القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق (تابع لما سبق في الجزء الماضي)
أما السادة الصوفية فهم صفوة أهل الله وخلاصة هذه الأمة كما قال أبو القاسم القشيري: الصوفية خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة وقال شهاب الدين السهروردي: الصوفي يضع الأشياء في مواضعها ويدير الأوقات والأحوال كلها بالعلم، يقيم الخلق مقامهم ويقيم أمر الحق مقامه، ويَستر ما ينبغي أن يُستر، ويُظهر ما ينبغي أن يُظهر، ويأتي بالأمور من مواضعها بحضور عقل وصحة توحيد وكمال معرفة ورعاية صدق وإخلاص. إلا أن هذه المنكرات كانت خفية جدًّا لا تكاد تظهر إلا بين أفراد من الناس منعزلين عن عامة المسلمين بسبب سطوة العلماء وأولي الأمر وشدة تمسكهم بالدين، واعتصامهم بحبله المتين، ووجود الغيرة في قلوب العامة، إلى أن تقادم عهد هؤلاء الأكابر وأهمل في الأمر أولياؤه، وفقدت الغيرة الدينية من قلوب المسلمين وأسندت الأمور إلى غير أهلها، فكثرت هذه البدع والمنكرات واتسع نطاقها واشتهر أمرها بين الخاصة والعامة وأصبحت من الأمور التي تلتزم التزام الفرائض والسنن، وصار الإنكار عليها ممن أحيا الله في قلبه غيرة الدين وفضيلة الإسلام من الشذوذ بمكان يستحق عليه اللوم والتعنيف فلا حول ولا قوة إلا بالله. ولنبين لك أيها السائل أرشدك الله إلى الحق حكم فعل ما سألت عنه بإيجاز فنقول:
١- الأذكار الملحونة: أجمع المسلمون على حرمة الإلحاد في أسمائه تعالى والتحريف في آياته وعلى حرمة ذكره على وجه ينافي الإعظام والإجلال قال تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: ١٨٠) وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: ١) . ولا ريب أن اللحن في الكلمة المشرفة إلحاد وتحريف في الاسم الشريف، وذكر له تعالى على وجه لا تسبيح فيه ولا تقديس، ولم يسمع عن أحد من الصحابة والتابعين ومن يعول عليه من أئمة الدين وأهل الطريق أنه ذكر الله تعالى، أو قال بجواز الذكر على غير الوجه المشروع الوارد كتابًا أو سنة المتلقى من أفواه الرواة والشيوخ بالكيفية المعروفة بين أهل الأداء المضبوطة في الكتب، وقد نصوا على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا تثبت وضعًا وكيفية إلا بكتاب أو سنة صحيحة، وأن الكلمة المشرفة من القرآن والزيادة فيه كالنقص حرام، وممن نص على حرمة ذلك العلامة (الأمير في رسالته) (نتائج الفكر في آداب الذكر) عند ضبطه للكلمة المشرفة والولي الشهير سيدي عبد الرحمن الأخضري بقوله في منظومته: ومن شروط الذكر أن لا يسقطا ... بعض حروف الاسم أو يفرطا في البعض من مناسك الشريعة ... عمدًا فتلك بدعة شنيعة فواجب تنزيه ذكر الله ... على اللبيب الذاكر الأوّاه عن كل ما يفعله أهل البدع ... ويقتدي بفعل أرباب الورع لقد رأينا فرقة إن ذكروا ... تبدعوا وربما قد كفروا وصنعوا في الذكر صنعًا منكرًا ... صعبا فجاهدهم جهادًا أكبرا خلوا من اسم الله حرف الهاء ... فألحدوا في أعظم الأسماء لقد أتوا والله شيئًا إدّا ... تخر منه الشامخات هدّا (وفي الجوهر الخاص في أجوبة مسائل الإخلاص) للعارف بالله تعالى سيدي محمد الغمري ما يوافقه ومثله في شرح الخريدة لأبي البركات سيدي أحمد الدردير وفي تحفة السالكين لسيدي محمد المنير خليفة الشمس الحفني وفي النفحات القدسية لأبي المواهب الشعراني، وفي شرح العلم الشهير سيدي محمد السنوسي على صغراه. وجملة القول أن هذا الحكم مما تضافرت عليه أكابر الصوفية وأهل السنة والجماعة ولم يستثنوا منه إلا مفقود الإحساس غائب الحواس الذي يغيب في القرب عن القرب لعظيم القرب، ولا يبقى يعرف ما يقول ولا ما يقال له فنسلم قياده إلى وارده يتصرف فيه كما شاء؛ لأنه ليس محلاً للتكليف وأمره بيد الله تعالى يفعل فيه ما يشاء. أما هؤلاء الجهلة الذين يتغيبون من غير غيبة ويتواجدون من غير وجدان فما أسوأ حالهم وأخسر أعمالهم (راجع شمس التحقيق لأبي المعارف سيدي أحمد شرقاوي رضي الله عنه) . *** ٢- قصر لفظ الجلالة: وكما لا يجوز اللحن في أسمائه تعالى لا يجوز قصر لفظ الجلالة وهو نقصه عن المدّ الطبيعي الذي لا وجود للحرف إلا به؛ لأنه من جملة اللحن وقد نص الفقهاء على أن الإتيان به مقصورًا لا يعد ذِكرًا ولا تنعقد به يمين وتفسد به الصلاة في تكبيرة الإحرام وذكره الفخر الرازي وأبو السعود في تفسيرهما والمحقق الأمير في نتائج الفكر، وأما قصره في قول الشاعر: ألا لا بارك الله في سهيل ... إذا ما الله بارك في الرجال فضرورة كما صرح به ابن منظور في لسان العرب وأئمة التفسير وسيدي مصطفى البكري وسيدي محمد الغمري واللقاني في وسطه والزرقاني والخرشي في كبيرة والعدوي والأمير في مجموعه. على أن صاحب المصباح نقل عن أبي حاتم أن حذف ألف الله خطأ لا أصل له في اللغة ولا يعرفه أئمة اللسان والبيت موضوع، ولئن سلمنا جوازه لغة، فلا يلزم منه جوازه شرعًا، ولذلك نظائر كثيرة ليس هذا موضوع إيرادها وأسماء الله تعالى توقيفية ولم يرد في الكتاب أو السنة قصر هذا الاسم الشريف. وما تعلل به بعض القاصرين لتجويز الذكر بالاسم الشريف مقصورًا وبغيره على أي كيفية وقع من قوله عليه الصلاة والسلام (إنما الأعمال بالنيات) ومما ينقله مشايخهم من أن هذا الذكر بهذه الهيئة كان في عصر فلان وفلان من آبائهم وأسلافهم الغابرين فمردود بهذه النصوص الواضحة، وبأن النية لا تقترن بالعمل على الوجه المشار إليه في الحديث إلا إذا أتمت صورة العمل وهيئته المبنية في الشرع وأن تشبثهم بما أقره أسلافهم وتركهم أوامر الدين في ذلك كتشبث اليهود والنصارى بقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: ٢٢) [١] . وما أحسن قول الأستاذ أبي المعارف في نصيحة الذاكرين: وماذا علينا إذا وافقنا الله والرسول، وتركنا ما عليه الأسلاف والأصول، فإن الشرع حجة عليهم كما هو حجة علينا، وليسوا هم حجة على الشرع، فإنه يحتج به لا عليه فالاحتجاج بالأسلاف، لا فائدة فيه ولا إسعاف، وإنما هو ذكر لمساويهم، وإظهار لمعاصيهم، وقد نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم) اهـ وجملة القول أن هذا منكر من القول وزور يجب على الأمة الإسلامية وخاصة علماءها وقادتها إزالته بما لهم من الحول والسلطان، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))