وقد اختلف المتكلمون في بيان أغراض الباطنية في دعوتها إلى بدعتها، فذهب أكثرهم إلى أن غرض الباطنية الدعوة إلى دين المجوس بالتأويلات التي يتأولون عليها القرآن والسنة، واستدلوا على ذلك بأن زعيمهم الأول ميمون بن ديصان كان مجوسيًا من سبي الأهواز، ودعا ابنه عبد الله بن ميمون الناس إلى دين أبيه، واستدلوا أيضًا بأن داعيهم المعروف بالبزدهي قال في كتابه المعروف بالمحصول: إن المبدع الأول أبدع النفس، ثم إن الأول مدبر العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأربع، وهذا في التحقيق معنى قول المجوس: إن أليزدان خلق أهرمن، وإنه مع أهرمن مدبران للعالم غير أن أليزدان فاعل الخيرات وأهرمن فاعل الشرور، ومنهم من نسب الباطنية إلى الصابئين الذي هم بحران، واستدل على ذلك بأن حمدان قرمط داعية الباطنية بعد ميمون بن ديصان كان من الصابئة الحرانية، واستدل أيضًا بأن صابئة حران يكتمون أديانهم ولا يظهرونها إلا لمن كان منهم، والباطنية أيضًا لا يظهرون دينهم إلا لمن كان منهم؛ بعد إحلافهم إياه على أن لا يذكر أسرارهم لغيرهم. قال عبد القاهر: الذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة، يقولون بقدم العالم وينكرون الرسل والشرائع كلها؛ لميلها إلى استباحة كل ما يميل إليه الطبع، والدليل على أنهم كما ذكرناه ما قرأته في كتابهم المترجم بالسياسة والبلاغ الأكيد والناموس الأعظم، وهي رسالة عبد الله بن الحسن القيرواني إلى سليمان بن الحسن بن سعيد الجناني أوصاه فيها بأن قال له: ادع الناس بأن تتقرب إليهم بما يميلون إليه، وأوهم كل واحد منهم بأنك منهم، فمن أنست منه رشدًا فاكشف له الغطاء، وإذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به؛ فعلى الفلاسفة معولنا، وإنا وإياهم مجمعون على أن نواميس الأنبياء (كذا) ، وعلى القول بقدم العالم ما يخالفنا فيه بعضهم من أن للعالم مدبرًا لا يعرفه. وذكر في هذا الكتاب القول بالميعاد والعقاب، وذكر فيه أن الجنة نعيم الدنيا، وأن العذاب إنما هو اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصيام والحج والجهاد، وقال أيضًا في هذه الرسالة: إن أهل الشرائع يعبدون إلهًا لا يعرفونه ولا يحصلون منه إلا على اسم بلا جسم، وقال فيها أيضا: اكرم الدهرية؛ فإنهم منا ونحن منهم، وفي هذا تحقيق نسبة الباطنية إلى الدهرية. والذي يؤكد هذا أن المجوس يدعون نبوة زرادشت ونزول الوحي عليه من عند الله تعالى، والصابئين يدعون نبوة هرس وواليس ودوروتيوس وأفلاطون وجماعة من الفلاسفة، وسائر أصحاب الشرائع كل صنف منهم مقرون بنزول الوحي من السماء على الذين أقروا بنبوتهم، ويقولون: إن ذلك الوحي شامل للأمر والنهي، والخبر عن عاقبة الموت، وعن ثواب وعقاب، وجنة ونار يكون فيهما الجزاء عن الأعمال السالفة. والباطنية يرفضون المعجزات وينكرون نزول الملائكة من السماء بالوحي والأمر بالنهي، بل ينكرون أن يكون في السماء ملك وإنما يتأولون الملائكة عن دعاتهم إلى بدعتهم ويتألون الشياطين على مخالفيهم والأبالسة على مخالفيهم. ويزعمون أن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة فساسوا العامة بالنواميس والحيل؛ طلبًا للزعامة بدعوى النبوة والإمامة. وكل واحد منهم صاحب دور مسبع إذا انقضى دوره سبعة تبعه في دور آخر، وإذا ذكروا النبي والوحي قالوا: النبي هو الناطق والوحي أساسه الفاتق، وإلى الفاتق تأويل نطق الناطق على ما نراه يميل إليه هواه، فمن صار تأويله الباطن فهو من الملائكة البررة، ومن عمل بالظاهر فهو من الشياطين الكفرة، ثم تأولوا لكل ركن من أركان الشريعة تأويلاً يورث تضليلاً، فزعموا أن معنى الصلاة موالاة إمامهم، والحج زيارته وإدمان خدمته، والمراد بالصوم الإمساك عن إفشاء سر الإمام دون الإمساك عن الطعام، والزنا عندهم إفشاء سرهم بغير عهد وميثاق، وزعموا أن من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها، وتأولوا في ذلك قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} (الحجر : ٩٩) ، وحملوا اليقين على معرفة التأويل، وقد قال القيرواني في رسالته إلى سليمان بن الحسن: إني أوصيك بتشكيك الناس في القرآن والتوراة والزبور والإنجيل، وبدعوتهم إلى إبطال الشرائع، وإلى إبطال المعاد والنشور من القبور، وإبطال الملائكة في السماء، وإبطال الجن في الأرض. وأوصيك بأن تدعوهم إلى القول بأنه قد كان قبل آدم بشر كثير، فإن ذلك عون لك على القول بقدم العالم. وفي هذا تحقيق دعوانا على الباطنية أنهم دهرية؛ يقولون بقدم العالم ويجحدون الصانع، ويدل على دعوانا عليهم بالقول بإبطال الشرائع. وأن القيرواني قال أيضًا في رسالته إلى سليمان بن الحسن: وينبغي أن تحيط علمًا بمخاريق الأنبياء ومناقضاتهم في قوله كعيسى ابن مريم قال لليهود: لا أرفع شريعة موسى ثم رفعها بتحريم الأحد بدلاً من السبت، وأباح العمل في السبت، وأبدل قبلة موسى بخلاف جهتها؛ ولهذا قتلته البلاد لما اختلفت كلمته، ثم قال له: " ولا تكن كصاحب الأمة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (الإسراء: ٨٥) [١] لما لم يحضره جواب المسألة، ولا تكن كموسى في دعواه التي لم يكن له عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعبذة، ولما لم يجد المحق في زمانه عنده برهانًا، قال له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي} (الشعراء: ٢٩) ، وقال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: ٢٤) لأنه كان صاحب الزمان في وقته، ثم قال في آخر رسالته: وما العجب من شيء كالعجب من رجل يدعي العقل، ثم يكون له أخت أو بنت حسناء، وليست له زوجة في حسنها، فيحرمها على نفسه، وينكحها من أجنبي، ولو عقل الجاهل لعلم أنه أحق بأخته وبنته من الأجنبي؛ ما وجه ذلك إلا أن صاحبهم حرم عليهم الطيبات، وخوفهم بغائب لا يعقل وهو الإله الذي يزعمونه وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبدًا من البعث من القبور والحساب والجنة والنار، حتى استعبدهم بذلك عاجلاً، وجعلهم له في حياته ولذريته بعد وفاته خولاً، واستباح بذلك أموالهم، بقوله: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: ٢٣) [٢] فكان أمره معهم نقد وأمرهم معه نسيئة، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم على انتظار موعود لا يكون، وهل الجنة إلا هذا الدنيا ونعيمها؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والحج؟ ثم قال لسليمان بن الحسن في هذه الرسالة: وأنت وإخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، وفي هذه الدنيا ورثتم نعيمها ولذاتها المحرمة على الجاهلين المتمسكين بشرائع أصحاب النواميس، فهنيئًا لكم ما نلتم من الراحة عن أمرهم، وفي هذا الذي ذكرناه دلالة على أن غرض الباطنية؛ القول بمذاهب الدهرية واستباحة المحرمات وترك العبادات. ثم إن الباطنية لهم في اصطياد الأغنام ودعوتهم إلى بدعتهم حيل على مرات يسمونها التفرس والتأنيس والتشكي والتعليق والربط والتدليس والتأسيس والمواثيق بالأيمان والعهود وآخرها الخلع والسلخ. فأما التفرس فإنهم قالوا: من شرط الداعي إلى بدعتهم أن يكون قويًا على التلبيس وعارفًا بوجوه تأويل الظواهر؛ ليردها إلى الباطن، ويكون مع ذلك مميزًا بين من يجوز أن يطمع فيه، وفي إغوائه وبين من لا مطمع فيه؛ ولذا قالوا في وصاياهم للدعاة إلى بدعتهم: لا تتكلموا في بيت فيه سراج، يعنون بالسراج من يعرف علم الكلام ووجوه النظر والمقاييس. وقالوا أيضًا لدعاتهم: لا تطرحوا بزركم في أرض سبخة: وأردوا بذلك منع دعاتهم عن إظهار بدعتهم عند من لا تؤثر فيهم بدعتهم؛ كما لا يؤثر البذر في الأرض السبخة شيئًا. وسموا قلوب أتباعهم الأغنام أرضًا زاكية لأنها تقبل بدعتهم. وهذا المثل بالعكس أولى، وذلك أن القلوب الزاكية هي القابلة للدين القويم والصراط المستقيم وهي التي لا تصدأ بِشُبَهِ أهل الضلال؛ كالذهب الإبريز الذي لا يصدأ في الماء ولا يبلى في التراب ولا ينقص في النار، والأرض السبخة كقلوب الباطنية وسائر الزنادقة الذين لا يزجرهم عقل ولا يردعهم شرع، فهم أرجاس أنجاس {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} (النحل: ٢١) ، {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: ٤٤) ، وأقل حويلاً قد قسم لهم الحظ من الرزق من قسم رزق الخنازير في مراعيها، وأباح طعمة العنب في براريها، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: ٢٣) . وقالوا أيضاً: من شرط الداعي إلى مذهبهم أن يكون عارفًا بالوجوه التي تدعي الإنصاف. فليست دعوة الإنصاف من وجه واحد، بل لكل صنف من الناس وجه يدعى منه إلى مذهب الباطن، فمن رآه الداعي مائلاً إلى العبادات، حمله على الزهد والعبادة، ثم سأله عن معاني العبادات وعلل الفرائض وشككه فيها. ومن رآه ذا مجون وخلاعة قال له: العبادة بله وحماقة، وأن الفطنة في نيل اللذات وتمثل له بقول الشاعر: من راقب الناس مات هما ... وفاز باللذة الجسور ومن رآه شاكًّا في دينه أو في المعاد والثواب والعقاب، صرح له بنفي ذلك، وحمله على استباحة المحرمات، واستروح معه إلى قول الشاعر الماجن: أأترك لذة الصهباء صرفًا ... لما وعدوه من لبن وخمر حياة ثم موت ثم نشر ... حديث خرافة يا أم عمرو ومن رآه من غلاة الرافضة؛ كالسبائية والبيانية والمغيرية والمنصورية والخطابية، لم يحتج معه إلى تأويل الآيات والأخبار؛ لأنهم يتأولونها معهم على وفق ضلالتهم، ومن رآه من الرافضة زيديًا أو إماميًا مائلاً إلى الطعن في أخبار الصحابة، دخل عليه من جهة شتم الصحابة، وزين له بغض بني تيم؛ لأن أبابكر منهم، وبغض بني عدي لأن عمر بن الخطاب كان منهم، وحثه على بغض بني أمية لأنه كان منهم عثمان ومعاوية، وربما استروح الباطني في عصرنا هذا إلى قول إسماعيل بن عباد: دخول النار في حب الوصي ... وفي تفضيل أولاد النبي أحب إلى من جنات عدن ... أخلدها بتيم أو عدي قال عبد القاهر: قد أجبنا هذا القائل بقولنا فيه: أتطمع في دخول جنات عدن ... وأنت عدو تيم أو عَدِيّ وهم تركوك أشقى من ثمود ... وكم تركوك أفضح من دَعِيّ وفي نار الجحيم غدًا ستصلى ... إذا عاداك صديق النبي ومن رآه الداعي مائلاً إلى أبي بكر وعمر مدحهما عنده، وقال: لهما حظ في تأويل الشريعة؛ ولهذا استصحب النبي أبابكر إلى الغار ثم إلى المدينة، وأفضى إليه في الغار تأويل شريعته. فإذا سأله الموالي لأبي بكر وعمر عن التأويل المذكور ولأبي بكر وعمر أخذ عليه العهود والمواثيق في كتمان ما يظهر له، ثم ذكر له على التدريج بعض التأويلات، فإن قبله منه أظهر له الباقي وإن لم يقبل منه التأويل الأول ربطه في الباقي وكتمه عنه، وشك الغر من أجل ذلك في أركان الشريعة. والذي يروج مذهب الباطنية أصناف: أحدهما العامة الذين قتلت بصائرهم بأصول العالم والنظر؛ كالنبط والأكراد وأولاد المجوس. والصنف الثاني الشعوبية الذين يرون تفضيل العجم على العرب، ويتمنون عود الملك إلى العجم , والصنف الثالث أغنام بني ربيعة من أجل غضبهم على مضر لخروج النبي منهم، ولهذا قال عبد الله بن حازم السلمي في خطبته بخرسان: إن ربيعة لم تزل غضابًا على الله مذ بعث نبيه من مضر، ومن أجل حسد ربيعة لمضر، بايعت بنو حنيفة مسيلمة الكذاب؛ طمعًا في أن يكون في بني ربيعة نبي كما كان من بني مضر، فإذا استأنس الأعجمي الغر أو الربيعي الحاسد المطن؛ بقول الباطني قومك أحق بالملك من مضر، سأله عن السبب في عود الملك إلى قومه، فإذا سأله عن ذلك قال له: إن الشريعة المضرية لها نهاية، وقد دنا انقضاؤها وبعد انقضائها يعود الملك إليكم، ثم ذكر له تأويل إنكار شريعة الإسلام على التدريج، فإذا قبل منه ذلك صار ملحدًا خرسًا، واستثقل العبادات واستطاب استحلال المحرمات، فهذا بيان التفرس منهم. ودرجة (التأنيس) قريبة من درجة التفرس عندهم، وهي تزيين ما عليه الإنسان من مذهبه في عينه، ثم سؤاله بعد ذلك عن تأويل ما هو عليه، وتشكيكه إياه في أصول دينه، فإذا سأله المدعو عن ذلك قال: علم ذلك عند الإمام ووصل بذلك منه إلى درجة التشكيك، حتى صار المدعو إلى اعتقاده أن المراد بالظواهر والسنن غير مقتضاها في اللغة، وهان عليه بذلك ارتكاب المحظورات وترك العبادات. والربط عندهم تعليق نفس المدعو بطلب تأويل أركان الشريعة؛ فإما أن يقبل منهم تأويلها على وجه يؤول إلى رفعها، وإما أن يبقى على الشك والحيرة فيها. ودرجة (التدليس) منهم قوله للغر الجاهل بأصول النظر والاستدلال: إن الظواهر عذاب وباطنها فيه الرحمة، وذكر له قوله في القرآن: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذَابُ} (الحديد: ١٣) فإذا سألهم الغر عن تأويل باطن الباب قالوا: جرت سنة الله تعالى في أخذ العهد والميثاق على رسله؛ ولذلك قال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} (الأحزاب: ٧) ، وذكر له قوله: {وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} (النحل: ٩١) فإذا حلف الغر لهم بالإيمان المغلظة وبالطلاق والعتق وبتسبيل الأموال، فقد ربطوه بها وذكروا له من تأويل الظواهر ما يؤدي إلى رفعها بزعمهم، فإن قبل الأحمق ذلك منهم دخل في دين الزنادقة باطنًا واستتر بالإسلام ظاهرًا، وإن نفر الحالف عن اعتقاد تأويلات الباطنية الزنادقة كتمها عليهم؛ لأنه قد حلف لهم على كتمان ما أظهروه له من أسرارهم، وإذا قبلها فقد حلفوه وسلخوه عن دين الإسلام، وقالوا له حينئذ: إن الظاهر كالقشر والباطن كالب، واللب خير من القشر، قال عبد القاهر: حكى له بعض من كان دخل في دعوة الباطنية ثم وفقه الله تعالى لرشده وهداه إلى حل أيمانهم؛ أنهم لما وثقوا منه بأيمانه، قالوا له: إن المسمين بالأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وكل من ادعى النبوة، كانوا أصحاب نواميس ومخاريق، أحبوا الزعامة على العامة فخدعوهم بنيرنجات واستعبدوهم بشرائعهم، قال هذا الحاكي لي، ثم ناقض الذي كشف لي هذا السر بأن قال له: ينبغي أن تعلم أن محمد بن إسماعيل بن جعفر هو الذي نادى بموسى بن عمران من الشجرة، فقال له (إني أنا ربك فاخلع نعليك) ، قال: فقلت سخنت عينك تدعوني إلى الكفر برب قديم خالق للعالم، ثم تدعوني مع ذلك إلى الإقرار بربوبية إنسان مخلوق، وتزعم أنه كان قبل ولادته إلهًا مُرْسلاً لموسى؟ فإن كان موسى كذابًا، فالذي زعمت أنه أرسله أكذب، فقال لي: إنك لا تفلح أبدًا، وندم على إفشاء أسراره إليّ، وتبت من بدعتهم، فهذا بيان وجه حيلهم على أتباعهم. وأما أيمانهم فإن داعيهم يقول للحالف: جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسله، وما أخذ الله على النبيين من عهد وميثاق أنك تستر ما تسمعه مني وما تعلمه من أمر، ومن أمر الإمام الذي هو صاحب زمانك وأمر أشياعه وأتباعه في هذا البلد وفي سائر البلدان، وأمر المطيعين له من الذكور والإناث فلا تظهر من ذلك قليلاً ولا كثيرًا، ولا تظهر شيئًا يدل عليه من كتابة أو إشارة إلا ما أذن لك فيه الإمام صاحب الزمان، أو أذن لك في إظهاره المأذون له في دعوته، فتعمل في ذلك حينئذ بمقدار ما يؤذن لك فيه. وقد جعلت على نفسك الوفاء بذلك، وألزمته نفسك في حالتي الرضا والغضب والرغبة والرهبة، قال نعم. فإذا قال نعم قال له: وجعلت على نفسك أن تمنعني، وجميع من أسميه لك مما تمنع منه نفسك بعهد الله تعالى وميثاقه عليك وذمته وذمة رسله، وتنصحهم نصحًا ظاهرًا وباطنًا , أن لا تخون الإمام وأولياءه وأهل دعوته في أنفسهم ولا في أموالهم. وإنك لا تتأول في هذه الأيمان تأويلاً ولا تعتقد ما يحلها، وإنك إن فعلت شيئًا من ذلك، فأنت بريء من الله ورسله وملائكته ومن جميع ما أنزل الله تعالى في كتبه، وإنك إن خالفت شيئًا مما ذكرناه لك، فلله عليك أن تحج إلى بيته مئة حجة ماشيًا نذرًا واجبًا وكل ما تملكه في الوقت الذي أنت فيه صدقة على الفقراء والمساكين، وكل مملوك يكون في ملكك يوم تخالف فيه أو بعده يكون حرًّا، وكل امرأة لك الآن أو يوم مخالفتك أو تتزوجها بعد ذلك، تكون طالقًا منك ثلاث طلقات، والله تعالى الشاهد على نيتك، وعقد ضميرك فيما حلفت به. فإذا قال نعم قال له: كفى الله شهيدا بيننا وبينك. فإذا حلف الغر بهذه الأيمان، ظن أنه لا يمكن حلها، ولن يعلم الغر أنه ليس لأيمانهم عندهم مقدار ولا حرمة، وأنهم لا يرون فيها ولا في حلها إثمًا ولا كفارة ولا عارًا ولا عقابًا في الآخرة، وكيف يكون لليمين بالله وبكتبه ورسله عندهم حرمة، وهم لا يقرون بإله قديم بل لا يقرون بحدوث العالم، ولا يثبتون كتابًا منزلاً من السماء ولا رسولاً ينزل عليه الوحي من السماء، وكيف يكون لليمين بالله وبكتبه ورسله عندهم حرمة، ومن دينهم أن الله الرحمن الرحيم إنما هو زعيمهم الذي يدعون إليه؟ ومن مال منهم إلى دين المجوس زعم أن الإله نور بإزائه شيطان قد غلبه ونازعه في ملكه، وكيف يكون لنذر الحج والعمرة عندهم مقدار، وهم لا يرون للكعبة مقدار، ويسخرون بمن يحج ويعتمر؟ وكيف يكون للطلاق عندهم حرمة، وهم يستحلون كل امرأة من غير عقد؟ فهذا بيان الأيمان عندهم. فأما حكم الأيمان عند المسلمين، فإنا نقول: كل يمين يحلف به الحالف ابتداء بطوع نفسه فهو على نيته، وكل يمين يحلف بها عند قاض أو سلطان يحلفه ينظر فيها، فإن كانت يمينًا في دعوى لمدع شيئًا على الحالف المنكر، وكان المدعي ظالمًا للمدعى عليه فيمين الحالف على نيته، وإن كان محقًا والمنكر ظالمًا للمدعي فيمين المنكر على نية القاضي أو السلطان الذي أحلفه، ويكون الحالف خائنًا في يمينه. وإذا صحت هذه المقدمة فالباحث عن دين الباطنية، إذا قصد إظهار بدعتهم للناس أو أراد النقض عليهم معذور في يمينه، ويكون يمينه على نيته. فإذا استثنى بقلبه مشيئة الله تعالى فيها، لم تنعقد عليه أيمانه ولم يحنث فيها بإظهاره أسرار الباطنية للناس، ولم تطلق نساؤه ولا تعتق مماليكه ولا تلزمه صدقة بذلك، وليس زعيم الباطنية عند المسلمين إمامًا، ومن أظهر سره لم يظهر سر إمام، وإنما أظهر سر كافر زنديق، وقد جاء في الحديث المأثور (اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس) فهذا بيان حيلتهم على الأغمار بالأيمان. فأما احتيالهم على الأغمار بالتشكيك، فمن جهة أنهم يسألونهم عن مسائل من أحكام الشريعة، يوهمونهم فيها خلاف معانيها الظاهرة. وربما سألوهم عن مسائل في المحسوسات، يوهمون أن فيها علومًا لا يحيط بها إلا زعيمهم. فمن مسائلهم قول الداعي منهم للغر: لم صار للإنسان أذنان ولسان واحد؟ ولم صار للرجل ذكر واحد وخصيتان؟ ولم صارت الأعصاب متصلة بالكبد والشرايين متصلة بالقلب؟ ولم صار الإنسان مخصوصًا بنبات الشعر على جفنه الأعلى والأسفل، وسائر الحيوان ينبت الشعر على جفنه الأعلى دون الأسفل؟ ولم صار ثدي الإنسان على صدره وثدي البهائم على بطونها؟ ولماذا لم يكن للفرس غدد [٣] لا كرش ولا كعب؟ وما الفرق بين الحيوان الذي يبيض ولا يلد ولا يبيض؟ وبماذا يميز بين السمكة النهرية والسمكة البحرية؟ ونحو هذا كثير يوهمون أن العلم بذلك عند زعيمهم. ومن مسائلهم في القرآن سؤالهم عن معاني حروف الهجاء في أوائل السور كقوله: (الم) و (حم) و (يس) و (طه) و (كهيعص) ، وربما قالوا: ما معنى كل حرف من حروف الهجاء؟ ولم صارت حروف الهجاء تسعة وعشرون حرفًا، ولم عجم بعضها بالنقط وخلا بعضهم من النقط، ولم جاز وصل بعضها بما بعدها بحرف؟ ، وربما قالوا للغر: ما معنى قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (الحاقة: ١٧) ، ولم جعل الله أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة؟ وما معنى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (المدثر: ٣٠) ؟ وما فائدة هذا العدد؟ وربما سألوا عن آيات وأوهموا فيها التناقض، وزعموا أنه لا يعرف تأويلها إلا زعيمهم كقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} (الرحمن: ٣٩) مع قوله في موضع آخر: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: ٩٢) . ومنها مسائلهم في أحكام الفقه كقولهم: (لم صارت صلاة الصبح ركعتين والظهر أربعًا والمغرب ثلاثًا، ولم صار في كل ركعة ركوع واحد وسجدتان، ولم كان الوضوء على أربعة أعضاء والتيمم على عضوين، ولم وجب الغسل من المني وهو عند أكثر المسلمين طاهر ولم يجب الغسل من البول مع نجاسته عند الجميع، ولم أعادت الحائض ما تركت من الصيام ولم تعد ما تركت من الصلاة، ولم كانت العقوبة في السرقة بقطع اليد وفي الزنا بالجلد، وهلا قطع الفرج الذي به زنى في الزنا كما قطعت اليد التي بها سرق في السرقة) . فإذا سمع الغر هذه الأسئلة ورجع إليهم في تأويلها، قالوا له: علمها عند إمامنا وعند المأذون في كشف أسرارنا، فإذا تقرر عند الغر أن إمامهم أو مأذونه هو العالم بتأويله، اعتقد أن المراد بظواهر القرآن والسنة غير ظاهرها، فأخرجوه بهذه الحيلة عن العمل بأحكام الشريعة، فإذا اعتاد ترك العبادة واستحل المحرمات كشفوا له القناع، وقالوا له: لو كان لنا إله قديم غني عن كل شيء، لم يكن له فائدة في ركوع العباد وسجودهم، ولا في طوافهم حول بيت من حجر ولا في سعي بين جبلين، فإذا قبل منهم ذلك فقد انسلخ عن توحيد ربه، وصار جاحدًا له زنديقا. قال عبد القاهر: والكلام عليه في مسائلهم إلى يسألون عنها عند قصدهم إلى تشكيك الأغمار في أصول الدين من وجهين؛ أحدهما: أن يقال لهم: إنكم لا تخلون من أحد أمرين: أما أن تقروا بحدوث العالم وتثبتوا له صانعًا قديمًا عالمًا حكيمًا؛ يكون له تكليف عباده ما شاء كيف شاء، وإما أن تنكروا ذلك وتقولوا بقدم العالم ونفي الصانع، فإن اعتقدتم قدم العالم ونفي الصانع، فلا معنى لقولكم: لم فرض الله كذا، ولم حرم كذا، ولم خلق كذا، ولم جعل كذا على مقدار كذا، إذ لم تقروا بإله فرض شيئًا أو حرَّمه أو خلق شيئًا أو قدَّره، ويصير الكلام بيننا وبينكم كالكلام بيننا وبين الدهرية في حدوث العالم، وإن أقررتم بحدوث العالم وتوحيد صانعه، وأجزتم له تكليف عباده ما شاء من الأعمال، كان جواز ذلك جوابًا لكم عن قولكم: لم فرض ولم حرم كذا؛ لإقراركم بجواز ذلك منه إن أقررتم به، ويجواز تكليفه، وكذلك سؤالهم عن خاصية المحسوسات يبطل إن أقروا بصانع أحدثها، وإن أنكروا الصانع فلا معنى لقولهم: لم خلق الله ذلك؟ مع إنكارهم أن يكون لذلك صانع قديم. والوجه الثاني: من الكلام عليهم فيما سألوا عنه من عجائب خلق الحيوان أن يقال لهم: كيف يكون زعماء الباطنية مخصوصين بمعرفة علل ذلك، وقد ذكرته الأطباء والفلاسفة في كتبهم، وصنع أرسطاطاليس في طبائع الحيوان كتابًا، وما ذكرت الفلاسفة من هذا النوع شيئًا إلا مسروقًا من حكماء العرب؛ الذين كانوا قبل زمن الفلاسفة من العرب القحطانية والجرهمية والطسمية وسائر الأصناف الحِمْيَريَّة وقد ذكرت العرب في أشعارها وأمثالها جميع طبائع الحيوان، ولم يكن في زمانها باطني ولا زعيم للباطنية، وإنما أخذ أرسطاطليس الفرق بين ما يلد وما يبيض من قول العرب في أمثالها: كل شرقاء ولود وكل صكاء بيوض، ولهذا كان الخفاش من الطير ولود لا بيوضًا؛ لأن له أذنًا شرقاء وكل ذات صكة بيوض؛ كالحية والضب والطيور البائضة. (ثم ذكر هنا كلامًا طويلاً في طبائع الحيوان والنبات الذي عرفته العرب ثم ختم الكلام بقوله) : فهذا وما جرى مجراه من خواص الحيوانات وغيرها، قد عرفته العرب في جاهليتها بالتجارب من غير رجوع منها إلى زعماء الباطنية، بل عرفوه قبل وجود الباطنية في الدنيا بأحقاب كثيرة، وفي هذا بيان كذب الباطنية في دعواها: إن زعماءها مخصصون بمعرفة أسرار الأشياء وخواصها، وقد بينا خروجهم عن جميع فرق الإسلام بما فيه كفاية والحمد الله على ذلك , انتهى.