هل يدخل في الأمور العادية أم يختص بالأمور العبادية؟
الباب السابع [*] قد تقدم في حد البدعة ما يقتضي الخلاف فيه: هل يدخل في الأمور العادية أم لا؟ أما العبادية فلا إشكال في دخوله فيها، وهي عامة الباب؛ إذ الأمور العبادية إما أعمال قلبية وأمور اعتقادية، وإما أعمال جوارح من قول أو فعل، وكلا القسمين قد دخل فيه الابتداع كمذهب القدرية والمرجئة، والخوارج والمعتزلة، وكذلك مذهب الإباحة واختراع العبادات على غير مثال سابق ولا أصل مرجوع إليه. وأما العادية فاقتضى النظر وقوع الخلاف فيها وأمثلتها ظاهرة مما تقدم في تقسيم البدع، كالمكوس والمحدثة من الظالم، وتقديم الجهال على العلماء في الولايات العلمية، وتولية المناصب الشريفة من ليس لها بأهل بطريق الوراثة، وإقامة صور الأئمة وولاة الأمور والقضاة، واتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان، ولبس الطيالس، وتوسيع الأكمام، وأشباه ذلك من الأمور التي لم تكن في الزمن الفاضل والسلف الصالح، فإنها أمور جرت في الناس وكثر العمل بها، وشاعت وذاعت فلحقت بالبدع، وصارت كالعبادات المخترعة الجارية في الأمة، وهذا من الأدلة الدالة على ما قلنا، وإليه مال القرافي وشيخه ابن عبد السلام، وذهب إليه بعض السلف. فروى أبو نعيم الحافظ عن محمد بن أسلم أنه ولد له ولد، قال محمد بن القاسم الطوسي: فقال: اشتر لي كبشين عظيمين، ودفع إليّ دراهم، فاشتريت له وأعطاني عشرة أخرى، وقال لي: اشتر بها دقيقًا ولا تنخله واخبزه. قال: فنخلت الدقيق وخبزته ثم جئت به، فقال: نخلت هذا؟ وأعطاني عشرة أخرى وقال: اشتر به دقيقًا ولا تنخله واخبزه. فخبزته وحملته إليه، فقال لي: يا أبا عبد الله! العقيقة سنة، ونخل الدقيق بدعة، ولا ينبغي أن يكون في السنة بدعة، ولم أحب أن يكون ذلك الخبز في بيتي بعد أن كان بدعة. ومحمد بن أسلم هذا هو الذي فسر به الحديث إسحاق بن راهويه حيث سئل عن السواد الأعظم في قوله عليه السلام: (عليكم بالسواد الأعظم) فقال: محمد وأصحابه. حسبما يأتي - إن شاءالله - في موضعه من هذا الكتاب. وأيضًا فإن تصور في العبادات، وقوع الابتداع وقع في العادات؛ لأنه لا فرق بينهما، فالأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية، فكلاهما مشروع من قبل الشارع: فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر. ووجه ثالث وهو أن الشرع جاء بالوعد بأشياء تكون في آخر الزمان هي خارجة عن سنته، فتدخل فيما تقدم تمثيله؛ لأنها من جنس واحد. ففي الصحيح عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:: (إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها، قال فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدّوا إليهم حقهم وسلوا حقكم) وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كره من أميره شيئًا فليصبر، وفي رواية: (مَن رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات مات ميتة جاهلية) . وفي الصحيح أيضًا: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتقارب الزمان، ويقبض العلم، ويلقى الشح، [١] وتظهر الفتن، ويكثر الهرج. قال: يارسول الله أيما هو؟ قال: القتل القتل) وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي لأيامًا [٢] ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرْج) . والهرج القتل. وعن حذيفة رضي الله عنه. قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها ثم قال: (ينام [الرجل] النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الولث [٣] ثم ينام النومة فتقبض، فيبقى أثرها مثل أثر المحل كجمر دحرجته على رجلك فنفص فتراه ينتثر وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة. فيقال: إن في بني فلان رجلاً أمينًا. ويقال للرجل: ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان) الحديث. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، يكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول، وحتى يقبض العلم، ثم قال: وحتى يتطاول الناس في البنيان) إلى آخر الحديث. وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تخرج في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) . ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: (بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا يبيع دينه بعرض الدنيا) وفسّر ذلك الحسن قال: يصبح محرمًا لدم أخيه وعرضه وماله، ويمسي مستحلاًّ له. كأنه تأوله على الحديث الآخر: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) والله أعلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا ويشرب الخمر، ويكثر النساء، ويقل الرجال، حتى يكون للخمسين امرأة قيم واحد) . ومن غريب حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: إذا صار المغنم دولاً، والأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا، وأطاع الرجل زوجته وعقّ أمه، وبرّ صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرِم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القيّان والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء، وزلزلة وخسفًا، أو مسخًا وقذفًا) . وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه قريب من هذا وفيه (ساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم) وفيه: ظهرت القيان والمعازف، وفي آخره (فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء وزلزلة وخسفًا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع) . فهذه الأحاديث وأمثالها مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكون في هذه الأمة بعده إنما هو في الحقيقة تبديل الأعمال التي كانوا أحق بالعمل بها، فلما عرضوا منها غيرها، وفشا فيها كأنه من المعمول به تشريعًا كان من جملة الحوادث الطارئة على نحو ما بين في العبادات. والذين ذهبوا إلى أنه مختص بالعبادات لا يسلمون جميع [٤] الأولون. في الجملة، ومخالفات المشروع، كالمكوس والمظالم، وتقديم الجهال على العلماء، وغير ذلك، والمباح منها كالمناخل إن فرض مكروهًا - كما أشار إليه محمد بن أسلم - فوجه الكراهية عنده كونها عدت من المحدثات، إذ في الأثر: أول ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المناخل - أو كما قال - فأخذ بظاهره من أخذ به كمحمد بن أسلم، وظاهره أن ذلك من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إلى كراهيته قوله تعالى {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (الأحقاف: ٢٠) الآية [٥] لا من جهة أنه بدعة. وقولهم: كما يتصور ذلك في العبادات يتصور في العادات - مسلم، وليس كلامنا في الجواز العقلي، وإنما الكلام في الوقوع، وفيه النزاع. وأما ما احتجوا به من الأحاديث فليس فيها على المسألة دليل واحد، إذ لم ينص على أنها بدع أو محدثات أو ما يشير إلى ذلك المعني، وأيضًا إن عدوا كل محدث العادات بدعة، فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم من المآكل والمشارب والملابس والمسائل النازلة التي لا عهد بها في الزمان الأول بدعًا، وهذا شنيع، فإن من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والاسم، فيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم، هذا من المستنكر جدًّا، نعم لا بد من المحافظة في العوائد المختلفة على الحدود الشرعية والقوانين الجارية على مقتضى الكتاب والسنة. وأيضًا فقد يكون التزام [٦] الواحد والحالة الواحدة أو العادة الواحدة تعبًا ومشقة لاختلاف الأخلاق والأزمنة والبقاع والأحوال، والشريعة تأبى التضييق والحرج فيما دل الشرع على جوازه ولم يكن ثَمَّ معارض. وإنما جعل الشارع ما تقدم في الأحاديث المذكورة من فساد الزمان وأشراط الساعة لظهورها وفحشها بالنسبة إلى ما تقدم ليفعلها فإن الخير كان أظهر، والشر كان أخفى وأقل، بخلاف آخر الزمان فإن الأمر فيه على العكس، والشر فيه أظهر والخير أخفى. وأما كون تلك الأشياء بدعًا فغير مفهوم على الطريقتين في حد البدعة، فراجع النظر فيه تجده كذلك. والصواب في المسئلة طريقة أخرى وهي تجمع شتات النظرين، وتحقق المقصود في الطريقتين، وهو الذي بني عليه ترجمة هذا الباب، فلنفرده في فصل على حدته والله الموافق للصواب. *** فصل أفعال المكلفين بحسب النظر الشرعي فيها على ضربين: أحدهما أن تكون من قبيل التعبدات، والثاني أن تكون من قبيل العادات، فأما الأول فلا نظر فيه هاهنا. وأما الثاني وهو العادي، فظاهر النقل عن السلف الأولين أن المسألة تختلف فيها، فمنهم من يرشد كلامه إلى أن العاديات كالعباديات، فكما أنا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها، فكذلك العاديات، وهو ظاهر كلام محمد بن أسلم، حيث كره في سنة العقيقة مخالفة مَن قبله في أمر عادي، وهو استعمال المناخل، مع العلم بأنه معقول المعنى، نظرًا منه - والله أعلم - إلى أن الأمر باتباع الأولين على العموم غلب عليه جهة التعبد، يظهر أيضًا من كلام مَن قال: أول ما أحدث الناس بعد رسول الله صلى الله وعليه وسلم المناخل. ويحكى عن الربيع بن أبي راشد أنه قال: لولا أني أخاف مَن كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت. والسكنى [٧] عادي بلا إشكال. وعلى هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلاً في قسم العباديات، فدخول الابتداع فيه ظاهر. والأكثرون على خلاف هذا، وعليه نبني الكلام فنقول: ثبت في الأصول الشرعية أنه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد؛ لأن ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالعادي، فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تبعدي، والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي؛ لأن أحكامها معقولة المعنى، ولا بد فيها من التعبد؛ إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها، كانت اقتضاء أو تخييرًا، فإن التخيير في التعبدات إلزام، كما أن الاقتضاء إلزام - حسبما تقرر برهانه في كتاب الموافقات - وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد، فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه، صحَّ دخوله في العاديات كالعباديات، وإلا فلا. وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ويتبين ذلك بالأمثلة، فما أتى به القرافي [٨] وضع المكوس في معاملات الناس، فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات - وقتًا ما أو في حالة ما - لنيل حطام الدنيا، على هيئة غصب الغاصب، وسرقة السارق، وقطع القاطع للطريق، وما أشبه ذلك. أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم عليهم دائمًا، أو في أوقات محدودة، على كيفيات مضروبة، بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة، ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه العقوبة، كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك. فأما الثاني فظاهر أنه بدعة؛ إذ هو تشريع زائد، وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة، والديات المضروبة والغرامات المحكوم بها في أموال الغصاب والمتعدين؛ بل صار في حقهم كالعبادات المفروضة واللوازم المحتومة، أو ما أشبه ذلك. فمن هذه الجهة يصير بدعة بلا شك؛ لأنه شرع مستدرك، وسن في التكليف مهيع، فتصير المكوس على هذا الفرض لها نظران: نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم، ونظر من جهة كونها اختراع لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف، فاجتمع فيها نهيان: نهي عن المعصية، ونهي عن البدعة، وليس ذلك موجودًا في البدع في القسم الأول، وإنما يوجد به النهي من جهة كونها تشريعًا موضوعًا على الناس أمر وجوب أو ندب؛ إذ ليس فيه جهة أخرى يكون بها معصية؛ بل نفس التشريع هو نفس الممنوع. وكذلك تقديم الجهال على العلماء، وتولية المناصب الشريفة مَن لا يصلح [٩] بطريق التوريث، هو من قبيل ما تقدم، فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتيًا في الدين، ومعمولاً بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها، محرم [١٠] في الدين. وكون ذلك يتخذ ديدنًا حتى يصير الابن مستحقًّا لرتبة الأب - وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب - بطريق الوراثة أو غير ذلك بحيث يشيع هذا العمل ويطّرد ويَرِده الناس كالشرع الذي لا يخالف - بدعة [١١] بلا إشكال، زيادة إلى القول بالرأي غير الجاري على العلم، وهو بدعة أو سبب البدعة كما سيأتي تفسيره إن شاء الله، وهو الذي بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) وإنما ضلوا وأضلوا لأنهم أفتوا بالرأي؛ إذ ليس عندهم علم. وأما إقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمر على خلاف ما كان عليه السلف، فقد تقدم أن البدعة لا تتصور هنا، وذلك صحيح، فإن تكلف أحد فيها ذلك فيبعد جدًّا، وذلك بفرض أن يعتقد في ذلك العمل أنه مما يطلب به الأئمة على الخصوص تشريعًا خارجًا عن قبيل المصالح المرسلة، بحيث يعد من الدين الذي يدين به هؤلاء المطالبون به، أو يكون ذلك مما يعد خاصًّا بالأئمة دون غيرهم، كما يزعم بعضهم أن خاتم الذهب جائز لذوي السلطان، أو يقول: إن الحرير جائز لهم لبسه دون غيرهم، وهذا أقرب من الأول في تصور البدعة في حق هذا القسم. ويشبهه على قرب: زخرفة المساجد؛ إذ كثير من الناس يعتقد أنها من قبيل ترفيع بيوت الله، وكذلك تعليق الثريات الخطيرة الأثمان، حتى يعد الإنفاق في ذلك إنفاقًا في سبيل الله، وكذلك إذا اعتقد في زخارف الملوك وإقامة صورهم أنها من جملة ترفيع الإسلام وإظهار معالمه وشعائره، أو قصد ذلك في فعله أولاً بأنه ترفيع للإسلام لما لم يأذن لله به، وليس ما حكاه القرافي عن معاوية من قبيل هذه الزخارف؛ بل من قبيل المعتاد في اللباس والاحتياط في الحجاب مخافة من انخراق خرق يتسع فلا يرقع؛ هذا إن صح ما قال، وإلاَّ فلا يعول على نقل المؤرخين ومَن لا يعتبر من المؤلفين، وأحرى أن ينبني عليه حكم [١٢] . وأما مسألة المناخل فقد مرَّ ما فيها، والمعتاد فيها أنه لا يلحقها أحد بالدين، ولا بتدبير الدنيا بحيث لا ينفك عنه كالتشريع، فلا نطول به، وعلى ذلك الترتيب ينظر فيما قال ابن عبد السلام من غير فرق، فتبين مجال البدعة في العاديات من مجال غيرها، وقد تقدم أيضًا فيها كلام فراجعه إن احتجت إليه. وأما وجه النظر في أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول الابتداع في العاديات على ما أريد تحقيقه، فنقول: إن مدار تلك الأحاديث على بضع عشرة خصلة، يمكن ردها على أصول هي كلها أو غالبها بدع، وهي قلة العلم وظهور الجهل والشح، وقبض الأمانة، وتحليل الدماء والزنا والحرير والغناء والربا والخمر، وكون المغنم دولاً، والزكاة مغرمًا، وارتفاع الأصوات في المساجد، وتقديم الأحداث، ولعن آخر الأمة أولها، وخروج الدجالين، ومفارقة الجماعة. أما قلة العلم وظهور الجهل فبسبب التفقه للدنيا، وهذا إخبار بمقدمة أنتجتها الفتيا بغير علم - حسبما جاء في الحديث الصحيح (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس) إلى آخره. وذلك أن الناس لا بد لهم مِن قائد يقودهم في الدين بجرائمهم، وإلا وقع الهرج وفسد النظام، فيضطرون إلى الخروج إلى مَن انتصب لهم منصب الهداية، وهو الذي يسمونه عالمًا، فلا بد أن يحملهم على رأيه في الدين؛ لأن الفرض أنه جاهل، فيضلهم عن الصراط المستقيم، كما أنه ضال، وهذا عين الابتداع؛ لأنه التشريع بغير أصل من كتاب ولا سنة. ودل هذا الحديث على أنه لا يؤتى الناس قط من قِبَل العلماء، وإنما يؤتون من قِبَل أنه إذا مات علماؤهم أفتى مَن ليس بعالم فتؤتى الناس من قِبَله، وسيأتي لهذا المعنى بسْط أوسع من هذا إن شاء الله. وأما الشح فإنه مقدمة لبدعة الاحتيال على تحليل الحرام، وذلك أن الناس يشحون بأموالهم فلا يسمحون بتصريفها في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، كالإحسان بالصدقات والهبات والمواساة والإيثار على النفس. ويليه أنواع القرض الجائز، ويليه التجاوز في المعاملات بإنظار المعسر، وبالإسقاط كما قال: {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ٢٨٠) ، وهذا كان شأن من تقدم من السلف الصالح، ثم نقص الإحسان بالوجه الأول فتسامح الناس بالقرض، ثُم نقض ذلك حتى صار الموسر لا يسمح بما في يديه فيضطر المعسر إلى أن يدخل في المعاملات التي ظاهرها الجواز وباطنها المنع، كالربا والسلف الذي يجر النفع فيُجعل بيعًا في الظاهر، ويجري في الناس شرعًا شائعًا، ويدين به العامة، وينصبون هذه المعاملات متاجر. وأصله الشح بالأموال وحب الزخارف الدنيوية والشهوات العاجلة. فإذا كان كذلك فالحري أن يصير ذلك ابتداعًا في الدين، وأن يُجعل من أشراط الساعة. فإن قيل: هذا انتجاع من مكان بعيد، وتكلف لا دليل عليه. فالجواب: إنه لولا أن ذلك مفهوم من الشرع لما قيل به، فقد روى أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله وعليه وسلم يقول (إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم) ، ورواه أبو داود، أيضًا وقال فيه: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلاًّ لا ينتزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) . فتأمل كيف قرن التبايع بالعينة بضنة الناس، فأشعر بأن التبايع بالعينة يكون عن الشح بالأموال - وهو معقول في نفسه - فإن الرجل لا يتبايع أبدًا هذا التبايع وهو يجد مَن يسلفه أو من يعينه في حاجته، إلا أن يكون سفيهًا لا عقل له. ويشهد لهذا المعنى ما خرّجه أبو داود أيضًا عن علي - رضي الله عنه - قال: (سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك. قال الله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: ٣٩) وينشد شرار خلق الله، يبايعون كل مضطر. إلا إن بيع المضطر حرام! المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه، وإن كان عندك خير فعد به على أخيك، ولا تزده هلاكًا إلى هلاكه) . وهذه الأحاديث الثلاثة - وإن كانت أسانيدها ليست هناك - مما يعضد بعضه بعضًا، وهو خبر حق في نفسه يشهد له الواقع. قال بعضهم: عامة العينة إنما تقع من رجل يضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض إلا أن يربحه في المائة ما أحب، فيبيعه ثمن المائة بضعفها أو نحو ذلك، ففسر بيع المضطر ببيع العينة، وبيع العينة إنما هو العين بأكثر منها إلى أجل حسبما هو مبسوط في الفقهيات. فقد صار الشح إذًا سببًا في دخول هذه المفاسد في البيوع. فإن قيل: كلامنا في البدعة لا في فساد المعصية؛ لأن هذه الأشياء بيوع فاسدة فصارت من باب آخر لا كلام لنا فيه. فالجواب: إن مدخل البدعة هاهنا من باب الاحتيال الذي أجازه بعض الناس، فقد عده العلماء من البدع المحدثات، حتى قال ابن المبارك في كتاب وضع في الحيل: مَن وضع هذا فهو كافر، ومن سمع به فرضي به فهو كافر، ومَن حمله من كورة إلى كورة فهو كافر، ومَن كان عنده فرضي به فهو كافر. وذلك أنه وقع فيه الاحتيالات بأشياء منكرة، حتى احتال على فراق الزوجة زوجها بأن ترتد. وقال إسحق بن راهويه عن سفيان بن عبد الملك: إن ابن المبارك قال في قصة بنت أبي روح حيث أُمرت بالارتداد، وذلك في أيام أبي غشان، فذكر شيئًا ثم قال ابن المبارك وهو مغضب: أحدثوا في الإسلام، ومَن كان أمر بهذا فهو كافر، ومَن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به أو صوبه ولم يأمر به فهو كافر. ثم قال ابن المبارك: ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا، ثم جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعها حينئذٍٍ، وكان لحسنها [١٣] ولم يجد من يمضيها فيهم، حتى جاء هؤلاء. وإنما وضع هذا الكتاب وأمثاله ليكون حجة على زعمهم في أن يحتالوا للحرام حتى يصير حلالاً، وللواجب حتى يكون غير واجب وما أشبه ذلك من الأمور الخارجة عن نظام الدين، كما أجازوا نكاح المحلل، وهو احتيال على رد المطلقة ثلاثًا لمن طلقها، وأجازوا إسقاط فرض الزكاة بالهيئة المستعارة، وأشباه ذلك. فقد ظهر وجه الإشارة في الأحاديث المتقدمة المذكور فيها الشح، وأنها تتضمن ابتداعًا كما تتضمن معاصي جملة. وأما قبض الأمانة فعبارة عن شياع الخيانة، وهي من سمات أهل النفاق، ولكن يوجد في الناس بعض أنواعها تشريعًا، وحكيت عن قوم ممن ينتمي إلى العلم، كما حكيت عن كثير من الأمراء، فإن أهل الحيل المشار إليهم إنما بنوا في بيع العينة على إخفاء ما لو أظهروه لكان البيع فاسدًا فأخفوه لتظهر صحته، فإن بيعه الثواب بمائة وخمسين إلى أجل [١٤] لكنهما أظهرا وساطة الثوب، وأنه هو المبيع والمشترى، وليس كذلك بدليل الواقع. وكذلك يهب ماله عند رأس الحول قائلاً بلسان حاله ومقاله: أنا غير محتاج إلى هذا المال وأنت أحوج إليه مني. ثم يهبه، فإذا جاء الحول الآخر قال الموهوب له للواهب مثل المقالة الأولى، والجميع في الحالين؛ بل في الحولين في تصريف المال سواء؛ أليس هذا خلاف الأمانة، والتكليف من أصله أمانة فيما بين العبد وربه، فالعمل بخلافه خيانة. ومن ذلك أن بعض الناس كان يحقر الزينة ويرد [١٥] من الكذب، ومعنى الزينة التدليس بالعيوب، وهذا خلاف الأمانة والنصح لكل مسلم. وأيضًا والنصح لكل مسلم. وأيضًا فإن كثيرًا من الأمراء يجتاحون أموال الناس اعتقادًا منهم أنها لهم دون المسلمين. ومنهم مَن يعتقد نوعًا من ذلك في الغنائم المأخوذة عنوة من الكفار، فيجعلونها في بيت المال، ويحرمون الغانمين من حظوظهم منها تأويلاً على الشريعة بالعقول. فوجه البدعة هاهنا ظاهر. وقد تقدم التنبيه على ذلك في تمثيل البدع الداخلة في الضروريات في الباب قبل هذا ويدخل تحت هذا النمط كون الغنائم تصير دولاً. وقوله: (سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها، ثم قال: أدّوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم) . (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))