(٢) (تابع ما قبله) ولنا أن نسأل هنا الأسئلة الآتية: (١) إذا كان المسيح أخبر تلاميذه بأنه بعد قيامته سيسبقهم إلى الجليل وأمرهم بالذهاب إلى هناك لكي يروه (مت ٢٦: ٣٢ و٢٨: ١٠ ومر ١٦: ٧) فلماذا إذًا ظهر لهم في أورشليم كما يقول لوقا ويوحنا في نفس اليوم الذي قام فيه؟ (لو ٢٤: ٣٦ و٣٧ ويو٢٠: ١٩) . (٢) ما الحكمة في إرسالهم إلى الجليل ليروه هناك مع أنه ظهر لهم مرارًا في أورشليم (أع ١: ٣) وما الداعي إلى ذلك، وهو الذي أمرهم أن لا يبرحوا أورشليم حتى يحل عليهم روح القدس؟ (لو ٢٤: ٤٩ وأع ١: ٤) . (٣) هل ظهوره لهم في الجليل كان بعد ظهوره لهم في أورشليم أم قبله؟ فإن كان بعده فلماذا شكُّوا فيه؟ (مت ٢٨: ١٧) بعد أن كان أقنعهم بذلك في أورشليم (لو ٢٤: ٣٩ - ٤٩ ويو ٢٠: ٢٠ و٢٧) وإن كان قبله، فمتى ذهبوا إلى الجليل إذًا مع العلم بأن الجليل يبعد عن أورشليم مسيرة ثلاثة أيام على الأقل، وقد نصت الأناجيل على أنهم رأوه في أورشليم في نفس يوم قيامته من القبر، فهل يعقل أنهم ذهبوا إلى الجليل ورأوه هناك ثم رجعوا في نفس ذلك اليوم؟ وإن كان السبب في الشك أن هيئته كانت تتغير بعد القيامة مرارًا، فلماذا كان ذلك؟ وما الحكمة في هذا التضليل؟ وإذا كانت هيئته قابلة للتغيير والتبديل بعد القيامة وقبلها كما يفهم من الأناجيل (راجع متى ١٧: ١ - ٧ ومر ٩: ٢ - ٨ ولو ٩: ٢٨ - ٣٦) وكان له القدرة على الاختفاء عن أعين الناس، والمرور في وسطهم بدون أن يروه والإفلات من أيديهم (يو ٨: ٥٩ و١٠: ٣٩ ولو ٤: ٣٠) فكيف إذًا يجزمون بأن اليهود صلبوه وأنهم عرفوه حقيقة وأمسكوه مع أن نفس تلاميذه كانوا يشكون فيه لكثرة تغير هيئته وتبدلها؟ (يو ٢١: ٤) فأيّ غرابة إذا قلنا: إن اليهود لم يعرفوه وأخطأوه كما أخطأته مرة مريم المجدلية وظنته البستاني؟ (يو ٢٠: ١٥) . (٤) إذا كان المسيح ظهر لهم في أورشليم يوم قيامته، فلماذا لم يأمرهم بنفسه وقتئذ بالذهاب إلى الجليل بدلاً من أن يرسل إليهم هذا الأمر بواسطة النساء؟ (متى ٢٨: ١٠ ومر ١٦: ٧) ولماذا لم يذكر مَتَّى هذا الظهور، ويذكر ما ينافيه مما سبق بيانه؟ ألا يدل ذلك على أنه ما ظهر لهم في أورشليم، وإلا لَمَا احتاج لتوسيط النساء بينه وبين تلاميذه؟ ولم ترك متَّى ذكر ذلك، وهو من الأهمية والبعد عن الشك كما يقول الآخرون بمكان عظيم؟ (لو ٢٤: ٤٥ ويو ٢٠: ٢٥) . بقي علينا أن نناقش قصة الصلب هذه من وجوه أخرى: (١) أن الشريعة الموسوية في مثل حالة المسيح كانت توجب الرجم، وليس فيها صلب لأحد وهو حي، وإنما يعلق المقتول على خشبة (تثنية ٢١: ٢٢) . أما الشريعة الرومانية فكان الصلب فيها للعبيد ولقطاع الطريق ونحوهم من أرباب الجرائم الدنيئة، فكيف إذًا صلب المسيح، وعلى أيِّ شريعة كان ذلك؟ وكيف طلب اليهود صلبه وأنفذه الرومان لهم، وهو ليس موجودًا في شرائعهم لمثله؟ وكيف صلب معه لصان كما يسميهما متَّى ومرقس وليس في شريعة الرومان، ولا شريعة اليهود صلب اللصوص؟ لذلك شك بعض العلماء حتى في أصل هذه القصة، ومنهم أيضًا من أظهر بالدلائل التاريخية المعقولة الكذب أو المبالغة في بعض قصص اضطهاد النصارى؛ واستشهادهم الكثير في القرون الأولى كما يحكون في تواريخهم. (٢) جاء في إنجيل لوقا أن المسيح قبيل القبض عليه قال لتلاميذه (٢٢: ٣٦) : الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشترِ سيفًا ٣٨ فقالوا: يا رب هو ذا هنا سيفان. فقال لهم: يكفي ٣٩ وخرج ومضى كالعادة إلى جبل الزيتون، وتبعه أيضًا تلاميذه ٤٠ ولما صار إلى المكان قال لهم: صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة ٤١ وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلى ٤٢ قائلاً: يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك ٤٣ وظهر له ملاك من السماء يقويه ٤٤ وإذا كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض ٤٩ إلى قوله: فلما رأى الذين حوله ما يكون قالوا: يا رب أنضرب بالسيف ٥٠ وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى، وعلى هذه العبارة ترد عدة مسائل: أولا: إن المسيح أمر تلاميذه بشراء السيوف وحملها للدفاع عنه، وأراد واحد منهم أن يقتل عبد رئيس الكهنة، ولكن أصابت الضربة أذنه فقطعتها ولم ينهه المسيح عن ذلك إلا بعد أن أخطأت الضربة الرجل كما يفهم من متَّى (٢٦: ٥١ و٥٢) فكيف يتفق هذا مع قول الأناجيل عنه أنه أمر تلاميذه بمحبة الأعداء (مت ٥: ٤٤) وأنه قال (مت ٥: ٣٩) : (من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا) . فلماذا لم يعمل هو نفسه بأقواله هذه، وأراد تلاميذه على حمل السيوف للدفاع عنه؟ أم كانت هذه الأقوال السلمية في مبدأ أمره كما يفهم من إنجيل متَّى قبل أن يقوى، فلما قوي قليلاً تركها؟ فماذا كان يفعل لو بلغ من القوة مبلغًا يستطيع معه أن يقهر دولة الرومان؟ وبم يفتخر المسيحيون علينا إذًا، ونحن نرى أن المسيح ما دعا إلى السلم إلا وقت ضعفه الشديد؟ ولم يعيبون محمدًا صلى الله عليه وسلم لأنه حارب أعداءه، وقد كان حينئذ قويًّا شديدًا؟ أو لا يُفهم من عبارة لوقا هذه أن المسيح هو الذي أشار عليهم بالضرب بالسيف حينئذ، فإنه هو الذي أمرهم بشرائها وحملها معهم؟ نعم إنه لم يصرح بذلك حينما سألوه (أنضرب بالسيف) ؟ ولكن كان سكوته إيعازًا خفيًّا خوفًا من اليهود ومن الدولة الرومانية؛ لأن الظاهر أنه كان عنده أمل في النجاة منهم؛ ولذلك لما تم صلبه على زعمهم يئس وقال: (إلهي إلهي لم تركتني؟) (مت ٣٧: ٤٦) . ثانيًا: إذا كان المسيح ابن الله الذي نزل من السماء للموت ليرفع خطيئة العالم، فلماذا أراد الدفاع عن نفسه، ولماذا لم يسلم نفسه لهم طائعًا مختارًا؟ وما معنى هذه الصلاة الطويلة العريضة والإلحاح بطلب النجاة، وما حكمة ذلك يا ترى؟ وهو يعلم أنه لا فائدة من هذا كله ولا بد من صلبه الذي جاء لأجله. ثالثًا: إذا كان عبيد الله يقدمون أنفسهم للشهادة في سبيله بكل شجاعة وثبات وإقدام، فكيف يمكن أن يجبن (ابن الله) عن مساواتهم في ذلك حتى يتصبب عرقه من شدة الخوف من الموت، وليس في الموت إلا أنه يعود ثانية إلى أبيه، فَلِمَ كَرِهَ ذلك يا ترى؟ ولِمَ هذا الحزن الشديد كما ذكر متى (٢٦: ٣٧ و٣٨) ؟ رابعًا: كيف يحتاج ابن الله الممتلئ من روح القدس إلى ملاك من السماء ليقويه مع أنه في ناسوته يوجد أقنومين إلهيين (الابن، وروح القدس يو١: ٣٢) وهما متَّحِدان به، فهل هذا الملَك عندهم أقوى من الله؟ خامسًا: هل من العدل عند النصارى أن ينقذ الله المذنبين - آدم وبنيه ويصلب ابنه البريء رغم إرادته وهو يستغيث به فلا يغيثه؟ فأين عدله ورحمته؟ وإذا لم يكن عادلاً رحيمًا بابنه، فهل مثل هذا الإله يرحم عبيده ويعدل فيهم؟ ولِمَ هذا الحب الكثير من إلههم لسفك دم الأبرياء من قديم الزمان؟ راجع قصة يفتاح الممتلئ من روح الله الذي قتل ابنته الوحيدة البريئة قربانًا لله وذكر الله قصته هذه في بعض كتبه ولم يزجر أباها ولم يعاقبه على ما فعل، كأن قتلها كان مرضيًّا عنده تعالى (قضاة ١١: ٢٩ - ٤٠) لأن أباها أصعدها بعد قتلها محرقة له، فلعله سُرَّ من رائحتها والنيران تأكل جثتها فلذلك ذكر هذه القصة ولم يذكر ما ينفر منها ليقتدي الناس بيفتاح هذا. راجع أيضًا مقالة القرابين والضحايا في كتابنا (دين الله) . (٣) يقول إنجيل يوحنا ١٩: ٣١ (ثم إذا كان استعداد فلكي لا تبقى الأجساد على الصليب في السبت؛ لأن يوم ذلك السبت كان عظيمًا، سأل اليهود بيلاطس أن تكسر سيقانهم ويرفعوا ٣٢ فأتى العسكر وكسروا ساقي الأول والآخر المصلوب معه ٣٣ وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه؛ لأنهم رأوه قد مات ٣٤ لكن واحدًا من العسكر طعن جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء ٣٦ لأن هذا كان ليتم الكتاب القائل عظم لا يكسر منه ٣٧) . وأيضا يقول كتاب آخر: (سينظرون إلى الذي طعنوه) . فإذا كانت هذه القصة حقيقية ووقعت لتتميم نبوات قديمة، فكيف لم يشر إليها الثلاثة الإنجيليون الآخرون؟ وليس هذا فقط بل إن عبارة مرقس (١٥: ٤٢ - ٤٦) تنافي هذه القصة؛ لأن يوحنا (١٩: ٣٨) يقول: إن يوسف أتى إلى بيلاطس بعد أن أمر بكسر سيقان المصلوبين وبعد أن ماتوا؛ فأذن له بأخذ الجثة؛ فكيف إذًا تعجب بيلاطس (حسب رواية مرقس) من موت المسيح بسرعة حينما جاءه يوسف طالبًا الجسد؟ ولماذا سأل قائد المائة قائلا: (هل له زمان قد مات؟) (مر ١٥: ٤٤) إذا كان حقيقة أصدر أمره بكسر سيقان المصلوبين ورفعهم كما قال يوحنا؟ فهل بعد هذا الكسر يبقى موضع للعجب؟ ولا يخفى أن المسيح صلب بين اللصين (يو١٩: ١٨) فكيف تخطاه العسكر، وكسروا ساقي الأول والآخر ولم يكسروا ساقيه بل كسروا الثالث قبله؟ فإن قيل: لأنهم رأوه قد مات. قلت: إذا كانوا متحققين من الموت فلماذا طعنه أحدهم بالحربة في جنبه؟ وإن لم يكونوا متحققين فما الذي أخرهم عن كسر ساقيه بعد صدور الأمر لهم بذلك؟ ولماذا ترددوا في إطاعة الأمر حتى تخطوه إلى الثالث، وهل من شأن العسكر التردد والتوقف والبحث في مثل ذلك؟ مع أن الأمر صدر لهم صريحًا بكسر سيقان الجميع والتعجيل بموتهم ورفعهم عن الصلبان إجابة لطلب اليهود من بيلاطس فما الذي أخرهم عن تنفيذ الأمر في الحال؟ ألا يدل ذلك على أن هذه القصة مصطنعة لتطبيق نبوات قديمة على المسيح كما هي عادة كتبة الأناجيل؟ (راجع كتاب دين الخوارق في الإنكليزية صفحة ٨٣٧ و ٨٣٨) . وكيف يفسرون خروج الدم منه بعد الموت من الوجهة الطبية، وما هذا الماء الذي رآه يوحنا خارجًا من جنبه كما يقول إنجيله (١٩: ٣٤ و٣٥) . (٤) ذهب بعض علماء الإفرنج إلى أن المصلوب لم يمت؛ لأن مدة الصلب كانت ست ساعات على الأكثر (راجع مرقس ١٥: ٢٥ - ٣٧) وهي غير كافية للموت بالصلب، فإن المصلوب يموت عادة من يوم إلى ثلاثة أيام؛ ولذلك تعجب بيلاطس من هذه السرعة (مر ١٥: ٤٤) وقال بسبب ذلك أوريجانوس وغيره من آباء الكنيسة القدماء: إن موته كان من خوارق العادات؛ وأيضا فإنه لم تسمر إلا يديه فقط وربطت رجلاه؛ ولذلك لم يذكر يوحنا إلا أثر المسامير في يديه ولم يذكر رجليه (يو٢٠: ٢٠ و٢٥ و٢٧) ولم يُرِهما المسيح لتلاميذه بحسب هذا الإنجيل. وأما عبارة لوقا (٢٤: ٣٩ و٤٠) فإنها تحتمل أن المراد بها أنه أراهم يديه ورجليه ليجسوهما؛ ليعلموا أنه جسم حقيقي له لحم وعظم، كما قال؛ ليقنعهم أنه ليس روحًا، وإنما أراهم يديه ورجليه دون سائر جسمه؛ لأنه يسهل كشفهما دون باقي الأعضاء الأخرى، على أن هذه القصة قد ردَّها علماء النقد المحققون (راجع كتاب دين الخوارق في الإنكليزية صفحة ٨٣٧ و٨٣٨) . هذا ولم يكن ربط رجلي المصلوب عند الرومانيين وغيرهم بأقل من تسميرهما، إن لم نقل: إنه كان الغالب في الصلب، وفوق ذلك فإن عظامه لم تكسر كما قال يوحنا (١٩: ٣٦) وأما طعنه بالحربة فلم تذكرها الأناجيل الأخرى، وقصتها مشكوك فيها كما بيَّنا، وإذا صحت فيجوز أن الحربة لم تنفذ إلى داخل الجسم، وتكون فقط قد قطعت الجلد والشحم وبعض العضلات على أن الفعل اليوناني المترجم في الإنجيل بطعن (يو ١٩: ٣٤) لا يفيد أن الجرح كان غائرًا كما يقول علماء هذه اللغة. ثم إن هذه الحادثة تدل على الحياة أكثر من دلالتها على الموت، فإنه لو كان المصلوب ميتًا لَمَا سال منه دم، فسيلان الدم منه هو أحد الدلائل على أنه كان حيًّا، فبعد أن سال منه جزء من الدم بطل النزف كالمعتاد. والظاهر أن هذه القصة اخترعت قديمًا لإثبات الموت؛ لجهلهم بعلم الطب إذ ذاك. فلهذه الأسباب كلها قال العلماء: إن المصلوب لم يمت حقيقة وإنما أغمى عليه إغماء شديدًا كما حصل لبولس بعد أن رجم (أع ١٤: ١٩ و٢٠) فلما أنزل عن الصليب ودفئ بالكفن والكتان (مت٢٧: ٥٩) واستراح في القبر وانتعشت روحه بالأطياب الكثيرة التي وضعها له نيقوديموس (يو ١٩: ٤٠) أمكنه أن يقوم ويخرج من القبر، والذي أزال الحجر عن هذا القبر هي الزلزلة التي ذكرت سابقا؛ أو أن مسألة الحجر هذه مخترعة؛ لأن العادة كانت أن لا يوضع هذا الحجر إلا بعد مضي ثلاثة أيام (راجع كتاب دين الخوارق ص ٨٣٢) . فلما قام المصلوب ومشى قليلاً سقط ميتًا بسبب ما تحمَّله من العذاب وانهماك قواه، والجوع والعطش مدة طويلة وآلام الجروح والتهابها أو تعفنها وربما ساعد على ذلك وجود بعض أمراض في أحشائه لم تعلم أو أنه أصابه ذهول فألقى بنفسه من مكان عالٍ أو زلت قدمه فهوى، إلى غير ذلك من الأسباب المحتملة المتنوعة التي تسبب الوفاة في مثل هذه الحالة، ولم يعلم المكان الذي مات فيه؛ فإن القبر كان خارج مدينة أورشليم في بعض جبالها، وبسبب عدم وجود الجثة في القبر نشأت هذه القصص المختلفة عن القيامة. هذا شيء مما يقال في هذه المسألة، وهو قليل من كثير مما يقوله علماء أوربا الآن في الدين المسيحي حتى إنه ليخيل للإنسان أنه لا يمضي زمن طويل حتى تخرج أوربا كلها عن النصرانية، وليس ذلك بعجيب عند من يعلم أن أكبر العلماء والمفكرين هناك قد خرجوا الآن فعلاً عن هذا الدين ونبذوه وراءهم ظهريًّا، وألفوا المجلدات الضخمة في إثبات بطلانه وفساد عقائده كلها كما يقولون. ولا أدري لماذا يفتخر المبشرون بأوروبا وعلمها بين المسلمين مع أنه قل أن يوجد بين الإفرنج عالم مستقل الفهم والعقل يعتقد بشيء من عقائد النصرانية، فالأولى بجماعة المبشرين بدل نشر دينهم خارج أوربا أن يحصنوه في داخلها ضد غارات هؤلاء العلماء المحققين، وإلا خرجت أوربا كلها عن المسيحية يومًا ما، وحينئذ لا يُجديهم افتخارهم بها وبعلمها ومدنيتها نفعًا. هذا وإذا وجد في بعض كتابات مؤرخي الوثنيين الأقدمين أن المسيح صلب كما في تاريخ تاسيتوس (Tacitus) المؤلَّف نحو سنة ١١٧ ميلادية، فلا يعتد بقوله لوجوه: (١) أن يكون تاسيتوس أخذ ذلك من الإشاعات الحاصلة في ذلك الوقت وجمهورها يؤيذ ذلك كما قلنا، ولو لاحظنا احتقار تاسيتوس للنصارى في ذلك الوقت لما استغربنا منه هذا القول الذي صدر منه بدون تحقيق ولا تمحيص لعدم عنايته بهم، فهو كأقوال نصارى أوربا في القرون الوسطى في محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، فقد كانت كلها مبنية على الإشاعات الكاذبة والاختلاقات. ومما يدل على صحة قولنا في تاسيتوس هذا وغيره من مؤرخي الوثنيين أنهم كانوا يأخذون بالإشاعات والأكاذيب المنتشرة حولهم ويحشرونها في تواريخهم بدون تحرٍّ ولا بحث - أنه دَوَّنَ في تاريخ اليهود خرافات عديدة مضحكة ظنها حقائق ثابتة، كما قالت دائرة المعارف الإنكليزية (مجلد ١٣ صفحة ٦٥٨) والحق يقال: إن الرومانيين لم يهتموا بالمسيح أدنى اهتمام؛ لأنه لم يفُه ببنت شفة يفهم منها أنه يريد الخروج عليهم، وكانت كل أعماله قاصرة على إصلاح حال أمته دينيًّا وأدبيًّا ولم يتبعه إلا بعض فقراء اليهود وأصاغرهم؛ فلذلك لم يلتفت إليه أحد من غير اليهود؛ فحادثة الصلب كانت من المسائل المحلية الداخلية لهم لم يهتم بها أحد من حكام الرومان خارج أورشليم؛ ولذلك صدر أمر بيلاطس فيها بدون استئذان رومية كما يفهم من جميع الأناجيل [١] . والراجح عند العلماء أن بيلاطس لم يبلغها رسميًّا للإمبراطور طيباريوس في رومية (راجع كتاب شهود تاريخ يسوع ص٢٣) لأنها كانت من المسائل الصغيرة القاصرة على اليهود، وكانوا غير خاضعين لشرائع الرومان في مسائلهم الدينية. فغاية الأمر أن عيسى وهو أحدهم حكم عليه مجمع السنهدريم اليهودي بالموت، وهو لم يكن رومانيًّا حتى تهتم به الرومان، وكان لا بد لهذا المجمع أن يحصل على تصديق الحاكم الروماني في بلادهم لكي يقدر على تنفيذ ما حكم به رسميًّا، نعم وكان الرومان على الحياد بالنسبة لمسائل اليهود الدينية الداخلية إلا أنه كان لا بد من تصديقهم على مثل هذه العقوبات التي يريد اليهود تنفيذها في شئونهم الدينية شأن الأمم الغالبة مع الأمم المغلوبة كما هو مشاهد في هذا العصر (راجع كتاب رينان في حياة المسيح ص ١٣٤) . فلم يكن ثَمَّ باعث لاهتمام الرومانيين بهذه المسألة حتى لو بلغ الحكومة خبرها رسميًّا بعد وقوعها؛ ولذلك كان مؤرخوهم يجهلون تاريخ المسيح ولم يذكره إلا قليل منهم عرضًا في كتبهم، والغالب أن أهل رومة لم يسمعوا به إلا بعد أن دخلت النصرانية إيطاليا وكانوا يحتقرون النصارى احتقارًا شديدًا ولا يهتمون بهم ولا يعرفون الفرق بينهم وبين اليهود ولا شيئًا من أخبارهم الصحيحة؛ ولذلك يقول تاسيتوس: إن لليهود والنصارى إلهًا له رأس حمار، ويقول سويتونيوس المؤرخ الروماني (Suetonius) في أوائل القرن الثاني: إن اليهود (يريد النصارى) طردَهم كلوديوس من رومة؛ لأنهم كانوا يحدثون شغبًا وقلاقل فيها، يحرضهم عليها دائما السامي أو الحسن (chrestus) يريد المسيح. اهـ. وكان يظن أيضًا أن المسيح عليه السلام كان مقيمًا في رومية في ذلك الزمن، فإذا كان هؤلاء المؤرخون إلى أوائل القرن الثاني لم يعلموا إن كان المسيح وجد في رومية أو لم يوجد ولا حقيقة عقيدة أهل الكتاب في الله، فكيف يعول النصارى على شهادتهم؟ فقيمة هذه التواريخ الوثنية عن مؤسس النصرانية عليه السلام هي كقيمة كتابات بعض مؤلفي الإفرنج في القرون الوسطى الذين كانوا يكتبون عن المسلمين أنهم يعبدون (ماهوم) أو غير ذلك من الأسماء، وأن له صنمًا عندهم من ذهب في مكة أو أورشليم. ومنهم من زعم أنه رأى هذا الصنم بعينيه إلخ ما نشر من خرافاتهم وهذياناتهم؛ فكذلك كانت كتابة الوثنيين عن المسيح والمسيحيين. فهي لا قيمة لها، ولا يجوز أن يعتبر شيء منها تاريخًا صحيحًا، فإنها كلها مبنية على الإشاعات والاختلاقات والأوهام والأكاذيب بدون أن يكلفوا أنفسهم أقل عناء في معرفة الحقيقة. ولم يكن للنصارى إذ ذاك شأن عندهم حتى يلتفتوا للبحث في تاريخهم؛ ولذلك جهلوا حتى اسمهم واسم رئيسهم يسوع [٢] عليه السلام؛ فإذا قالوا: إنه صلب، أو: عبده جميع النصارى من دون الله أو غير ذلك؛ فهي أقوال لا يهتم به أحد من المسلمين؛ فإنها صادرة عن قوم لا يفهمون من أمر النصارى شيئًا، وربما قاسوا بعض معتقداتهم على معتقدات أنفسهم، ونظروا إليها بهذا المنظار وفهموها خطأ؛ فظنوا أنها إما خرافات وخزعبلات كما قالوا في كتبهم عنها؛ أو أنها تحوير لعبادتهم للآلهة الرومانية قام به المتنصرون منهم، أي أنهم ألَّهوا رئيسهم وعبدوه بدل تلك الآلهة الرومانية [٣] وما كانوا ليفهموا من النصرانية أكثر من هذا أو نحوه كما كان يظن الأوروبيون أن المسلمين يعبدون محمدًا عليه السلام وجهلوا اسمه كما جهل الرومان اسم يسوع، وجعلوا له ثلاثة آلهة أو ثالوثًا قياسًا على ثالوثهم [٤] . والخلاصة أن أمثال هذه التواريخ المبنية على مثل هذه الأوهام والجهل لا تفيد النصارى شيئًا؛ وهي لا قيمة لها بالمرة فلا يصح الاحتجاج بها على المسلمين؛ هذا إذا كانت خالية من التحريف، فكيف وما خلت منه كما في الوجه الآتي: (٢) إن هذه العبارة المذكورة في تاريخ تاسيتوس قال فيها كبار العلماء من المحققين في أوربا: إنها إما أن تكون مدسوسة عليه أو محرفة بالزيادة (راجع كتاب شهود تاريخ يسوع ص ٢٠ -٥٦) وكتاب (ملخص تاريخ الدين) لمؤلفه جولد (Gould) ص٢٢ مجلد ٣. وقد بين هؤلاء العلماء دلائلهم على صحة دعواهم هذه، ولكن يطول بنا إيرادها في مثل هذه المقالة، والحق أن المؤلفات التي وصلتنا من طريق النصارى لا يوثق بها؛ لكثرة تعودهم على تحريف جميع ما نقلوه من الكتب التي وصلت إلى أيديهم سواء كانت دينية أو تاريخية أو غير ذلك، كما يعترف بذلك علماء النقد منهم الآن، فكم من عبارة أظهروا تحريفها أو دسها! وكم من كتب أظهروا وضعها واختلاقها ونسبتها إلى غير كاتبيها حتى لم يسلم من عملهم هذا الكتب التي توجد عند غيرهم من الأمم كتاريخ يوسيفوس الموجود عند اليهود أيضا؛ وقد بينا ذلك في كتاب دين الله (ص٧٩ و٨٠ منه) فمنذ القرن الرابع حينما صارت دولة الرمان إليهم تصرفوا في كتبهم وفيما وصلهم من كتب غيرهم بما شاءوا وشاءت أهواؤهم؛ ولم يخشوا حسيبًا ولا رقيبًا. وقد بيَّن العلامة أندريس (Andresen) أن أصل عبارة تاسيتوس هذه في أقدم النسخ المخطوطة باليد مغاير للموجود في النسخ المتأخرة في كلمة (Chrestianos) التي حرفوها إلى (Christianos) والفرق بين الكلمتين عظيم، فإن الأولى بمعنى الطيبين والثانية بمعنى المسيحيين وكانت الكلمة الأولى (Chrestianos) تطلق على عُباد الإله المصري (Chrestus) المسمى أيضًا (Osiris) وكان عُبَّاده في رومية إذ ذاك كثيرين من عامة الرومان ومن مهاجري المصريين، وهم الذين كان يمقتهم الرومانيون الآخرون، واضطهدوهم كثيرا لأسباب دينية وسياسية؛ ولشدة كرههم لأولئك المصريين واحتقارهم لهم لم يمكنهم أن يميزوا بينهم وبين اليهود المصريين المهاجرين إليهم من الإسكندرية وغيرهم، واعتبروهم كلهم سواء في الجنس والدين، فلما احترقت رومية نسبوا الحريق إليهم فحل بهم ما حل من اضطهاد نيرون قيصر الرومان (Nero) كما فصله تاسيتوس في تاريخه. فالظاهر أن بعض النصارى ظن أن تاسيتوس يريد بقوله (Chrestianos) المسيحيين أي (Christianos) فأضاف إلى تاريخه هذه العبارة للتفسير، أي: هذا الاسم: أي (Chrestianos) منسموب إلى المسيح (Christ) الذي صلب بأمر الوالي بيلاطس في عهد الإمبراطور طيباريوس (Tiberius) مع أنه نسبة إلى (Chrestus) إله المصريين ولما لاحظ النصارى هذا الخطأ حرفوا اللفظ الوارد في كتابة تاسيتوس من (Chrestianos) إلى (Christianos) لتصح النسبة إلى المسيح (Christ) ولذلك اختلفت النسخ الحديثة عن النسخ القديمة في هذا اللفظ، كما حقَّقه أندريس على ما سبق، وعليه فتاسيتوس لم يذكر المسيح في كتابه مطلقًا، و (Chrestus) المذكور هنا هو اسم آخر لأوزيريس كما تقدم؛ وكان يطلق أيضا على رئيس كهنة هذا المعبود بل وعلى بعض موالي الرومانيين، وهذا يفهمنا المعنى الحقيقي لقول سوتيونيوس (Suetonius) السابق: إن اليهود طردهم كلوديوس (Claudius) من رومية بسبب ما يحدثونه من الفتن بتحريض الحسن أو السامي (Chrestus) وهو على هذا أحد رؤساء الكهنة أو شخص آخر سمي بهذا الاسم. وهو تفسير معقول، ولولاه لكان سويتونيوس لا يعرف الفرق بين اليهود والنصارى، ويزعم أن المسيح وجد في رومية وهو خطأ يبعد جدًّا أن يقع فيه مؤرخ مثله. فالحق أنه لم يذكر عيسى عليه السلام كما لم يذكره تاستيتوس على ما بينا، ولولا تحريف النصارى لكتبهما لفظًا ومعنى لَما فهم منهما غير ما قررناه ولَما توهم أحد وقوع سويتونيوس في هذا الخطأ الفظيع والجهل الفاضح الذي ينسبونه إليه. ولما انتشرت المسيحية في رومة بقي الرومان مدة لا يفرقون بين كلمة (Chrestians) و (Christians) وكلمة (Chrestus) و (Christus) وظنوا أن المسيح هو معبود المصريين (Osiris) القديم. فحصل بسبب ذلك هذا الخلط والخبط حتى توهم أيضا يوستينوس (Justin) الشهيد النصراني الشهير المتوفى في القرن الثاني أن هناك علاقة بين اسم المسيحيين (Christians) وكلمة (Creston) أي حسن أو طيب كما في كتاب جولد المذكور (ص١٩ من المجلد ٣) . (٣) إذا سلم أن تاسيتوس أخذ خبر الصلب من مصدر رسمي في رومية كما يدَّعون فنحن لا نقول: إن بيلاطس ورؤساء اليهود كانوا يعرفون الحقيقة بل نقول: إنهم كانوا مخدوعين، بل ربما كان العسكر الذين قبضوا على يهوذا بعد فرار المسيح أيضا مخدوعين؛ إذ يجوز أنهم أخذوه إلى السجن لا لمجرد تخليص أنفسهم من العقاب باتهامهم أي شخص كان؛ بل لاعتقادهم أنه هو عيسى وساعدهم على هذا الظن شدة شبه يهوذا به وجهلهم بطرق تحقيق الشخصية (وهو العلم الذي تُوسع فيه الآن) وكذا عدم شدة مقاومة يهوذا لهم لتصميمه على قتل نفسه من قبل القبض عليه كما بينا، فإذا قال لهم مرة أو مرتين حينما قبضوا عليه: إنه ليس هو عيسى، ظنوا أنه كاذب، وأنه يريد الفرار منهم مرة أخرى، فلم يلتفتوا إلى قوله. ومما ساعد على جهل الناس حقيقة المصلوب حتى انخدعوا أن هيردوس غيَّر ملابس المسيح وألبسه لباسًا أبيض لامعًا استهزاء به (لو ٢٣: ١٠) ورده إلى بيلاطس، فوضع بيلاطس أيضًا إكليلاً من شوك فوق رأسه وألبسه ثوب أرجوان، وخرج به هكذا، وحاكمه أمام اليهود (يو ١٩: ٢-١٦) ولما حكم عليه بالصلب أخذه العسكر إلى داخل دار الولاية، وألبسوه رداء قرمزيًّا ووضعوا إكليلاً من شوك على رأسه (مت ٢٧: ٢٨ و٢٩) وكل هذه المظاهر المختلفة تغير هيئته أمام من رآه خصوصًا من لم يعرفوه معرفة جيدة وتساعد على الوقوع في الخطأ. وفي وقت الصلب جردوا المصلوب عن ثيابه كلها وبقي عريانًا ولا يخفى أن من لم يتعود رؤية شخص وهو عريان لا يسهل عليه معرفته بعد تجريده من ملابسه. (انظر مر١٥: ٢٤ -٢٧ ومتى ٢٧: ٣٥ و٣٦) . وكيف يعجبون من قولنا: إن النساء اللاتي كن واقفات بعيدًا عنه وقت الصلب لم تعرف الحقيقة، ولا اللذين دفناه، وهما ما كانا يعرفانه حق المعرفة كما بينا كيف يعجبون من ذلك ولا يعجبون من أن مريم المجدلية التي كانت تعرفه حق المعرفة ومختلطة به أتم الاختلاط، لم تعرفه وقت القيامة مع أنها كانت واقفة بالقرب منه وكان يكلمها (يو ٢٠: ١٥) وكذلك بعض التلاميذ الآخرين ما عرفوه مع أنه كان يمشي معهم ويحادثهم ويأكل معهم (لو ٢٤: ١٣ - ٣٤) . وكان الشك فيه ملازمًا لهم كلما رأوه (مت ٢٨: ١٧، ولو ٢٤: ٣٧ -٤٢ ويو٢٠: ٢٧) . ولماذا تغير شكله؟ وما هو السبب في ذلك؟ ولماذا لم يَبقَ على صورته الأصلية حتى يقنع تلاميذه بدل الشك فيه مرارًا؟ . أما يكفي أنه لم يره أحد غير تلاميذه؟ فهل بعد ذلك يشككهم مرارًا في نفسه بسبب تغير هيئته (مر ١٦: ١٢) ؟ ثم يحاول إقناعهم بصعوبة زائدة حتى بقي بعضهم شاكًّا في الجليل بعد أن رأوه في أورشليم. انظر (متى ٢٨: ١٧) . ولا تنس أن القبض على المسيح ومحاكمته أمام مجمع اليهود ورؤسائهم كانا ليلاً، ولا يخفى على أحد مبلغ طرق الإضاءة في تلك البلاد وتلك الأزمنة وكان ذلك أكبر وقت قضاه المسيح أمام أولئك الرؤساء. أما محاكمته في النهار فكان وقتها قليلاً جدًّا، وكان يختلي به بيلاطس فيها مرات (انظر يوحنا ١٨: ٣٣ - ١٩: ١٦) فضاع بذلك أكثر هذا الوقت القصير أيضًا، وكان المسيح كلما خرج أمام اليهود في وقت هذه المحاكمة، لابسًا ملابس السخرية والاستهزاء (يو١٩: ٥) كما بيَّنا وهي طبعًا غير ملابسه العادية ولا بد أنها تغير شكله، وعليه فكل هذه الظروف تساعد على وقوع الخطأ والاشتباه. ومما يؤيد قولنا بهروب المسيح من السجن، ويقرب ذلك من عقول النصارى: ما جاء في إنجيل يوحنا وهو يدل على قدرته على الاختفاء والإفلات من أيدي الناس بطرق عجيبة جدًّا خارقة للعادة، قال ٨: ٥٩ (فرفعوا حجارة ليرجموه، أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازًا في وسطهم ومضى هكذا. أي: بدون أن يروه، وقال ١٠: ٣٩ (فطلبوا أن يمسكوه فخرج من أيديهم) فلِمَ لا يجوز أن يكون خرج من أيدي الحراس كما كان يخرج من أيدي اليهود على ما قال الإنجيل ولم يره أحد؟ (راجع أيضا لوقا ٤: ٢٩ و٣٠) . ومن الجائز أنهم لما لم يجدوه وخرج من أيديهم واختفى بهذه الكيفية التي ذكرتها الأناجيل وتحققوا من عدم وجوده بالمدينة، خاف الحراس من العقاب وارتبكوا وخاف اليهود أن يؤمن به كثير من الناس فأخذوا عمدًا واحدًا غيره من المسجونين يشبهه أو لا يشبهه باتفاقهم مع العسكر، وربما رشوهم بمال كثير حتى لا يبوحوا لأحد بالسر مطلقًا (انظر مت ٢٨: ١٢) وصلبوا هذا الرجل خارج المدينة، وأفهموا الناس أنهم صلبوا المسيح، وكان المسيح في ذلك الوقت قد ذهب إلى الجليل أو غيره هربًا منهم وخوفًا (انظر يو ٧) ومن هناك رُفع إلى السماء فلم يعثر عليه أحد كما رُفع أخنوخ (تك ٥: ٢٤) وإيليا (٢ مل ٢: ١١: ١٧) وقد منع اليهود الناس من الاقتراب من المصلوب؛ لئلا يعرفوا الحقيقة، وأيضا كان من رأيهم أن هلاك واحد من الشعب خير من هلاك الأمة كلها على حسب زعمهم (يو ١١: ٥٠) فلا يبعد أن واحدًا من رؤساء الكهنة قدم نفسه لذلك العمل كما يفعل بعض الناس للآن في زمن الحروب وغيرها. ويحتمل أيضا أن هذا الذي أخذوه كان أحد المحكوم عليهم بالإعدام كباراباس (لو ٢٣: ١٩) الذي قال علماؤهم: إنه كان يسمى يسوع أيضًا في أقدم تراجم المسيح، فحذف النصارى هذا الاسم منها (راجع دائرة المعارف الإنكليزية مجلد ١٣ صفحة ٦٥٦) ونظرًا لأن هذا الرجل كان محكومًا عليه بالإعدام على ما يظهر، وكان اسمه يسوع، فلما صلبوه ظن أنه صلب لأجل ما حدث منه من القتل والفتنة، وكلما نادوه باسمه لم يخطر على باله أنهم أقاموه مقام يسوع المسيح الذي ظنه الناس أنه هو المصلوب، وبذلك تحقق قول المسيح لليهود (يو ٧: ٣٣) (أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد ثم أمضي إلى الذي أرسلني ٣٤ ستطلبونني ولا تجدونني وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا) . واستجاب الله دعاءه برفع كأس الموت عنه (مر ١٤: ٣٥ - ٤٢) وإلا فكيف يعقل أن الله يرد دعاء مثله؟ (راجع أيضًا يوحنا ١٦: ٣٢ و٣٣) . وعلى هذا الوجه يكون الذين كتبوا الأناجيل أناسًا لم يعرفوا حقيقة المسألة فكتبوها كما شاع في ذلك الوقت واشتهر عند أكثر الناس. وبعد الصلب جاء يوسف ونيقوديموس وهما يهوديان من أعضاء مجلس السنهدريم وأخذا الجثة بأمر رؤساء الكهنة وأخفياها عن أعين أتباع المسيح خوفًا من أن يعرفوا الحقيقة، فتظاهرا بأنهما من أتباع المسيح في السر (يو ١٩: ٣٨ و٣٩) ليمنعاهم من دفنه بأنفسهم وأخذا الجثة ووضعاها أولا في قبر ولما ذهب كل من كان واقفًا من الناس نقلاها إلى موضع آخر لم يعلمه أحد. ولما شاعت إشاعة القيامة واعتقدها بعض الناس كانت أولاً قاصرة على التلاميذ كما سبق، ولم يجاهروا بها أمام اليهود خوفًا منهم (يو ٢٠: ١٩ و ٢٦) وبعد نحو خمسين يومًا كما في سفر الأعمال (٢: ١ و١٤) بدءوا يخبرون اليهود باعتقادهم هذا. ولكن في ذلك الوقت كانت جثة المصلوب قد تغيرت جميع معالمها بسبب التعفن الرمي، ولا يمكن لليهود أن يحضروها بعد إخفائهم لها، وإذا أحضروها فلا يقتنع بها أحد ولا يمكن أن يعرفها، فكان من العبث أن يحاول أحد إقناعهم بذلك [٥] . ولذلك سكت رؤساء اليهود عن مثل هذه الحجة التي تظهرهم بمظهر العاجز المتحير، وظنوا أن أحسن طريقة لإسكات النصارى هي استعمال القسوة والاضطهاد لا مثل هذه المناقشة التي لا طائل تحتها. وربما أشاع بعض عامة اليهود في ذلك الوقت فكرة سرقة تلاميذ المسيح الجثة من القبر لأنهم لم يعرفوا الحقيقة، ولا يبعد أن بيلاطس نفسه دخلت عليه الغفلة من رؤساء الكهنة والعسكر ولم يعرف هو أيضا الحقيقة، فإنه كان يحب المسيح كثيرًا هو وامرأته (متى ٢٧: ١٩ و٢٤) فكان هؤلاء الرؤساء يخافون أن يؤمن به وخصوصًا إذا تحقق أن المسيح أفلت من أيديهم واجتاز في وسطهم بدون أن يروه كما يقول الإنجيل بعد أن كان بيلاطس يسعى في خلاصه منهم بنفسه فلم يقدر (مت ٢٧: ١٧ - ٢٥) . ولنا أن نسترسل في هذا الوجه ونقول كما قال متى: إن المسيح بعد ذلك عاد إلى بعض تلاميذه لما ذهبوا إلى الجليل وأخبرهم بحقيقة المسألة، فبعضهم صدق كلامه وأنه هو، وبقي البعض الآخر شاكًّا (مت ٢٨: ١٧) متمسكًا بما ذهب إليه أولاً من حصول الصلب له والقيامة من القبر. أما الذين صدقوا فمن شدة حيرتهم ودهشتهم لم يفهموا منه جميع تفاصيل القصة كما لم يفهموا كلامه في أثناء حياته عن موته وقيامته على ما سبق بيانه مع أنهم لم يكونوا إذ ذاك في حالة من الحيرة والدهشة كهذه، ولذلك فاتهم بعض أشياء من هذه القصة فاختلفوا في تصويرها للناس، ومن ذلك نشأت فرق النصارى القديمة التي أنكرت الصلب، وقالت: إن المصلوب واحد آخر غير المسيح لم يتفقوا على تعيينه، وقال بعضهم: إنه سمعان القيرواني الذي تقول الأناجيل: إنه حمل الصليب (مت ٢٧:٣٢) وذلك مثل طائفة الباسيليديين (BASILIDIANS) كما ذكره جورج سيل الإنكليزي في ترجمته للقرآن الشريف في سورة آل عمران صفحة ٣٨. فإن قيل: ولماذا لم يُظهر المسيح نفسه لليهود حينئذ ويُكذبهم في قولهم بصلبه؟ قلت: لعله خاف منهم (يو ٧: ١ و١٠ و١١: ٥٤ و١٢: ٣٦) على أن هذا السؤال وارد على النصارى بالأولى، بأن يقال: لماذا لم يُظهر نفسه كما وعد المنكرين له بعد قيامته؛ حتى يؤمنوا به، وحتى لا يشك فيه نفس تلاميذه؟ فما يقولونه في الجواب عن ذلك هو عين جوابنا نحن أيضًا. هذا وإذا لم يثبت أن المسيح عاد للتلاميذ وأخبرهم بالحقيقة فلا غرابة في ذلك؛ لأنه كان قد لمَّح لهم بها من قبل حادثة الصلب؛ فقال لهم (يو ١٦: ٣٢) (هو ذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي ٣٣ قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام، في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم) وقال أيضًا (يو ١٣: ٣٣) : ستطلبونني، وكما قلت لليهود (ص ٧: ٣٤) حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا، أقل لكم أنتم الآن. ولكن الناس قد نسوا ذلك أو شكوا فيه أو لم يفهموه كما لم يفهموا كثيرًا ومن كلامه الآخر (يو ٢١: ٢٢ و٢٣ و٢: ١٩ - ٢٢) ولو١٨: ٣٤) إلخ. وكيف يتفق قوله: إن الآب معي، مع قول المصلوب: مت ٢٧: ٤٦: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ فالحق أن الله ما تركه بل رفعه إليه ونجاه من أيدي اليهود. (راجع أيضا كتاب دين الله ص ١٠٠ - ١٠٣) وربما أنه بعد فراره منهم ذهب إلى الهند كما كان يهرب من أورشليم مرارًا خوفًا من اليهود (انظر مثلاً يو ١٠: ٣٩ - ٤٢ و١١: ٥٣ - ٥٧) وقد بيَّن ذلك الأستاذ صاحب المنار في تفسيره، واستدل على ذلك بروايات الهنود؛ وبوجود قبر لشخص جاءهم منذ التاريخ المسيحيى واسمه يوزاسف، وهو يقرب من اسم المسيح يسوع، تعريب ييزس (Iesous) اليوناني، ومنه ييسس الإنكليزي (Jesus) إلخ، ويقال هناك: إن اسمه الأصلي: عيسى صاحب. وعليه يكون المسيح مات هناك بعد أن عاش مدة قليلة في راحة وهناء ودفن ولم يرفع بجسمه إلى السماء حيًّا كما يقول كثير من المسلمين والنصارى الآن، ويكون المراد بالرفع في القرآن الرفع المعنوى أو الروحاني. وربما أنه هناك لم يؤمن به أحد أو آمن به قليلون انقرضوا واندمجوا في باقي أهل الهند وتلاشت عقائدهم في عقائد أولئك. ومما يؤيد القول بعدم إيمان أحد به أنه لم يرسل إلا إلى بني إسرائيل ولم يدعُ أحدًا إلى دينه سواهم (مت ١٠: ٥ و٦ و١٥: ٢٤) وإلى هذه الهجرة الهندية قد أشار القرآن الشريف كما قال الأستاذ السيد صاحب المنار بقوله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} (المؤمنون: ٥٠) فأمه هاجرت معه؛ ولذلك لم يقف النصارى على شيء يعتد به من تاريخها بعد حادثة الصلب باليقين. ومما يزيدك وقوفًا على اضطراب الأناجيل وخطأها في هذه المسألة وغيرها أكثر مما تقدم أن إنجيل يوحنا (وهو متأخر عنها فلذا نمت فيها العقائد أكثر) يقول: إن يحيى بن زكريا كان يعتقد أن عيسى هو حمل الله الذي يرفع الخطية عن العالم (يو ١: ٢٩ -٣٥) مع أن الأناجيل الأخرى قالت: إنه وهو في السجن في آخر حياته لما سمع من تلاميذه عن أعمال المسيح أرسل إليه اثنين منهم يسألانه: هل هو المسيح المنتظر أم ينتظر غيره؟ (راجع لوقا ٧: ١٨ - ٢٣ ومتى ١١: ٢ - ٦) ولا أدري كيف يتفق هذا مع اختراعات إنجيل يوحنا فانظر وتعجب. ومن خطأ الأناجيل قول متى (٢٣: ٢٣) إن الكتبة والفريسيين كانوا يدفعون العشر عن النعنع والشبث والكمون، مع أن مثل هذه الأشياء ما كان يدفع عنها شيء (راجع كتاب شهود تاريخ يسوع ص ٢٣٨) وقال هذا الإنجيل أيضًا عن المسيح إنه قال إن اليهود قتلوا زكريا بن برخيا بين الهيكل والمذبح (مت ٢٣: ٣٥) مع أن الذي قتلوه هو زكريا بن يهويا داع كما في سفر أخبار الأيام الثاني (٢٤: ٢٠ و٢١) وأما ابن برخيا أو باروخ، فهذا قتل بعد المسيح حينما حاصر الرومانيون أورشليم كما ذكره يوسيفوس في كتابه (تاريخ حرب اليهود) وهذا مما يدل على خبط الأناجيل وخلطها في حوادث تاريخ المسيح، فكيف يطمئن الإنسان إلى روايتها أو يثق بشيء منها مع امتلائها بالغلط والتناقض الذي بيناه مرارًا؟. وسنكتب إن شاء الله قريبًا شيئًا عن تاريخ هذه الأناجيل وعن بولس مؤسس المسيحية الحالية الحقيقي. فإن قيل: ألا ترى أن وقوع الصلب بهذه الكيفية التي شرحتها يشكك الناس في صدق عيسى أنه هو المسيح المنتظر، فإنهم كانوا يتوهمون أنه يُردّ المُلك إلى إسرائيل (أع ١: ٦) ؟ قلت: إذا كان الاعتقاد بصلبه لم يشككهم جميعًا في ألوهيته فكيف إذاً يشككهم في صحة مسيحيته؟ وأي ضرر إذا شككهم في أوهامهم التي كانوا بالغوا فيها بشأن مسيحهم الذي كانوا ينتظرونه؟ وهل نسيت أن باب التأويل عند الناس في مثل هذه المسائل واسع، فإنهم يرجعون إلى أوهامهم فيحورونها وإلى نبواتهم فيؤلونها؟ ولذلك تراهم أولوا صلبه بأن ذلك إنما فعله بإرادته رغبة منه في خلاص البشر، مع أن المسيح كان يلح في طلب النجاة من الله (متى ٢٦: ٣٨ - ٤٤ ولو ٢٢: ٤١ - ٤٥) وقالت أناجيلهم أنه قال: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ وهو يدل على اليأس والقنوط من استجابة دعائه (راجع أيضا مزمور ٢٢ خصوصًا عدد ١٤ و١٥ منه) وأولوا فقدان جثة المصلوب بأنه قام من الموت. وأولوا ملك المسيح الذي كانوا ينتظرونه بأنه سيأتي قريبًا (رؤ٢٢: ٧ و١٠ و١٢ و٢٠ ومت ١٦: ٢٧ و٢٨ و١٠: ٢٣ ورؤيا ٣: ١١ ويع ٥: ٨ وبط ٤: ٧ ويو٢: ١٨ وتسا ٤: ١٥ - ١٧ وكو ١٠: ١١ و١٥: ٥١ ٥٢ إلخ) ويرد الملك لهم ويحكم في الأرض ألف سنة كما في سفر الرؤيا (٢٠: ٤ و٧) وأن يوحنا لا يموت حتى يجيء المسيح (يو ٢١: ٢٢) فلما مات يوحنا ومضت القرون ولم يجئ رجعوا إلى عبارته في يوحنا فوجدوها لا تفيد ما توهموه، وأولوا جميع عباراته المزعومة وعبارات غيره الدالة على قرب مجيئه (حتى ما في متى ٢٤: ٣ و٢٩ - ٤١) وقالوا: إن ملكوته روحاني لا دنيوي إلخ إلخ. وقد بين علماء الإفرنج في كثير من كتبهم أن اليهود لكثرة اختلاطهم بالأمم الوثنية وتسلطها عليهم ورؤية اليهود ما لهم من عز ومجد ومدنية ولطول زمن خضوعهم لهم يئس كثير من خواصهم أن يكون مسيحهم المنتظر سلطانًا دنيويًّا مخلصًا لهم من تسلط هؤلاء الأمم الأجنبية القوية، وتأثروا بما عندهم فاقتبسوا بعض أفكارهم الوثنية في آلهتهم التي قالوا: إنها نزلت بإرادتها إلى الأرض لخلاص البشر بالخضوع للموت والصلب، وطبقوا هم أيضًا هذه الأفكار على مسيحهم، فقالوا: إنه سيكون شخصًا إلهيًّا أو ابنًا لله تعالى وسيرسله لتخليص الناس بالموت والصلب طائعًا مختارًا. كما قال الوثنيون في آلهتهم، فإن ميل اليهود للوثنية متأصل فيهم من قديم الزمان ولذلك كثيرًا ما عبدوا آلهة الأمم وكفروا مرارًا بربهم وكانت نساء أورشليم يبكين على تموز إله البابليين الذي قتل لأجل خلاص البشر ثم قام من الموت أيضا (حز ٨: ١٤) وهذا هو سبب ورود بعض ما يشبه هذه الأفكار الوثنية في بعض كتب العهد القديم كما في إشعيا (٥٣) وميخا (٥: ٢-٩) فلما جاء عيسى اخترع له مؤلفو العهد الجديد بعد زمنه من الحوادث والصفات والأقوال ما يجعلهم قادرين على تطبيق أوهام اليهود القديمة عليه (راجع مثلا ع ٨: ٢٦ - ٤٠) هذا إذا صح أن ما في تلك الكتب هو حقيقة إشارة إلى المسيح وصلبه وقِدمه كما يزعمون، على أن أكثر اليهود كان يرى فيها خلاف ذلك ويعتقد أن المسيح لا بد أن يكون ظافرًا منصورًا لا مغلوبًا مقهورًا كما هو صريح أكثر النبوات الواردة في شأنه في العهد القديم (راجع مثلاً ميخا إصحاح ٥ وزكريا ٩: ٩ - ١٧ وملاخي ٣: ١ - ٦ و٤: ٥ وإشعيا ١١: ١ - ٦ وأيضا إصحاح ٤٢ منه إذا صح زعمهم أنه في المسيح هو وما في حجي ٢: ٦-٩) ولذلك كانوا يعدون الصلب أكبر عثرة في سبيل إيمانهم به كما قال بولس (١ كو ١: ٢٣) ولكن الآخرين منهم اعتقدوا فيه كما اعتقد بولس، وكان توهمهم صلبه مما يؤيد اعتقادهم أنه هو المسيح المنتظر لا يزعزعه؛ فلذا كان وقوع حادثة الصلب بالكيفية التي شرحناها أولاً مما يؤيد قول فريق منهم بصحة مسيحية عيسى ويناقض قول الآخرين. ولو وقع عكس ذلك بأن نجا المسيح ولم يشتبهوا في غيره لاعتقد كونه هو المسيح كثيرون وخالفهم أيضًا آخرون مما يعتقدون وجوب تألم المسيح؛ فلذا كان وقوع حادثة الصلب وعدمها على حد سواء بالنسبة لهذه المسألة. على أن من الأوجه التي سبقت أن رؤساء اليهود صلبوا عمدًا واحدًا غيره حينما نجا منهم فلم يكونوا مخدوعين بل كانوا هم الخادعين للناس، وبسبب غشهم هذا انقسم الناس في أمر المسيح إلى طوائف عديدة يعرفها المطلعون على تاريخ الكنيسة المسيحية، فمنهم من جوز الصلب والعذاب على المسيح كبولس وأتباعه ووافقهم على ذلك تلمود اليهود أيضا في القرن الثاني، ومنهم من لم يجوزه وهم جمهور اليهود الآخرين للآن، ومنهم من اعتقد أن المصلوب هو عيسى وأنه إنسان وإله أو كاذب، ومنهم من قال: إن المصلوب شخص آخر، ومنهم من يرى أن نبوات التألم والعذاب تمت أو ستتم في المسيح المنتظر، ومنهم من يرى أنها ليست في حقه بالمرة بل في موضوعات أخرى، ولله في خلقه شئون. هذا وقد أفاد وقوع الصلب بهذه الصورة التي شرحناها فوائد: (١) أن المسيح نجا من أذاهم. (٢) أن يهوذا على الوجه الأول وقع في الحفرة التي حفرها للمسيح عقابا له على خيانته. (٣) عرف الناس خطأهم في الاعتقاد بأن المسيح لا يموت (يو ١٢: ٣٤) وبأنه يكون حاكمًا دنيويًّا يرد الملك لإسرائيل، وأن الله لم يجعله فوق نواميس الوجود كما كانوا يتوهمون (أفسس ١: ٢٠ و٢١) . (٤) عرف بعض طوائفهم قديمًا وحديثًا بأنه ليس إلهًا وإلا لما صُلب، على زعمهم رغم أنفه، ولما دعا الله طلبًا للنجاة وَلَما يئس المصلوب من رحمة الله، ولولا ذلك لكان اعتقاد ألوهيته عامًّا بين أتباعه جميعًا في كل زمان ومكان، ولما قال جمهورهم: إن فيه جزءًا ناسوتيًّا حادثًا [٥] ولأجمعوا على اعتباره كله لاهوتًا محضًا؛ لقرب عهد الأمم بالوثنية وشدة ميلهم إليها في زمانه. راجع ما يقرب من ذلك المعنى في إنجيل برنابا (٢٢٠: ١٤ - ٢١) . فإن قيل: ولماذا لم يرسل الله نبيًّا بعد موته مباشرة ليخبر الناس بحقيقة المسألة حتى لا يذهبوا إلى ما ذهبوا إليه في أمر خلاص البشر بصلبه، قلت: إن هذه العقيدة وحدها بدون دعوى الألوهية لا ضرر فيها كبيرًا سوى أنها خطأ نظري عقلي، ولم يكن اعتقاد الصلب هو الحامل لهم على دعوى الألوهية له في مبدأ الأمر بل لم تحملهم حادثة الصلب نفسها وضياع الجثة على القول بأكثر من أنه قام من الموت كما يعتقد المسلمون قيام الذي مر على القرية (قر ٢: ٢٥٩) وكانت الدعوة الأولى إلى المسيحية كما في كتبهم قاصرة على أن عيسى هو إنسان وأنه هو المسيح المنتظر وأنه صلب ولكنه قام من الموت وجعله الله ربًّا وسيدًا كما جعل موسى (خر ٧: ١) رغمًا عن صلب اليهود للميسح راجع خطاب بطرس لليهود في سفر الأعمال أع ٢: ٢٢ - ٣٦) ولما جاء بولس نبههم أو اخترع لهم [٦] حكمة للصلب وهي تخليص البشر بعد أن فكر في ذلك مدة طويلة منها ثلاث سنين تقريبًا اعتزل فيها الناس في بلاد العرب وفي آخرها ذهب إلى دمشق (غل ١: ١٧ و١٨) وربما وافقه بعض التلاميذ على هذه الحكمة التي أرشدهم إليها، والظاهر أنهم خالفوه في غيرها من أفكاره كقوله بعدم وجوب الختان وجواز أكل ما ذبح للأوثان (راجع غل ٥: ٢ و١ كو ٦ و٨ ورومية ١٤ وكو ٢: ١٦ ثم اقرأ رؤيا ٢: ٢ و٩ و١٤ و٣: ٦) ولذلك ذمه يوحنا بعد موته في رؤياه هذه، وقد سمى بولس إنجيله (إنجيل الغرلة للأمم غير اليهودية) (غل ٢: ٧- ١٠) وإنجيل تلاميذ المسيح (بإنجيل الختان) وكانت دعوتهم قاصرة على اليهود فقط كدعوة المسيح عليه السلام نفسه (راجع كتاب دين الخوارق Supernatural Religion فصل ٣-٧ من الجزء الرابع) . (٢) إن اختلاف البشر أمر طبيعي أراده الله ولا بد منه، ولو أرسل الله رسولاً لبيان ذلك عقب المسيح مباشرة لآمن به بعض الناس، وكفر به الآخرون ولما زال الخلاف من بينهم. (٣) لما كثر الفساد في عقائد الأمم قاطبة وفي مذاهبهم وعم جميع شؤونهم الدينية والدنيوية وكثر سفك الدماء وظلم الأبرياء وخصوصًا عند النصارى - أرسل الله محمدًا على فترة من الرسل فبين لهم الحق من الباطل. (٤) إن النصارى تقول: إن روح القدس نزل على تلاميذ المسيح بعده وأرشدهم إلى الحق في كل شيء، فهل زال الخلاف من بين النصارى بسبب ذلك؟ لا إننا لا نرى أمة من الأمم اشتد اقتتالها واختلافها في كل جزئية من جزئيات الدين والدنيا أكثر من النصارى، وخصوصًا بعد نزول هذا الروح المزعوم. فلهذا كله اقتضت الحكمة الإلهية تأخير البيان حتى اشتدت حاجة الأمم كافة، واستعدت نفوس البشر لقبول الإصلاح بعد أن عم الفساد الأرض، فجاء محمد على حين فترة من الرسل كما قال القرآن الشريف (٥: ١٩) بالإصلاح الذي ينشدونه وبيان الحق الذي يتطلبونه؛ فلذا دخل الناس في دينه أفواجًا أفواجًا، وعم سلطانه الأرض في وقت قصير لم يعهد له مثيل في تاريخ البشر، كما بينه الأستاذ الإمام في رسالة علم التوحيد، وإلى الآن نرى الناس يقتربون من الإسلام شيئًا فشيئًا، حتى أوشك حكماء أوروبا وعلماؤها أن يدخلوا فيه من حيث لا يشعرون؛ وسيكون - إن شاء الله - هو دين الإنسانية العام في الأرض كما تدل عليه بوادر الأمور، ولا يهولنك ضعف دوله الآن، فإن ذلك لا يعد شيئًا في جانب ما نراه من اقتراب جميع العقلاء والمفكرين من عقائده اقترابًا كليًّا أو جزئيًّا حتى سادت العقائد الإسلامية على أذهان كبار الناس اليوم في كل مكان (راجع ما تنشره جمعية العقليين (rationalists) كالكتب التي تصدر من مطبعة Co Walts. شركة واطس بلندرة، ومن هذه الكتب يتضح لك صدق قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: ٥٣) . * * * (استطراد لا بأس به) بمناسبة ذكر جبل الزيتون كثيرًا في هذه المقالة نقول ما يأتي: سمي هذا الجبل بذلك لكثرة ما كان به من شجر الزيتون، ولهذا الجبل شهرة عظيمة في تاريخ المسيح يعرفها المطلعون على الأناجيل، والأرجح أنه أول ما نزل عليه الوحي كان عليه السلام هناك (راجع مثلا لو ٤: ١ و٥ و ٩) لذلك أقسم الله تعالى به في قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ} (التين: ١-٣) أما التين فهو شجرة بوذا مؤسس الديانة البوذية التي تحرفت كثيرًا عن أصلها الحقيقي؛ لأن تعاليم بوذا لم تكتب في زمانه، وإنما رويت كالأحاديث بالروايات الشفهية، ثم كتبت بعد ذلك حينما ارتقى أتباعها. والراجح عندنا بل المحقق - إذا صح تفسيرنا لهذه الآية - أنه كان نبيًّا صادقًا ويسمى سكياموني أو جوتاما، وكان في أول أمره يأوي إلى شجرة تين عظيمة وتحتها نزل عليه الوحي وأرسله الله رسولاً فجاءه الشيطان ليجربه هناك فلم ينجح معه كما حدث للمسيح في أول نبوته (راجع لو ٤: ١ -١٣) ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين تسمى عندهم التينة المقدسة، وبلغتهم (أجابالا) (Ajapala) . ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم، فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده: {َلقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: ٤) إلى آخر السورة، ولا يزال أهل الأديان الأربعة هم أعظم أمم الأرض وأكثرهم عددًا وأرقاهم. والترتيب في ذكرها في الآية هو باعتبار درجة صحتها بالنسبة لأصولها الأولى فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية؛ لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان تحريفًا عن أصلها كما يبدأ الإنسان بالقسم بالشيء الصغير ثم يرتقي للتأكيد إلى ما هو أعلى. ثم النصرانية وهي أقل من البوذية تحريفًا، ثم اليهودية وهي أصح من النصرانية ثم الإسلامية وهي أصحها جميعًا [٧] ، وأبعدها عن التحريف والتبديل بل إن أصولها (الكتاب والسنة العملية المتواترة) لم يقع فيها تحريف مطلقًا. ومن محاسن هذه الآية الشريفة غير ذلك ذكر ديني الفضل (البوذية والمسيحية) أولاً ثم ديني العدل (اليهودية والإسلام) ثانيًا للإشارة إلى الحكمة بتربية الفضل والمسامحة مع الناس أولاً ثم تربية الشدة والعدل، وكذلك بدأ الإسلام باللين والعفو ثم بالشدة والعقاب، ولا يخفى على الباحثين التشابه العظيم بين بوذا وعيسى ودينيهما، وكذلك التشابه بين موسى ومحمد ودينيهما فلذا جُمع الأولان معًا والآخران كذلك. وقدم البوذية على المسيحية؛ لقدم الأولى كما قدم الموسوية على المحمدية لهذا السبب بعينه، ومن محاسن الآية أيضًا: الرمز والإشارة إلى ديني الرحمة بالفاكهة والثمرة، وإلى ديني العدل بالجبل والبلدة الجبلية: مكة، وهي البلد الأمين، ومن التناسب البديع بين ألفاظ الآية أن التين والزيتون ينبتان كثيرًا في أودية الجبال كما في جبل الزيتون بالشام، وطور سيناء وهما مشهوران بهما، فهذه الآية قسم بأول مهابط الوحي، وأكرم أماكن التجلي الإلهي على أنبيائه الأربعة الذين بقيت شرائعهم للآن، وأرسلهم الله لهداية الناس الذين خلقهم في أحسن تقويم. (استدراك) نص كتاب صدق المسيحية The Truth Of Christianity في ص ٥٦٠ على أن المسيحية انتشرت قديمًا في بلاد الهند، فلعل ذلك مما يساعد على القول بالهجرة الهندية السابقة.