للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


انتقاد مسألة الرق والجواب عنها
(١)

انتقد الأستاذ هذه المسألة من سبعة وجوه نتكلم على عباراتها بالإيجاز، ثم نرد
على تلك الوجوه بالترتيب فنقول:
إن إطلاق إبطال الرق في عبارة الطبعة الأولى قد استثني منه بعد سطرين
قولنا: (إلا استرقاق الأسرى والسبايا) ... إلخ.
ونُقِّحت في الطبعة الثانية بقولنا في الصفحة ٢٧١: قد شرع الله تعالى لإبطال
الرق طريقتين: تحديد تجديد الاسترقاق في المستقبل أو تقييده ... إلخ.
وقد قال المنتقد: قوله: (إنه مُعَارَض بالكتاب والسنة والإجماع) .
استدل على الأول بأن في الكتاب كفارة القتل والظهار والأيمان بالعتق الذي
هو نتيجة الاسترقاق (ولا يصح أن يبني شرائعه على شيء قد أبطل أساسه،
وحرم تجديد أصله) ، وبأنه ندب إلى العتق وهو لا يوجد إلا بوجود الرق وجوابه
من وجوه ... إلخ.
(أولها) أننا لم نقل: إن الله تعالى أبطل أساس الرق، وحرم تجديد أصله،
بل بينا أنه قيد تجديده بالحرب الشرعية المعروفة، وهذا القيد لا يمنع وجود الرقيق
منعًا باتًّا، بل يجوز أن يوجد بوجود قيده وشرطه.
(ثانيها) أنه يجوز بالإرث والتناسل؛ فإن ولد الرقيق مثله.
(ثالثها) إن ثبت أن تجديد الرقيق محرم شرعًا تحريمًا مطلقًا، أو مقيدًا
فليس للمنتقد أن يعارضه بقاعدته التي اخترعها، وهي أن الله تعالى لا يصح أن
يبني شرائعه على كذا، وإن لم يثبت فلا حاجة إلى هذه القاعدة لإبطاله.
(رابعها) أن كلمة: إن الله لا يصح أن يفعل أو أن يُشَرِّع كذا. لكلمة جريئة
جدًّا أستغفر الله من حكايتها مهما تكن صفة قائلها ونيته، وأدع للأستاذ المنتقد بعد
هذه الذكرى رأيه فيها.
(خامسها) أن هذه الكلمة لا تنطبق على مسألتنا؛ فإن الله تعالى لم يبن
شرع العتق لعباده على أساس الاسترقاق لأجل أن يوجدوا الرقيق ثم يعتقوه، فيكون
كل من الاسترقاق والعتق قربة مطلوبة؛ وإنما بنى طلب العتق على وجود الرقيق
بالفعل، وشرعية عتقه تدل على قبحه؛ لأن العتق إبطال للرق ولا يتقرب إلى الله
تعالى بإبطال الخير وإزالته، فهي كشرعية التوبة من الذنب لقبحه، ولا يقال: إن
تحريم المعاصي ممنوع؛ لأنها الأساس لوجوب التوبة، وهي أشد وجوبًا من العتق
الواجب فضلاً عن المندوب.
(سادسها) إن قوله: فهل تقولون إن العمل بتلك الآيات إنما محله العمل بها
في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا تصح بعده - سؤال لا محل له، وغفلة ما كان
يظن بمثله الوقوع فيها.
(سابعها) المعلوم بالإجماع أن العتق مشروع ومثاب عليه في كل زمان
ومكان يوجد فيه الرقيق إلى يوم القيامة، وسببه أن الرق قبيح يتقرب إلى الله تعالى
بتحريره إلى أن يُزَال الرقيق، فإن زال من مكان لم يجب على أهله إيجاده، لأجل
عتقه، ولا يجب لذاته، ولكنه قد يشرع بوجود سببه الشرعي وهو ما بيناه، ولو
صحت دعواه لكان تحرير المسلمين جميع ما يملكون من الرقيق محظورًا لاقتضائه
عدم تجديدهم للعتق بعده، فهو بهذا الاقتضاء بمعنى عدم تجديدهم للاسترقاق.
(استدلاله على معارضته بالسنة والإجماع)
واستدل على الثاني، وهو معارضة ما قلناه بالسنة بأن النبي صلى الله عليه
وسلم قد استرق بالفعل، وجوَّز الاسترقاق بالقول والتقرير، وعلى الثالث وهو
معارضته بالإجماع بأن الصحابة والتابعين وتابعيهم قد استرقوا بالفعل أيضًا، وهذا
على ما فيه لا يرد على ما قلته، فإنني قد صرحت فيه بأن لإمام المسلمين في كل
حرب شرعية أن يسترق الأسرى والسبايا إذا كانت المصلحة في الاسترقاق، وأما
زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ومن بعدهم لم يستولوا على أحد
من نساء العرب وأولادهم إلا استرقوهم، وإن هذا معلوم من سيرته وغزواته صلى
الله عليه وسلم باليقين - فهذا غير صحيح على إطلاقه ومراده، ولو صح لم يكن
ناقضًا لما قلناه، والتحقيق أن عرف العرب في الحرب أن يكون الأسرى والسبايا
مِلْكًا للغالب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخذه ذريعة للعتق وجذب الناس
إلى الإسلام برحمته لا لبقاء الرق، كما فعل بتزوجه جويرية بنت الحارث سيد
قومه فأعتق أصحابه جميع أسرى بني المصطلق وسباياهم وهم على كفرهم، فكان
هذا سببًا لإسلامهم، وكما أعتق جميع قريش رجالهم ونساءهم يوم فتح مكة بقوله:
(اذهبوا فأنتم الطلقاء) ، وكما أعتقوا بعد ذلك سبايا هوازن.
فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد استرقوا جميع نساء العرب
وأولادهم الذين استولوا عليهم تقربًا إلى الله بالسبي كما يوهم كلامه، فأين كان
أولئك السبايا والعبيد؟
إننا نعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتق ما ملك من الرقيق، ولا نعرف
من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان عنده أحد من سبايا العرب، ولكن روي
عنه أنه كان عنده من سبايا يهود قريظة ريحانة بنت شمعون وأنها امتنعت أولاً عن
الإسلام، ثم أسلمت وأنه خيرها صلى الله عليه وسلم بين عتقها والتزوج بها كصفية
أم المؤمنين، واختلفت الروايات عنها، والراجح فيما أذكر أنها اختارت بقاءها على
الرق.
وروي أن زينب أم المؤمنين أهدت إليه جارية، ولا أدري هل كانت موروثة
من رق الجاهلية، أم هي من سبايا الإسلام، ولا من أي جنس كانت.
ثم ختم المنتقد كلامه في هذه المسالة بقوله (فسنة الإسلام جواز الاسترقاق
لمن استولوا عليه بطريق الحرب) وأنا لم أنف جوازه؛ وإنما قيدت فعله أو تركه
بالمصلحة، وقوله هذا يجيز تركه مطلقًا، وهو يعارض قاعدته الغريبة، واستطالته
العجيبة.
وأما ما قررته من نوط الاسترقاق بالمصلحة التي ينفذها إمام المسلمين فهو
مروي عن الإمام أحمد ومنصوص في كتب فقه الحنابلة وهو مذهب المعترض،
ففي كتاب الفروع: ويختار الإمام الأصلح لنا - لزومًا كما في ولي اليتيم، وفي
الروضة ندبًا - في أسرى مقاتلة أحرار بين قتل ورق ومن وفداء نص عليه. اهـ
(ص ٥٦٩ جزء ٣) .
وقال في بحث وجوب الجهاد إذا وقع النفير العام ولو بدون إمام ما نصه:
وسأله (يعني الإمام أحمد) أبو داود عن بلاد غلب عليها رجل فغزا معه قوم: يغزو
معهم؟ قال: نعم. قال: يشتري من سبيه؟ قال: دعنا من هذه المسألة؟ الغزو ليس
مثل شراء السبي، الغزو فيه دفع عن المسلمين، لا يترك ذلك لشيء. اهـ) ص
٥٧٦ منه، ومثله في (مسائل الإمام أحمد) وقال في المسألة: فيتوجه أن يقال في
سببه كمن غزا بلا إذن. اهـ، والمراد أن الإمام أحمد امتنع من الفتوى بشراء
سبي السلطان المتغلب؛ ولكن المعترض يبيح السبي لكل مسلم حتى قُطَّاع الطرق
النخاسين كما سمعنا منه، ولعله رجع عنه عند كتابة هذا البحث.
(البقية للجزء الآتي)