ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية
(٤) فصل شرح حديث الحارث الأشعري أما طاعة الخليفة في السنّة فقد تضافرت الأحاديث الصحيحة في وجوبها، واشتهرت اشتهارًا عظيمًا، حتى إنه لم يصل حكم بعد عقيدة التوحيد والرسالة إلى هذه الشهرة والتواتر. وها أنا ذا ذاكر ههنا أولاً حديثًا من مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي يوضح نظام الإسلام الاجتماعي توضيحًا حسنًا، فأقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا آمُرُكم بخمس، الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله؛ فإنه مَن خرج من الجماعة قيد شبرٍ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومَن دعا بدعوى جاهلية فهو من جِثِيِّ جهنم، قالوا: يا رسول الله! ، وإن صام وصلى؟ ! ، قال: وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم) أخرجه الترمذي، وأحمد، والحاكم من حديث الأشعري على شرط الصحيحين، قال ابن كثير: هذا حديث حسن، وله شواهد. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمس: أولهن - (الجماعة) أي يجب على الأمة أن تجتمع على الإمام، وتعيش مرتبطة بمركزها الاجتماعي، وسترى كثيرًا من الأحاديث التي تحذر من الوحدة والفُرقة، وتعدّها حياة جاهلية شيطانية؛ إذ الإسلام لا يحسب الحياة الفردية حياة، وإنما الحياة عنده (الحياة الاجتماعية) . ما (الجماعة) ؟ ، كتلة من الآحاد، تربط بعضهم ببعض رابطة (الاتحاد) ، و (الائتلاف) ، ويكون فيهم (الامتزاج) و (النظام) . هاتيكم الجماعة ولوازمها الأربعة: الاتحاد والائتلاف والامتزاج والنظام: أما (الاتحاد) فهو أن يكون الأفراد متصلاً بعضهم ببعض، فلا عوامل التفرقة تفرقهم، ولا التشتت يبددهم، بل يكونوا جميعًا متقاربين، وأن تكون أعمالهم كذلك متوافقة غير متخالفة، وجهتها واحدة، وغايتها واحدة. وأما (الائتلاف) فهو أخص من (الاتحاد) ؛ إذ الاتحاد مجرد الاتصال، و (الائتلاف) هو الاجتماع والاتصال بتناسُب صحيح، وترتيب حسن، فيقدم فيه ما حقه أن يقدَّم، ويؤخر فيه ما حقه أن يؤخَّر، ويوضع الفرد في الجماعة بالمكان الذي يؤهله له استعداده وقوته، فلا يُستخدم في الشرطة مَن هو أهل للسيادة والقيادة، ولا يُرفع - إلى رياسة السياسة - مَن لا يصلح إلا للشرطية. وأما (الامتزاج) فهو أخص منهما، ويُراعَى فيه اتحاد الكيف أكثر من اتحاد الكم، أي يُنظر في طبائع الأفراد حيث استعدادهم الاجتماعي، فيلحق كل واحد بالذي يكون أكثر موافقةً لطبعه؛ ليتحدا تمام الاتحاد؛ إذ لو لم يراعَ ذلك لا يتأتى الاتحاد بين أفراد مختلفة الأمزجة والطبائع، كما لا يتحد الزيت والماء، وإن الله سبحانه كما خلق العناصر ليتكون باجتماعها المناسب مركب مخصوص - كذلك خلق الأفراد ليكونوا باجتماعهم (جماعة) ، فالأفراد (عناصر) ، والجماعة (مركب) ، وكما أن العناصر لا تكوّن (مركبًا) إلا إذا امتزجت امتزاجًا تامًّا، كذلك الأفراد لا تكون (جماعة) إلا بهذا الامتزاج، فإذن يجب أن يتمازج الأفراد بعضهم ببعض، ويفنوا وجودهم في سبيل تكوين الجماعة، بحيث يحسبهم مَن يراهم شيئًا واحدًا، ولا يكون ذلك إلا بعد الامتزاج التام. وأما (النظام) فهو أن يحل كل فرد في الجماعة محله، يدور في دائرته، ويسعى في داخل حدوده، ويعمل عمله الاجتماعي فيه. ولا تتحقق هذه الأمور إذا لم تكن قوة مسيطرة على الاجتماع، ويد مدبّرة للجماعة، فتوحد الآحاد المنتشرة، وتؤلف بينهم، وتمزج بعضهم ببعض، وتخرطهم في نظام الجماعة، فلا بد إذًا من (إمامٍ وخليفةٍ) ولا مفر للأفراد من طاعته والخضوع، إذا كانوا يريدون أن يحيوا حياة اجتماعية طيبة، فمقام الإمام أو الخليفة في الهيئة الاجتماعية مقام النقطة من الدائرة، وعماله بمنزلة الدائرة نفسها، فآحاد الأمة يدورون حول هذه الدائرة، وهي تدور حول تلك النقطة، وبهذه الصورة تتكون من اجتماع الأفراد (الجماعة) ويصيرون كتلة واحدة وجسمًا واحدًا حيًّا، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، وبهذا أُمر المسلمون ومُنعوا من الوحدة والفرقة، وأوجب عليهم أن لا يعيشوا بدون إمام، سواء كثروا أم قلوا، حتى لو كانوا ثلاثة وجب عليهم أن يؤمِّروا أحدهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) . وقد جعل الله سبحانه صلاة الجماعة - التي هي عماد الدين ومثال كامل للعقائد والأعمال - نموذجًا ليهتدي بها المسلمون إلى تنظيم حياتهم الاجتماعية، فانظر كيف يجتمع مئات وألوف أوطانهم متنائية، وجهاتهم متباعدة، وألوانهم متغايرة، وألبستهم متخالفة، فبينما هم في هذه الحالة، إذ تقرع سمعهم التكبيرة، فيتحول الانتشار إلى الاجتماع، والتفرق إلى الائتلاف، فهم وقوف في صفٍّ واحدٍ، أجسامهم متلامسةٌ، أكتافهم متلاصقةٌ، أقدامهم متقاربةٌ، ووجوههم متوجهةٌ إلى جهةٍ واحدةٍ، إذا كانوا قيامًا، فكلهم قيام، كأنهم بنيان مرصوص، وإذا كانوا قعودًا فكلهم قعود، باطنهم كظاهرهم متحد ومؤتلف، قلوبهم بذكر واحدٍ مشغولة، وألسنتهم للفظ واحد مرددة، ثم انظر أمامهم فلا ترى هنالك إلا رجلاً واحدًا يؤمهم ويقودهم، متى شاء أقامهم، ومتى شاء أقعدهم، كلهم طوْع أمره، وسمَّاعون لكلمته، لا يخالفونه، ولا ينازعونه، بل يتبعونه، ويقتدون به، ويطيعون له [١] . هذه هي (الجماعة) التي يطالب بها الإسلام، ويأمر المسلمين أن يجعلوا هيئتهم الاجتماعية على أسلوبها، لا كما يزدحم الهمج في الأسواق. هذا، وكل ما ذكرناه من أوصاف الجماعة وخصائصها مأخوذة من الكتاب والسنة، وقد أغفلنا ذكر الشواهد عمدًا لضيق المقام وعدم الحاجة إليها. ثانيهن - (السمع) وهو أن تستمع الأمة أوامر الإمام، وتستهدي به؛ فكلمة (السمع) توضح أن مقام الإمام في الأمة مقام المعلم والمرشد؛ فعليها أن تتلقى أوامره بالقبول، وتسترشد به في مهماتها. ثالثهن - (الطاعة) وهي أن يطاع الإمام طاعة تامة، ويفوَّض إليه جميع القوى العاملة تفويضًا كليًّا [٢] ، ويعمل كل فرد من الأمة بأمره بدون أدنى عذر، ولا ضجر، ومعلوم أن الطاعة في المعروف لا في المنكر. رابعهن - (الهجرة) وهي من (الهجر) ومعناه (الترك) ففي المفردات: (الهجر والهجران: مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن، أو باللسان، أو بالقلب، والمهاجرة: مصارمة الغير ومتاركته) (صفحة ٥٥٨) ، وأما في الشريعة فهي: أن يترك رجل أو جماعة الملاذّ الدنيوية، والرغائب النفسية في سبيل الحق والسعادة [٣] ، فمثلاً إذا ترك أحد لغرض سامٍ وقصد عالٍ - مالَه وراحته، وأهله، وأقاربه، وعشيرته، وبيته، ووطنه، يسمى عمله هذا في الشريعة (الهجرة إلى الله والذهاب إلى الله) وقد غلب استعمال (الهجرة) في ترك الوطن؛ لأن تركه يستلزم ترك المال، والأهل، والأصدقاء، وكل ما يُحَبّ ويُؤْلَف في الوطن؛ ولذا إذا أُطلقت يكون معناها (ترك الوطن) وإذا أضيفت إلى شيء يُفهم معناها حسب الإضافة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإنما لكل امرئ ما نوى، فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (البخاري عن عمر رضي الله عنه) فالهجرة أنواع وأقسام تجدها مبينة في الكتاب والسنة، وليس هنا محل تفصيلها. خامسهن - (الجهاد في سبيل الله) وهو من (الجهد) ومعناه: (استفراغ الوسع في مدافعة العدو ظاهرًا أو باطنًا) (مفردات) ، فالجهاد هو السعي البليغ لدفع الأعداء، والذود عن الأمة، ويكون باللسان، والمال، والنفس، فكل ما يبذله الرجل في سبيل الله - حسب الحاجة والضرورة - فهو جهاد في سبيل الله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (رواه أحمد وأبو داود، والنسائي، وابن حبان عن أنس رضي الله عنه) . ولسنا في حاجة إلى أن نُثْبت أن على هذه الخمسة تتوقف حياة الأمم وقيامها وبقاؤها؛ إذ كل مَن له ذرة من العقل يعلم حق العلم أنه لا تستطيع أمة أن تفوز في معترك الحياة بدونها، أو تنجح في أعمالها - صغيرة كانت أو كبيرة - بغيرها، فسواء عليها أن تسعى لحصول خبز من البر، أو تذهب لكشف القطب الشمالي، فهي على كل حال تحتاج إلى هذه الأصول الخمسة، والتي تعرض عنها تخسر، ثم تسقط حتمًا، وإن كل ما نراه الآن في هذه المعمورة العظيمة من الحضارة والرقي والصناعة، نتيجة لهذه الخمسة: (الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد) . إن النزاع والخلاف الذي ملأ الخافقين إنما هو ناتج عن شيءٍ واحدٍ، وهو تعدد الأسماء لمسمى واحد، وكثرة المصطلحات لحقيقة واحدة، فإنك إن دققت النظر في جدال الناس ترى معظمهم متشاجرين في الأسماء والألفاظ والمصطلحات، مع أنهم لو جردوا الحقيقة عن الظواهر لعلموا أنها واحدة، وعند الجميع سواء، لكنهم لسوء الحظ لا يفعلون ذلك، فيتخبَّطون طول عمرهم في تيهاء الألفاظ والمصطلحات، ويتناطحون عليها. وقد كثر مثل هذا النزاع في العلوم والمعارف، والموفق مَن لا تخدعه الظواهر، فلا يرى الحقيقة بمنظاره الخاص المصنوع من الألفاظ والمصطلحات، بل يراها مجردة كما هي، وهذا المقام مقام الرسوخ في العلم، ويسميه الشيخ أحمد ولي الله صاحب (حجة الله البالغة) بعلم الجمع بين المختلفات، وعامة أصحاب السلوك والإشارات يسمونه (بمشهد الوحدة) ، ويقصدون به نفس هذا المقام الذي يصله السالك بعد زوال الحجب والأستار عن عينيه. فإذا بحثت بعد هذا تعلم أن الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد - من تلك الحقائق العامة المسلَّمة التي لا ينكرها أحد من البشر - والأمم بأجمعها سائرة عليها من أول خلقها، ومتمسكة بها أشد التمسك، وإنما النزاع فيها والإنكار عليها جاء من تلك البلية التي ذكرناها آنفًا، أي التشبُّث بالأسماء والمصطلحات، فلأجل هذا أنكرها كثير من الناس لأسمائها الإسلامية، ولكنهم يقبلونها، ويعملون بها بغير هذه الأسماء، والذي يَرُدّ هذه الحقائق نفسها يحرم من الحياة، ولا يرى في دنياه إلا الخيبة والخسران. وها أنا ذا أسوقها إليك واحدةً واحدةً مع بيان وجيز لِتَفْهَم ما مر حق الفهم، فانظر إلى أولهن، وهي (الجماعة) التي علمت معناها وخصائصها، فقل أي شيء يتم بدون الجماعة والاجتماع؟ ، دع ما قالت فيها الفلاسفة والحكماء؛ فإنه دقيق يخفى على كثير من الناس، وألقِ عليها نظرة عامة ترى أن الغرض من البيئات والأحزاب، والجمعيات والمنتديات، والمجالس، والمحافل، والبرلمان، بل من الأمة، والوطن، والجيش (الجماعة والتزام الجماعة) أيمكن لأحدٍ أن يستغني عن الجماعة؟ ، حتى إن أولئك الذين يعيشون في الغابات عراة متوحشين- يضطرون إلى الاجتماع إذا أهمَّهم أمر، أو وقع فيهم شقاق؟ ، يجتمعون للبحث في شئونهم، وإصلاح ذات بينهم، ولو تحت شجرة على التراب، فتلك (الجماعة) . ولكن ماذا تُغني الجماعة إذا لم يوجد مَن يرأسها ويرشدها؟ ؛ ولذا إذا اجتمع بضعة رجالٍ لأمر جامع بينهم تبادروا إلى انتخاب الرئيس، وقالوا: إذا لم يرأس الجلسة أحد لا تكون قانونية ونظامية، وكذلك إذا أرادوا تنظيم جيش قسَّموه فِرَقًا من ألف ومائة وعشرة، وجعلوا على كل منها رؤساء (أي تابعين لرئيس واحد وهو القائد العام) وقالوا: بدون هذا لا يكون الجيش جيشًا، ولا يستطيع أن يعمل عملاً، فإذا كان قولهم هذا عن جماعة من عشرة أو خمسة، فماذا يقال عن أمة مكونة من ألوف وملايين من الرجال والنساء، أفلا تحتاج إلى قائد يقودها، ورئيس يرأسها؟! وهل نقدر على عمل اجتماعي بدون الأمير؟ ثم أي فائدة من الأمير إذا لم يُطَعْ؟ خذ لك أقرب مثال إليك وهو بيتك الذي تسكنه مع زوجتك وولدك - فإن عصت الزوجة أمرك، وتنمَّر عليك أولادك، أفلا تغضب عليهم وتقول - والناس معك -: هذا بيت لا يفلح أهله أبدًا؛ لأنه لا نظام فيه ولا راحة، بل هو مُبتلًى بحرب أهلية! وهل هذا الذي تقول غير (الجماعة والسمع والطاعة) ؟ فكما أن هذا البيت لا يفلح كذلك لا تفلح الأمة التي لا جماعة فيها ولا سمع ولا طاعة. وأما (الهجرة) فينفر منها كثير من الناس؛ لأنهم يحسبونها من بقايا ذلك العهد الذي كان فيه الإنسان في جهل، ووحشية، وهمجية ومصابًا بالجنون الديني، فكان يهلك نفسه، ويقتل عواطفه، ويترك راحته لأجل الدين، ولكنهم ينسون أن ما يفرون منه تدعو إليه البشر مدنيتهم أيضًا، وإنك قد علمت معنى (الهجرة) ، وهو أن يُؤْثِر الإنسان المقاصد العليا الدنيا، وإن اضطر في هذه السبيل إلى هجران أهله، وماله، ووطنه، وأمته، ومَلاَذِّهِ هجرها فرحًا مطمئنًّا، فقل أي نجاح يصادفه الإنسان في العلم والعمل إن لم يكن صدره مملوءًا بهذه العاطفة العالية؟ وما هذا التقدم المدني والعلمي، وما هذه الاختراعات العجيبة والاكتشافات المدهشة، والأموال الكثيرة، والتجارة الواسعة، والمستعمرات العظيمة، ووسائل المعيشة المتنوعة، ورقي البلاد، وعلو الأمم، وسعة المدنية؟ أليست نتائج (الهجرة) وثمراتها؟ وذلك لأن الإنسان - أفراده وجماعاته - لو لم يؤثر المقاصد العالية والعزائم الكبيرة على راحته وأهله ووطنه ولم يهجر كل شيء في سبيلها - لما رأينا اليوم ما نراه في الدنيا، بل لرأينا الجهل مقام العلم، والوحشية مقام المدنية، والخراب مقام العمران، وما قولك في علم الطب وتقويم البلدان وعلم الحياة الإنساني؟ أكان يمكن أن تصل هذه العلوم إلى ما وصلت إليه لو لم يهاجر كثير من البشر في سبيلها لأجل معرفة تفاصيلها واستقراء جزئياتها؟ ، لو لم يهاجر كولمبوس لما علمنا عن نصف الدنيا شيئًا، ولو لم يهاجر الغربيون لما شاهدنا في واشنطون، ونيويورك المباني الفخمة والقصور العالية، ولو لم تهاجر الأمم الأوربية لما أصبحت أغنى الأمم، عجبًا! ، إذ رأوا المهاجرين زرافات ووحدانًا يقصدون إلى منطقة القطب الشمالي قالوا: هؤلاء عظماء الرجال حقًّا، كمل العلم فيهم، وحلت الوطنية الصادقة في قلوبهم، ثم إذا علموا أنهم هلكوا على بكرة أبيهم دون أن ينالوا بغيتهم - أقاموا عليهم المآتم ورثَوْهم، وبكوا عليهم وقالوا: مات النجباء! ، ولكن إذا سمعوا الشريعة الإلهية تسمي مثل هذا العمل (بالهجرة) ، وتدعو الناس إليه - نفروا منه، وأنكروا واسودت وجوههم - تراهم يمجدون أولئك الرجال الذين هجروا أوطانهم لكشف منبع النيل وهلكوا في مجاهيل إفريقية، ولكن إذا علموا برجال هاجروا في سبيل الحق، وإعلاء كلمة الله - ذمّوهم أشد الذم، وسموهم (مجانين وهمجًا) ! ، ثم إذا رأوا نيوتن يهجر نومه، ويسهر الليالي الطويلة ليحقق (ناموس الشغل) أعظموه، وسموه بأسماء كريمة، ولكن إن رأوا رجلاً يُجهد نفسه مثل نيوتن - لا لناموس الشغل - بل لناموس نجاة العالم، وسعادته، وهدايته أنكروا عليه عمله وعدّوه من الوحوش! ، فما هذا الجنون؟ وما هذا التناقض يا تُرى؟ ! نرى اليوم الأمم الغربية تعتقد أن فَلاحها وحياتها في الاستعمار (كانونيل سستم) وتتصادم وتتناطح، ويهلك بعضها بعضًا؛ لأجل المستعمرات، ولكن ما الاستعمار؟ أليس الغرض منه ترك الوطن والهجرة من أرض إلى أخرى وتعميرها، واستحصال الثروة منها، وتكثير غنى الأمة بها؟ فما رأيك بعد هذا؟ أليست الدنيا كلها متمسكة بنظام (الجماعة والسمع والطاعة والهجرة) ؟ نعم، هي متمسكة بها إلا أنها لا تسميها بأسمائها الإسلامية! وأما (الجهاد) فما أكثر استفظاع بعض الناس له، وما أشد إنكارهم عليه! ، إذا سمعوه جعلوا أصابعهم في آذانهم، واضطربوا منه اضطرابًا شديدًا، وقالوا الإسلام يستحل الدماء البريئة، ويدعو البشر إلى القساوة والبربرية، والمجزرة الإنسانية، فهو دينُ وحشيةٍ وهمجيةٍ، ولكن ما أشد استماعهم لقول دارون، ورسل، وويلس: (إن من الحقائق الثابتة ناموس تنازع البقاء، وناموس انتخاب الطبيعة، وناموس بقاء الأصلح) ، فإذا سمعوا هذه الكلمات أصغوا إليها هادئين، ساكنين، وآمنوا بها مصدقين، موقنين، ولم ينزعجوا من هذه النواميس القتَّالة، والداعية إلى سفك الدماء، بل قالوا: إنها كلها حق، ومؤيدة بالبراهين القوية، والمشاهد العينية؛ لأنَّا نرى الحياة كلها عراكًا ومزاحمةً، الإنسان وما دونه من الأحياء - كله يزاحم معارضه في الحياة، ويدافع غيره، ويُهلكه ويحل محله، وهذا طبيعي، ولا بقاء لحي بدونه! ، ثم إذا أخبرهم بأن النواميس التي يخضع لها سائر الموجودات يخضع لها الجنس البشري، وأن الأمة التي تُثبت أنها أصلح للقيام بالحق والهداية- تعيش وتحيا، والأمة الفاسدة وغير الصالحة تهلك وتفنى! وتحل محلها الأولى {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: ٣٣) - لم يقبلوا هذا، وتولوا عنه مدبرين! ولو رجعوا إلى رشدهم لضحكوا على أنفسهم؛ إذ الذي يردونه باسم (الجهاد) [٤] يقبلونه بأسماء أخرى ناقصة الدلالة على مسماها! ، والله يهدي مَن يشاء إلى سواء السبيل! ((يتبع بمقال تالٍ))