للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فلسفة الحرب الحاضرة
حكومة صغيرة ينقص عدد رعاياها عن مليون واحد تهضم حقوق دولة عظيمة
رعاياها ثلاثمائة مليون أو يزيدون، ثم تنذرها بالحرب ثم تبدأها بالقتال ويكون لها
الظفر غير مرة؟ إن هذا لشيء عجاب! ! أما هضم الحقوق فهو دعوى بريطانيا
العظمى على الترانسفال الصغرى ويقول الساسة من غير الإنكليز: إنه لا ذنب
للترانسفال إلا الإباء من ضيم إنكلترا والمحافظة على استقلالهم في جوارها، وإن
الإنكليز خلقوا للترانسفاليين ذنبًا ليتخذوه حجة لهم أمام أوروبا على اضطرارهم
للإيقاع بهم وعدم خروجهم عن سنن التمدن والإنسانية في إلزامهم بإجابة ما يطلبون،
وإن غرض الإنكليز الحقيقي الأخذ بثأر الدكتور (جمسون) الذي نكل به
الترانسفاليون من قبل، والتمهيد لمشروع (سسل رود) في جعل القسم الشرقي من
إفريقية مستعمرة إنكليزية من رأس الرجاء الصالح إلى الإسكندرية.
ومهما يكن من الأمر فحسب الترانسفال أن معاملتها مع بريطانيا العظمى في السلم والقتال معاملة الأكفاء والأقتال.
الجرائد في الغرب والشرق تصف الإنكليز بالطمع والجشع، ويرى ساستها
أنه ليس لهذه الدولة حجة قيّمة في التعدي على الترانسفال، ويقولون: إن
البريطانيين المقيمين في تلك الجمهورية للتجارة واستخراج المعادن لا يشكون من
حكوماتها ولا يبالون بحقوق الانتخاب؛ لأنهم لا ينوون الإقامة فيها واتخاذها وطنًا،
وإن حكومتهم هي التي حملتهم على التبرم والشكوى؛ لتتخذ ذلك ذريعة لمناصبة تلك
الجمهورية، كما صرح بذلك بعض من عاد إلى أوروبا منهم في هذه الأيام، ونحن
نقول: إنْ هذه الحجة إلا كسائر الحجج التي تحتج بها الدول الأوروبية في فتوحاتها
تمويهًا للعدوان وإرضاءً للتمدن بالبهتان، كنشر لواء الحرية واستبدال التمدن
بالهمجية، وإبطال الاسترقاق، وتعميم المعارف في الآفاق، اتحد المعنى وتعددت
العبارات، والصيد واحد والشباك مختلفات.
وإنما يعذل الأوروبيون بعضهم بعضًا بالخروج عن التعلات المعتادة، حسدًا
من عند أنفسهم للدولة السابقة في ميدان الاستعمار، وما الاستعمار إلا فتوح وتغلب
بالحيلة والخداع مهما أفادا، وإلا فبالحرب والجلاد، وما كانت الحرب غاية يلجأ
إليها بعد فراغ جراب الحيل إلا لأجل الاقتصاد في المال والرجال، لا كما يقولون:
إنها شفقة على الإنسانية، وأدب من آداب المدنية، فقد كان تنكيل الإنكليز بدراويش
السودان مما تقشعر له الأبدان، ويدل على أن الأوروبي لا يرى غير قومه من نوع
الإنسان، هذا والإنكليز أبعد الأمم الأوروبية من الضراوة بالحرب، وأقربها إلى
اختيار السلم.
هذا مجمل ما يقال في انتقاد الأوروبيين على الإنكليز وفي حقيقة أمرهم، وأما
هذه الجرائد الشرقية فهي تُرجع صدى أقوالهم وتضيف إليها ما شاءت السياسة من
ذم الإنكليز وتنكبهم صراط العدالة وانحرافهم عن سنن الفضيلة، وأما نحن فنقول:
إن إنكلترا ما جاءت في المدنيّة أمرًا فريًّا، فإن طبيعة الاجتماع البشري كطبيعة كل
موجود حي، ألم تر إلى كل جسم حي من نبات وحيوان كيف يطلب التغذية من
الخارج ما دام حيًّا، وما يدخل في بنيته من الغذاء ينميه ويمده في بعض الأطوار
ويحفظ عليه وجوده وقوته في طور آخر، حتى إذا ما أذن بارئ الكون بانحلاله
وعدمه يعجز عن تناول الغذاء الكافي لحفظ وجوده، فتفتك فيه عوامل الانحلال حتى
يصير إلى الفناء والاضمحلال؟
وقد تتعطل وظائف التغذي في الجسم لعلة عارضة ثم تزول تلك العلة بسبب
من الأسباب كالمعالجة، فترجع إلى الجسم صحته؛ فيعود متغذيًا يطلب المدد لقوام
حياته من الأجسام الأخرى التي من شأنها أن تكون غذاء له.
هذا الذي نشاهده في أشخاص الحيوان والنبات في الأدوار الثلاثة: النمو
والوقوف والانحلال الذي يعقبه الفناء، هو بعينه مشاهد في الأمم والدول، وهو فيها
اضطراري لا اختياري، وإن كانت جزئيات الأعمال تؤتى من الأفراد بالاختيار،
فليس في طاقة الدولة القوية ذات الأمة العزيزة أن تمتنع عن طلب السيادة على
غيرها وتوسيع دائرة نفوذها في الأمم الضعيفة كما أنه لا طاقة للأفراد من الإنسان
وغيره من الأحياء على ترك الغذاء بالمرة؛ لأن مصادمة الطبيعة ومقاواتها لإبطال
عملها مما لا يستطيعه الناس، نعم يقدر الإنسان على تأخير الغذاء عن وقته أو
تقديمه عليه ويفضل غذاء على آخر مما في استطاعته تناوله، والترجيح في هاته
الأحوال تابع للعلم بالمصلحة والمنفعة، ولكنه لا يترك الغذاء بالمرة مع الاستطاعة
عليه إلا لعلة في الجسم أو النفس.
وكذلك شأن الدول في الفتوح والاستعمار لا تتركهما إلا بعلة العجز ولكنها
تختار بلادًا على أخرى، وقد تتعجل بشيء من ذلك أو تؤخره عن الوقت المناسب
إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما تؤكل الفاكهة قبل بدوّ صلاحها والطعام قبل نضجه
إما لشدة الجوع وإما خشية أن يحال بينها وبين الأكل، وكما يؤكل اللحم قديدًا حيث
لا يوجد غريضًا طريًّا. لا جرم أن تعدي إنكلترا على الترانسفال ومحاولة التهامها
من الابتسار (أخذ الشيء قبل أوانه) ولكن الشديد القرم يأكل اللحم النيئ وربما
حملته الضراوة على نهش لحوم الأحياء.
لا يرتاب أحد في أن شعب هذه الجمهورية شعب حيّ حافظٌ لوجوده متمتعٌ
بجميع ما تتمتع به الأمم الحية من المزايا الصورية والمعنوية، ومن طبيعة الجسم
الحي المتمتع بالمزاج المعتدل الصحيح أن يدافع ما يعرض لمزاجه ويقاوي ما يعدو
على حياته، ولا يستسلم لعوادي البلاء ويستهدف لعوامل الفناء، ومَن يقول: إن
طبيعة الأشلاء كطبيعة أولي القوة من الأحياء، فما ظهر من كل من إنكلترا
والترنسفال هو ما اقتضته طبيعة عمرانها، فلا لوم على الأولى ولا تثريب، وليس
ما جاءت به الثانية بالأمر العجيب، وهذا هو ما وعدنا ببيانه في (المنار) الماضي.
يقال: إن بين الإنسان وبين سائر الأحياء فرقًا، فهو يعمل منفردًا ومجتمعًا
بالاختيار لا بسائق الفطرة فقط، ويوصف بالاعتدال في أعماله ومناشئها من
أخلاقه وسجاياه فيمدح، ويرمى بالتفريط أو الإفراط في ذلك فيذم، وهو مكلف بأن
يعدل في تصرفه بالطبيعة ويقف في تحصيل مطالبها عند الحدود المشروعة
والمعقولة، وإننا نرى الترنسفال في المدافعة أقرب إلى الإفراط من إنكلترا في
التعدي والمهاجمة، بل إنها هي التي ألجأت إنكلترا للحرب بإنذارها الشديد المعلوم،
فكأنما هي التي ابتدأت الحرب، بل هي التي ابتدأتها حقيقة.
نقول: إن هذا الكلام صحيح، وإن حكومة الترنسفال قد تهورت ولكن لها
عذرًا في التعجل بالحرب؛ لأنها علمت أن ذلك واقع ما له من دافع، وأن الفائدة في
التأخير إنما هي لعدوتها حيث تستكمل جمع القوة اللازمة لإبادتها، على أنها تُلام
على عدم التساهل في الدفع بالتي هي أحسن قبل أن تكتب إنكلترا الكتائب وتسوق
الجنود إلى الحدود، اللهم إلا أن تكون على بينة من أن تلك المطالب تعبث
باستقلالها، فإنها حينئذ يصدق فيها قول الشاعر:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركبًا ... فلا يسع المضطر إلا ركوبها
فكيف بها إذا شعرت بأن غاية هذه المطالب محو وجودها القومي وإدغامها في
المستعمرة الكبرى التي تَجِدُّ بريطانيا العظمى في إنشائها، وقد تجاوزت في التمهيد
لها من الشمال الخرطوم وأم درمان وتعلم (أي الترنسفال) أنها هي العقبة الكؤود
التي لا بد من تمهيدها في الجنوب؟ أليست جديرة في هذه الحال بأن تتمثل بقول أبي
الطيب:
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تعيش جبانًا
بلى، الجبن والاستبسال هما عاملا الفناء والزوال، وعاقبة الشجاعة والإقدام،
إما الظفر وإما ميتة الكرام، وليس استبسال شعب البويرس واستماتته لأجل الأمر
الثاني (ميتة الكرام) كما يظن أكثر الناس، بل هو يطمع بالظفر بعدوّه ويرجو أن
يكون له الغلب عليه لأسباب منها إعجابه بنفسه واستهانته بخصمه، لا سيما بعد
الظفر بحملة الدكتور (رجمسون) الإنكليزي، فإن البويرس يعتقدون بأنفسهم
أنهم أشجع الخلق وأبسلهم، والباسل لا يستبسل، ومنها أن التعليم العسكري عام فيهم،
ومتى دخل العدو بلادهم فإنهم يتألبون عليه كبارًا وصغارًا، نساءً ورجالاً حتى
يظفروا به فيفنوه أو يبيدهم عن آخرهم، وبمثل هذه المزية تحفظ الشعوب
الصغيرة استقلالها، وبتركها حَل الدمار بأقوى الأمم وأعظمها، ومنها أن لهم من
ولاية الأورانج الحرة حليفًا وظهيرًا، ومنها أنهم مدافعون وخصمهم مهاجم، ومنها
أنهم يتوقعون أن يثور أبناء جنسهم في مستعمرة الرأس على خصمهم إذا لم يُبقوا فيها
حامية كافية لمنع الثورة، وإبقاء الحامية مفرق لقوتهم ومضعف لهم، والظاهر أن
بريطانيا العظمى على عظمتها إنما تقدر على التنكيل بالترانسفال بالمطاولة
لا بالمناجزة، ولا عار على أمة أن تغلبها أمة يزيد عدد رعاياها على عددها أكثر من
ثلاثمائة ضعف، ولها الفخر الأكبر والشرف الأعلى في الشجاعة إذا هي طاولتها
في القتال، أو كانت الحرب بينهما سجال، فكيف إذا هي ظفرت ولو في بعض
الأحوال؟ !
هذا خير مثال للأمم الحية والأمم التي تعد في الموتى، وبه يفهم قول اللورد
سالسبري: إن الأمم الحية تزداد حياة والمائتة تزداد موتًا، ولكننا بَيَّنا أن الأمم التي
ظهر فيها الانحلال يجوز أن ترجع إلى صحتها بإزالة العوارض التي طرأت عليها
فغَلَّبت التحليل على التركيب، فعسى أن يكون في كلامنا موعظة وذكرى {وَمَا
يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: ١٣) .