(جمعية شمس الإسلام) ما نجحت جمعية في القطر المصري كجمعية شمس الإسلام , ولا خاض الناس في جمعية كخوضهم فيها , وكثيرًا ما يكون الخوض والتحامل من أسباب الفوز والنجاح , أما نجاح الجمعية فحسبك دليلاً عليه كثرة الفروع التي تتفرع منها آنًا بعد آن حتى تكرر طبع دفاترها وقسائمها وأوراقها مرارًا. وإنني أذكر من هذه الفروع الآن ما أتذكره من غير مراجعة الدفاتر وهو جمعيات حلوان وبني سويف وملوي وديروط وفزارة وأسيوط وطهطا ومنفلوط والمنيا والفيوم وقلوصنا والجرابيع والشيخ فضل وصدفا والصبحة وصنمو. وأما الخوض فيها فجدير بأن يثير العجب , ويحمل على البحث عن السبب , فإن في هذه البلاد جمعيات كثيرة لسائر الملل , ومنها ما هو مشترك بين جميع الأجناس والملل، فلماذا اهتم الناس بهذه الجمعية دون سواها؟ هل ذلك لأنها على شيء من الباطل؟ كلا إن هذا مردود من وجوه: (أحدها) أن الخائضين والمرجفين بها ممن لا يكادون يميزون بين الحق والباطل , وهم أميل إلى الثاني منهم إلى الأول , وحكم من لا يعرف حقيقة الجمعية من سائر الناس على أقوالهم تختلف باختلاف الأفهام والعقول , فالعاقل يرفض كلامهم المتعارض المتناقض , وما عساه يكون معقولاً في نفسه يتوقف فيه حتى يظهر له بالاختبار، والفدم الإمَّع يتابع كل قائل على رأيه من غير بصيرة ولا تمييز. (ثانيها) أن المرجفين قد خلقوا عللاً واهية للخوض في هذه الجمعية، وفي مصر من الجمعيات جمعية تدعو إلى أن يؤاخي المسلم أبناء كل الملل , ويفضل إخوته في الجمعية على إخوته في الإسلام , وينصرهم عليهم ظالمين أو مظلومين لا أنه يبرهم ويقسط إليهم فقط كما جاء في القرآن , وآخرين من دون هذه الجمعية يدعون إلى دين جديد يستدلون عليه حتى بالقرآن , ويقولون: إن الجائي هو السيد المسيح عليه الصلاة والسلام وأنه مات وترك وصيًّا هو رئيس الدين الآن , والمرجفون بجمعية شمس الإسلام إذا كانوا يحترمون الجمعية الأولى وهي الماسونية أو كانوا منها فهم لا يحترمون الثانية قطعًا , ومع ذلك لا يرجفون بها ولا يضادون أهلها ولا يحادونهم. (ثالثها) أن ما يقولونه غير معقول في نفسه , وإننا نخجل من ذكره , وكيف لا يخجل المسلم أن يقول: إن بعض المسلمين يخذل عملاً إسلاميًّا شريفًا لأن الذي وضع أساسه وسن سنته الحسنة ليس من وطنه مع أن دينه يقول له: (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) فاتباعًا لهذا القول الشريف يجب على المسلم أن يأخذ كل ما يراه نافعًا لملته وأمته ولو عن مخالفه في الدين , فهل يكون على هدي الإسلام إذا كان يرفض , بل ويخذل الأعمال النافعة للإسلام لأن من قام بها أولاً غير وطني؟ يا رباه اصرف عنا شر هذه الوطنية العمياء التي مزقت رابطتنا الملية كل ممزق , واهدِ قلوب الذين يغشون الناس بها لعلهم يرجعون. هذا أحد الأسباب الحقيقية للإرجاف بالجمعية , وثَم أسباب أخرى: (أحدها) أن بعض الماسون ظنوا أن الجمعية وضعت لمعارضة جمعيتهم , وقوَّى عندهم هذا الظن خروج من دخل فيها من الماسونية , ولذلك رأينا المرجفين بها كلهم أو جُلهم من الماسون , وقد انتهى الغلو ببعض المارقين من هؤلاء الأشرار إلى أن قال ما معناه: كيف تتضاءل الجمعية الماسونية التي وجدت قبل الأنبياء والمرسلين أمام جمعية شمس كذا.... (وذكر كلمة تليق بمقامه لا ينبغي أن تكتب) . (وثانيها) أن في مصر نفرًا من الأشرار قد اتخدوا التجسس والمحْل والسعاية بين مصر والأستانة معاشًا وأحبولة لاصطياد الرتب والوسامات، فحيثما وَجَدَ هؤلاء خرقًا وسَّعوه فجعلوه بابًا يدخلون منه إلى غرضهم يجعلون الحبة قبة والشبهة حجة قاطعة. أذاع هؤلاء أن غرض الجمعية إقامة خلافة عربية , وإننا نذكر شبههم التي خدعوا بها بعض الأغرار والسذج وهي: (١) علموا أن الجمعية لا تقبل أحدًا فيها من حزب تركيا الفتاة الذين غلوا في الخوض بمولانا السلطان الأعظم ويطلبون الإصلاح بالقانون الأساسي فقالوا: إنها لا تقبل أحدًا من الأتراك مطلقًا لأنهم لا يشايعونها على الخلافة العربية. (٢) علموا أن الجمعية خصوصية لا تبيح لكل أحد أن يحضر اجتماعاتها لئلا يحضرها السكران والحشاش والأحمق ويختلطوا بكرام الناس، فقالوا: إنها سرية والدين ليس فيه سر، فلم يبق إلا أنها جمعية سياسية تريد الخلافة العربية , ففتحت الجمعية أبوابها لسائر الناس مدة من الزمن فرأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم ما هو صريح في الإخلاص للدولة العلية والخلافة العثمانية لا سيما الثناء والدعاء للحضرة الحميدية فخشي رهط الفتنة أن لا يسمع لهم بعد ذلك قول فأغروا بعض السفهاء بإحداث الشغب في وقت الاجتماع لتضطر الجمعية إلى الرجوع إلى أصلها وكذلك كان. (٣) رأى بعضهم في آخر مجلة الجمعية الرسم الذي ترونه على أعلى الصفحة الأولى من المنار فقال: إن هذا رمز من الجمعية إلى التاج الذي سيتوج به الخليفة الذي تنصبه! ! مع أن واضع ذلك الرسم هو جامع الحروف في المطبعة , ولم يره أحد من أعضاء الجمعية إلا بعد تمام الطبع وهو موضوع على كثير من المطبوعات التي طبعت في مطبعة المنار لسائر الناس! ! (٤) علموا أن في الجمعية طبقات ودرجات , فرتبوا لها وظائف مخصوصة. (٥) رأوا في المجلة أن من موضوع الجمعية تعليم الصناعة، فإذا كان لديها مال وافر تنشئ بعد مدارس التربية والتعليم مدارس الصناعة , فقالوا: إن الغرض من الصناعة هو عمل الآلات الحربية لمحاربة الدولة العلية! ! قال بعض الأذكياء لرجل سمع منه مثل هذا الكلام السخيف وأن الخليفة موجود يبايع: كيف يتصور العقل أن جمعية يصرح قانونها بأن مالها يصرف على تعليم الدين والفنون والصنائع يكون غرضها إقامة خلافة , وهو ما يعجز عنه الملوك والأمراء أصحاب القوى الحربية , فأجابه ذلك الأحمق: إنها تقصد أن يكون هذا بعد خمسين سنة أو أكثر , قال الذكي: إنكم تزعمون أن خليفتها موجود الآن ولكنكم اختلفتم في تعيين القطر الذي يقيم فيه، فبهت المرجف الكذاب. ولم يخجل هؤلاء السعاة المحَّالون من كتابة هذه السخافات وإرسالها إلى دار الخلافة ويتوقعون عليها الجزاء الأوفى، فقد أخبرنا رجل كان انضوى إلى رهط الفتنة ثم رجع أن الذي أظهر الوقاحة الكبرى في الجمعية موعود من فلان باشا وفلان بك برتبة ووسام. (ثالثها) يوجد رجل حاسد للجمعية لا أذكر اسمه ولا وصفه ولا أشير إليه بشيء يميزه لأن فضيحة المستور غير جائزة , ولأن بعض المغترين به لا يصدق عليه القول فيتهم قائله بالغرض. هذا الرجل اجتهد في الإغراء والتحريض بإبطال الجمعية لغرض له شخصي محض يرى أن يفيده جاهًا عريضًا , هذا ملخص الإرجاف وأسبابه. وقد استاء أهل الفضل من اللغط والإرجاف بالجمعية وأشفقوا من انحلالها , ونبشرهم بأن ما حصل أفاد الجمعية ونفعها , وأبعد عنها من ليس من أهلها وإنما دخلها بالغش وسوء الاختيار , وقد انتكث بفضل الله فتل المفسدين وبطل اجتماعهم وكانت العاقبة للمتقين , والحمد لله رب العالمين.