للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحرب بين اليابان والروسية

الروسية دولة تشب شبابًا عجبًا، مساحة أرضها تناهز سدس الأرض؛ ولكن
معظمها في أقصى الشمال حيث البحار جامدة من شدة البرد، لا يُنتفع بها، وسكانها
مائة ألف ألف أو يزيدون عشرة آلاف ألف ونيفًا، ونحو ثمانين ألف ألف منهم
خاضعون للكنيسة الشرقية، يتقلدون المذهب الأرثوذكسي مذهب الحكومة الرسمي.
وجيشها في وقت السلم زهاء ١٨٩٦ ألفًا، ويقال: إن في إمكانها تجنيد أربعة ملايين
ونصف إذا وجدت المال الكافي لذلك. ونقول: إذا وجدت المال فإنها لا تجد الضباط
والقواد الذين يديرون نظام هذا الجيش مجتمعًا؛ ولكن لها من العسكر مددًا لا ينفد في
حرب أي دولة من الدول الكبرى. وقد ارتقت أساطيلها في السنين الأخيرة وكثرت
حتى صارت قوتها البحرية في الدرجة الثالثة أي بعد إنكلترا وفرنسا.
ويقال: إن عدد سفنها الحربية يزيد على مائتي سفينة متفرقة في البحر الأسود
وبحر قزوين وبحر البلطيك وبحر الصين؛ ولكن السفن الجديدة القوية التي يعتمد
عليها في الحرب لا تزيد على خمسين سفينة. ثم إن عسكر هذه الدولة في البر والبحر
متمرن على القتال والنزال، مستعد له في كل حال، ومالية الروس في ارتقاء مستمر
ولهم خزينة مخصوصة للحرب. نعم، إن الأمة الروسية في ظلمات من الجهل،
ودولتها في غمرات من الاستبداد؛ ولكن كان من الحكمة أن بدأت بإصلاح العسكرية
ثم المالية، وأما الإدارة والمعارف فلا يتأتى إصلاحهما في مثل تلك البلاد الواسعة
والأمة العريقة في الجهل إلا بالتدريج البطيء، ولهذه الدولة رجال لا يبارون في
السياسة؛ فهم في الدرجة الأولى؛ ولذلك نالت بين الدول مقامًا عليًّا، وقد قلت منذ
سنين: إن روسيا كشاب في سن العشرين، وألمانيا كشاب في الثلاثين، وإنكلترا
ككهل في الأربعين، وفرنسا قد أشرفت على الخمسين أو دخلت فيها.
أصبحت هذه الدولة القاهرة مرهوبة الشذا من دول أوربا القوية، ولقد حالفتها
دولة فرنسا فكان حديث الأمم أن فرنسا على عظمتها وغناها وقوتها وعلمها هي
التابعة وروسيا هي المتبوعة. أليس من العجيب أن تتجرأ على هذه العظمة
والجبروت دولة شرقية حديثة المدنية كدولة اليابان التي لا يكاد يزيد عدد رعيتها
على ثلث عدد الروسيين إلا قليلاً؟ أليس من العجيب أن يغاضب هذا الطفل الصغير
(كما يقول القيصر) ذلك الشاب الممتلئ قوةً وشبابًا، وزهوًا وإعجابًا، ثم يواثبه
فيخيفه ولا يخاف منه؟ !
بلى، إن هذا من مواطن العجب، عند من لا يعرف السبب، عند هؤلاء
الأفراد الذين لا يعرفون معنى حياة الأمم وعزة الدول، وإن كانوا من الكثرة بحيث
يطلق عليهم لفظ (أمة) - عند الذين لهم هيئات حكومات يطلق عليها لفظ (الدولة) - عند الأفراد الذين لم يشعروا بأن في الكون سنة إلهية سمّاها الناس (تنازع البقاء)
وهي تقضي بنمو الحي القوي بتغذيه بالضعيف والميت، وإنما لم يشعروا؛ لأنهم لم
يذوقوا (ومَن ذاق عرف) ؛ أما الميت منهم فلم يذق لأنه ميت، وأما الضعيف فلم
يشعر؛ لأن معدته لا تقبل الغذاء فإرادته لا تطلبه فهو في معنى الميت إلا أنه أشقى
منه بما بقي له من الشعور بالألم عند تغذي الأصحاء به.
أظن أن القارئ فهم المراد؛ لأنه يعرف أن أكثر الذين يعيش معهم لا يحسون
ولا يشعرون بأنهم طعام للأمم الحية ومن عساه يحس منهم بذلك فإنه يتألم ولا يكاد
يبدي حراكًا؛ لأنه إذا قوي على الحركة صاح به سائر الضعفاء واستعانوا عليه
بالأموات وقالوا جميعًا: هلموا به فإنه يريد أن يغير ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا من
جراثيم ما نحن فيه (أي: من الضعف والموت الزؤام فإنهم في ذلك دون سواه) فهذا
يرميه بكسر القيود، وذلك ينبذه باعتداء الحدود، وفلان يقول: إنه أجاز لنا أن نأكل
مع الآكلين. وفلان ينادي: بل أجاز لنا أن نلبس من لبوس السائدين، لقد أوقعنا في
البلاء المبين، وسلب منا بإباحة الأكل واللباس الدنيا والدين. فإذا أجاز لهم مع
الغذاء والكساء أن يكسبوا مع الكاسبين، فقد استحق عندهم أن يكون من
المخرَجين.
أمثال هؤلاء لهم أن يعجبوا من مواثبة دولة توصف بالشرقية مثلهم لأعظم دولة
في الغرب والشرق؛ ولكن الذين يعرفون معنى الحياة لا يعجبون فإنهم يعلمون أن
هذه الأمة قد ارتقت في معارج الحياة الاجتماعية فالتمست الغذاء، والحي الصحيح
يتغذى دائمًا بغيره - فصادفت المقاومة فسلت الحسام ولجأت إلى القوة فحاربت دولة
الصين التي يبلغ سكان بلادها زهاء ثلث البشر فقهرتها واستولت على طائفة من
بلادها تسمى كوريا قريبة من اليابان، وهي تستمد منها غلاتها وتنفق فيها تجارتها
وعليها كان النزاع، وتنازلت الصين لليابان بعد الحرب عن ميناء (بورت آرثر)
وطاليانوان، وهما الثغران اللذان يرن ذكرهما كل يوم في الآذان؛ ولكن روسيا
حسدتها على هذه النعمة وخافت مع غيرها من الدول الأوروبية عاقبة اليابان فاتفقت
مع ألمانيا وفرنسا على حرمان الظافر من ثمرة ظفره وقضت هذه الدول الثلاث على
اليابان بالخروج من منشوريا وكانوا تغلغلوا فيها وباستقلال كوريا (وذلك بعد
الحرب سنة ١٨٩٥ م) ، وفي أثناء ذلك احتلت الروسية منشوريا بحجة تسوية
مسألة اليابان والمحافظة على استقلال الصين الذي عقدت المحالفة الثلاثية لأجله؛
ولكنها لم تخرج منها بعد خروج اليابان ولم تكتفِ بذلك حتى اتفقت مع الصين على
إصلاح ثغر بورت أرثر وطاليانوان ثم طفقت تمد السكك الحديدية في منشوريا،
وتقيم فيها الحصون والقلاع بحجة حماية السكة الحديدية، وقد خاطبتها اليابان في
الجلاء عن منشوريا (حفظًا لاستقلال الصين) فماطلت وسوَّفت، ثم وعدت وعدًا
إلى أجل مسمى فانقضى الأجل ولم تفِ بالوعد فعلمت اليابان أن السعي في إخراجها؛
إنما كان لأجل الحلول في محلها والاستئثار بغنيمتها فطفقت تستعد للكفاح،
وتطالب الروسية بالوفاء بوعدها مع شروط أخرى بغاية الإلحاح، ولما أبطأت عليها
بالجواب آذنتها بقطع الصلات السياسية، وابتدأتها بالحرب بحرية وبرية.
أما قوة اليابان البرية فقد قالوا: إنها تستطيع أن تجهز في زمن السلم زهاء ثلاث
مائة ألف مقاتل. وأما أساطيلها فهي أقل من مجموع الأساطيل الروسية سفنًا؛ ولكنها
في الغالب أسرع منها سيرًا وأبعد رميًا وعدد السفن الحربية عندها على اختلاف
أنواعها ثلاث وثلاثون يقابلها خمسون عند عودتها؛ ولكن هذه لا تستطيع إرسالها
كلها إلى الشرق الأقصى فاليابان هناك أقوى أسطولاً والفحم الحجري عندهم أقرب
تناولاً لكثرته في بعض جزائرهم، وعندهم حياض كثيرة لإصلاح السفن التي
يعرض لها في الحرب التلف في آلاتها أو في ذاتها. وقوة اليابان البحرية سهلت
عليها إنزال جنودها البرية حيث تشاء من مواني كوريا وإمدادها بما تحتاج إليه من
المؤن والذخائر. وقد حصرت الأسطول الروسي في مرفأ ميناء بورت أرثر بعد أن
دمرت بعض مدرعاته في مهاجماتها تدميرًا.
لهذه الأسباب ولصعوبة إرسال الجنود مع ذخائرها ومؤنها من قلب البلاد
الروسية إلى منشوريا يعد الناس الدولتين المتحاربتين متكافئتين فبعضهم يرجح
النصر لهذه، وبعضهم يرجح لتلك ومنهم من يفصل في ترجيحه فيقول: إن الظفر
يكون في أول الأمر لليابان في البر كما كان لها في البحر؛ ولكن العاقبة تكون
لخصمها؛ لأن مدد الجنود الروسية لا ينفد وعندها المال الكثير الذي يمكنها من
مواصلة الحرب مدة سنة كاملة من غير أن تحتاج إلى القرض ثم إن الاكتتاب من
رعيتها للمعاونة على هذه الحرب قد بدأ بصفة مدهشة؛ أي: إنه بدأ بالملايين من
الروابل (قيمة الروبل عشرة قروش مصرية) فبماذا ينتهي؟
أما ميل الأمم إلى المتحاربتين فمختلف؛ فالإنكليز والأمريكان يميلون إلى
اليابان ويقال: إن الإنكليز حرضتها على الحرب، وفرنسا تميل إلى حليفتها روسيا.
وأما ألمانيا فقد اختلفت الرواية عنها والراجح عندي أنها تودد إلى روسيا ظاهرًا وتود
ضعفها باطنًا؛ لأنها جارتها وحليفة عدوتها (فرنسا) وقد ظهر ميل الإنكليز
والأمريكان لليابان في جرائدهم كما ظهر ميل فرنسا لروسيا في جرائدها؛ بل إن
شركة روتر البرقية الإنكليزية تعتني بنقل الأخبار التي تفيد خذلان الروسيين،
وشركة هافاس الفرنسية بالعكس.
وقد بالغت الجرائد الإنكليزية في الطعن والتنفير من روسيا حتى خافت
حكومتها مغبة ذلك وطفق الملك يتودد إلى القيصر ويكثر مقابلة سفيره في لندن
والإقبال عليه. وأما المسلمون عامة فإنهم يودون ضعف روسيا؛ لأنها أكبر خطر
على دولهم المستقلة الثلاث - تركيا وإيران وأفغانستان -؛ ولكن السلطان عبد الحميد
افترض ارتباك روسيا واشتغالها بأمر الحرب فبالغ في التودد إلى القيصر، وهي
سياسة حكيمة بصرف النظر عمّا يقول كبراء الترك من وجود اتفاق سري بينهما فإن
إظهار الميل عن روسيا إلى اليابان يحفظ قلب القيصر ورجال دولته على
تركيا فيضمرون الانتقام منها في أول فرصة من حيث لا ينفع هذا الميل السلطان ولا
الدولة من وجه آخر.
وأما النصارى في البلاد العثمانية فهم أشد الناس ميلاً إلى روسيا لا سيّما الروم
الأرثوذكس منهم؛ والسبب في ذلك النزعة الدينية؛ ولكنك تجد أفرادًا منهم يميلون
إلى اليابان؛ لأنها دولة شرقية قد ارتقت في العلم والنظام والصناعة فهم يفتخرون
بها؛ لأنهم يعدون الشرق كله وطنهم والرابطة الوطنية أعلى في نفوسهم من الرابطة
الدينية؛ بل يرون أن الرابطة الدينية ضارة في الدنيا وغير نافعة في الآخرة! فإنها
هي التي حالت دون مساواتهم بمن يعيشون معهم في بلاد واحدة من كل وجه. وهذا
الاعتقاد فاشٍ في المتعلمين من النصارى؛ ولكن لم يغلب وجدان الأكثرين كما غلب
أفكارهم - فهم يميلون إلى مشاركتهم في الدين - وإن كانوا غير معتقدين. ولو وجد
في المسلمين عدد كثير يميل إلى هذه الوطنية، ولو مع المحافظة على دينهم لكثر
عدد النصارى الوطنيين وتضاعف. وليس من موضوع بحثنا أن نطيل في حديث
الوطنية، وإنما ذكرنا هذه المسائل؛ لأنها من العبر التي يصح أن نستفيدها من تأثير
الحرب فذلك أنفع لنا من معرفة عدد الذين يخفرون سكة حديد منشوريا ومعرفة طول
نهر (يالو) وعرضه.
وأهم مباحث هذه الحرب مبحث عاقبتها وتعديها إلى الدول الأخرى، ويظن أن
أوربا كلها يسيئها أن يكون في الشرق دولة قوية عالمة صناعية، ويسرها أن يتمزق
شمل الجنس الأصفر كما تمزق شمل المسلمين؛ إذ لم يكن لها منازع في السيادة
على الشرق غير المسلمين، وما أمنت جانبهم باستيلائها على أكثرهم وتعصبها على
باقيهم إلا نجم لها في الشرق نجم آخر ينازعها في هذه السلطة؛ لذلك يظن أن لا
يجني اليابان من انتصارهم - إن هم انتصروا - أكثر مما جنوا من انتصارهم على
الصين، وأن أوربا لا تمكنهم من توسيع نطاق ملكهم في الشرق ولا من تمدين الصين
وتعليمها إلا أن تشاء إنكلترا وأمريكا مقاومة روسيا بهما.
وقد بحث السياسيون منهم في عاقبة ارتقاء اليابان وأنذروا أوربا الخطر من
الجنس الأصفر إذا اجتمع شمله واتحدت كلمته. وأظن أن فرنسا لا تتورط في الحرب
لأجل روسيا إذا هي انكسرت، وإذا هي تورطت فإنها تورط إنكلترا، وهنالك
الخطر العظيم على أوربا كلها وعلى آسيا، وعقلاء الدول الأوربية يتقون هذا الخطر
أشد التقوى ولذلك اتفقوا على حل (المسألة الشرقية) بالمطاولة لا بالمناجزة
والأقرب إلى المعقول أن يحتل منشوريا وكوريا معًا أو الأولى فقط جيش مؤلف من
دول أوربا الكبرى؛ لتبقى السيادة للأبيض على الأصفر، ولتؤمن إغارة روسيا على
هذه البلاد مرة أخرى، وإلا فإن الحرب تستمر سنين طويلة.
وأما إذا انتصرت الروسية عاجلاً أو آجلاً فهل تترك لها أوربا وأمريكا مملكتي
منشوريا وكوريا غنيمة باردة وترضيان بأن تكون لها السيادة العليا في الشرق
الأقصى والكلمة النافذة في الصين؟ كلا، إن هذا بعيد من المعقول، وإن الخطر في
انتصار روسيا أشد من الخطر في انكسارها، وإنه ينتظر حينئذ أن تهب الصين إلى
مساعدة اليابان، فإذا ظهرت روسيا على الجنس الأصفر كله فللدول طريقتان:
إحداهما سلمية: وهي الاتفاق على إلزام روسيا بجعل منشوريا وكوريا تحت حماية
الدول الكبرى واحتلالهن إياها بجيش مختلط، وإلزام اليابان بالغرامة التي تثقل
كاهلها وأخذها بالعقوبات التي لا ينهض لها معها رأس، ولا يرتفع لها فيها صوت.
والثانية حربية تسلك إذا تعذر الاتفاق بين الدول ذات الشأن وهي إنكلترا والولايات
المتحدة ثم ألمانيا وفرنسا، أو أبت عليهن روسيا الدخول في الأمر، ولا بد أن تشد
فرنسا عضدها حينئذٍ، ولا مندوحة لإنكلترا والولايات المتحدة عن إمداد اليابان
بالعساكر البرية والأساطيل البحرية إن بقي أسطول روسيا في الشرق حيًّا إلى أن
تتمكن من تعزيزه بأسطول بحر البلطيك وماذا يفعل الدب الروسي حينئذ؟
إذا كانت المحالفة بين روسيا وفرنسا تقضي على هذه بإسعادها في الحرب إذا
أسعدت خصمها دولة أخرى فهناك الطامة الكبرى، وتكون الكلمة العليا في أوربا
لمن تنصره ألمانيا؛ فإن أسطول فرنسا في البحر المتوسط لا يقف أمام أسطول إنكلترا
فيه؛ لأن هذا أقوى أساطيل إنكلترا، وهي تستطيع أن تعززه حالاً بأسطول بحر
المانش وأسطول البحر الشمالي. والأقرب إلى التصور أن تنتصر ألمانيا يومئذ
لإنكلترا على عدوتها الظاهرة وهي فرنسا، وعدوتها الخفية وهي روسيا وتجعل
السيادة في العالم بين الجرمانيين والسكسونيين فإنهم أقرب نسبًا ومذهبًا.
نقول هذا على تقدير وقوع ما تحذر منه أوربا وتتوقاه، على أنها تتوقعه وتخشاه
والأرجح أن الدول تقدر على إلزام الغالب والمغلوب بما تحكم به؛ وأنها تكتفي
بإضعاف الدولتين المتنازعتين في السيادة على الشرق الأقصى، وتجعله مرتعًا مباحًا
لجميع الأوروبيين والأمريكيين، ويكون النجاح للسابقين، ويظن بعض الناس هنا
أن الحرب العامة تفيد الدول المهضومة كالدولة العثمانية وإيران وبعض الدول
الصغيرة في أوربا، ولكن المتفكرين يرجحون أو يعتقدون بأن الحرب العامة لا
تنتهي إلا بانتهاء المسألة الشرقية، وابتلاع الدول القوية للضعيفة في تلك الفرصة ,
وقانا الله شرها وألهم الأقوياء ما فيه أمن الضعفاء.
هذا ما سنح لنا من الأخبار والآراء في هذا المقال لم نقصد به التفكيه والتسلية
ولا تدوين تاريخ الحرب ولا التحزب السياسي بالانتصار لدولة دون أخرى، وإنما
نقصد التنبيه والإيقاظ للاعتبار بأحوال الأمم الحية وأعمالها، وأمانيها وآمالها، لعل
القارئ يتدبر فتحن نفسه إلى العزة والقوة، ويتمنّى أن تكون أمته حية قوية، ثم
يقوده التمني إلى التفكر في وسائله ليصير رجاءً وأملاً، يستلزم سعيًا ويقتضي عملاً،
وليت شعري أمن التمني أم من الرجاء ما يفكر به الأكثرون من استفادة الدولة
العثمانية والدولة الفارسية من هذه الحرب التي يرون أنها تشغل روسيا عنهما
عشرين سنة؟
سئل عظيم من رجال إحدى الدولتين أتستفيد دولتا الإسلام - تركيا وإيران -
من هذه الحرب؟ فأجاب الرجل العظيم: هل استفاد من حديثنا هذا النائم (وأشار
إلى رجل نائم في المجلس) واتفق أن استيقظ النائم عند الجواب فقال السائل: ها قد
استيقظ النائم. قال: نعم؛ ولكن النوم لا يزال ملء عينيه.
كم من فرصة سنحت لنا وخفت، ثم تولت وخفيت، ونحن في طريقنا
سائرون، وبحالنا راضون، كتبنا (في ٣٠ جمادى الثانية سنة ١٣١٧ الموافق ٤
نوفمبر سنة ١٨٩٩) مقالة عنوانها (الفرصتان) جاء فيها ما نصه كما في
(ص ٥٣٢) من مجلد المنار الثاني:
وأما فرصة الدولة العلية فهي اشتغال روسيا فإنكلترا وسائر دول أوربا
الكبرى بالمسألة الصينية؛ وإنما الخطر على الدولة من روسيا التي يعرف الناس أن
سياستها التقليدية تقتضي محو اسمها من لوح الدول؛ وضمها إلى الإمبراطورية
الروسية العظمى، أو من اتفاق أوربا على تقسيمها. يدل على شغل روسيا عنها
بالطمع في الصين الفيحاء البعيدة الأرجاء أن هذه الدولة قد عزمت على تعزيز الخط
الحديدي العظيم الذي أنشأته في سبيريا (وطوله ٤٦٩٥ ميلاً) بخط آخر ينشط من
الطريق الأعظم في بلاد منشوريا التي هي في الشمال الشرقي للصين ممتدًّا إلى
ميناء بورت آرثر وينو شونغ ويقرب أن تمده من هذه إلى بكين عاصمة الصين،
ويقدر المال اللازم لهذا النشاط بعشرين مليون جنيه كما قدر المال اللازم لطريق
سبيريا الأعظم بستة وخمسين مليون جنيه إذا مدّ عليه خط واحد.
وإنها قد قررت إنفاق ٩ ملايين جنيه لتعزيز أسطولها بالبوارج من الطراز
الجديد، فخمسة وثمانون مليونًا من الجنيهات من دولة لا تعد من الدول الغنية ليس إلا
لتلك الغنيمة الكبرى التي تتوقعها في الصين، ويؤكد ذلك تقوية الأسطول مع أمنها
على ثغورها في أوربا من الدول البحرية، وعلمها بأن اليابان لا تقدم على محاربتها
فتخاف منها على فلاديفوستك وميناء بورت آرثر، ولا يخشى على هاتين
الحاضرتين من غير اليابان، هذا ولا بد لإنكلترا وفرنسا وألمانيا من مزاحمة روسيا،
ولا بد أن يمتد اشتغالهن بتلك المملكة إلى سنين كثيرة.
فيجب على الدولة العلية أن تشتغل بنفسها ما دام الطامعون في شغل عنها فقد
مضى عليها نحو نصف قرن، وهي مشغولة بالسياسة الخارجية عن الإصلاح
الداخلي والدول الأوروبية تطالبها بالإصلاح، وهي التي تحول بينها وبينه. وقد
بيّنا رأينا في الإصلاح الواجب من قبل في مقالات نشرت في المنار، وأخرى في
المؤيد وأهمها: تعميم التعليم العسكري، وتقوية الأسطول، ومساعدة الرعية على
تعميم المعارف، وانتقاء العمال والحكام من الأكْفَاء، والدولة العلية وسلطانها الأعظم
أعلم منا بما ينبغي ويجب من ذلك اهـ.
هذا ما قلناه منذ سنين والدولة لم تعمل شيئًا منه يُذكر؛ ولكن اليابان استعدت
في هذه المدة وابتدأت روسيا بالحرب، وقد نقلت الجرائد الأوروبية من أقوال قيصر
روسيا وكبار قواده ما يدل على اعترافهم ببسالة هذه الدولة واستعدادها، وأنهم لا
يقدرون على الانتقام منها إلا بعد زمن طويل يتم فيه استعدادهم. ونقلت من أقوال
اليابانيين وأناشيدهم ما يدل على احتقارهم الروسيين ورميهم إياهم بالجهل والظلم
واعتقادهم بأنهم هم الغالبون بالعلم والنظام ودلائل النصر بادية لهم: {فَاعْتَبِرُوا يَا
أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: ٢) .
وبقي علينا أن نشير إلى ما يجب على دولة إيران فإن الخطر عليها من روسيا
أشد منه على غيرها؛ وربما يكون أول شيء تتوجه إليه روسيا بعد ذهاب منشوريا
من يدها إذا هي غلبت عليها أن تأخذ بلاد فارس عوضًا عنها فتستر خذلانها وتنكي
إنكلترا، فالواجب على دولة إيران أن تعتني قبل كل شيء باتخاذ الوسائل لتسليح
أهالي بلادها وتمرينهم على رمي الرصاص؛ ليكونوا كلهم مدافعين إذا دخل العدو
بلادهم كما هو حكم الشريعة الإسلامية، وأن تعتني أشد الاعتناء بالتعليم العسكري،
واستجلاب الأسلحة والذخائر الجديدة بقدر الطاقة، وأظن أن إنكلترا تساعدها في هذا
الوقت إذا أرادت ولها أن تطلب ضباطًا من أختها تركيا فقد مضى زمن التقاطع
والتدابر.
وأما أفغانستان فهي غنية عن التنبيه والإنذار فإن عنايتها بالتعليم العسكري
واستعمال السلاح لا مزيد عليها، فإذا انهزمت روسيا من أمام اليابان؛ فإنها لا تقوى
على مهاجمة الأفغان، لما عليه هؤلاء من شدة الباس، وصعوبة المراس، ووعورة
البلاد، وحسن الاستعداد.