للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشعر عند الإنكليز

نقص على قراء الأنيس حكاية جديرة بالذكر، تدل على محبة الأوروبيين للعلم
وحفاوتهم بالشعر خاصة، ذلك أن غلامًا فقيرًا جدًّا في لندن كان يشتغل بأحد معامل
الغِراء، وهو لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، فاتفق مرة لبعض رؤسائه أنهم
وجدوه متعلقًا على نظم الشعر فراقبوه وقرءوا شعره فوجدوا فيه من الآراء الحسنة
والمعاني الغريبة ما يدل على أن الفتى شاعر مطبوع، وأنه يبشر بمستقبل حسن،
فأشاعوا أمره بين الناس، ونشرت جريدة لندن شيئًا من شعره في ذلك العهد،
فأعجب به رجال الشعر هناك فجاءته المساعدة من كل ناحية حتى نقلوه من تلك
الصناعة الحقيرة ووضعوه في مدرسة يتعلم بها علم النحو وسواه ليكون شِعره سليمًا
من الخطأ، فأخذ الفتى يتعلم ويتهذب مدة السنتين وهو يزداد شاعرية وذكاء حتى
تضايق أبوه الفقير من مكث ابنه كل هذه المدة دون أن ينتفع منه بشيء، فجاء إلى
المدرسة وألح جدًّا بإخراج ابنه منها وإرجاعه إلى معمل يكتسب منه، فعارضه
الرئيس في ذلك أشد المعارضة، ونَشَرَ حكاية هذا الغلام على الجرائد، وقال: إنه
إذا خرج من المدرسة واحترف الحرف اليدوية فإن دولة إنكلترا، بل كل العالم
الإنكليزي يخسرون أعظم شاعر للمستقبل يعظم به شرف المملكة، ويزداد فخرها،
ثم قال: إن مائة جنيه فقط تُعطى لوالد هذا الغلام تكون كافية لافتداء الشعر والحرص
على مجد إنكلترا.
فما شاع قوله هذا حتى جاءته تلك المائة جنيه من أحد الفضلاء العارفين بقيم
العقول، فلبث الغلام في المدرسة يزرع فيها حبوب الشعر لتصبح بعد ذلك حديقة
غناء يجني منها المال والشرف، ويجني قومه اللهو والإعجاب والطرب.
وقد نشرت الجرائد شيئًا من شعره الذي نظمه الآن وهو في السابعة عشرة
وقالت: إنه لا يزال فيه شيء من الخطأ النحوي، ولكن معانيه باهرة تدل على أنه
متى اتسع عقله باتساع عمره فقد يرد إلى إنكلترا شكسبير وبرنس وبيرون
وتنسون وأمثالهم من الشعراء المخلدين، ويكون كل ذلك من كلمة واحدة قالها رئيسه
في ذلك المعمل الحقير فدوت في إنكلترا حتى كان منها ظهور هذا الغلام.
ومما نذكر في هذا الباب دلالة على فضل العرب في أيام دولتهم، وعرفانهم
مراتب العقول وأقدار الشعراء - كما يعرفها الأوروبيون الآن - أن ابن الزقاق
البلنسي كان فقيرًا جدًّا، وكان أبوه حدادًا لا يكتسب قوت يومه، ولكن الولد كان
مولعًا بنظم الشعر حتى كان سهر من أجله الليل، فكان أبوه يعاتبه ويردعه عن
النظم ويقول له: نحن قوم فقراء لا نملك ما نشتري به الخبز فكيف نضيف علينا
ثمن الزيت للمصباح، فلم يكن الولد يعبأ لهذا القول على شعوره بذلك الفقر، بل
ظل ينظم الشعر ويصقل قريحته به حتى جاء بلدته أبو بكر بن عبد العزيز فمدحه
بقصيدة يقول فيها:
يا شمس خدر ما لها مغرب ... أرامة دارك أم غرّب
ذهبت فاستعبرت طرفي دما ... مفضض الدمع به مذهب
ناشدتك الله نسيم الصبا ... أين استقلت بعدنا زينب
لم نسر إلا بشذا عرفها ... أولاً فماذا النَّفَس الطيب
فأعجب بها الحاكم إعجابًا شديدًا، وأجازه عليها بثلاث مائة دينار، فأخذها
الفتى وجاء بها إلى أبيه وهو يشتغل بالحدادة ورماها بين يديه وقال له: خذ هذه
فاشترِ بها زيتًا فإنها جاءت من الشعر الذي أنفقنا عليه الزيت.
فانظر كيف كان العرب في عهدهم الأول من العلم والفضل، وكيف كان
الإفرنج في ذلك الحين من الغباوة والجهل، ثم انظر كيف صرنا الآن وكيف صاروا
وقل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: ١٤٠) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أنيس الجليس