكاتبة الشهيرة (اللادي كوك) بجريدة الأيكو ما ترجمته، وهو ما يؤيد
ما تقدم:
إن الاختلاط يألفه الرجال ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر
كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، وهنا البلاء العظيم على المرأة، فالرجل
الذي علقت منه يتركها وشأنها تتقلب على مضجع الفاقة والعناء، وتذوق مرارة
الذل والمهانة والاضطهاد، بل الموت أيضًا، أما الفاقة فلأن الحمل وثقله والوحم
ودواره من موانع الكسب الذي تحصل به قوتها، وأما العناء فهو أن تصبح شريرة
حائرة لا تدري ماذا تصنع بنفسها، وأما الذل والعار فأي عار بعد، وأما الموت
فكثيرًا ما تبخع المرأة نفسها بالانتحار وغيره.
هذا والرجل لا يُلم به شيء من ذلك، وفوق هذا كله تكون المرأة هي المسئولة
وعليها التبعة مع أن عوامل الاختلاط كانت من الرجل.
أما آن لنا أن نبحث عما يخفف - إذا لم نقل عما يزيل - هذه المصائب العائدة
بالعار على المدنية الغربية؟ أما آن لنا أن نتخذ طرقًا تمنع قتل ألوف الألوف من
الأطفال الذين لا ذنب لهم، بل الذنب على الرجل الذي أغرى المرأة المجبولة على
رقة القلب المقتضي تصديق ما يوسوس به الرجل من الوعود ويمني به من الأماني،
حتى إذا قضى منها وطرًا تركها وشأنها تقاسي العذاب الأليم.
يا أيها الوالدان لا يغرنكما بعض دريهمات تكسبها بناتكما باشتغالهن في المعامل
ونحوها ومصيرهن إلى ما ذكرنا، علموهن الابتعاد عن الرجال، أخبروهن بعاقبة
الكيد الكامن لهن بالمرصاد، لقد دلنا الإحصاء على أن البلاء الناتج من حمل الزنا
يعظم ويتفاقم حيث يكثر اختلاط النساء بالرجال، ألم تروا أن أكثر أمهات أولاد
الزنا من المشتغلات في المعامل والخادمات في البيوت وكثير من السيدات
المعرضات للأنظار، ولولا الأطباء الذين يعطون الأدوية للإسقاط لرأينا أضعاف ما
نرى الآن، لقد أدت بنا هذه الحال إلى حد من الدناءة لم يكن تصورها في الإمكان،
حتى أصبح رجال مقاطعات من بلادنا لا يقبلن البنت زوجة ما لم تكن مجربة، أي
عندها أولاد من الزنا ينتفع بشغلهم!! وهذا غاية الهبوط بالمدنية، فكم قاست هذه
المرأة من مرارة هذه الحياة حتى قدرت على كفالتهم، والذي علقت منه لا ينظر
إلى أولئك الأطفال ولا يتعهدهم بشيء، ويلاه من هذه الحالة التعسة، ترى من
كان معينًا لها في الوحم ودواره، والحمل وأثقاله، والوضع وآلامه، والفصال
ومرارته؟ اهـ.
ذلك ما قلناه في وجه الحاجة تارة والضرورة تارة إلى تعدد الزوجات، ويزاد
عليه ما علم منه ضمنًا من كثرة النسل المطلوب شرعًا وطبعًا، فإذا كان منع التعدد
ولا سيما في أعقاب الحروب وكثرة النساء يفضي إلى كثرة الزنا وهو مما يقلل
النسل - كان مما يليق بالشريعة الاجتماعية المرغِّبة في كثرة النسل والمشددة في منع
الزنا أن تبيح التعدد عند الحاجة إليه لأجل ذلك مع التشديد في منع مضراته، وقد
صرَّح بعض علماء أوربا بأن تعدد الزوجات من جملة انتشار الإسلام في إفريقية
وغيرها وكثرة المسلمين، ومهما يكن من ضرر تعدد الزوجات فهو لا يبلغ ضرر
قلة النسل الذي منيت به فرنسا بانتشار الزنا وقلة الزواج وستتبعها إنكلترا وغيرها
من الأمم التي على شاكلتها في التساهل في الفسق.
وأما منع تعدد الزوجات إذا فشا ضرره وكثرت مفاسده وثبت عند أولي الأمر
أن الجمهور لا يعدلون فيه في بعض البلاد لعدم الحاجة إليه بله الضرورة، فقد
يمكن أن يوجد له وجه في الشريعة الإسلامية السمحة إذا كان هناك حكومة إسلامية؛
فإن للإمام أن يمنع المباح الذي يترتب عليه مفسدة ما دامت المفسدة قائمة به
والمصلحة بخلافه، بل منع عمر رضي الله عنه في عام الرمادة أن يحد سارق
ولذلك نظائر أخرى ليس هذا محل بيانها، وللأستاذ الإمام فتوى في ذلك (تقدم أنها
في أول المجلد ٢٨ من المنار) .
لكن الإفرنج يبالغون في وصف مفاسد التعدد، وكذا المتفرنجون كدأب الناس
في التسليم للأمة القوية والتقليد لها، وما قال الأستاذ الإمام ما قاله في التشنيع على
التعدد إلا لتنفير الذواقين من المصريين وأمثالهم الذين يتزوجون كثيرًا ويطلِّقون
كثيرًا لمحض التنقل في اللذة والإغراق في طاعة الشهوة مع عدم التهذيب الديني
والمدني.
ألا إن التهذيب الذي يعرف به الإنسان قيمة الحياة الزوجية يمنع صاحبه التعدد
لغير ضرورة، فهذه الحياة التي بيَّنها الله تعالى في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم
مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: ٢١) قلما
تتحقق على كمالها مع التعدد ولا سيما إذا كان لغير عذر؛ ولذلك يقل في المهذبين
من يجمع بين زوجين، وإنني لا أعرف أحدًا من أصحابي في مصر وسورية له
أكثر من زوج واحدة. اهـ المراد منه.
يا معشر النساء المحصنات
أرأيتن ما نقلته إليكن عن بعض نساء الشعب الإنجليزي الذي هو أسلم من
الشعب الفرنسي أخلاقًا، وأمثل تربية وأكثر نسلاً؟ ذلك ما كتبته منذ ثلاثين عامًا،
فما رأيكن فيما يقوله أمثالهن من الكاتبات والكاتبين في هذه الأعوام، وقد فقدت
أوربة في حربها العالمية الكبرى زهاء عشرين مليون رجل أمسى مثلهم أو أكثر
منهم من النساء محرومات من الحياة الزوجية والنسل وكفالة الرجل [٢١] فترجل
الملايين منهن، وصرن يزاحمن الرجال في الأعمال على كثرة العاطلين منهم
والبطَّالين، ويطلبن مساواتهم في كل شيء، فقلت الرغبة في الزواج، وتفاقم شر
الطلاق، واستشرى فساد الخنا والبغاء، حتى صرَّح بعض كبار العقلاء من الكُتَّاب
بأن البيوت الإنكليزية مهددة بالسقوط والزوال، بعد أن كانت أشد رسوخًا وثباتًا من
الجبال، وأن الحال فيما عدا إيطالية من الدول الحربية أسوأ، ولا سيما الولايات
المتحدة الأمريكية؛ فإن إسراف نسائها ورجالها في الطلاق، وفي نكاح التجربة قد
أوشك أن يقوض فيها بناء الأسرة وينتهي باستقلال النساء وأمر النسل إلى الشيوعية
المحضة، وإن آخر ما قرأنا عن نسبة عدد الطلاق إلى عدد الزواج فيها أنه الخمس
أي ٢٠ في المائة، ويقال إنه يتوقع بلوغه النصف بعد سنين قليلة.
٢٩- كلمات لبعض كبار علماء أوربة
في التعدد والإسلام
ولولا أن تطول هذه الرسالة بما يخرج عما اقترحه طالبوها من القصد فيها
لنقلتُ؛ لَكُنَّ كثيرًا من أقوال الصحف الإفرنجية في إثبات ما ذكرت؛ ولكنني أختم
هذه المسألة بحكم حكيمين من أكبر علماء الاجتماع وفلسفة التاريخ الواسعي الاطلاع
على تاريخ المسلمين وغيرهم في المسألة:
(الأول) الدكتور غوستاف لوبون الفرنسي صاحب المصنفات، وله في
تعدد الزوجات وأقوال علماء الإفرنج فيه أقوال كثيرة في مصنفاته أوسعها بسطًا
وتحقيقًا ما نشره في كتابه (حضارة العرب) فأثبت به عدالة حكم الإسلام بالتعدد
واقتضاء الضرورة الاجتماعية له، وله فيه عبارة مختصرة في كتابه روح السياسة
قالها في سياق الكلام على إصلاح أمور المسلمين في الجزائر، هذه ترجمتها:
وأهم إصلاح يراه الموسيو لروا بوليو هو تحريم تعدد الزوجات، وقد أسهب
في بيان فوائد الاقتصار على زوجة واحدة فقال: (إن تدبير المنزل يقوم على
الزوجة الواحدة فقط، فبتعدد الزوجات تزول روح العائلة وهناء البيت وينحط
المجتمع العربي) .
(ولا أريد أن أبيِّن هنا الأسباب التي جعلت الشرقيين يقولون بتعدد الزوجات
وأن أذكر أن تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين خير من تعدد الزوجات الخبيث
المؤدي إلى زيادة اللقطاء في أوربا، فعلى القارئ أن يطالع كتابي (حضارة العرب)
ففيه يجد إيضاحًا كافيًا لهذه المسائل وغيرها ويرى أنه ظهر أيام سلطان العرب
نساء فاضلات عالمات كما يظهر عندنا في هذه الأزمنة.
وقد ثبت في أيامنا أن توقف ارتقاء المسلمين لم ينشأ عن تعدد الزوجات، وهل
من الضروري أن أذكر أن العرب وحدهم هم الذين أطلعونا على العالم الإغريقي
الروماني، وأن جامعات أوربا ومنها جامعة باريس لم تعرف في ستة قرون لها
موردًا علميًّا غير مؤلفات العرب وتطبيق مناهجهم؟ فحضارة العرب هي إحدى
الحضارات التي لم يعرف لها التاريخ ما هو أكثر منها نضارة، ولا ننكر أنها ماتت
ككثير من أخواتها غير أننا نرى من السذاجة أن نعزو إلى مبدأ تعدد الزوجات نتائج
صادرة عن عوامل أكثر منها أهمية) .
ولا ندرك السبب في حقد ذلك الأستاذ الفاضل على مبدأ تعدد الزوجات وهو
الذي يخبرنا باقتصاره على عائلات العرب المثرية، وبأن ظله يتقلص بالتدريج،
وإذا كان الرجوع إليه نادرًا، فلماذا يُراد إلغاؤه وكيف يكون من الأسباب الكبيرة في
انحطاط المجتمع العربي؟
وأما العالم الثاني فهو الأستاذ (فون أهر مسلس) الألماني فإنه قد صرَّح بأن
قاعدة تعدد الزوجات لازمة أو ضرورية للسلائل الآرية، أي لنموها وبقائها.
وهكذا يَرجِع علماء الإفرنج وحكماؤهم إلى قواعد الإسلام قاعدة بعد قاعدة، بل
جزم العلامة برناردشو الإنكليزي في كتابه (التزويج) أو الحياة الزوجية بأن الدولة
الإنكليزية ستضطر إلى اتخاذ الإسلام دينًا لها قبل انقضاء هذا القرن، ونقلت عنه
بعض الصحف العربية أنه جزم بأن شعوب أوربة وأمريكا كلها ستهتدي بالإسلام
قبل انقضاء قرن، وهذا ما نجزم بانتهاء جميع الإفرنج إليه بالتبع لما جزم به قبلنا
حكيما الإسلام السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده رحمهما الله، وسيصدق عليهم
قول الله عز وجل:] سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الحَق [, (فصلت: ٥٣) .
((يتبع بمقال تالٍ))