للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر
(١٧) من هيلانة إلى أراسم في أبريل سنة -١٨٥
قد تمّ لي القرار في المنزل الذي استأجرته وفي صباح اليوم قدم على إحدى
السفن التجارية خادمانا الزنجيان (قوبيدون وزوجته جورجيه) آتيين من فرنسا
حيث كانا تخلَّفا عني لحزم أمتعتنا، فأسكنتهما رواقًا ملاصقًا للمنزل من ناحية
البستان، وأنا الآن أساعدهما في نفض كتبك وترتيب مجموعاتك.
لم يكد يستقر هذا الزنجيّ البار حتى وجَّه عزيمته إلى أعمال شتى، فصرح لي أن
في نيته قلب أرض البستان وبذر الحبوب، وغرس أنواع من النبات فيها، إلى غير
ذلك من الأعمال، وقال لي: إنه لا لوم عليه إذا أنتج بستاننا عما قليل أطيب فواكه
البلد وأجود بقوله، وهو يذكر سابق اشتغاله بزراعة الأرض أيام رِقِّه، وهو فَرِح
فخور أنه ينبعث إلى العمل بسائق الشكر والإقرار بالنعمة بعد أن كان لا يلجئه إليه
إلا خوفه من أليم الضرب بالسوط، ويقول: ما أشد إتقان ما سيصير إليه شغلي، فقد
أصبحت مالكًا لنفسي، منفلتًا من ربقة الاستعباد.
لا أخفي عنك أن المقارنة بين اسمه والمسمى كانت مدعاة الضحك ومثار
الاستغراب، وأن سكان مرازيون يضحكون منه؛ لأنهم يستصعبون التوفيق بين
معنى العشق الذي يدل اسمه (قوبيدون) عليه، فإنه في أساطير اليونان اسم للعشق
الذي هو ابن الزهراء إلاهة الحسن، وبين مشفري ذلك الزنجي الغليظين وأنفه
الأفطس، وجلده الأسود، وإني لا أخشى أن يكون هذا الاسم لم يطلق عليه من
مواليه السالفين إلا تهكمًا وسخرية، ولكني على رأيي هذا لم أجسر أن أكلمه في
تغييره، فإني لو فعلت لكان هذا اعترافًا مني له بأنه دميم، أو تصريحًا بأن البيض
لا ينصفون الإفريقي مثله.
أنا في هذا البلد أعيش بمعزل تام عن الناس، فلا أتردد إلا إلى دار السيدة
وارنجتون حيث أصادف أحيانًا بعض سيدات من بنزانس أو من ضواحي مدينة
لوندرة، والذي يشغلني في اختلاطي بهؤلاء السيدات هو الطريقة التي تجري عليها
الإنكليزيات في تربية أولادهن، وإني مجتهدة بملاحظتي إياهن في تعلم أخلاق
وأعمال الأمومة.
إن سكان كورنواي وإن صح أنهم ليسوا من نسل الإنكليز السكسونيين لما يقال
من انتسابهم إلى فصيلة من الصقالبة، ولما أراه بينهم وبين البريتونيين [١] من
المشابهة الكبرى في لون الشعر وملامح الوجه - إلا أن بين هؤلاء السكان عدة من
الأسر (العائلات) الإنكليزية، ومن كان من الباقين غير إنكليزي الأصل، فقد
تخلقوا بأخلاق تلك الأمة التي ألحقهم بها الفتح وسرت فيهم عاداتها على تفاوت في
ذلك قلة وكثرة.
انظر كيف يستقبح النساء في إنكلترا طريقة تقميط الأطفال ويستهجنَّها،
ويقول الوالدات منهن استهزاء بنا أننا ندخل أطفالنا في أكياس رئاء الناس حتى إذا
سنحت لنا الفرصة علقناهم على مسامير في الحائط، واكتفينا بذلك مؤنة ما تستلزمه
حالتهم من العناية والرعاية إذا كانوا غير مقمطين، وإنما ساغ لهن أن يقلن ذلك؛
لأن أطفالهن يتمتعون بتمام الحرية في حركاتهم؛ لأنهن يلبسنهم ثوبًا طويلاً من
الصوف اللين (فانيلاّ) فيكونون فيه مالكي أنفسهم على قدر ما لهم من القوى
الصغيرة في ذلك السن، وإني والحق أقول معجبة بهذه العادة لأني كثيرًا ما ساءني
رؤية الأطفال يُربَطون وتُحصر أجسامهم في لفائف تُضم أطرافها بالدبابيس،
فيكونون كجثث محنطة لُفَّتْ بشرائط من الكولان [٢] .
الأطباء الإنكليز كافة يمقتون مايجعل في أثواب الأطفال من الحبال التي
يعتمدون عليها في دبيبهم، وما يتخذ لهم من الدراجات الخيزورية [٣] والآلات
المتدحرجة لأجل مساعدتهم على الدرجان، ويؤكدون أن استعمالها مما يؤدي إلى
تشوه صدر الطفل واعوجاج ساقيه بما يستلزمه ذلك الاستعمال من وقوع ثقل الجسم
كله على العقبين.
بل إن الدكتور وارنجتون قد بالغ في الأمر حتى قال بوجوب تعويد الطفل
من نعومة أظفاره، على أن تكون أعماله كلها عن قصد وعزيمة، ولهذا يجب
ترك إقامته وتمشيته بالآلات الصناعية حال عجزه عن ذلك بنفسه؛ لأن فيه تضليلاً له
في فهم مقدار قواه، فإنه حينئذ يتوهم أنه يدرج بنفسه، والدارج في الحقيقة هي
تلك الآلات التي يعتمد عليها، وهو وهمٌ يصحبه طول حياته، ويظهر أثره في
عامة شؤونه.
يتعلم الأطفال هنا الحركة والانتقال بأنفسهم، فإنهم يُتركون وشأنهم في التحرك،
فيتدحرجون ويَحْبون على بساط يفرش لهم، وينالون من القوة تدريجًا مايمكنهم من
الوقوف، ثم يخاطرون بأنفسهم فيخطون خطوات مستعينين فيها بالاعتماد على
مايكون قريبًا منهم من أثاث المكان، فإذا اضطربوا لضعفهم تلقتهم أذرعة أمهاتهم
فمنعتهم من الوقوع.
هذه الطريقة التي هي سُنة الله في خلقه، وليست سوى التخلية بين الطفل
وعمله , هي أيضًا أكثر انتشارًا في أمريكا منها هنا، فقد سمعت بمناسبة الكلام فيها
أن سائحًا إنكليزيًّا صادف يومًا وهو في الولايات المتحدة بأمريكا صبيًّا في الثانية أو
الثالثة من عمره يزحف بيديه ورجليه على حرف قنطرة مدعثرة يتدفق من تحتها
سيل صخب، فارتاع لقحوم هذا الحدث المتهور في الخطر، فأسرع في التماس
والدته، فأصابها جالسة مطمئنة على حافة مجرى هذا السيل نفسه تغسل ثيابًا، فمثّل
لها مارآه من حالة ولدها، وهو فزع متخوف عليه الهلاك، فما كان جوابها إلا أن
قالت غير مدهوشة ولا منزعجة: إن الصبي معتاد على العناية بنفسه ووقايتها،
وإني إذا عدوت إليه لإبعاده عن مظنة التهلكة مُظِهرةً له الجزعَ والهلعَ كان ذلك
- ولا شك - مُذهِبًا لرشاده مُضيعًا لسداده، فلما سمع السائح الأجنبي منها هذا القول
اقتصر على مراقبة الطفل لينظر ماذا يكون من أمره، فرآه قد مكنه ما بذله من
قواه من تنكب طريق الهلاك ٠
أنا إن سيقت ليَ الدنيا بحذافيرها على أن أرى صبيًّا لي في هذه الحالة ما
رضيت، ولكن تلك المرأة لم تخطئ خطأ بيّنًا في تعريضها ولدها للخطر على ما
رأيت كما قد سبق إلى الذهن، بل إنها فهمت فروض الأمومة الحقة أحسن مما
فهمناها، فإن هذا الطريق في سياسة الأحداث من بداية نشأتهم هي سبب ما نراه في
سكان أمريكا الشمالية من ميلهم إلى المخاطرة، وشغفهم بالاستقلال.
الوالدات الإنكليزيات كافة يتمنعن من تغطية رءوس أطفالهن، ولا
يقبلن أن يضعن عليها القبعات المحشوة بالوبر التي هي تيجان الضعف، نعم إنه قد
يُعترض عليهن بما في ذلك من تعريض الأطفال للخطر لما يتوقع من سقوطهم،
ولكنهن يدفعن هذا الاعتراض أولاً بأن رعايتهن لهم واهتمامهن بأمرهم يقومان مقام الوسائل التي تتخذ عادة لوقايتهم، وثانيًا بأن الطفل كلما شعر بقلة أسباب الوقاية من
جانب الغير زاد احتراسه وتوقيه، فيلزم أن يربى فيه من صغره خلق الاستقلال
بحماية نفسه والدفاع عنها لا أن يُعوَّل في حفظه على بعض طرق احتياطية لا تغني
عنه شيئًا، وهي دائمًا مبنية على الوهم والخطأ قلَّ ذلك أو أكثر.
إذا شاهدت الطفل الإنكليزي وهو مكشوف الرأس والذراعين والساقين، خلته
هرقلاً [٤] صغيرًا , وإن كان لا يخنق الأفاعي - لانقطاع دابرها من جزيرته -
ولكن قد بدت عليه مخايل الجسارة، وسمات الجراءة والإقدام، أنَّى يوجد دم
أغزر مادة من الدم الإنكليزي، وأي نسل أقوى من نسل الإنكليز؟ إن معايب الجسم
وأنواع تشوهه هي في غاية الندرة هنا، ولا إخالك تصدقني إذا قلت: إني إلى الآن
لم يقع بصري على أحدب، أليس جمال النسل حجة قائمة تنطق بأفصح لسان،
مؤيدة مذهب الحرية الذي جرى عليه جيراننا في طريقة تربية أولادهم؟ المهد
المذبذب الذي هو من لوازم الأطفال عندنا قليل الاستعمال جدًّا فيما وراء بوغاز
المانش (أي بلاد الإنكليز) وإنما يوجد للأطفال سرر كثيرة ليست من الأراجيح
التي تهز باليد كالتي عندنا، فالإنكليز عمومًا يسترذلون عادة هزّ الأطفال،
ويقولون إنها ذريعة إلى تعويدهم على أن لا يناموا إلا بوسائل صناعية، تعلّمهم هذه
العادة أن يلتمسوا راحة أبدانهم عند غيرهم، على حين أنه يلزمهم أن لا يطلبوها إلا من أنفسهم ومن الفطرة التي فطرهم الله عليها، نحن لا نهتم بما ينشأ عن اتخاذ
تلك الوسائل الباطلة الموافِقة لرغائب أطفالنا من الآثار السيئة في طباعهم، ولا
نطيل النظر في ذلك.
إن الطفل قبل تمييزه وتمايز أنواع الوجدان فيه يكون في فطرته من
الاحتيال ما يمكنه من الانتفاع بضعفه مع مراعاة من يكنفونه له، فكم من أناس
انقضى دور طفوليتهم ولا يزالون في حاجة إلى الاهتزاز طول حياتهم، فلا تعرف
لهم نومًا ولا يقظة، بل تراهم في غفلة عن أنفسهم تحركهم عوامل العالم الخارجي،
فيرون في أحلامهم وخيالاتهم أنهم يهتزون، وكان الأولى أن تصيح بهم الشهامة ليهبوا
من رقادهم، ويشمروا عن ساعد الجد للعمل والمغالبة في ميدان الحياة.
أخشى أن يكون كل كلامي هذا قريب الشبه بالوعظ الديني، على أني لم آتِ به
من تلقاء نفسي، بل إني سمعته بما يقرب من عبارتي من قابلة وقور صديقة
للسيدة وارنجتون مشهورة هنا بأن قولها حجة في فن التربيية، فإن التربية في إنكلترا
هي أول علم يتلقاه النساء.
إني أخال الوالدين في إنكلترا أقل بكاء منهم عندنا، فهل أنا واهمة في ذلك؟
كلا، لا وهم ولا خطأ، فإن بكاء الطفل إنما يكون لتألمه من عارض يلمّ به، وإن
ما مُنحه هنا من الحرية وما حيط به من ضروب العناية الصحية وما سُنّ له من
قانون الغذاء، كل ذلك يساعد على حفظ صحته ونموها، إذا كان للإنكليز عناية
كبرى بترقية نسل العجماوات حتى لا تجد أجمل من خيلهم ولا أحسن من كلابهم،
فكيف مع هذا يظن أنهم يغفلون تربية الآدمي الجسمانية.
الوالدات الإنكليزيات يُرضعن أولادهن متأسيات في ذلك بملكتهن، ومن هنا
كان لفظ المرضعة عندهن لا يؤدي معنى هذا اللفظ عندنا، فلا يراد به إلا المرأة
التي تقوم على الولد في تربيته، وحينئذ فالمراضع عند جيراننا ينقسمن إلى قسمين
متمايزين: أولهما الحاضنات ويسمين عندهم بالمراضع الجافات، ثانيهما الحقيقيات
ويوصفن بذوات البلال [٥] ، إلا أن هؤلاء أقل عددًا ممن عندنا، ولا يُرجع إليهن إلا
عند الضرورة الملجئة حيث تكون الأم في غاية العجز عن إرضاع ولدها، بل إن
كثيرًا من الإنكليزيات يفضلن إلقام ولدانهن زجاجات اللبن على إلقامهن أثداء
المراضع المستأجرات، وإنهن ليوسعننا لومًا على تفريطنا في هذا الأمر، ولا أخالهن
إلا محقات في ذلك، فكم من الفرنساويات المترفات من يتركن ولدانهن الذين كان
يجب أن يكونوا أعز شيء عليهن في هذا العالم، ويكلن إرضاعهن إلى نساء من
أهل القرى جافيات الطباع قذرات , لا يرضينهن مساعدات لهن في التزين والتحلي.
النظافة عند الإنكليز في من حق الأطفال أساس تدبير الصحة، وهي عامة
في كل الطبقات حتى الفقراء، فإنهم يغسلون أولادهم في كل صباح.
يشدّد الأطباء هنا النكير - كما يفعله رصفاؤهم في البلاد الأخرى - على
لبس النساء الغلائل المحزوقة (الضيقة الضاغطة) فلا يصغي لهم أحد،
فالصينيات يتلفن أقدامهن بالنعال الضيقة، ونحن نتلف قدودنا بهذه الغلائل المحزوقة
جريًا على ما حكمت به العادة فرارًا من السمن وبروز البطن عند الحبل على
أنه يجب الإعتراف بأن الإنكليزيات أقل منا عناية في إخفاء حبلهن، بل إنهن
يفتخرن به، فقد شبهت إحداهن المرأة الحُبلى بالشجرة المثمرة، فقالت: مَثَل المرأة
في سبيل إنشاء الأسرة كَمَثل الشجرة تحمل ثمرتها.
ألا تذكر أننا في أيام الهناء الخالية لما كنا نتمشى في منتزه (التويليريا) أو في
حديقة (لوكسمبورج) كثيرًا ما تألمنا لرؤية أولئك الأحداث شهداء البدعة الذين
يخرجهم أهلوهم متبرجين بالزينة، فتلبسهم حاضناتهم ثيابهم وزينتهم من القدمين إلى
الرأس قبل خروجهم، ويكون من وراء ذلك أن الطفل الحسن البزة لا يعتبر طفلاً،
ولا يكون المقصود من إخراجه تسليته وترويح نفسه، بل تحصيل اللذة لغيره، فإذا
أولع بالبحث في الأرض بيديه أو جرى في مهب الريح، فعبثت بتناسق ذوائب
شعره الجعد الجميل وُبِّخ وعُنِّف على أنه وسخ نفسه، ولم يمتثل ما أُمر به من
السكون، فكأن ذويه لا يرومون تنزيهه، وإنما يريدون عرضه على الأنظار،
ليس الذي يقصد أولاً، وبالذات من تلك النُّزَه هو إمتاع الطفل بحرارة الشمس
وهواء الفضاء اللذين يقويان صحته وينميان أعضاءه بما يكون معهما من الرياضة
والحركة، بل إن المقصود منها هو اتخاذه ألعوبة أنيقة يطأمنُ بهاؤها ورونقها من
نخوة الأمهات الأخريات، ويكسر من زهوهن، فإذا رأت الأم بنيتها ترفل في ثوب
من الخز مزين بالطراز المثقب (التانتلا) قالت في نفسها: آه لو رأتها السيدة
فلانة أو السيدة فلانة لانشقت مرارتها غيرة وكمدًا، إلى هنا أمسك عنان القلم عن
الاسترسال في هذا الموضوع، فإني قد أوغلت في الشرح على ما يظهر لي.
النساء الإنكليزيات يحملن أولادهن أيضًا بفاخر الثياب ويخرجن بهم إلى
المنتزهات، بل إنهن يبالغن في ذلك أحيانًا، فيصلن إلى حد الإفراط، غير أن هذا لا
يكون إلا في أيام الآحاد، أما الأطفال الذين ينشأون في القرى فيندر أن يأنسوا من
أنفسهم الحاجة إلى الخروج طول الأسبوع؛ لأن القائمين عليهم يُخلُّون بينهم وبين
اللعب في حديقة البيت والمرح في حر الشمس، وعلى البنات منهم دروع قصيرة
وعلى البنين قمصان خفيفة من الصوف، ولا يبيحون لأنفسهم التعرض لهم في
ألاعيبهم، أما نحن، فيحملنا هوسنا بتدبير كل شيء وإدارته إلى التدخل في تنزه
الأطفال واستراحتهم بسياستهم في ذلك، وضبطهم بقواعد لا يتعدونها.
لم يغب عن ذاكرتك أننا كنا يومًا في قاعة السيدة - ... جالسين معها، فدخل
عليها ولدها الكبير، وهو صبي كان وقتئذ في الرابعة أو الخامسة من عمره تلوح
عليه سمات السماجة، والتفت إلى والدته فسألها قائلاً: أماه، ماذا ينبغي أن أفعل
لأتسلّي وأروّح نفسي؟ أنا لا أزال أتذكر اندهاشك لهذا السؤال وما جرى من المزاح
والضحك بيننا بسببه، على أن هذا الصبي المسكين كان له حاضنة تُنقد أجرة كبيرة
جدًّا، ولذلك أُحيل عليها لتسليه، وكان يظهر من حالها أنها غاية في الضجر من
وظيفتها.
إن في بعض الأسر الإنكليزية أيضًا حاضنات، إلا أن الذي عرفته بالمشاهدة
من أمرهن أنهن يسُسْن رعِيَّتهن كما تسوس ملكة إنكلترا رعاياها، أعني بذلك أنه لا
يكاد يكون لهن سلطان عليها، خصوصًا فيما يتعلق بأنواع اللعب وضروب التسلي.
يستدل جيراننا على وجوب إطلاق الحرية للأطفال في ألاعيبهم بأدلة سديدة
على ما أعتقد، فيقولون: إن الكبار في اشتراكهم مع جماعة الأحداث الفرحين
المرجين في تلك الألاعيب يرجعون دائمًا إلى أذواق أنفسهم أكثر من رجوعهم إلى
أذواق أولئك الأحداث، فيغفلون بذلك اعتبار رأيهم في مسألة لا مرية في أن
موضوعها القيام لهم بحقوقهم، وهذه الحقوق ليست من الكثرة بحيث يسلم المطالب بها من وخز وجدانه إذا هضم منها شيئًا، ولهم حجة أقوى من هذه، وهي أن حرمان الأطفال من الاختيار يميت فيهم روح الافتطار (الابتداع والإنشاء)
والانبعاث النفسي إلى العمل، فإننا به نمحو آثار أنواع ميلهم الفطري ونقيم ميلنا
مقامه، فهل هذا هو الوسيلة إلى تربية طباعهم؟ الطفل إذا كان نشيطًا صحيح
الجسم، سَهُل عليه أن يستقل بنفسه في التنزه والتروّح، فإذا جرى على ذلك اعتاد أن لا يكون تابعًا لغيره في لعبه ومرحه، ألم تكن عادة عدم الاستقلال عند الأطفال فيما ذكر هي سبب ما كان يعتور أولئك الملوك الغابرين من الكدر والضجر
فيضطرهم إلى أن يجعلوا في حاشيتهم من المجانين من يضحكهم.
يبدو لمن يدخل بيتًا إنكليزيًّا لأول وهلة خصوصًا إذا كان مثلي لا يزال
متأثرًا بالأفكار الفرنساوية أن ما بين أهله من العلائق والمعاملات عليه سمة
الفتور والاحتشام، فيرى الوالدين فيه أقل تملقًا لأولادهم وأرغب عن ملاطفتهم منهما
عندنا، وكذلك يرى الأولاد أقل أُنسًا بالأجانب ومباسطة لهم، وليُعلم أن كلامي هذا
إنما هو على جملتهم، فلا يُنافي أن يكون منهم من هو على غير هذه الصفة، فهل
هذا الظاهر من فتور العلائق وتراخيها منشؤه طبع الأمة الغريزي، أو أنه مقصود
جريًا على مقتضى مذهب أو قاعدة في التربية؟ إليك رجع صدى حديثي في
هذا الموضوع، وحديث القابلة الجليلة صاحبة الفضل عليّ خصوصًا في
الإرشاد والتعليم، قالت: إن الإنكليز يجتنبون إظهار كثير من الملاطفة والمراعاة
لأولادهم حتى لا تكون عليهم للمزاعم السخيفة سبيل، أما نحن فإن الطفل عندنا
يعامل مع الارتياح معاملة المرأة، فكلاهما يعوّد على أن يحب أكثر مما يحب، هذا
النوع من المعاملة ينتج الغنجات من النساء والعارمين والعوارم [٦] من الأطفال،
المحبة تدعو إلى المحبة، أما أنواع التملق والمخادعة فإنها تنمي جراثيم الأثرة
والزهو، فالطفل الذي يتزلف إليه والداه كما يتزلف الناس إلى العظماء لنوال الحظوة
لديهم - وهذا هو شأنهما معه في الغالب - لا يلبث أن ينتهي به الأمر إلى اعتقاد
أن الناس مدينون له بكل شيء، وأنه هو ليس مدينًا لأحد منهم بشيء.
هذا ما بدا لي من الملاحظات، نصصته على غرة موقنة بأنه سينال حظًّا
من اطلاعك، وماذا أزيدك عليه؟ حقًّا لم يبق عندي ما أتحفك به سوى أن مثالك
العزيز لا يفارق خيالي، وحبك الراسخ لا يزايل قلبي، قد رتبت بيتي فجعلته لسكنى
اثنين كما لو كنت ستحل به غدًا، ونظمت مكتبك أيضًا، فجعلت ما فيه من كتب
وأوراق كلاًّ في موضعه، وهو الآن مشوق إليك، فعسى أن لا يطول خلوّه منك،
هذا أمل أرجو أن لا أحرم منه، فإنه لولاه لقضى علي الفراق، قد علقت رسمك في
مطعمنا الصغير، ففي ساعات الأكل أجلس للمائدة مواجهة له، فأرى لصورتك فيه
نوعًا من الحياة، ويخيل لي حينئذ أني أتغذى معك وجهًا لوجه كما كنا أيام القرب
والصفاء، ما أولعني بالنظر إلى هذه الصورة، فلا بد أن ولدنا سيأتي مشابهًا لك،
والسلام في الختام.
(حاشية)
أسألك على ذكر هذا الولد، ماذا تريد أن تسميه؟
((يتبع بمقال تالٍ))