(ألقاب التعظيم) سَرَتْ إلى الكتابة العربية وإلى أهل العربية عادةٌ من عادات الأعاجم المفضولة، وهي إضافة ألقاب التعظيم والتبجيل إلى أسماء الأشخاص عند ذكرهم في القول والكتابة. ولقد أسرف الناس في هذه الألقاب حتى ألحقوا بها المفضول بالفاضل، وساووا العالم بالجاهل، وإننا كنا نألم لاتباع عادة الجرائد في ذلك على تحرّينا القصد فيها، ونرى النفس تنزع إلى اتباع سلفنا فيه، ولكننا نرجئ ذلك حتى كان في هذا الجزء أن كتبنا نبذة من رسالة الكسائي، وذكرنا في ترجمتها اسم طابعها واسم المهداة إليه مقرونين بألقاب التعظيم المألوفة، ثم لم نلبث أن نقلنا اسم الكسائي وهو من أئمة العلم وهارون الرشيد وهو من أعظم الخلفاء بعد الراشدين ولم نرهما مقرونين بلقب. فتنبهت النفس إلى ما كانت تنزع إليه وأمرت بترميج تلك الألقاب التي كانت كتبت فرُمِّجَتْ. ونحن بعد اليوم لا نذكر مع اسم أحد إلا اللقب الذي يميزه في نفسه أو صنفه، كالشيخ والبك والأفندي. ومن كان غير معروف للقراء نعرّفه بجملة خبرية لا بألقاب مفردة ينعت به نعتًا وتنظم مع اسمه عقدًا. ويدخل في هذه القاعدة أساتذتنا وأمراؤنا. فإذا نقلنا قولاً عن أستاذنا الأكبر (ولفظ الأكبر هنا بيان للواقع) نقول: قال الشيخ محمد عبده أو مفتي الديار المصرية. وإذا كان الكلام عن الجمعية الخيرية نقول: قال رئيس الجمعية. ولكننا إذا أسندنا إليه قولاً من غير ذكر اسمه فإننا نشير إليه بلقبه الذي اشتهر وهو (الأستاذ الإمام) ، وإنما سبق لنا تعريفه بلقبين لأن لفظ (الأستاذ) وحده ينصرف في كتب الكلام والأصول إلى الشيخ أبي إسحق الإسفرايني ولفظ (الإمام) وحده ينصرف إلى فخر الدين الرازي، ولفظ (الشيخ الإمام) أطلقه تاج الدين السبكي في كتبه على والده الشيخ تقي الدين. فعندما استقر رَأْيُنَا على أن نجعل لأستاذنا الذي يكثر نقلنا عنه لقبًا مختصرًا يغني عن ذكر اسمه ووظيفته اخترنا هاتين الكلمتين لأنه لم يشتهر بهما أحد. وقد عرف ذلك قراء المنار في جميع الأقطار لذلك نقره بشرطه. *** (كلمة في المنار) قد كتبنا مرات متعددة على غلاف المنار بأنه لا حقّ للمشترك أن يطلب جزءًا من المنار لم يصل إليه بعد صدور ما بعده. ثم رأينا بعضهم يحتج بأنه إذا تأخر جزء يتوهم أنه لم يصدر فلا يعرف أنه قد صدر إلا بعد وصول ما بعده إليه. لذلك رأينا أن نمدّ في الوقت فنجعله عشرين يومًا في القطر المصري. فمن طلب الجزء الذي يصدر في أول الشهر مثلاً في الحادي والعشرين منه فما بعده فعليه أن يرسل ثمنه ٢٥ مليمًا سواء كان قد صدر الجزء الذي بعده أم لا. ومن وصل إليه الجزء فأضاعه أو وهبه فلا يجوز له أن يطلب بدله إلا بالثمن. وربما يعدّ بعض القراء هذا تشديدًا في موضع التساهل، ولكنه إذا علم أن الطالبين للأجزاء المفقودة كثيرون جدًّا، وأن كل جزء نرسله يُضيّع علينا مجموعة سنة كاملة فإنه يعذرنا لا محالة. *** (سكة الحديد الحجازية) أخبرنا من شاهد العمل في هذه السكة واختبره بنفسه أن الهمة المبذولة فيه عظيمة، وأن الآلات والأدوات الحديدية والخشبية التي في بيروت والشام كافية لإيصال الخط إلى مكة المكرمة، وأن مهندسًا ألمانيًّا هناك قال: إن هذا الخط أمتن وأحسن من خطوط الحديد في إنكلترا، ومع هذا كله، لا بد لإتمام العمل من أربعة ملايين جنيه. وهو مبلغ لا يرجى له إلا سخاء صاحب المشروع الذي يخلّد له بتمامه على يديه أشرف الذكر وهو مولانا السلطان، وفقه الله تعالى لما فيه خير الأمة والدولة. ومما ينتقده جميع الذين شاهدوا العمل أمر التضييق على العسكر المشتغلين به، فإنهم لا يجدون ما يكفيهم من الغذاء والدواء وهم يعملون بجلد وثبات حيّر المهندسين الأوربيين والوافدين المتفرجين، وقد علمنا أن الرئيس الذي يدير العمل من خير الناس فعسى أن يوفق للمحافظة على صحة أولئك الجنود المساكين. *** (الأذان السلطاني) بلغنا أن شيخ الجامع الأزهر أنكر في جامع القلعة هذا الأذان في الليلة السابعة والعشرين من رجب التي احتفل فيها بقراءة قصة المعراج، وكاشف بإنكاره مفتي الديار واتفقا على النهي عنه فَنَهَيَا فعسى أن يؤثر إرشادهما في محو هذه البدعة السيئة. *** (نصيحة للقارئات ومن يسمع من الأميات) إن من خلائق الأنثى وسجاياها ما هو عون للسفهاء على إغوائها وهو أنها تحب دائمًا أن تكون موضع الإعجاب والاستحسان. ولذلك يتملق إليها المبصبصون ويخادعونها بالمدح (والغواني يغرهن الثناء) حتى يستميلوها إليهم ويهينوا شرفها بالمغازلة على الأقل. ومن الضعف في الأنثى أن تعتقد أن كل من رمى ببصره إليها يكون مستحسنًا لها. ناهيك بصاحب التحديق ونظر الترنيق وهو نظر العاشق المستهترعادة والمبصبص المتعلق اختلابًا وخداعًا فإنه يغر الفتاة الغرَّ ويقع من قلبها موقع السهم الذي سقي بالسم، وقد ورد في الحديث: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركها خوفًا من الله آتاه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه) رواه الحاكم وصحح إسناده. بلغ النساء عندنا من الغرور بتطلّع السفهاء إليهن أنك تجد نساءنا يتلفتن في الأسواق ماشيات. وينحنين وهن في المركبات، وقد يكنّ مع هذا من المحصنات النزيهات، وإن هو إلا حب توجيه الأنظار، وإعجاب النظار، وترى نساء الإفرنج يمشين قاصرات الطرف، مستقيمات العطف، تحسبهن في أدبهن الظاهر من الملائكة المقربين، وإن كان فيهن من هن أغوى من الشياطين، وما ذلك إلا لأنهن تربين على أدب الاجتماع، وتعلمن ما يبعد بهن عن سرعة الانخداع، وإن الظهور في المنكر ليزيد في ضرره لما فيه من إغواء الناس وتسهيل سبله على من لا يعرفه، ولذلك ورد في الشرع أن المعصية الصغيرة تكون كبيرة بالمجاهرة، وترى القوانين الوضعية عند الأمم كلها تحظر الجهر بما ينافي الآداب حتى ما تبيحه منه في السر. السبب في هذا التبرّج والتغنج، والتشوف والتقصف، والانثناء والانحناء، الذي يزيد في فساد السفهاء، هو حبُّ الأنثى لأن تكون زينة في الأعين وشغلاً للقلوب، وإنها لتكون كذلك في جميع الأعين وجميع القلوب إذا ظهرت بمظهر الكمال والصيانة ولم تلتفت لكلاب المبصبصين ولم تكلمهن إذا تعرضوا لمكالمتها فإن هذه الأماديح التي تسمعها منهم تنقلب إلى ضدها بعد أن تبعد عنهم فلا تسمع ما يقولون، فإن سفهاء الناس وغوغاءهم لا يزالون يعرفون قيمة الفضيلة ويحترمون أهلها. هذا اللين في العطف والخضوع في القول قد أطمعا أصحاب القلوب المريضة في كل امرأة تمر في الطريق فلا تكاد تسلم من سفههم أو عبثهم امرأة، ولا يعهد مثل هذا المنكر في مدينة ولا قرية مثلما يوجد في هذه البلدة الظالم أهلها. وإنا لنعجب من ضعف غيرة الرجال التي أباحت لهم التساهل مع نسائهم حتى أباحوا لهن كل هذا، إننا ليسوءنا جدًّا أن نرى البنات ينشأن على مثال أمهاتهن وعماتهن في هذا اللين المذموم، لا فرق بين المتعلمات منهن والجاهلات. وإننا ليحزننا أن نرى التلامذة الذين هم محل الرجاء، مستنين بسنة أولئك السفهاء، حتى إنك لا تكاد تجد فرقًا بين من نشأ في المدارس ومن نشأ في الطرق والشوارع. رأيت من أيامٍ تلميذًا يمشي مع إخوانه في السوق خارجين من المدرسة فمر بامرأة فوضع يده على وجهها وعبث ببرقعها ولم أر مثل هذه الوقاحة من غوغاء الحشاشين، فهل يغر البناتَ تَطَلُّعُ أمثال هذا التلميذ إليهن وتصديه لإغوائهن؟ وهل كان مغرمًا بتلك المرأة التي عبث ببرقعها؟ أفكان الغرام هو الحامل له على إهانتها في السوق؟ وهل مثل هذا الغرام - إذا فُرِضَ - مما يرغب فيه. إنَّ ما تقدم من القول هو مقدمات النصيحة التي أقدمها للقارئات؛ والنتيجة المقصودة هي أن الإنسان يؤخذ دائمًا من جهة ضعفه، ومن الضعف في الأنثى الانخداعُ لمن يظهر لها الحب والاستحسان. وأن الرجال دائمًا يخادعون النساء حتى إن أحدهم ليثبت على التظاهر بالحب زمنًا طويلاً ليُصدّق. فيجب على الفتاة المتعلمة أن لا تصدق أحدًا من هؤلاء الشبان الذين يظهرون لها الحب والغرام فإن أحدهم ليخاتل كل فتاة يراها يمثل هذه المخاتلة. ولو كان صادقًا فيما يظهر من الإعجاب بمحاسنها والرغبة في الاقتران بها، وكان أهلاً لذلك لكان يغار عليها من نفسه ومن غيره، فلا يعاملها بهذه المعاملة من البصبصة والمغازلة، ولكنه يزيد على هذه الإهانة التي تكون منه في كل طريق، بأن يحدّث بها كل صديق ورفيق. *** (الحسود المعمّم) كتب ذو عمامة إلى صاحب الجامعة يغريه بالطعن في صاحب مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) لأن صاحب العمامة حسد صاحب هذه المقالات على ما أوتيه من سعة العلم وقوة التأثير وعلوّ المكانة فحاول أن يطفئ نار حسده بذَنُوب من ذنوب ذلك الطعن الذي أمر به ولكن صاحب الجامعة أعقل من صاحب العمامة، وأعلم منه بقيمة تلك المقالات. وإن أنكر من فاتحتها ما عرف حكمته في أثنائها وخاتمتها، وإنه ليعلم أن مثل صاحب العمامة معه كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر، إلخ. فهو لا يراه إلا بعين النقص ولا يعتقد فيه إلا ما يليق به في رقة عقله ودينه، ولا يرضى لنفسه أن يكون مع صاحب العمامة كما كان صاحب الحمارة، على أن الطعن في مثل هذه الحال على مثل ذلك المقال، لا يزيد المطعون فيه إلا احترامًا وإجلالاً. ولكنه يسلّي الحسود لأن عقله صغير، وفكره قصير. *** (مفكرة مطبعة الموسوعات) اخترع الإفرنج هذه الدفاتر التي يسمونها المفكرة أو المذكرة لأصحاب الأشغال الكثيرة من الحكام والتجار والمحامين. ولما رأت مطبعة الموسوعات أن المصريين يشترون هذه الدفاتر الإفرنجية ويتعبون في كتابة التاريخ في كل صفحة منها بالعربية أصدرت في هذه الأيام (مفكرة) عربية لسنة ١٩٠٣ وضمّت التاريخ الهجري في كل صفحة منها إلى التاريخ المسيحي، رجعت في آخرها جداول لتحويل النقود فجاءت خيرًا من المفكرات الإفرنجية. وجعلت ثمن النسخة ١٢ قرشًا ونصفًا صحيحًا فهي أرخص من المفكرات الإفرنجية وتطلب من المطبعة، والمنتظر أن تصادف رواجًا عظيمًا.