أتممنا بفضل الله مناسكنا، فنحمد الله تعالى، ونسأله أن يتقبل منا، وإذ فرغنا من حديث المناسك فيحسن أن نتم فوائد هذه الرحلة بما يمكن بيانه الآن من أخبار الحجاز الاجتماعية والسياسية، التي تعد من أعظم الأحداث التاريخية، ثم ببعض الطُرَف الأدبية من المختارات الشعرية، ونبدأ بذكر إنشاء الحكومة الجديدة في مكة المكرمة، فنقول: لما شعر بالاستعداد لتأليف هذه الحكومة أصحابنا اللاجئون إليها، الذين يعدون من أصحاب الشأن أو العمل فيها - اختلفت آراؤهم فيما يُنتظر أن تكون عليه، وما ينبغي أن يكون مسلكهم في هذه الحال على كل تقدير يتصوره الذهن، وقد استحسنوا أن يجتمعوا ليلاً، ويكاشفوني بآرائهم، ويتعرفوا رأيي (والمستشار مؤتمن) ، ففعلوا. ومما يعد من الغريب عند كثير من الناس - أن ما كان يجول في أذهان أهل البلاد المختلفة بمكة في هذه المسألة هو عين ما كان يجول في أذهان أهل مصر من الآراء والظنون. ثم ماذا كان؟ علمنا يوم الخميس سابع ذي الحجة أنه قد تألفت فيها حكومة جديدة، على الوجه الذي نُشر بعد الحج في العدد السابع عشر من جريدة (القبلة) بتاريخ ١٥ ذي الحجة سنة ١٣٣٤، وهذا نصه: الحكومة العربية الجديدة ما أزِفت الساعة السادسة من نهار الخميس الماضي سابع ذي الحجة حتى اكتظت دار الحكومة بأكابر العرب وعِليتهم انتظارًا لتشريف رجال الحكومة العربية الجديدة، ولما كانت الساعة السابعة وصل صاحب السمو الأمير عبد الله ومعه سائر الوكلاء، فصدحت الموسيقى بالسلام الشريف، وأخذت الجنود النظامية المرصوصة على جانبي الطريق السلام العسكري. ولما استقر بحضراتهم المكان في ندوة الحكومة - قرئ المرسوم الشريف الصادر من جلالة سيدنا المليك المعظم إلى حضرة العلامة المِفضال الشيخ عبد الله سراج بتعيينه قاضيًا للقضاة ووكيلاً لرئاسة الوكلاء، وتعيين زملائه حضرات الوكلاء العظام. وهذه صورة المرسوم الشريف: (المرسوم الشريف بتأليف هيئة الوكلاء) حضرة العالم الكامل الشيخ عبد الله سراج إنه لما كانت مصالح الرعايا وانتظام شؤون المجتمع وتوفر أسباب العمران لا بد لها من دواوين يتوزع عليها النظر في الحكومة، وما هو في معنى ذلك من المصالح العامة والخاصة، ويتعين بها أساس الوظائف الذي تُبنى عليه المسؤولية وتكوين حكومة لبلادنا المحروسة. وبالنظر إلى ما تحققناه فيكم من الكفاءة والاستقامة - عزمنا بعد الاستعانة بالله عز وجل على توجيه منصب قاضي القضاة لعهدتكم، وتعيينكم وكيلاً عن رئيس الوكلاء العظام، وقد اخترنا لبقية الوكالات حضرات الذوات الآتية أسماؤهم، وهم: ولدنا عبد الله بن الحسين لوكالة الخارجية، ويكون وكيلاً عن وكيل الداخلية، وعبد العزيز بن علي رئيس أركان حرب ووكيلاً عن وكيل رياسة الجند مع ترفيع درجته عن رتبته الحاضرة، والشيخ علي مالكي وكيلاً للمعارف، والشيخ يوسف بن سالم رئيس البلدية سابقًا وكيلاً للمنافع العمومية، والشيخ محمد أمين مدير الحرم الشريف سابقًا وكيلاً للأوقاف، مع بقائه في نظارة أمور الحرم، وكلما يتعلق بوظيفته الشريفة، والشيخ أحمد بن عبد الرحمن باناجه وكيلاً للمالية. وذلك لما توسمناه من درايتهم واستعدادهم للسهر على مصالح البلاد وأهلها على ما يُرضي الله، وإننا ننتظر منكم المبادرة إلى تأسيس الدوائر والدواوين الرسمية، وتعيين العمال والموظفين لها، وأرجو الله سبحانه أن يجعلنا مظهر توفيقه وهداه، في كل ما يحبه ويرضاه. في ٧ ذي الحجة الحرام سنة ١٣٣٤ هـ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف مكة وأميرها ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين *** ثم تُلي مرسوم شريف آخر بتأليف مجلس الشيوخ الأعلى، وهذا نصه: (المرسوم الشريف بتأسيس مجلس الشيوخ الأعلى) وكيل رئيس الوكلاء وقاضي القضاة مولانا وفقه الله؛ بما أننا قد استنسبنا تعيين هيئة أطلقنا عليها اسم (مجلس الشيوخ) ، وجعلنا وظيفة هذا المجلس النظر في كل ما يتعلق بمنافع البلاد، والمراقبة على أعمال الدواوين والدوائر الرسمية، وإبداء الرأي فيما تعرضه الدوائر على مقام وكيل رئيس الوكلاء، وسيقرر فيما بعد صلاحية هذا المجلس العالي، فقد جعلنا رئيسًا له جناب الفاضل الأجلّ فاتح بيت الله الحرام الشيخ محمد صالح الشيبي. وأعضاءه حضرات الأفاضل الأجلاء: مفتي الشافعية السيد عبد الله بن محمد صالح الزواوي , ومفتي المالكية الشيخ عابد بن حسين, والشيخ عبد القادر بن علي الشيبي, ونائب الحرم السيد إبراهيم بن علي, ووكيل شيخ السادة السيد محمد بن علوي السقاف والشيخ عبد الله علي رضا, والشيخ علي بن عبد الله الشرباصي والشيخ أبو بكر بن محمد خوقير وذوي السيادة والشرف حمزة بن عبد الله الفعر وفنن بن محسن وسليمان بن أحمد بن سعيد وناصر بن شكر ولتبليغهم ما ذُكر اقتضى تحريره. في ٧ ذي الحجة سنة ١٣٣٤. اهـ ما نُقل عن جريدة القبلة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف مكة وأميرها ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين *** ولما علم الناس بتأليف الحكومة الجديدة كان حديثها شغلهم الشاغل، وكانوا ينتظرون أن يسمعوا يوم الجمعة ثامن الشهر شيئًا جديدًا في تعيين شكلها، واستحسن بعض الإخوان الذين رأوا من إكرام الأمير مثواي أن أطلب التشرف بمقابلة خاصة؛ أتوسل بها إلى عرض ما عرفوا وحمدوا من رأيي في شكل هذه الحكومة، ففعلت، نلت الحظوة في أول الليل على سطح في أحد جوانب قصر الإمارة، وتوسلت بذكر ما تم من تأليف مجلس الوكلاء إلى السؤال عن شكل الحكومة، كيف يكون؟ ، فتفضَّل الأمير - بتواضعه المعهود - قائلاً: هذا ما نحب أن نأخذ رأيكم فيه، فذكرت رأيي مفصلاً تفصيلاً، ولكنني لم أسمع كلمة ولا رأيت إشارة تدل على استحسان ولا على إنكار، ثم استأذنت، وانصرفت. قلت: إن جمهور الناس من المكيين والحجاج كانوا ينتظرون أن يسمعوا يوم الجمعة شيئًا جديدًا، فلم يسمعوا، وكان مَن صلى الجمعة في المسجد الحرام من المصريين على مقربة من المنبر، يلقون السمع إلى الخطيب عند الدعاء، فسمعوه بآذانهم يدعو للسلطان محمد رشاد، وخرج الناس من المسجد الحرام، ولم يقع ما كانوا يتوقعون من المبايعة بالخلافة بين الركن والمقام، فزال بذلك ما زال من الظنون والأوهام. ثم عاد الناس إلى الحديث في هذه المسألة في مساء يوم العيد بمنى، وأُشيع أن المبايعة يحتمل أن تكون ضحوة غد في أثناء الاحتفال المعتاد في سرادق الأمير؛ ذلك بأن العادة قد مضت بأن تكون ضحوة اليوم الأول من أيام منى موعد تهنئة الأمير الشريف بالعيد، وإتمام المناسك، فكان يحضر لديه والي الحجاز وقائد الجند فيه، وأمير الحج الشامي والمصري، وكبار الشرفاء والعلماء وكبراء رجال الحكومة ووجهاء مكة المكرمة والحجاج، ويُتلى الفرمان السلطاني الذي يعهد فيه إلى الشريف بالنظر في شؤون الحج وحفظه في الحجاز ... ، ويخلع الوالي على الأمير الخلعة السلطانية. ولما أشيع ما أشيع جاءني أولئك الأصحاب ليلاً للمذاكرة في الأمر، وبعد طول التشاور فيه اقترحوا عليَّ أن أذهب إلى مخيم الإمارة لاكتشاف الحقيقة؛ إذ قيل إن جمهور رجال الحكومة الجديدة وشرفاء مكة ووجهاءها يرون وجوب المبايعة بالخلافة، وإن سيدنا الأمير مخالف لهم في ذلك، ويرى ترك ذلك إلى جماعة المسلمين في سائر الأقطار، وقد بيّن هذا المعنى بعد ذلك في بعض المنشورات الهاشمية. ولما كان منزلنا بعيدًا عن مخيم الإمارة، وكان الإخوان يعلمون أن الأمير لا يسهر كثيرًا - جاؤوني بجواد كريم، فركبته، وأسرعت إلى السرادق الخاص، فقيل لي: إن سيدنا قد نام، وسألت عن نجله الأمير عبد الله، فقيل إنه قد نام أيضًا، فعدت أدراجي إلى إخواني، فأخبرتهم بذلك، وانصرفنا إلى مضاجعنا. بِتُّ ليلتي أفكر في هذه المسألة، ولم يبقَ لي من أعمال النسك ما يشغل قلبي عنها، وكان رأيي في مسألة الخلافة هو ما قيل لي في هذه الليلة عن رأي الأمير دون من حوله، وقد أكبرته لذلك، وكان أعجبني من منشوريه الأولين جعْل عداوته لفئة الاتحاديين المتغلبة لا للشعب التركي ولا للدولة العثمانية أيضًا - وكذلك كانت الثورة في أول عهدها - وكنت أرى أن مبارزته العداوة للفئة المتغلبة قد يقف بغي زعمائها على العرب عند حد ما اجترح جمال باشا من الموبقات التي هي شر لدولته، وكذا لجمعيته، لا خير لهما كما توهم، وأن نفع الحركة الحجازية محصور في هذه الفائدة المرجوة، وفي إغاثة جيران بيت الله من المجاعة والهَلَكَة المخيفة، وفي الاحتياط لما يجب إذا سقطت الدولة، وأرى أنه يجب السعي لتحقيق ذلك بدون ارتكاب إثم يُرْبِي شرُّه على خيره، وكنت أشرت إلى رأيي هذا، وإلى حسن ظني في الأمير الشريف في مقال المحاورة الذي نُشر في المنار قبل الحج، وقبل العزم عليه، ذلك ما بت أفكر فيه، ولما أصبحنا أسرع الناس إلى مكان الاحتفال مشرقين، وتأخرت إلى الضحوة الكبرى، فألفيت سرادق الإمارة غاصًّا بالناس، وكذا الفجوة التي أمامه، ولو لم يرني بعض مَن يعرفنني هنالك لما تيسر لي اختراق ذلك الجمع الكثيف، والنفوذ إلى المجلس الهاشمي الشريف، ولكن رآني مَن فرَّج لي فرجة بين الناس، دخلت منها إلى أن بلغت الحلْقة الكبيرة، وجلست على كرسي أُخلي لي فيها، وكان الناس من مصريين ومكيين قد شرعوا في إلقاء الخطب والقصائد في التهاني والأدعية، فرأيت أن ألقي خطبة في بيان الحقيقة التي عرفتها بالبحث والاختبار، والآراء التي أنتجتها تلك الأفكار، أشير فيها إلى آراء الناس من الحجازيين والآفاقيين، وكنت قد بلوت أخبارهم، واكتنهت معرفتهم وأفكارهم، وأذكر ما لديَّ من الرأي في المسألة الحجازية، وما يشترط في ذلك بقدر ما يسعه المقام، فلما فرغ مَن كان يتكلم قبل مجيئي استأذنت، فأذن لي، فقمت، وقلت - ما ملخصه كما نُشر في جريدة القبلة -: وكل ما يوضع فيها بين الأهلَّة هكذا () فهو من قبل جريدة القبلة - كما هو ظاهر - إلا الآيتين الكريمتين في أولها - فهما من أصل الخطبة. *** خطبتنا السياسية في منى أيها المسلمون الكرام، من سكان حرم الله وحجاج بيته الحرام، إنكم تعلمون أن الإسلام دين سيادة وسلطة، وأن شريعته أُنزلت ليقيم أحكامَها أهلُه؛ لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) على التأويل المشهور للآية، وتعلمون أن الله تعالى قد جعل هذا الدين عربيًّا؛ إذ أنزل القرآن - الذي هو أصله وأساسه - باللغة العربية على لسان النبي الأمي العربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقد بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا} (الرعد: ٣٧) ، فهذه الآية أخص من الآيات الناطقة بإنزال القرآن عربيًّا؛ لأنها مصرحة بأن حكم هذا الدين عربي، مع العلم بأن كتابه المتعبَّد به عربي، وهذه البلاد العربية هي مهد هذا الدين، ومهبط وحيه، ومشرق نوره، وكان أهلها هم السابقين إلى تلقيه، والاهتداء به، ثم تبعهم فيه غيرهم من عرب الحجاز، فسائر هذه الجزيرة العربية. ثم حمله العرب إلى سائر الأقطار، ونشروه فيها، فامتد في الجيل الأول منهم، حتى عَمَّ نوره الشرق والغرب، وأروا الأمم بإقامة أحكامه من العدل والرحمة ما لم يعرفوا، ولم يسمعوا له نظيرًا، كما اعترف بذلك المنصفون من الإفرنج وغيرهم. ثم طرأ الضعف على السلطة الإسلامية بتفرُّق الوحدة العربية الكافلة لها، وتغلغل الأعاجم في الدول الإسلامية التي تعددت بسبب ضعف سلطة الخلافة، فبعد أن كانت الفتوحات الإسلامية في مد، لا جزر معه - صارت دول الطوائف الإسلامية بين مد وجزر، وقوة وضعف، حتى وصلت الدولة العثمانية منها إلى درجة عالية، ومكانة سامية، من القوة الحربية، وسعة الفتح والتغلب، فسُرَّ بها المسلمون، ورضي بعض حكامهم المستقلين بسيادتها طوعًا واختيارًا، كما دخل بعضهم تحتها اضطرارًا، وقد كان أمراء مكة العظام أهل بيت سيدنا هذا (وأشار الخطيب إلى جلالة مولانا الأمير) في مقدمة مَن أيد هذه الدولة، واعترفوا بسلطتها وسيادتها؛ لأجل جمع كلمة المسلمين بها، وإعلاء شأن الشريعة الإسلامية بنفوذها (ههنا قال جلالة سيدنا للخطيب: صدقت) . ثم إن هذه الدولة قد سرى إليها الضعف، ودبَّ إليها الوهن من زهاء ثلاثة قرون، وإنني أذكر لكم بعض الشواهد على ذلك من تاريخها الرسمي منذ مئة سنة ونَيِّف: إن محمد علي باشا - الذي كان واليًا للدولة على مصر -قد زحف على سورية، ففتحها، ثم على الأناضول، فتوغَّل فيها، ولولا أن الدولة الإنكليزية أكرهته على الرجوع إلى مصر لاستولى على بلاد الدولة كلها. وكان ذلك على عهد السلطان محمود الذي كان يعد مصلحًا في الدولة، ومجددًا لها بقضائه على عسكر الإنكشارية المختل، وإدخاله نظام الجندية الأوروبي في الدولة. تولى السلطان محمود السلطنة في سنة ١٢٢٣، وتوفي سنة ١٢٥٥، فخلفه السلطان عبد المجيد، الذي صرح في خطابه - عند إعلان (التنظيمات الخيرية) في كلخانة - بأن الضعف والخلل قد طرأ على الدولة منذ ١٥٠ سنة، وأنه لا بد من تلافي خطر ذلك بالنظام الذي أعلنه بتدبير أساطين الدولة في عهده. ولكن ذلك النظام لم يُعِدْ إلى الدولة قوتها، ولا أنقذها من الخطر الذي كان يُخشى عليها. ودليل ذلك أن أركان الدولة قد خلعوا أخاه السلطان عبد العزيز الذي خلفه سنة ١٢٧٧، وقتلوه، أو ألجأوه إلى بخع نفسه بيده سنة ١٢٩٣؛ بحجة أن استبداده كان حائلاً دون إصلاح الدولة، وتجديد شبابها، وولوا بعده السلطان مرادًا، ولم يلبثوا أن خلعوه في تلك السنة، وولوا بعده السلطان عبد الحميد الذي كان عاهدهم على العمل بالقانون الأساسي الذي قلدوا فيه الدول الأوروبية؛ ظنًّا منهم بأنهم لا يعتزون إلا بما اعتزت به من الحكم النيابي. وأما سيرة السلطان عبد الحميد فهي معروفة عندكم؛ لأن العهد بها قريب، وقد خلعته جمعية الاتحاد والترقي بقوة جند الدولة، واعتقلته، وتولت الجمعية السيطرة على الدولة بعده، فماذا كان من أمرها؟ هل كانت خيرًا من أولئك السلاطين العظام، الذين لم يقدروا أن يصلحوا مُلكهم الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم؟ كلا، إن زعماء هذه الجمعية - الذين غلبوا الدولة على أمرها - هم أوشاب من الملاحدة المارقين، قد وصلوا إلى ما وصلوا إليه بكيد يهود سلانيك، وشركاؤهم في النمسة، وألمانية أقوى أنصارهم؛ ولذلك نرى أكبر همّهم جمع المال. فلا هم على دين هذه الدولة؛ فيغاروا عليه، بل هم يقاومونه، ويهدمونه، ولا هم من أصل راسخ فيها؛ فيكونوا أحرص على حياتها من أبناء سلاطينها وأساطينها. وإذا نظرنا إلى أعمالهم دون عقيدتهم وآرائهم نرى أنهم قد فعلوا في الدولة من الإفساد والتخريب ما لم يفعله غيرهم فيها، منذ أصيبت بالضعف إلى أن أصيبت بهم. ثبت أنهم أخذوا من مال الدولة لنظارة الحربية خمسين مليون جنيه؛ ليجددوا قوتها العسكرية، ثم رأينا دولة البلغار - التي كانت ولاية من ولايات الدولة ولم يتم لها الاستقلال إلا في عهدهم - قد كسرت جيوش الدولة، وكادت مدافعها في شطلجه تمزق مسامع أهل الآستانة. وكان السبب الحسي لذلك قلة ما عند الجيش العثماني من المؤنة والذخيرة والدواب وسائر أسباب الحرب. وقد خسرت الدولة في عهدهم المشؤوم من الممالك ما لم تخسر مثله في عدة أجيال: خسرت البوسنة والهرسك ببيع الجمعية إياهما للنمسة، وطرابلس الغرب وبرقة ببيعها إياهما لإيطالية، ومكدونية وألبانية وكريت وجزائر الأرخبيل، ونسكت عما خسرته في هذه الحرب من الولايات، فقد أضاعوا نصف الدولة في بضع سنين، وحمَّلوها فيها من أثقال الديون ما لم تحمل مثله قبلهم في بضعة قرون. ثم عمدوا إلى الأمة، فأفقروها كما أفقروا الدولة. فهذا هو الإصلاح الذي خلعوا - لأجل القيام به - سلطان الدولة وخليفتها عبد الحميد، وحجروا على خَلَفه من بعده. فيا أيها المسلمون المبصرون! ، إذا كان قد ثبت من تاريخ الدولة الرسمي بما ذكرته لكم من شواهده، أنها كانت ضعيفة يُخشى عليها الزوال قبل هذه الأرزاء والمصائب التي منيت بها - بشؤم هذه الجمعية، فكيف يكون حالها الآن، وقد اصطلت بنار هذه الحرب، وتعرضت لعداوة أكبر دول الأرض؟ ! إن سواد المسلمين الأعظم يغارون على هذه الدولة، ويتمنون لها دوام الاستقلال، وكمال القوة؛ للسبب الذي بيناه في فاتحة الكلام، ولكن يقل في المسلمين مَن يعرف حقيقة حالها، وكُنه الخطر الحائق بها. ويقل فيمن يعرف ذلك مَن يسعى لتدارك ما يترتب على هذا الخطر إذا وقع من فقد الإسلام لما بقي من أحكام شريعته، وحرمان المسلمين من آخر ما كان لهم من الاستقلال السياسي على عِلاَّته. لم نَرَ أحدًا من زعماء المسلمين وكبرائهم قدر الحال الخطرة التي وصل إليها الإسلام قدرها، وانبرى لتداركها إلا هذا الرجل العظيم - أمير مكة وشريفها - فإنه (؟) ، أي أن الدولة - وهو من أعلم أهلها بحالها - قد أمست على شفا جُرُف، وأن ملاحدة الاتحاديين قد اتخذوا الأحكام العرفية والقوة العسكرية ذريعة للتنكيل بالأمة العربية بتقتيل رجال الفكر والعمل ومصادرة أموال أهل الثروة منها؛ حتى لا يبقى فيها رجاء في عامل ولا في عمل، فانتدب لتدارك الخطب ومصارعة الخطر بنفسه الكريمة وأنفس أنجاله النجباء، ولو استطاع أن ينقذ الدولة نفسها من الخطر لفعل، ولو بذل في ذلك دمه ودم هؤلاء الأنجال الكرام (هنا قال الأمير - حفظه الله تعالى - للخطيب: صدقت) . لكن العمل - لإنقاذ الدولة نفسها من الخطر - قد أصبح فوق طاقته وطاقة غيره ( ... : صدقت) ، فرأى أن يبدأ بالمستطاع، وهو إنقاذ الحجاز - مهد الإسلام ومشرق نوره - مما نزل به من البلاء والشقاء، ثم إنقاذ غيره مما يمكن إنقاذه من البلاد العربية؛ ليكون ذلك بيئة الحفظ الاستقلال الإسلامي، وعدم زواله بما يُخشى ويُتوقع أن يحل بالدولة العثمانية والعياذ بالله تعالى ( ... : صدقت) . لا يخفى على ذِي بصيرة أن الاتحاديين ما حشروا الألوف من جيوشهم في الحجاز إلا بنية سيئة؛ لأنهم يعلمون - كما نعلم - أن أعداءهم الحلفاء لا يحاولون الاستيلاء على الحجاز، ولا يحاربون أهله، فكان من المعقول أن يرسلوا تلك الجيوش إلى قتال أعدائهم الروس، وإنقاذ ما فتحوه من الولايات التركية، ولكن التنكيل بالعرب أهم عندهم من دفع الروس عن عقر دارهم. ولو تم لهم ما أرادوا لرأينا من فظائعهم في الحجاز ما هو أشد من فظائعهم في الشام ( ... : صدقت) . نعم، إن الحلفاء لا يحاربون الحجاز، ولكن وجود الجيوش الاتحادية فيه ألجأهم إلى ضرب الحصر البحري على ثغوره؛ فضاقت المعيشة على أهله، حتى باعوا حُليهم وأثاثهم وأبواب بيوتهم وخشب سقفها، ولو طال عليهم أمد ذلك سنة أخرى لأكلتهم المجاعة، وما يتبعها عادة من الأوبئة ( ... : صدقت) . أعلن سيدنا هذا استقلال العرب في الحجاز - والحاجة قد اشتدت إليه حتى وصلت إلى حد الضرورة - وما كان ليوجد في الأمة العربية ولا الأمة الإسلامية كلها مَن آتاه الله من البصيرة والشجاعة والثقة بالله والتوكل عليه ما ينهض به للقيام بهذا العبء العظيم، ولولا ثقته بالله وتوكله عليه لما تجرأ على ذلك؛ لأننا كلنا نعلم أنه لا يوجد في الحجاز قوة عسكرية ولا ثروة مالية يُعتمد عليها في مثل هذا العمل (تصديق ... ) . كلنا نعلم أنه لا يوجد في الدنيا كلها مكان يصلح لتأسيس دولة إسلامية تخلف الدولة العثمانية إذا وقع بها ما نخشاه عليها إلا جزيرة العرب، وما يتصل بها من البلاد العربية؛ لما خص الله تعالى به هذه البقعة وأهلها من الخصائص، ولا يعقل أن يحفظ استقلال الإسلام في مثل بلاد الأفغان؛ إن هو زال من مهده وموطن نشأته ومحل إقامة شعائره. انفردت هذه البقاع الطاهرة المقدسة بأنها أجدر بقاع العالم الإسلامي لإقامة استقلاله. وكذلك انفرد سيدها وأميرها في هذا العصر بالنهوض بما يجب من العمل والاستعداد لتجديد هذا الاستقلال. فكان له بعمله أكبر مِنَّة في أعناق أهل هذه البلاد، وفي أعناق جميع المسلمين الذين يشعرون بأن أمر هذا الاستقلال هو أهم المصالح العامة الدينية والاجتماعية. ولكن منهم مَن فقد هذا الشعور! أيها الحجازيون، مَن يكفر منكم لهذا الرجل المصلح المنقذ هذه النعمة فهو أكفر الناس للنعم. أيها المسلمون، يجب أن تعلموا أن هذا العمل أعظم خدمة للإسلام في هذا الزمن؛ فإن الدولة العثمانية إن سَلِمت من السقوط وحُفظ استقلالها لم يكن استقلال العرب في الحجاز وغيره مانعًا من ذلك، ولا من تعاضد العرب والترك مع حفظ حقوق كل منهم. وإن سقطت وفقدت استقلالها لم يكن هذا الاستقلال هو السبب فيه، ولكنه يكون سببًا لحفظ استقلال الحكم الإسلامي في أشرف بقاع الإسلام، بل لا يغيب عن أذهانكم أنه لولا إعلان هذا الاستقلال لترتب على سقوط الدولة العثمانية وقوع حرم الله تعالى وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة في أيدي الدول الفاتحة. فإن تركوهما بعد ذلك لنا كان لهم منَّة التصدُّق بهما علينا. وإلا كانا تحت سيادتهم والعياذ بالله تعالى. وبهذا يتبين لكم أن هذا العمل العظيم - الذي قام به هذا الزعيم العظيم - قد أنقذ الحرمين الشريفين، وما حولهما من هذا الخطر الجسيم. ووضع أقوى أساس لحفظ الاستقلال الإسلامي بإنشاء دولة جديدة له، فله بهذا أكبر منَّة على جميع المسلمين. وما أقول هذا تملقًا له ولا مدحًا شعريًّا، وإنما هو الحقيقة البيضاء الناصعة، بيَّنتها لكم بالإيجاز الذي يحتمله المقام والسلام. اهـ الخطبة. قالت جريدة القبلة - مقفية على هذه الخطبة -: وبعد أن جلس (أي الخطيب) أثنى عليه جلالة سيدنا - أيَّده الله بروح من عنده - وقال للناس إنه لم يَرَهُ إلا منذ أيام قليلة، ونزيد عليها أنه قد صرح بأنني عبرت في المسألة عن فكره ورأيه، ولم يسبق له مكاشفتي به، وأنه لم يرني إلا منذ أيام قليلة، وهو صادق فيما قال، وأنني ما كنت أرجو أن يرضيه خطابي إلا من باب حسن الظن فيه، الذي استنبطته مما كنت أعلم من سوء نية جمال باشا وأعوانه، ومن منشورَيْه الدالين على قيامه بما قام به في الحجاز لأجل الداعية التي وصلت إلى حد الاضطرار، وإنها ضرورة تُقدَّر بقدرها، وهذا هو الحكم الشرعي في مثلها، وقد جعلتها مقدمة للسعي إلى ذلك. وأقول: إن وقْع الخطبة قد كان حسنًا في سمع الجمهور، وكانت موضع حديث الناس وثنائهم، حدثني بذلك الكثيرون في منى، ثم في مكة، وقد علمت أنها جمعت بين إرضاء الفريقين المتعارضين في الرأي: فريق المتشائمين من ثورة الحجاز، الخائفين أن تكون سببًا لضعف الدولة العثمانية، على حين لا استعداد لإنشاء دولة إسلامية تحل محلها، وفريق المتفائلين الذين يرجون أن تكون مبدأ دولة عربية مستقلة، تحيا بها حضارة العرب الزاهية الزاهرة، حتى أن أصحاب فكرة المبايعة كانوا يرجون - عند سماع الخطبة - أن تكون مقدمة للمبايعة. زارني بعد نزولنا من منى إلى مكة الشيخ عبد الملك الخطيب أحد أدباء مكة المقربين من الحضرة الهاشمية - وقد تقدم ذكره في هذه الرحلة - فكان جُل حديثه الثناء على الخطبة، وقال: إنني كنت في الحضرة الهاشمية أذكر محاسنها، وأنوه بها، وإن سيدنا وافقني على ذلك، وساهمني فيه، ثم ذكر أنه كان ينقصها شيء واحد، قلت: بل ينقصها عندي أشياء، ولكن الوقت لم يكن يتسع لأكثر مما قيل، قال: لم أعنِ أن في الخطبة نفسها نقصًا، بل هي كاملة، وإنما كان ينقصها أن تكون مقدمة للمبايعة، فلو أنك بعد إتمامها مددت يدك، وبايعت سيدنا لاتبعك الناس، وكان أمرًا مفعولاً، قلت: إن هذا ليس من رأيي، ولا من حقي، وما يؤمنني أن يقال لي ما قيل لذلك الشاعر، الذي قال: وخذا النوم من عيوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق فقيل له: خلعتَ ما لا تملك مَن لا يقبل؟ ! وبهذا حولت المباحثة السياسية إلى مفاكهة أدبية. هذا، وإنني قد تشرفت بعد ذلك بحديث مع الحضرة الهاشمية في موضوع الخطبة، فكان مما قال الأمير: إن المسألة الجوهرية في الخطبة هي أن الدولة العثمانية على خطر، وأنا موافق لك على هذا الرأي من قبل الحركة، ولكن أكثر الناس أو المسلمين لا يعقلون ذلك. وقد عرضت عليه في هذه الجلسة شيئًا من خلاصة رأيي في المسألة العربية، وما يجب اتخاذه من الاحتياط في مسألة الدولة، على الوجه الذي أشرت إليه في خاتمة الخطبة، فأظهر لي الاستحسان، وأحال على الزمان، وقراء المنار يعرفون رأيي مما بسطته في المقالة التاريخية (المسألة العربية) ، التي نشرتها في الجزء الأول من المجلد العشرين، ومنه أن الثورة الحجازية قد أدت وظيفتها، وأفادت ما رجوناه منها. فأنقذ الحجاز، وأوقفت بغي البغاة، وأحمد الله أنني كنت أسعى إلى تنفيذ هذه المقاصد على تلك القواعد، وأنني الآن معتزل لأعمال السياسة وأهلها، منتظر حكم العزيز الحكيم في أمر أمتي والشعوب كلها.