ثُم قال (الأستاذ الرئيس) للخطيب القازاني: إن الإخوان يترقبون منه أيضًا أن يفيدهم بما يلهمه الله مما يناسب موضوع مباحث الجمعية. قال (الخطيب القازاني) : إن الإخوان الأفاضل لم يتركوا قولاً لقائل، ولذلك لا أجد ما أتكلم فيه وإِنَّما أقصّ عليهم مساجلة جَرَت في الاستهداء بين مفتي قازان وإفرنجيٍّ روسيٍّ من العلماء المستشرقين العارفين باللغة العربية المُولعين باكتشاف وتتبع العلوم الشرقية ولا سيما الإسلامية، وقد هداه الله إلى الدين المبين فاجتمع بمفتي قازان وقال له: إنه أسلم جديدًا وهو بالغ من معرفة لغة القرآن والسُّنة مبلغًا كافيًا وعالم بموارد ومواقع الخطاب عِلمًا وافيًا، فيريد أن يتتبع القرآن وما يمكنه أن يتحقق وروده عن رسول الله فيعمل بما يفهمه ويمكنه تحقيقه على حسب طاقته؛ لأنه لا يرى وجهًا معقولاً للوثوق بزيد أو عمرو أو بكر أصحاب الأقوال المتضاربة المتناقضة لأن حكم العقل في الدليلين المتعارضين التساقط وفي البرهانين المتباينين التهاتر فهل من مانع في الإسلامية يمنعه من ذلك؟ فأجابه (المفتي) : إن أكثر الأمة مطبق منذ قرون كثيرة على لزوم اعتماد ما حرره أحد المجتهدين الأربعة المنقولة مذاهبهم، فإطباق الأكثرية دليل على الصحة فلا يجوز الشذوذ. فقال (المستشرق) : لو كان الصواب قائمًا بالكثرة والقدم وإن خالف المعقول لاقتضى ذلك صوابية الوثنية ورجحان النصرانية ولاقتضى كذلك عكس حكم ما صح وروده على النبي صلى الله عليه وسلم من أن أمته تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة هي التي كان هو وأصحابه عليها وقد وقع ما أخبر به وكل فرقة تدعي أنها هي تلك الواحدة الناجية ولا شك أن الاثنتين والسبعين فرقة أكثر من أي واحدة كانت منها فأين يبقى حكم الأكثرية؟. فأجابه (المفتي) أنه قد سبقنا من أهل التحقيق والتدقيق الذين تشهد آثارهم بمزيد علمهم ألوف من الفضلاء، وكلهم اعتمدوا لزوم اتباع أحد تلك المذاهب القديمة حتى بدون مطالبة أهلها بدلائلهم؛ لأن مداركنا قاصرة عن أن توازن الدلائل وتميز الصحيح والراجح من غيرهما، ومثلنا في تلك كالطبيب لا يلزمه أن يجرب طبائع المفردات كلها ليعتمد عليها بل يأخذ علمه بطبائعها عما دونه أئمة الطب. فقال (المستشرق) : نعم إن الطبيب يعتمد على ما حققه الأوّلون ولكن فيما اتفقوا عليه، وأما ما اختلفوا فيه على طرفي نقيض بين نافع أو سامٍّ فلا يعتمد فيه على أحد القولين بل يهملهما ويجدد التجربة بمزيد الدقة والتحقيق؛ لأن اعتماده على أحدهما يكون ترجيحًا بلا مرجح. هذا وإننا لنرى ببادئ النظر أن هؤلاء الأئمة الأقدمين لم يقدروا أن يطلعوا على ما لا يقدر المتأخرون أن يطلعوا عليه ويكفينا برهانًا على ذلك: (أولاً) تخالفهم في كل الأحكام إلا فيما قلّ وندر تخالفًا مهمًّا ما بين موجب وسالب ومحلل ومحرم حتى لم يمكنهم الاتفاق في نحو مسائل الطهارة وستر العورة وما يحل أكله وما لا يحلّ. (ثانيًا) ترددهم في الأحكام وتقلبهم في الآراء وذلك كحكم أحدهم في المسألة ثم عدوله عنه إلى غيره كما يقول أصحاب الشافعي أنه كان له مذهبان رجع بالثاني منهما عن الأول. (ثالثًا) اختلاف أتباعهم في الرواية عنهم كأصحاب أبي حنيفة الذين قلّما يتّفقون على روايةٍ عنه ويؤوّل ذلك لهم بعض المتأخرين بتعدد مذاهبه في المسألة الواحدة والحاصل أنّ الإنسان الذي يتقيّد بتقاليد أحد أولئك الأئمة ولا سيما الإمام الأعظم منهم لا يتخلص من قلق الضمير أو يكون كحاطب ليل وعلى ذلك لا بد للمتحري في دينه من أن يهتدي بنفسه لنفسه أو يأخذ عمن يثق بعلمه ودينه وصوابية رأيه ولو من معاصريه؛ لأن الدين أمر عظيم لا يجوز العقل ولا النقل فيه المماشاة واتباع التقليد. أجابه (المفتي) : نحنُ لا نحتّم بأن الصواب مقطوع فيه في جانب أحد تلك المذاهب بل المقلد منّا، إما أن يقول بإصابة الكل أو يرجح الخطأ في جانب من تَرَكَ مع احتمال الصواب. فقال (المستشرق) : هذا القول يستلزم تعدد الحق عند الله أو القول بالترجيح بلا مرجح؛ لأنكم تتحامون المفاضلة بين الأئمة، واعترافكم باحتمال المذاهب للخطأ يقتضي جواز تركها كلها مع أنكم توجبون اتباع أحدها أفليست هذه قضايا لا تتطابق ولا تعقل، فلماذا لا تجوزون وأنتم على هذا الارتباك أن يستهدي المبتلى لنفسه، فإذا تحقق عنده شيء عن يقين أو غلبه ظن اتبعه وإلا كان مختارًا ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. أجابه (المفتي) : إننا لِبُعْدِ العهد لم يبق في إمكاننا التحقيق فما لنا من سبيل غير اتباع أحد المتقدمين ولو كان تحقيقه يحتمل الخطأ. قال (المستشرق) : ما الموجب لتكليف النفس ما لم يكلفها به الله؟ أليس من الحكمة أن يحفظ الإنسان حريّته واختياره فيستهدي بنفسه لنفسه حسب وسعه فإن أصاب كان مأجورًا وإن أخطأ كان معذورًا ويكون ذلك أولى من أنْ يَأْسِرِ نفسه للخطإ المحتمل من غيره. أجابه (المفتي) : إن هذا الغير أعرف مِنّا بالصواب وأقل منا خطأ؛ فتقليده أقرب للحق. قال (المستشرق) : هذا مسلَّم فيما اتفق عليه الأقدمون، أما في الخلافيات فالعقل يقف عند الترجيح بلا مرجح ولا سيما إذا كنتم لا تجوزون أيضًا البحث عن الدليل ليُحكّم المبتلى عقله في الترجيح، بل تقولون نحن أسراء النقل وإن خالف ظاهر النص. أجابه (المفتي) : إننا إذا أردنا أن لا نعدّ من شرعنا إلا ما نتحقق بأنفسنا دليله من الكتاب أو السنة أو الإجماع تضيق حينئذ علينا أحكام الشرع، فلا تفي بحل إشكالاتنا في العبادات ولا لتعيين أحكام حاجاتنا في المعاملات فيحتاج كل منا أن يعمل برأيه في غالب دقائق العبادات والمعاملات ويسير القضاء غير مقيد بإيجابات شرعية، وهل من شك في أن اطراد الآراء وانتظام المعاملات أليق بالحكمة من عدم الاطراد والنظام. قال (المستشرق) : لا شك في ذلك ولكن أين الاطراد والانتظام منكم ولا يكاد يوجد عندكم مسألة في العبادات أو المعاملات غير خلافية إن لم تكن في المذهب الواحد فبين مذهبين أو ثلاث. هذا وربما يقال: إن توفيق العمل على قول من اثنين أو أكثر أقرب للاطراد من الفوضى المحضة في تفويض الأمر لرأي المبتلى أو تفويض الحكم لحرية القاضي فيجاب عن ذلك بأن الأمر أمر ديني ليس لنا أن نتصرف فيه برأينا ونعزوه إلى الله ورسوله كذبًا وافتراءً وإفسادًا لدين الله على عباده، ولو أن الأمر نظام وضعيُّ لما كان أيضًا من الحكمة أن يلتزم أهل زماننا آراء مَن سلفوا من عشرة قرون ولا أن يلتزم أهل الغرب قانون أهل الشرق وعندي أن هذا التضييق قد استلزم ما هو مُشاهد عندكم من ضعف حرمة الشرع المقدس. ثم قال (المستشرق) : وأعيد قولي، إنكم تحبون أن تكلفوا أنفسكم بما لم يكلفكم به الله، ولو أن في الزيادات خيرًا لاختارها الله لكم ولم يمنعكم منها بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: ٣٨) أي مما يتعلق بالدين [١] وقوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة: ٣) وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: ٢٢٩) ولكن علم الله الخير في القدر الذي هداكم إليه وترك لكم الخيار على وجه الإباحة في باقي شئونكم لتوفقوها على مقتضيات الزمان أبي الغير وموجبات الأحوال التي لا تستقر فبناء عليه إذا أتيتم أكثر أعمالكم الحيوية باطمئنان قلب بإباحتها يكون خيرًا من أن تأتوها وأنتم حيارى لا تدرون هل أصبتم فيها أم خالفتم أمر الله فتعيشون وأفئدتكم مضطربة تحاذرون في الدين شؤم المخالفة وفي الآخرة عذابًا عظيمًا. وليس هذا من مخافة الله التي هي رأس الحكمة ولا من مراقبة الوازع التي هي مزية الدين بل هذا من الارتباك في الرأي والاضطراب في الحكم ونتيجة ذلك فقد الحزم والعزم في الأمور. ثم قال: اعلم أيها المفتي المحترم أن هذه الحالة التي أنتم عليها من التشديد والتشويش في أمر الدين هي أكبر أسباب انحطاط المسلمين بعد القرون الأولى في شئون الحياة كما انحط قبلهم الإسرائيليون بما شدّده وشوّشه عليهم أهل التلّمود وكما انحطت الأمم النصرانية لما كانت (أرثوذكسية) مغلظة أو (كاثوليكية) متشددة يتحكم فيها البطارقة والقسيسون بما يشاءون تحت اسم الدين فكانوا يكلفون الناس أن ٠يتبعوا ما يُلَقِّنُونُهم مِن الأحكام بدون نظر ولا تدقيق حتى كانوا يحظرون عليهم أن يقرأوا الإنجيل أو يستفهموا عن معنى التثليث الذي هو أساس النصرانية كما أن التوحيد أساس الإسلامية. وبقي ذلك كذلك إلى أن ظهرت (البروتستان) أي الطائفة الإنجيلية التي رجعت بالنصرانية إلى بساطتها الأصلية وأبطلت المزيدات والتشديدات التي لا صراحة فيها في الأناجيل وإلى أن اتسع من جهة أخرى عند الأمم النصرانية نطاق العلوم والفنون رغمًا عن معارضة رجال الكهنوت لها فتلطفت أيضًا الكاثوليكية والأرثوذكسية عند العوام واضمحلتا بالكلية عند الخواص؛ لأن العلم والنصرانية لا يجتمعان أبدًا كما أن الإسلامية المشوبة بحشو المتفننين تضلل العقول وتشوش الأفكار. أما الإسلامية السمحة الخالصة من شوائب الزوائد والتشديد فإن صاحبها يزداد إيمانًا كلما ازداد علمًا ودق نظرًا؛ لأنه باعتبار كون الإسلامية هي أحكام القرآن الكريم وما ثبت من السنة وما اجتمعت عليه الأمة في الصدر الأول لا يوجد فيها ما يأباه عقل أو يناقضه تحقيق علمي. وكفى القرآن العزيز شرفًا أنه على اختلاف مواضيعه من توحيد وتعليم وإنذار وتبشير وأوامر ونواهٍ وقصص وآيات آلاء، قد مضى عليه ثلاثة عشر قرنًا تمخضه أفكار النقادين المعادين ولم يظفروا فيه ولو بتناقض واحد كما قال الله تعالى فيه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (النساء: ٨٢) بل الأمر كما تنبه إليه المدققون المتأخرون أنه كلما اكتشف العلم حقيقة وجدها الباحثون مسبوقة التلميح أو التصريح في القرآن. أودع الله ذلك فيه ليتجدد إعجاز ويتقوى الإيمان بأنه من عند الله؛ لأنه ليس من شأن مخلوق أن يقطع برأي لا يبطله الزمان. فهذه القضايا التي قررها حكماء اليونان وغيرهم على أنها حقائق ولم تتردّد فيها عقول عامة البشر ألوفًا من السنين أصبحت محكومًا على أكثرها بأنها خرافات. وكذا يقال كفى السنة النبوية شرفًا أنه لم يوجد في أعاظم الحكماء المتقدمين والمتأخرين من يربو عدد ما يعزي إليه من الحكم التي قررها غير مسبوق بها على عدد الأصابع مع أن في السنة المحمدية على صاحبها أفضل التحية من الحكم والحقائق الأخلاقية والتشريعية والسياسية والتعليمية ألوفًا من المقررات المبتكرة يتجلى عِظم قدرها مع تجدد الزمان وترقي العلم والعرفان. وكفى بذلك ملزمًا لأهل الإنصاف بالإقرار والاعتراف لصاحبها عليه السلام بالنبوة والأفضلية على العالمين عقلاً وعلمًا وحكمة وحزمًا وأخلاقًا وزهدًا واقتدارًا وعزمًا وكفى أيضًا بهذه المزايا العظمى ملزمًا بتصديقه في كل ما جاء به واتباعه في كل ما أمر أو نهى؛ لأن الدهر لم يأتِ بمرشد للبشر أكمل وأفضل منه. (مرحى) ثم قال (المستشرق) للمفتي: وهذا ما دعاني إلى الإسلام فلبيت، والحمد لله وعندي أن لو قام في الإسلام سراة حكماء دعاة مقدّمون لما بقي على وجه الأرض عاقل يكفر بالله. ثم قال: وإني أرى أنه لا يمضي قرن إلا ويكثر المهتدون من المستشرقين ويرسخون في الدين فيتولون تحرير شريعة الإسلام، ويفيضون بها على الأنام، حتى على أهل الركن والمقام، ولا يبعد أن تأتي الأيام بالبرنس محمد المهتدي الروسي أو الإنكليزي مثلا قائمًا مقام الإمام، معيدًا عزّ الإسلام بأكمل نظام. أجاب (المفتي) : لا مانع مما ذكرت، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ودين الله دين عام لا يختص بقوم من الأقوام. ثم قال (المستشرق) : أيها المفتي المحترم لا يطاوعني لساني أن أدعي الغيرة على الملة البيضاء الأحمدية أكثر منك إنما أناشدك بالله وبحبك لدينك أن تترك هذه الأوهام التقليدية القائمة في فكرك وتعينني على تأليف كتاب يصور حكمة دين الإسلام وسماحته ليكون سعينا هذا ذُخرًا عظيمًا ننال به فخر وثواب هداية عشرات الملايين بل مئات الملايين من الناس إلى هذا الدين المبين. ولا يَكْبرن ما أقول على فكرك، فإنّ أهل هذا الزمان المستنيرين الأحرار لا يقاسون بأهل الأزمنة المظلمة الغابرة. نعم، وننال أيضًا ثواب حفظ الملايين الكثيرة من أبناء المسلمين العريقين تلامذة المدارس العصرية من هجر الإسلامية على صورتها الحاضرة المشوهة باختلاط الحكم بالخرافات المعطَّلة بثقل التشديدات المبتدعة فالبدار البدار؛ لأنْ تفوزَ بهذه الخدمة التي يكاد يعادل أجرها أجر نبي مرسل والله المعين الموفق. أجابه (المفتي) أصبت فيما تفكرت ولنعم ما أشرت به، ولكن هذا عمل مهم يحتاج القيام به لعناية جمعية يتكوّن من تضلّع أعضائها في فروع العلوم الدينية علم كافٍ للإحاطة وحصول الثقة، ولسوء الحظ لا يوجد من فيهم الكفاءة في هذه البلاد ولذلك يتحتم علينا أن نترك هذه الفكرة آسفين وندعو الله تعالى أن يلهم علماء مكّة أو صنعاء أو مصر أو الشام القيام بأداء هذا الواجب. ولما انتهى (الخطيب الفازاني) إلى هنا قال هذه هي المساجلة، وقد سمعت المفتي يقول: إنه اجتمع بكثير من المستشرقين فوجدهم كلهم يحسنون العربية أكثر من علماء الإسلام غير العرب مع أنهم يشتغلون في علوم اللغة عمرهم كله وما ذلك إلا من ظفر مدارس اللغات الشرقية الإفرنجية بأصول التعليم العربية أسهل من الأصول المعروفة عندنا. قال (المجتهد التبريزي) : إني أرى أن الإسلام أصابه فتنتان عظيمتان ولولا قوة أساسه البالغة فوق ما يتصوره العقل لما ثبت الدين إلى الآن. أما الفتنة (الأولى) فقد قدرها الله ومضت على وجهها وهى حين تشاجروا في الخلافة والملك وانقسموا على أنفسهم بأسهم بينهم يقتل بعضهم بعضًا وتفرقوا في الدين لتفرقهم في السياسة. وأما الفتنة (الثانية) فلم تزل وهى أن الخلفاء العباسيين مالوا إلى تعميق النظر في العقائد فخدمهم من خدمهم من علماء الأعاجم تقربًا إليهم في علم الكلام وأكثروا من القيل والقال، ثم سرت العدوى إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من المذاهب فأقبلوا على التدقيق والجدل في الخلافيات بين أبي حنيفة والشافعي وأثاروا بينهما فتنة عمياء وحربًا صماء وتركوا بقية المذاهب فاندرست ولم يبق منها سوى مذهب زيد وأحمد في جزيرة العرب ومذهب مالك في الغرب ومذهب جعفر في بلاد الخزر وفارس فأكثروا التأليف والتصنيف في هذه المذاهب كل مؤلف يحبُّ أن يبدي ما عنده ليشتهر فضله وينال حظَّه من دنياه زاعمًا أن غرضه استنباط دقائق الشرع. وتقرير علل المذاهب فتزاحموا وتجادلوا وناقض بعضُهم بعضًا، وكان من العلماء بعض الصلحاء الغافلين شاركوهم الفتنة وهم لا يشعرون كما قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: ١١-١٢) وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: ١٠٣-١٠٤) . وهكذا اتسعت دائرةُ الأحكام في الشرع فصار الخلف عاجزين عن التقاط الفروع فضلاً عن الرجوع إلى الأصول فاطمأنت الأمة للتقليد وأقبل العلماء على التعمقات في الدين يغرب المفسر ولو بحكايات قاضي الجن؛ لأنه غير مطالب بدليل وبتفحص المحدّث عن نوادر الأخبار والآثار ولو موضوعة؛ لأنه غير مسئول عن سنده ويستنبط الفقيه الحكم ولو بالشبه من وجه اللازم اللازم للعلة؛ لأن مجال التحاكم واسع، وهذه الفتنة لم تزل مستمرة إلى أن أوقفها قصور الهمم عند الأكثرين. على أن هؤلاء المتأخرين أخلدوا إلى التقليد الصرف حتى في مسألة التوحيد التى هي أساس الدين ومبدأ الإيمان واليقين والفارق بين الكفر والإسلام وجعلوا أنفسهم كالعميان لا يميزون الظلمة من النور، ولا الحق من الزور، وصاروا يحسنون الظن في كل ما يجدونه مدوّنًا بين دفتي كتاب؛ لأنهم رأوا التسليم أهون من التبصَّر. والتقليد أستر للجهل، وصار أهل كل إقليم أو بلد يتعصبون لمؤلفات شيوخهم الأقدمين ويتخذون الخلافيات مدارًا لتطبيق الأحكام على الهوى لا يبالون بحمل أثقال الناس في الدين على عواتقهم يزعمون أن التسليم أسلم وأنهم أسراء النقل وإن خالف ظاهر النص ويتوهمون أن اختلاف الأئمة رحمة للأمة. نعم إن اختلاف الأئمة يكون رحمة إذا حسن استعماله ويكون نقمة إذا صار سببًا للتفرقة الدينية والتباغض كما هو الواقع بين أهل الجزيرة السفليين وبين أهل مصر والغرب والشام والترك وغيرهم من المستسلمين وبين أهل عراق العجم وفارس والصنف الممتاز من أهل الهند الشيعيين وبين أهل زنجبار ومن حولهم من الإباضيين فهذه الفرق الكبرى يعتقد كل منهم أنهم وحدهم أهل السنة والجماعة وأن سواهم مبتدعون أو زائغون فهل - والحالة هذه - يتوهم عاقل أن هذا التفرق والانشقاق رحمة لا نقمة وسَبَبُه وهو التوسع في الأحكام سَبَبُ خير لا سبب شر. وكذلك اختلاف المجتهدين في كل فرقة من تلك الفرق لا يتصور العقل أن يكون رحمة إلا بقيد حسن استعماله، وإلا فيكون نقمة حيث يوجب تفرقة ثانية بين مالكي وحنفي وشافعي مثلاً. والمراد من حسن استعمال الخلاف هو أن كل قوم من المسلمين قد اتبعوا مذهبًا من المذاهب ترجيحًا أو وراثة أو تعصبًا ولا بد أن يكون في المذهب الآخذ به كل قوم بعض الأحكام الاجتهادية التي لا تناسب أخلاق أولئك القوم أو لا تلائم أحوالهم المعاشية أو طبائع بلادهم فيضطرون إلى الإقدام على أحد أمرين إما التمسك بتلك الأحكام وإن أضرت بهم أو الجنوح إلى تقليد مذهب اجتهادي آخر في تلك الأحكام فقط، وقد كان أكثر علماء وفقهاء المسلمين إلى القرن الثامن بل التاسع يختارون الشق الثاني فيقلدّون في هذه الحالة المذاهب الأخرى ولكن بعد النظر والتدقيق في الأدلة كما كان شأنهم في نفس مذاهبهم الأصلية مثلاً يكونوا مقلدين تقليدًا أعمى لا يجوزه الدين أساسًا إلا للجاهل بالكلية. وهذه الطريقة هي الطريقة المتبعة إلى اليوم في بلاد فارس، والعلماء المتصدرون لذلك هم أفراد من توابع العلماء المتضامين في علوم مآخذ الدين وأكثرهم ولا سيما الإيرانيون منهم متفقهون، متخرجون من مذهب الإمام جعفر الصادق - رضي الله عنه - المدوّن عندهم، ويُطْلِق أهلُ فارس على هؤلاء العلماء اسم (مجتهدين) تجوزًا واتباعًا لعادة الأعاجم في التغالي في التبجيل ونعوت الاحترام، ومن ذلك يعلم أن ما يظنه فيهم إخوانهم المسلمون البعيدون عنهم غير المواقفين على أحوالهم إلا من تفوهات السياسيين غير صحيح فما هم كما يقولون عنهم مجتهدون في أصول الدين مجوّزون الرأي في الإجماعيَّات مخرجون الأحكام أخذًا من الدلائل الظنية ولو لم يقل به أحد من علماء الصحابة والتابعين وأعاظم أئمة الهداية الأولين فما أحرى مجتهدي فارس بأن يلقبوا بمرجحين أو مخرجين أو فقهاء مدققين. ثم إن بعض الناس دعوا المقلد لأحد المذاهب إذا أخذ في بعض الأحكام بمذهب آخر ملفقًا، وسموا أخذه تلفيقًا واستعملوا لفظة تلفيق في مقام التلاعب في الدين أو الترقيع القبيح والحال أن ما سموه بالتلفيق ليس إلا عين التقليد من كل الوجوه ولا بد لكل من أجاز التقليد أن يجيزه؛ لأنه إذا تأمل في القضية يجد القياس هكذا: يجب على كل مسلم عاجز عن الاستهداء في مسألة دينية بنفسه أن يسأل عنها من أهل الذكر أي يقلد فيها مجتهدًا وكل مقلد عاجز طبعًا عن الترجيح بين مراتب المجتهدين فبناءً عليه يجوز له أن يقلد في كل مسألة دينية مجتهدًا ما. وما المانع - على هذا الاعتبار - للمسلم المقلد أن يتعلم كل مسألة من الطهارة والغسل والوضوء والصلاة من مجتهد أو فقط تابع لمجتهد، فإذا اغتسل بماء دون قُلَّتيْنِ لَحِقَتْهُ قطرة خمر واعتبره طاهرًا كما علمه عالم مالكيّ- غسلاً بدون دَلْكٍ كما علّمه عالم حنفي وبعد حَدَث مُوجِبٍ توضأ ومسح شعرات من الرأس كما علّمه عالم شافعي وصلى بعد خروج دم قليل منه كما علّمه عالم حنبلي صلاة الصبح بعد طلوع الشمس كما علّمه عالم زيدي ووصل الفرض بصلاة أخرى بدون خروج من الأولى كما علّمه عالم جعفري، أفلا يكون هكذا المقلّد صلّى صلاة تُجزئه عند الله؟ بلى، ثم بلى تجزئه بالضرورة حتى لا يقوم دليل على أن ذلك خلاف الأَوْلى كما يقال في حق الخروج من الخلافات؛ لأنه لا يُعقل أن يكلَّف هذا المقلد بأخذ دينه كله من عالم واحد؛ لأن الصحابةَ - رضي الله عنهم - مع اجتهادهم وتخالفهم في الأحكام كان يصلى بعضهم خلف بعض مع حكم المؤتم منهم على حسب اجتهاده بعدم صحة صلاة إمامه واشتراطه صحة صلاة المأموم بصحة صلاة الإمام، وهل يتوهم مسلم أن أبا حنيفة كان يمتنع أن يأتم بمالك أو يأبى أن يأكل ذبيحة جعفر كلا، بل كانوا أجهل قدرًا من أن يخطر لهم هذا التعصب على بال وما كان تخالفهم إلا من احتياط كل منهم لنفسه. ويوجد في كل مذهب من المذاهب جماعة من تلاميذ الإمام أو الفقهاء المعروفين بالمرجِّحين كل منهم كان مجتهدًا لم يتقيّد بمذهب أمامه تمامًا وخالفه في كثير أو قليل من الأحكام مخالفة اجتهاد بسب اطّلاعه على أدلة مجتهد آخر أو الفتح عليه بما لم يفتح به على إمامه ولأن الدين يلزم المسلم بأن يتبع في كل مسألة منه الشارع لا الإمام وأنْ يعمل في مواقع الاجتهاد باجتهاده لا باجتهاد غيره وإن كان أفضل منه. وهذا أبو حنيفة وأمثاله رحمهم الله تعالى كانوا أفضل من أن يعتقدوا في أنفسهم الأفضلية على أبى بكر وعمر رضي الله عنهما ومع ذلك خالفوهما في كثير من الأحكام الاجتهادية وفقهاء كل مذهب من المذاهب لم يزالوا إلى الآن يجوِّزون الأخذ تارة بقول الإمام وتارة بقول أحد أصحابه مع أن ذلك هو عين التلفيق، فلماذا لا يجوز الحنفية مثلاً التلفيق بين أقوال أبي حنيفة والشافعي أو غيره وليس فيهم من يقول: إن أصحاب إمامهم أفضل من الشافعي ومالك وابن عباس فما هذا إلا تفريق بلا فارق وحكم يعكس الدليل. وقد نتج من التفريق بين المسلمين والتشديد عليهم في دينهم ومصالحهم - بدون موجب غير التعصب - المخالفة لأمره تعالى {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: ١٣) . (مرحى) . ثم ختم (المجتهد التبريزي) مقاله بقوله: (وليس مقامنا الآن مقام استيفاء لهذا البحث وإنما أوردت هذا المقدار منه بقصد بيان جواز التلفيق إذا كان عن غرض صحيح كما جوَّزه كثير من فقهاء كل المذاهب. ولا شك أن ضرورة التلفيق أهم من الضرورة التي لأجلها جوَّز الفقهاء الحِيَلَ الشرعية مع أنها وصمة عارٍ على الشرع حيث لا يُعقل أنْ يقالَ مثلاً: إن الشفعة مشروعة دفعًا للضرر عن الشريك أو الجار، ولكن يجوز هذا الإضرار للمُحتال، أو إنّ الربا حرام ولكن إذا أضيف للقرض ثمن مبيع خسيس بنفيس جاز استباحة مقصد الربا، وإن إيتاء الزكاة فرض ولكن إذا أخرج رب المال ماله قبل الحَوْل ثم استعاده سَقَطَتْ عنه - إلى غير ذلك من إبطال الشرع وجعل التكليف تخييرًا والتقييد إطلاقًا. ولا حجّة لهم في هذا غير ما رخص الله به لأيوب عليه السلام من التوصل للبر باليمين في قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَث} (ص: ٤٤) وما أبعد القياس بين الحنث وبين إبطال الشرع. ولا شكَّ أن المسلمين بذلك صاروا كأنهم لا شرع لهم، وقد غضب الله على اليهود لتحيُّلهم على صيد السبت فقط، ونحن نُجوّز ألف حيلة مثلها بضرورة وبلا ضرورة. بناءً عليه من الحكمة أن نلتمس للضرورات أحكامًا اجتهادية فيَأمر بها الإمام إن وجد وإلا فالسلطان؛ ليرتفع الخلاف فتعمل بها الأمة ما دام المقتضي باقيًا فإذا ألجأ الزمان إلى تبديلها بقول اجتهاديّ آخر، فكذلك يأمُر به الإمام أو السلطان رفعًا للخلاف، وبمثل هذا التدبير الذي لا يأباه شرعنا ولا تنافيه الحكمة نستبدل بتلك الحيل المعطلة للشرع المسلمة لترقيعات كل فقيه ومتفقه أحكامًا شرعية إيجابية لا زيغ فيها، وبنحو ذلك يَسْلَمُ شرعُنا من التلاعب والتضارب ويتخلص القضاء والإفتاء من التوفيق على الأهواء وحينئذ يتحقق أن الخلاف في الفروع رحمة، والحاصل أنه يقتضي على علماء الهداية أن يقاوموا فكر التعصب لمذهب دون آخر فيكون سعيهم هذا منتجًا للتأليف وجمع الكلمة في الأمة. قال (الأستاذ الرئيس) : إنا نشكر أخانا المجتهد التبريزي على بيانه لنا حالة إخواننا أهل فارس وعلى غيرته للدين وقصده التأليف بَيْنَ المسلمين، أما تقريره بخصوص أنَّ حُكْمَ الإمامِ إنْ وُجِدَ وإلا فالسلطان يَرْفَعُ الخلافُ، وبخصوص أنَّ التلفيق هو عين التقليد، فتقرير يحتاج إلى نظر وتدقيق وسَتَقُومُ بمثل هذه التدقيقات في المسائل الدينية التي بَحَثَ فيها الإخوانُ الكرام الجمعيةُ الدائمة التي ستتشكل إن شاء الله. واليوم قد قرب وقت الظهر وآن أوان الانصراف. ((يتبع بمقال تالٍ))