(٢) انتقاده قولنا: إن حرب النبي صلى الله عليه وسلم كانت دفاعًا والجواب عنه قال: إن (معنى ذلك أن حرب الكفار وقتال المسلمين إياهم لا يجوز، إلا إذا قاتلونا، والكلام عليه من وجوه) وذكر سبعة وجوه. أقول: إن هذا المعنى الذي فسر به المسألة غير صحيح، لا يدل عليه قولنا باللفظ ولا بالفحوى، بل فيه ما يبطله، فقولنا: إن قتال النبي صلى الله عليه وسلم للكفار كان دفاعًا وكانوا هم المعتدين فيه، قضية شخصية في واقعة حال فعلية، لا تدل على القضية السالبة الكلية التي استنبطها منها، وكان له أن يأخذها من النهي في الآية فحسب؛ ولكنه جمع بين الأمرين، وإنني أقول كلمة وجيزة في كل وجه من الوجوه السبعة التي سردها أبطله بها، ثم أقول كلمة في أصل المسألة: (الوجه الأول) : قوله: (إن قتال المسلمين للكفار الذين لم يقاتلوهم لا يكون اعتداء؛ لأنه لا يكون إلا بحق) لما علله به. ولو صح لا يكون ناقضًا أو معارضًا لكون حرب النبي صلى الله عليه وسلم كانت دفاعًا؛ لأن الكفار كانوا هم المعتدين البادئين بها كلها كما هو ثابت بالواقع ولقوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة: ١٣) ولكنه غير صحيح؛ فإن المسلمين غير معصومين في جميع حروبهم من اتباع الهوى، ولا يكون مقاتلاً في سبيل الله إلا من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، واتبع أحكامه تعالى فيها، ومنها أن لا يكون ناقضًا لعهد مع الكفار كما هو معلوم بالإجماع. وتفسيره الاعتداء بما فسره به مخالف لما جرى عليه المفسرون، فقد فسروا النهي عن الاعتداء بعدم بدئهم بالقتال، اقتصر عليه بعضهم كالجلال وزاد عليه بعضهم كالبيضاوي احتمال كونه نهيًا عن قتال المعاهدين، وهو بمعناه أي نهي عن بدئهم بالقتال، لا بمعنى ما فسره به المعترض من زعمه أن قتال المسلمين لا يكون اعتداء؛ لأنه يقصد به إنقاذهم من نار الجحيم، والمعاهدون منهم. وهذا التعليل يشبه ما تأول به السير (إدوارد غراي) الوزير البريطاني ما كانت قررته دولته وأحلافها في أول الحرب العالمية من وجوب حرية جميع الشعوب، ومنع ضم الدول الغالبة لشيء منها إلى أملاكها، فلما كان الفوز لهؤلاء الحلفاء، قال الوزير البريطاني: إنما يمتنع ضم الشعوب الضعيفة إلى الدولة الظافرة، إذا كان يقصد به الظلم والكبرياء، وأما إذا كان يقصد به فائدتها والإحسان إليها بالعدل والحضارة فهو جائز، وربما قال: إنه واجب. يريد أن دولته تستولي على البلاد لخير أهلها، لا لمنفعة نفسها. (الوجه الثاني) : قوله: (غاية ما تدل عليه هذه الآية الأمر بقتال من قاتلنا منطوقًا، والكف عمن لم يقاتل مفهومًا، والمفهوم ليس بحجة عند أكثر العلماء ... إلخ) ، وهو ممنوع، بل باطل، والحق أن الآية تدل على قتال من قاتلنا، وعدم قتال من لا يقاتلنا بالمنطوق في كل منهما من أول وهلة، فقوله: غاية ما تدل عليه كذا خطأ، وتعبيره بالكف في الثاني خطأ ثانٍ؛ فإن الكف إنما يعبر به عما كان بعد الشروع في الشيء، وقوله بأن الدلالة على الكف بمفهوم المخالفة خطأ ثالث، وقوله بأن هذا المفهوم معارض للمنطوق الصريح خطأ رابع، وقوله المفهوم ليس بحجة عند أكثر العلماء، إذا لم يُخَالَف غير صحيح على إطلاقه؛ وإنما فيه تفصيل لا محل لذكره هنا. (الوجه الثالث) : قوله: إن آية كذا وكذا، وحديث كذا وما في معناه: (كل ذلك عام شامل لمن قاتل، ومن لم يقاتل) غير صحيح على إطلاقه، ولو صح لما كان واردًا علينا، أما الأول فلأنه لو كان صحيحًا على إطلاقه لكان شاملاً لقتال المعاهدين، وهو باطل بالإجماع، وأما الثاني فلأن عموم ما ذكر لا يدل على أن شيئًا من حرب النبي صلى الله عليه وسلم كان ابتداءً، لا دفاعًا. ونزيد ذلك تفصيلاً بأدنى ما يحتمله بحث كهذا البحث هنا، فنقول: إن قوله تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} (البقرة: ١٩٣) نزل بعد قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (البقرة: ١٩٠) ... إلخ، فهو لبيان غاية القتال لا لبدئه، ومعناه: وقاتلوهم إلى أن يزول هذا النوع من اعتدائهم الموجب الأول لقتالهم وهو فتنة الناس عن دينهم بصدهم عن الإسلام، وإيذاء من يدخل فيه بضروب الإيذاء، وقد بينا هذا في تفسير الآية من سورة البقرة، ثم في تفسير أختها من سورة الأنفال (ص ٥٥٦ ج ٩ تفسير) وأما قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة: ٢٩) فهو آية الجزية التي نزلت في بيان انتهاء قتال الموصوفين فيها من أهل الكتاب بإعطاء الجزية لا في بدء القتال وعمومه؛ فإن القتال كان مشروعًا قبل نزولها، وقد بينا ذلك بالتفصيل في تفسيرها من الجزء العاشر (ص٢٨٠) وكذلك حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) فهو في بيان انتهاء قتال المشركين إذا نطقوا بهذه الكلمة التي هي عنوان ترك الشرك، وقبول الإسلام، لا في بيان شرعية قتال كل أحد حتى يقولها؛ فإن اليهود كانوا يقولونها. على أننا إن فهمنا كل ما ذكر كما فهمه لا نراه ناقضًا لقولنا: إن حرب النبي صلى الله عليه وسلم كانت دفاعًا، فهذا بيان للواقع، وذاك بحث في أصل التشريع ولا تنافي بينهما، هذا لون، وهذا لون، كما يقول ابن القيم في تعبيره عن الفروق. (الوجه الرابع) : قوله: إن وصف القتال والجهاد المشروع في الكتاب والحديث بأنه ما كان في سبيل الله، لا يفهم منه الدفاع فحسب، وهذا لا محل له في بحثنا؛ وإنما هو تلذذ أو إدلال بتكثير الوجوه، ذلك بأن موضوعه القصد والنية، وحاصله أن القتال والجهاد لا يكون قربة إلا بالنية المذكورة في الحديث، وأن ما كان بنية إظهار الشجاعة والحمية ومراءاة الناس فليس منه في شيء، فهو في وجوب الإخلاص في الجهاد ككل عبادة لله تعالى، لا في عموم قتال الناس، وقد ورد في حديث الثلاثة الذين يكونون أول من تسعر بهم النار يوم القيامة: الشهيد، والمتصدق والقارئ، ما هو نص في قولنا، وهو في صحيح مسلم؛ ولكن هذه الأحاديث حجة على المعترض في قوله الأسبق: إن قتال المسلمين لغيرهم لا يمكن، أن يكون اعتداء؛ لأنه كله لأجل هدايتهم وإنقاذهم من النار. (الوجه الخامس) : لا يستحق أن يُبْحَث فيه بعد العلم بما تقدم وبما يأتي. (الوجه السادس) : ونصه دعوى باطلة بالبداهة، وهي أن قد عُلم بالاضطرار عند المسلمين وغيرهم (أنه لم يثبت أن كل من قاتلهم النبي والخلفاء الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين قاتلوا قبل أن يقاتلوا، وأن مقام المسلمين معهم كان مقام دفاع عن النفس) وهذا خطأ من وجوه كالتعبير بالعلم الاضطراري في موضوع سلبي، وجعله عامًّا للمسلمين وغيرهم، فمتى كانت هذه القضية السليبة من القضايا الاضطرارية عند المسلين وغيرهم؟ إن هذا إلا غفلة عن معنى الاضطرار. ندع الخطأ في التعبير، ونحصر الكلام في الموضوع فنقول: إنه قد أدخل فيه ما ليس منه، وهو حرب الخلفاء الثلاثة وغيرهم، وإنه لم يفهم مرادنا من حرب الدفاع، فظن أنها عبارة عن كون الكفار هم الذين يبتدئون القتال في كل معركة، وهذا مخالف للواقع في كل زمان ومكان من القرون الماضية إلى زماننا هذا، ورأيت كثيرًا من الناس حتى المشتغلين بعلم الفقه وقراءة السير غافلين عن الحقيقة في هذا الموضوع. إنما المعتدي المبتدئ بالقتال هو الفريق الذي أوجد حالة الحرب بالفعل أو بالقول، وإن لم يكن هو البادئ، بعد وجودها في كل هجوم، والمدافع هو المقابل له في الاعتداء والقتال، ولا يخلو من ابتداء بعض المعارك والإغارات ففرنسة وأحلافها يقولون: إن ألمانية كانت هي البادئة المعتدية في الحرب الدولية الأخيرة، وإنهم كانوا هم المدافعين، ولم يقولوا هم ولا غيرهم إنها كانت هي البادئة في كل معركة وكل تعدٍ. ومن المعلوم بنصوص القرآن القطعية وبالإجماع أن المشركين كانوا هم المعتدين على المؤمنين بالقتل وغيره مما تقتضيه حالة الحرب التي أوجدوها، وأن هذه الحالة قد استمرت إلى أواخر سنة ست من الهجرة؛ إذ عقدت معاهدة صلح الحديبية، وتساهل النبي صلى الله عليه وسلم فيها معهم حرصًا على إبطال الحرب وتقرير حرية الدين، ومنع فتنة المشركين للمؤمنين، ثم إن المشركين نقضوا هذه المعاهدة، فعادت حالة الحرب بطبيعتها؛ إذ لا تُبْطَل إلا بمعاهدة ملتزمة، فكان هذا سبب فتح النبي صلى الله عليه وسلم لمكة وما وليها من حرب الطائف وحنين، فلا فرق بين هذه الحرب التي بدأ بها النبي والمؤمنون بالزحف، وبين غزوة بدر وأحد والأحزاب التي بدأ بها المشركون. وأول الشواهد على هذا من نصوص القرآن قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (الحج: ٣٩) إلى قوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} (الحج: ٤٠) ... إلخ، وأوسطها قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ} (الممتحنة: ٨) إلى آخر الآيتين. وآخرها قوله عز وجل: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة: ١٣) . أفتغفلون أيها الفقهاء والمؤرخون عن القرآن، وعن حقيقة الواقع بالفعل، وتأتون بقضايا مخترعة تدعون أنها معلومة بالاضطرار عند المسلمين، وعند جميع الناس؟ (الوجه السابع) : ما ذكره في سنته صلى الله عليه وسلم في السرايا والجيوش، ولم تبق حاجة إلى الكلام في أنه ليس من محل النزاع، فإنه كان يبعثهم لقتال أولئك المعتدين المشركين ويعلمهم أحكام القتال وآدابه من النهي عن الغلول والغدر والتمثيل وقتل الأولاد، والأمر بدعوتهم أولاً إلى الإسلام، وما يتبعه من الهجرة فإلى الجزية، وكذلك ما ذكره بعد هذا من الإشارة إلى الآيات ليس من موضوع النزاع، وفيه أخطاء لا حاجة إلى بسطها والرد عليها. وجملة القول: إن كل ما أورده في الرد على قولنا لا يَرَد علينا منه شيء، فجميع قتال النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين وأهل الكتاب كان دفاعًا لا ابتداءً حتى غزوة تبوك، وأما حكم الجهاد في نفسه، ومتى يكون واجبًا عينيًّا، ومتى يكون واجبًا كفائيًّا، فقد بينته في تفسير سورة التوبة بالتفصيل، وبينت علله وأسبابه، وأهمها بعد كف اعتداء المعتدين، ومنع الفتنة والاضطهاد في الدين، وجعله حرًّا خالصًا لله رب العالمين، حماية الدعوة إلى الإسلام. ومن كان عارفًا بتاريخ الأمم والأقوام يعلم أن العرف العام بينها كان كعرف العرب، وهو أن كل قومين ليس بينهما عهد فهما في حال حرب؛ وإنما تقع الحرب بالفعل عند توفر أسبابها، ولا يزال كذلك إلى يومنا هذا؛ فإن دول الإفرنج يستبيحون الاعتداء على كل شعب أو حكومة ليس بينهم وبينها عهد، ويفعلونه عند الحاجة إلى أن يمنعهم منه العجز أو التنازع فيما بينهم. * * * (٣) انتقاده إعفاء المرأة حق اشتراط عصمتها والجواب عنه إنني أشرت في عبارة الطبعة الثانية من كتاب الوحي إلى دليل من قال بهذه المسألة، وهذه عبارتي فيها (من ص ٢٦٨) : بل تجيز؛ أي: الشريعة للمرأة أن تشترط في عقد نكاحها جعل عصمتها بيدها لتطلق نفسها إذا شاءت بناءً على ما ذهب إليه بعض أئمة الفقه من صحة كل شرط غير مخالف لنص قطعي من الكتاب والسنة، ولا سيما شروط الزوجية عملاً بحديث (أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) رواه البخاري في مواضع من صحيحه، وأصحاب السنن. اهـ. وقد كان ينبغي للأستاذ المنتقد أن يقتصر على السطرين الأولين من انتقاده، ولا يزيد عليه ما لا محل له هنا من إنكاره على أبي حنيفة هذه المسألة وغيرها من اجتهاده، ومطالبتي بالدليل على ما ينكره عليه، ولا غير ذلك من الإسراف في الإنكار، والإدلال بما عنده من العلم أو الرأي في أدلة الكتاب والسنة وطباع المرأة، ووصفها بما وصفها به من العبارات الشعرية التي لا تدخل في باب الحجة. لأجل هذا أزيده بيانًا لصحة هذا الحكم في ذاته، بصرف النظر عن مقام قائله (وهو الإمام أبو حنيفة) وكون الإجماع لا ينعقد عند فقهاء السنة في عصره مع خلافه، وبيانًا لإسرافه فيما صور به المسألة من مخالفة الكتاب والسنة، وجعلها من باب ولاية المرأة على الرجل في الأمور العامة، كإمارة المؤمنين من جهة، ومن مفاسد الاجتماع البشري في نظام البيوت والأسر من جهة ثانية، ملتزمًا الإشارة الوجيزة فأقول: (١) إن الأصل في العقود هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: ١) فهذا نص عام في القرآن، وهو صريح في أن الأصل في العقود الصحة حتى يقوم دليل مثله في القوة يخصصه فيؤخذ به في مورد تخصيصه، والنساء كالرجال في صحة التعاقد معهن فيما لا يخالف نصًّا في الشريعة. (٢) إن الأصل في الشروط العامة حديث (المسلمون على شروطهم) رواه أبو داود، والحاكم مرفوعًا من حديث أبي هريرة بسند صحيح، وهو مقيد بحديث (المؤمنون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك) رواه الحاكم عن أنس، وعائشة وهو صحيح أيضًا، وذكر الحافظ في معناه حديث (المسلمون عند شروطهم، إلا شرطًا أحل حرامًا، أو حرم حلالاً) ولم يعزه ولا تلك فيه. ويفسر هذا حديث (ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) وهو حديث مشهور ومتفق عليه سببه اشتراط بائعي بريرة أن يكون لهم الولاء، وحكم الله أن الولاء لمن أعتق، والمراد مما ليس في كتاب الله ما خالف حكم كتابه كما قال المحققون. (٣) الأصل في شروط النكاح خاصة الحديث الذي أوردته في الطبعة الثانية من كتاب الوحي، وذكرته آنفًا، وفي مذاهب الفقهاء في هذه الشروط أقوال فصلها الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري، منها التفرقة بين ما هو من مقتضى العقد، وما ليس منه، وهو مذهب الشافعي، وقال منها قول أحمد وجماعة: يجب الوفاء بالشروط مطلقًا. اهـ. فمذهب إمام المعترض أوسع في هذه المسألة من مذهب أبي حنيفة. (٤) إن فقهاء الحنابلة وغيرهم قد أجازوا توكيل الرجل المرأة بأن تطلق نفسها، وهي بمعنى اشتراطها بأن تطلق بنفسها، فيُرَّد عليه ما ذكره فيه. (٥) إن هذا الاشتراط والتوكيل ليس فيه شيء من ولاية المرأة على الرجل؛ وإنما هما نزول من الرجل للمرأة عن اختصاصه بالطلاق باختياره، وهي لا تشترط هذا إلا إذا كانت تخاف أن يظلمها الرجل ظلمًا لا ترى لها مخرجًا منه إلا بطلاقه وهو نادر، فهي تهدده به لتمنعه من الظلم لها في نفسها ومالها، فإن وقع أوقعته، وكم من امرأة اشترطته ولم تنفذه، ومنهم الأميرة المصرية الشهيرة (نازلي هانم) . فمن يريد تحقيق مسألة كهذه ينبغي له أن ينظر في جميع ما ذكرناه، لا أن يلقي تلك الكلمة المجملة على عواهنها. * * * (٤) انتقاد مسألة كلام الله تعالى وصفاته والرد عليه قال: إن تعريفنا لكلام الله تعالى لا يُعْرَف لأحد من علماء السنة ورواة الآثار ... إلخ، وأقول: إنني لم أدع أنه رواية؛ فيضرني أنه لا يعرف هو ولا غيره لها راويًا ممن ذكر، ولا من غيرهم، وأسأله: هل يعرف أن أحدًا من هؤلاء العلماء والرواة قال أو روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن علماء أصحبه أنه لا يجوز لأحد أن يفسر أسماء الله تعالى، ولا صفة من صفاته، ولا فعلاً من أفعاله إلا بحديث مرفوع أو أثر عن الصحابة، أو قول من أقوال مالك أو أحمد أو السفيانين وأضرابهم؟ بل أسأله: هل التزم أحد من المفسرين للقرآن أو شراح الأحاديث هذا؟ وإذ لم يشترط أحد منهم فيه الرواية التي يحتج بها في العقائد، وهي القطعية ولا ما يحتج به في الأحكام العملية من الآحاد الصحيحة، فعدم اشتراط نقله عمن لا يحتج بأقوالهم في ذلك كالذين ذكر أسماءهم أولى، ولو كان المعترض يروي لنا ما يدل على بطلان هذا التعريف لكان حقيقًا بأن ينظر فيه على أن قولي: إن كلام الله تعالى صفة من صفاته؛ مروي ومجمع عليه عند أهل السنة سلفهم وخلفهم، وأما زيادة: شأن من شؤونه، وذكر متعلقه فلعله لو فهم مرادي منها لحمده ورضيه؛ فإنما هو عبارة عن إيثار مذهب السلف على مذهب المتكلمين الذين قالوا: إن كلام الله صفة قديمة أزلية قائمة بذاته تعالى لو كشف عنا الحجاب لرأيناها، وإنه واحد ليس فيه تقديم ولا تأخير ولا تجديد خطاب لمن شاء تعالى بما شاء متى شاء، وأما وحيه إلى رسله فهو من الكلام اللفظي المحدث الدال على كلامه النفسي الأزلي، فهو قد خاطب موسى في الأزل، وأطلعه في الطور وغير الطور على ذلك الخطاب الأزلي بكشف الحجاب عنه، وأما السلف فيقولون: إنه تعالى يخاطب من شاء بما شاء متى شاء، وإن خطابه لموسى في مصر في شأن فرعون كان بعد خطابه له في الطور، فهذا مرادي من قولي: إنه شأن من شؤونه تعالى الخاصة به، التي لا تُعلم إلا بوحي منه، أخذًا من قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: ٢٩) جملة ما قاله المتكلمون على اختلاف مذاهبهم في كلام الله تعالى من نفسي ولفظي وحقيقي ومجازي وقديم وحادث ومخلوق نظريات فلسفية مبتدعة مخالفة لظواهر القرآن، ولما ثبت في الأحاديث الصحاح، وجرى عليه جمهور السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، كما فصلته في المنار وتفسيره وأجملته في كتاب الوحي بعبارة وجيزة؛ لأنه كتاب لا يجوز فيه بسط هذه المباحث الجدلية، وقد كُتِبَ للدعوة إلى الإسلام، وبيان حقائقه التي لا تضطرب فيها الأفهام، ولا يحول دونها شيء كفلسفة علم الكلام، ولكن أخانا الناقد فهم منها خلاف ما أردناه بل ضده، وإننا نشايع فيه المتكلمين، ولذلك رتب عليه الأسئلة التي رأيت. على أنني بينت مرادي من تخطئة المتكلمين، وبيان الحق في معنى كلام الله تعالى وتكليمه لرسله في الفصل الأول الذي زدته في أول الطبعة الثانية من كتاب الوحي (ص ٢٢ ٢٥) ونشر في المنار، وفيه التصريح بأن موسى عليه السلام سمع نداء الله تعالى له من وراء الشجرة، وإثبات الكلام والتكليم والنداء لله تعالى، وأما كون الغاية من هذا كشف ما شاء الله تعالى من علمه لمن شاء من رسله فهو بيان لمتعلق الكلام، وغاية التكليم الذي يفهمه الرسول من الخطاب، وليس معناه أن الكلام أو التكليم هو العلم، وهذا بديهي في نفسه؛ ولكنه اشتبه على المنتقد فتوهم أنني أعني من كشف العلم ما يعنيه المتكلمون من قولهم في صفة الله تعالى: لو كشف عنا الحجاب لرأيناها، فهذه عبارة مبتدعة لا يدل عليها نقل ولا عقل، وإنما أخذوها من قاعدتهم: كل موجود يجوز أن يُرى. وإنني بعد أن بينت في ذلك الفصل أن تلك النظريات في الكلام الإلهي مبتدعة لم يرد بها كتاب ولا سنة، وأنها مثار للوسواس الشيطاني، صرحت بوجوب إثبات كل ما ثبت في كلام الله وكلام رسوله من إثبات ونفي، من غير زيادة ولا نقص، بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، ثم قلت: وليس عليك ولا لك أن تحكم عقلك ولا رأيك في كنه ذاته ولا صفاته، ولا في كيفية مناداته وتكليمه لرسله، ولا في كنه ما هو قائم به، وما يصدر عنه، على هذا كان أصحاب الرسول، وعلماء التابعين، وأئمة الحديث والفقه قبل ظهور بدعة المتكلمين. اهـ. وقد نُشِرَ هذا الفصل في المنار عند البدء بإعادة طبع كتاب الوحي المحمدي الذي جاءنا انتقاد أخينا الأستاذ النجدي عند إتمامه، وما أراه إلا قد قرأه قبله، ولكن إخواننا النجديين مصابون بنوع من الوسوسة على مذهب السلف، فإذا رأوا كلمة واحدة في كلام أحد يحتمل أن تفسر بما يخالفه قامت قيامتهم على قائلها وإن لم يفهموها، وإن كان له مع ذلك مئات من الجمل الواضحة التي تثبت أنه مثلهم أو أعلم منهم بمذهب السلف، وأقدر على بيانه ونصره بالعبارات الفصيحة المختلفة غير متقيد بألفاظ بعض المؤلفين السابقين تقيد المتعبد بها. * * * (٥) إنكاره قولي: حررت هذه المقدمة في ليلة المولد والرد عليه بنى إنكاره هذا على أنه لا يرجو أن يقال مثل هذا القول إلا إذا وجد حديث صحيح يعين ليلة المولد، وأن المحققين قرروا أنها لا تُعْرَف، وأن فيها أقوالاً متعارضة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض، وأرد على هذا من وجوه: (١) أن هذه المسألة تاريخية لا من مسائل الاعتقاد، ولا من مسائل الأحكام الشرعية فجواز حكايتها لا يتوقف على حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، وقد تساهل جمهور العلماء في المناقب والفضائل، فقبلوا فيها الأحاديث والآثار الضعيفة والمنكرة غافلين عما يترتب عليها من وصفه صلى الله عليه وسلم بما لا يصح أن يوصف به إلا بنقل صحيح، وغير ذلك مما بيناه في موضوعه، ومسألة تاريخ ولادته صلى الله عليه وسلم وزواجه، وموت أولاده، وسفره إلى الشام تكلم فيها العلماء، ولم يقل أحد منهم: إنه لا يجوز حكاية شيء من ذلك إلا بحديث صحيح؛ لأن هذا قول بغير علم بل اختلفوا فيما هو أهم من ذلك وهو تواريخ بعض حوادث السيرة النبوية كتاريخ بدء الوحي، وفترته، والإسراء، وفرضيه الصلاة، ولم يشترط أحد منهم في حكايتها مثل هذه الشروط. (٢) قوله: (إن المحققين من العلماء قرروا أنها لا تعرف) غير معروف عندنا فمن هؤلاء المحققون؟ وما دليلهم على ما قالوا؟ وهل يجب على من لم يظهر له دليلهم أن يتبعهم؟ هذا زعم لا يقول به مسلم ولا عاقل، وحكم لم يقل به عالم ولم يقض به عادل. (٣) قوله: إن فيها أقوالاً متعارضة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض، يعني أنها متساوية فيه، مردود لأنه مخالف لنقل علماء الحديث والتاريخ وترجيح بعضها على بعض. فقد نقل صاحب السيرة الحلبية الأقوال فيه، وأولها أشهرها وهو أنه كان بمضي ثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول (قال) وحكي الإجماع عليه، وعليه العمل الآن من الأمصار خصوصًا أهل مكة ... إلخ قال: وقيل: لعشر مضت من ربيع وصحح. اهـ. (قال) أي: صححه الحافظ الدمياطي، وذكر طعن بعضهم في الأول بأن ابن إسحاق ذكره مقطوعًا دون إسناد، وأنه لو أسنده لم يقبل لتجريح أهل العلم له، وذكر أقوال بعضهم فيه؛ ولكن التحقيق عند بعضهم أنه ثقة إمام في السِّيَر، وأما في الحديث فهو صدوق مدلس فلا تقبل عنعنته ومسألة المولد من السيرة لا من السنة. ثم قال: وقيل: لثمانٍ مضت منه، قال ابن دحية: وهو الذي لا يصح غيره، وعليه أجمع أهل التاريخ، وقال القطب القسطلاني: هو اختيار أهل الحديث؛ أي: كالحميدي وشيخه وابن حزم. اهـ. وقال ملا علي القارئ في شرح الشمائل عند ذكر ترجيح وفاته صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول: هذا وقد اتفقوا على أنه ولد يوم الإثنين في شهر ربيع الأول؛ لكن اختلفوا فيه هل هو ثاني الشهر، أم ثامنه، أم عاشره بعد قدوم الفيل بشهر، أو أربعين يومًا، قال بعضهم: ولم يختلف أهل السير في أنه عليه السلام توفي في شهر ربيع الأول، ولا أنه كان يوم الإثنين، وإنما اختلفوا في أي يوم كان من الشهر (وذكر من رجحه من أهل السير والمحدثين، ومنهم ابن سعد وابن حبان وابن الصلاح والنووي والذهبي) ، أقول: وصرح به محمد مختار باشا ٥٦ الفلكي في التوفيقات الإلهامية الذي وضعه للتوفيق بين الحساب الهجري من أول سنة منها، والحسابين الإفرنجي والقبطي الشمسيين، وقد يستأنس باتفاق حساب المولد والوفاة لتقوية كل منهما بالآخر من حيث كمال السنين المناسب لكماله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، وكنت أحفظ أن الراجح عند المحدثين أنه صلى الله عليه وسلم ولد في صبيحة اليوم التاسع منه، ولا أذكر الآن من نقله، ولعل عبارة علي القارئ في ثامن الشهر أصلها تاسعه. وجملة القول: إنه لا يصح أن يقال فيما رجحه بعض حفاظ الحديث أنه كغيره باطل، وأن مثل هذه المسألة التاريخية يكتفى في الخلاف فيها ترجيح هؤلاء، ومن دونهم من العلماء لبعض الأقوال على بعض، ومن الغريب أن يشترط أستاذ حنبلي فيها أنها لا تثبت إلا بحديث صحيح، وإمامه بل إمام السنة أحمد بن حنبل يقبل ما دون الحديث الصحيح في الأحكام الشرعية. هذا وإنني لم أطل هذه الإطالة في تفنيد انتقاد ضعيف كانتقاد صديقي الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الله بن يابس إلا حبًّا فيه وفي قومه، وحرصًا على أن يكون باعثًا له على التدقيق والتحقيق في الاستدلال، وما يقتضيه الخروج من مضيق التقليد إلى فضاء الاستقلال، وما اقترحت عليه كتابة هذا الانتقاد كله، والاستدلال عليه إلا لأجل هذا. ((يتبع بمقال تالٍ))