للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: نقلا عن جريدة العروة الوثقى


الفضائل والرذائل [١]

] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ [[٢]
قالوا: للإنسان كمال مفروض عليه أن يسعى إليه. وقالوا: إنه عرضة لنقص
يجب عليه الترفع عنه. وقالوا: كماله في استيفاء ما يمكن من الفضائل، ونقصه في
التلوث برذيلة من الرذائل. فما هي الفضائل؟ وما هي الرذائل؟
الفضائل سجايا للنفس من مقتضاها التأليف والتوفيق بين المتصفين بها
كالسخاء والعفة والحياء ونحوها، فالسخيان لا يتشاحان ولا يتنازعان في التعامل؛
فإن من سجية كل منهما البذل في الحق والمنع إذا اقتضاها الحق، فكل يعرف حده
فيقف عنده، فلا يوجد موضوع للنزاع عند معاطاة الأعمال المالية، والأعفَّاء لا
يتزاحمون على مشتهى من المشتهيات؛ فإن من خلق كل منهم التجافي عن الشهوة
وفي طبيعته الإيثار بالرغائب، وهكذا إذا استقريت جميع ما عده علماء التهذيب
من الصفات الفاضلة تجد أن من لوازم كل فضيلة منها التأليف بين المتصفين بها
في متعلق الأثر الناشئ عن تلك الفضيلة، فإذا اجتمعت الفضائل أو غلبت في
شخصين مالت نفوسهما إلى الاتحاد والالتئام في جميع الأعمال والمقاصد أو جلها،
ودامت الوحدة بينهما بمقدار رسوخ الفضيلة فيهما، وعلى هذا النحو يكون الأمر في
الأشخاص الكثيرة، فالفضائل هي مناط الوحدة بين الهيئة الاجتماعية وعروة
الاتحاد بين الآحاد تميل بكل منهما إلى الآخر، وتجذب الآخر إلى من يشاكله حتى
يكون الجمهور من الناس كواحد منهم يتحرك بإرادة واحدة، ويطلب في حركته
غاية واحدة.
مجموع الفضائل هو العدل في جميع الأعمال، فإذا شمل طائفة من نوع
الإنسان وقف بكل من آحادها عند حده في عمله لا يتجاوزه بما يمس حقًّا للآخر، فبه
يكون التكافؤ والتوازر، لكل شخص من أفراد الإنسان وجود خاص به، وأودعت فيه
العناية الإلهية من القوى ما به يحفظ وجوده، وما به التناسل لبقاء النوع وهو في
هذا يساوي سائر أفراد الحيوان، لكن قضت حكمة الله أن يكون الإنسان ممتازًا عن
بقية الأنواع الحيوانية بكون آخر ووجود أرقى وأعلى، وهو كون الاجتماع حتى
يتألف من أفراده الكثيرة بنية واحدة يعمها اسم واحد، والأفراد فيها كأعضاء تختلف
في الوظائف والأشكال؛ وإنما كل يؤدي عمله لبقاء البنية الجامعة وتقويتها وتوفير
حظها من الوجود ليعود إليه نصيب من عملها الكلي، كما أودع الله في أعضاء
أبداننا وبنيتنا الشخصية، والفضائل في المجتمع الإنساني كقوة الحياة المستكملة في
كل عضو ما يقدره على أداء عمله مع الوقوف عند حد وظيفته كاليد بها البطش
والتناول وليس بها الإبصار، والعين بها الإبصار وتمييز الأشكال والألوان وليس
من وظائفها البطش، والكل حي بحياة واحدة وإن شئت قلت: الفضائل في عالم
الإنسان كالجذبة العامة في العالم الكبير، فكما أن الجذبة العامة يحفظ بها نظام
الكواكب والسيارات، وبالتوازن في الجاذبية ثبت كل كوكب في مركزه، وحُفظت
النسبة بينه وبين الكواكب الأخر، وانتظم بها سيره في مداره الخاص بتقدير العزيز
العليم؛ حتى تمت حكمة الله في وجود الأكوان وبقائها، كذلك شأن الفضائل في
الاجتماع الإنساني بها يحفظ الله الوجود الشخصي إلى الأجل المحدود، ويثبت البقاء
النوعي إلى أن يأتي أمر الله.
أي أمة يكون الواضع فيها والرافع، والحارس والوازع، والجالب والدافع،
وجميع من يدبر أمورها، ويسوسها في شؤونها؛ إنما هم أفراد منها من هاماتها،
أو من لهازمها (من الأعلياء والأوساط بل وسائر الأطراف) ، ويكون كل واحد
منها قائمًا بحق الكل، ولا يختار مقصدًا يعاكس مقصد الكل، ولا يسعى إلى غاية
تميل به عن غاية الكل، ولا يهمل عملاً يتعلق بالأمة حتى يكون الجميع كالبنيان
المتين لا تزعزعه العواصف، ولا تدركه الزلازل، وبقوة كل منهم يجتمع للأمة
قوة تحفظ بها موقعها، وتدفع بها عن شرفها ومجدها، وترد غارة الأغيار فهي
الأمة التي سادت فيها الفضائل، واستعلت فيها مكارم الأخلاق.
إن أمةً هذا شأنها لا يتخالف أفرادها إلا للتآلف، ولا يتغايرون إلا للاتحاد،
فمثلهم في اختلاف الأعمال كمثل المتدابرين على محيط دائرة، يتفارقان في مبدأ
السير؛ ليتلاقيا على نقطة من المحيط، ومثالهم في تغاير مآخذهم لجلب منافعهم
كجاذبي طرف خيطة واحدة (حبل واحد) كل آخذ بطرف مع تعادل القوتين، ففي
جذب أحدهما لصاحبه إبعاد لنفسه عنه من وجه وحفظ لمكان قربه منه من وجه آخر
فلا يفترقان ولا يتباينان، ولا تفنى منفعة أحدهما في منفعة الآخر، أما إن مسالك
الأفراد من هذه الأمة بما منحوه من الارتباط بينهم تكون كأنصاف دائرة مركزها
حياة الأمة وعظمتها، ولا يخرج ولا واحد منهم عن محيط الجنسية، وأنهم في
جلب منافعها واستكمال فوائدها كالجداول تمد البحر لتستمد منه.
يرى كل واحد منهم أن ما تبتهج به النفوس البشرية، وتمتاز بالميل إليه عن
سائر الحيوانات من رفعة المكانة والغلب وبسط الجاه ونفاذ الكلمة؛ إنما يمكن نواله
إذا توافر للأمة حظها من هذه المزايا، فيسعى جهده لإبلاغ كل واحد من الأمة
أقصى ما يؤهله استعداده ليأخذ بسهم مما يناله، فلا يهمل ولا يخون في الدفاع عن
فرد من أفرادها، فضلاً عن هيئتها العامة، وإلا فقد خان نفسه؛ لأنه أبطل آلة من
آلات عمله، وقطع سببًا من أسباب غايته، ولا يحتقر واحدًا من الآحاد، ولا
يزدري بعمله ويحسب الشخص من الأمة، وإن كان صغيرًا بمنزلة مسمار صغير
في آلة كبيرة لو سقط منها تعطلت الآلة بسقوطه.
عليك أن تنظر في حقائق هذه الصفات الفاضلة لتحكم بما ينشأ عنها من الأثر
الذي بيَّناه - التعقل والتروي وانطلاق الفكر من قيود الأوهام والعفة والسخاء
والقناعة والدماثة (لين الجانب) والوقار والتواضع وعظم الهمة والصبر والحلم
والشجاعة والإيثار (تقديم الغير بالمنفعة على النفس) ، والنجدة والسماحة والصدق
والوفاء والأمانة وسلامة الصدر من الحقد والحسد والعفو والرفق والمروءة والحمية
وحب العدالة والشفقة - أترى لو عمت هذه الصفات الجليلة أمة من الأمم، أو
غلبت في أفرادها يكون بينها سوى الاتحاد والالتئام العام؟ هل يوجد مثار للخلاف
والتنافر بين عاقلين حُرين صادقين وفيَّين كريمين شجاعين رفيقين صابرين حليمين
متواضعين وَقُورين عفيفين رحيمين؟
أما والله لو نفخت نسمة من أرواح هذه الفضائل على أرض قوم وكانت مواتًا
لأحيتها، أو قفرًا لأنبتتها، أو جدبًا لأمطرتها من غيث الرحمة ما يسبغ نعمة الله
عليها، ولا قامت لها من الوحدة سياجًا لا يُخرق وحرزًا منيعًا لا يُهتك، وإن أولى
الأمم بأن تبلغ الكمال في هذه السجايا الشريفة أمة قال نبيهم: (إنما بعثت لأتمم مكارم
الأخلاق) ، الفضيلة حياة الأمم تصون أجسامها عن تداخل العناصر الغريبة وتحفظها
من الانحلال المؤدي إلى الزوال {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ} (هود: ١١٧) .
أما الرذائل فهي كيفيات خبيثة تعرض للأنفس من طبيعتها التحليل والتفريق
بين النفوس المتكيفة بها، كالقحة (قلة الحياء) ، والبذاء (التطاول على الأعراض
بما لا تقتضيه الحشمة والأدب من الكلام) ، والسفه والبله والطيش والتهور والجبن
والدناءة والجزع والحقد والحسد والكبرياء والعجب واللجاج والسخرية والغدر
والخيانة والكذب والنفاق، فأي صفة من هذه الصفات تلوث بها نفسان، ألقت
بينهما العداوة والبغضاء، وذهبت بهما مذاهب الخلاف إلى حيث لا يبقى أمل في
الوفاق؛ فإن طبيعة كل منهما، إما مجاوزة الحدود في التعدي على الحقوق، وإما
السقوط إلى ما لا يمكن معه للشخص أداء الواجب لمن يشاركه في الجنسية أو الملية
أو القبيلة أو العشيرة أو بأي نوع من أنواع التعامل، والإنسان مجبول بالطبع على
النفرة ممن يتعدى على حقوقه، أو يمنعه حقًّا منها، وإن شئت فتخيل وقحين بذيئين
سفيهين جبانين بخيلين (كل منهما يمنع الآخر حقه) شرهين حاقدين حاسدين
متكبرين (كل لا يستحسن إلا فعل نفسه) لجوجين خائنين غادرين كاذبين منافقين،
هل يمكن أن يجمعهما مقصد أو توحد بينهما غاية؟ أليس كل وصف على حدته
قاضيًا بانتباذ كل من صاحبه، وإن لم تكن داعية؟ وكفى بخلقه وصفته باعثًا قويًّا
للتنابذ.
هذه الرذائل إذا فشت في أمة نقضت بناءها، ونثرت أعضاءها، وبددتها
شذر مذر، واستدعت بعد ذلك طبيعة الوجود الاجتماعي أن تسطو على هذه الأمة
قوة أجنبية عنها لتأخذها بالقهر، وتصرفها في أعمال الحياة بالقسر؛ فإن حاجاتهم
في المعيشة طالبة للاجتماع، وهو لا يمكن مع هذه الأوصاف، ولا بد من قوة خارجة
تحفظ صورة الاجتماع إلى حد الضرورة، هذه صفات إذا رسخت في نفوس قوم
صار بأسهم بينهم شديدًا تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، تراهم أعزة بعضهم على بعض
أذلة للأجنبي عنهم، يدعون أعداءهم للسيادة عليهم ويفتخرون بالانتماء إليهم،
يمهدون السبل للغالبين إلى النكاية بهم، ويمكنون مخالب المغتالين من أحشائهم،
ويرون كل حسن من أبناء جنسهم قبيحًا، وكل جليل منهم حقيرًا، إذا نطق أجنبي
بما يدور على ألسنة صبيانهم عدوه من جوامع الكلم، ونفائس الحكم، وإذا غاص
أحدهم بحر الوجود واستخرج لهم درر الحقائق، وكشف لهم دقائق الأسرار عدوه
من سقط المتاع، وقالوا بلسان حالهم أو مقالهم: ليس في الإمكان أن يكون منا عارف
ومن المحال أن يوجد بيننا خبير. ويغلب عليهم حب الفخفخة والفخر الكاذب،
ويتنافسون في سفاسف الأمور ودنياتها، يرتابون في نصح الناصحين، وإن قامت
على صدقهم أقطع البراهين، يسخرون بالواعظين، وإن كانوا في طلب خيرهم من
أخلص المخلصين، يبذلون جهدهم لخيبة من يسعى لإعلاء شأنهم وجمع كلمتهم،
ويقعدون له بكل سبيل يقيمون في طريقه العقبات، ويهيئون له أسباب العثار،
تراهم بتضارب أخلاقهم، وتعاكس أطوارهم، كالبدن المصاب بالفالج لا تنتظم
لأعضائه حركة، ولا يمكن تحريك عضو منه على وجه مخصوص لمقصد معلوم،
فتنفلت أعمالهم عن حد الضبط، وتخرج عن قواعد الربط، فساد طباعهم بهذه
الأخلاق يجعلهم منبعًا للشر، ومبعثًا للضر، يصير الواحد منهم كالكلب الكَلِب أول
ما يبدأ بِعَضّ صاحبه قبل الأجنبي، بل كالمبتلى بجنون مطبق أول ما يفتك بمربيه
ومهذبه، ثم يثني بطبيبه ومعالج دائه، تكون الآحاد منهم كالأمراض الأكالة من
نحو الجزام، والآكلة يمزقون الأمة قطعًا وجذاذات، بعدما يشوهون وجهها،
ويشوشون هيئتها، أولئك قوم يسامون في مراعي الدنايا والخسايس؛ لتغلب النذالة
على سائر أوصافهم، فيتَنفَّجُون على أبناء جلدتهم، ويذلون لقزم الأجانب فضلاً عن
عليتهم، وبهذا يمكِّنون الذلة في نفوسهم لمن دونهم، ويطبعونها على الخضوع
للغرباء، بل الأعداء الألداء من طبقة إلى طبقة، حتى تضمحل الأمة وتُنسخ هيئتها
وتفنى في أمة أو ملة أخرى سنة الله في تبدل الدول وفناء الأمم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ
إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: ١٠٢) أعاذنا الله من هذه
العاقبة، وحرس أمتنا وملتنا من الصير إلى هذه النهاية.
بقيت لنا لمحة نظر إلى ما به تقتنى الفضائل، وتُمحَّص النفوس من الرذائل
حتى تستعد الجمعيات البشرية إلى الاتحاد، وتصون به أكوانها من الفساد، كل
مولود يولد على الفطرة، مادة مستعدة لقبول كل شكل، والتلون بأي لون، فهل
ينال كمال الفضيلة من آبائه وأسلافه؟ أنى يكون لهم حظ منها، وقد كانوا ناشئين
على مثل ما نشأ عليه وليدهم، يرشدنا رائد الحق إلى أن الاعتدال في أصول
الأخلاق، والتحلي بحلية الفضائل وترويض القوى والآلات البدنية على العمل
بآثارها إنما يكون بالدين، ولن يتم أثر الدين في نفوس الآخذين به، فيصيبوا حظًّا
وافرًا مما يرشدنا إليه، فيتمتعوا بحياة طيبة وعيشة مرضية، إلا إذا قام رؤساء
الدين وحملته وحفظته بأداء وظائفهم من تبيين أوامره ونواهيه وتثبيتها في العقول
ودعوة الناس إلى العمل بها، وتنبيه الغافلين عن رعايتها، وتذكير الساهين عن
هديها، أما إذا أهمل خَدَمَة الدين وظائفهم، أو تهاونوا في تأدية أعمالها ضعف
اليقين في النفوس، وذهلت العقول عن مقتضيات العقائد الدينية، وأظلمت البصائر
بالغفلة، وتحكمت الشهوات البهيمية، وتسلطت الحاجات المعاشية، ومال ميزان
الاختيار مع الهوى، فحشرت إلى الأنفس أوفاد الرذائل، فيحق على الناس كلمة
العذاب، ويحل بهم من الشقاء ما أشرنا إليه سابقًا.
هذه علل الخراب في كل أمة، ولقد ظهر أثرها في أمم لا تحصى عددًا من
بداية كون الإنسان إلى الآن، ولم يزل آثار بعضها يشهد على ما فتكت به الرذائل
بعدما بدَّلوا وغيّروا كما في طائفة (الدهيرومنك) من سكنة الأقطار الهندية
المعروفين عند الأوربيين بطائفة (ياريا) {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} (الروم: ٤٢) فالدين هو السائق إلى السعادة في الدنيا
كما يسوق إليها في الآخرة.
تقلب قلب الدهر على بعض طوائف من المسلمين في أقطار مختلفة من
الأرض، وسلبهم تيجان عزهم، وألقاها على هامات قوم آخرين، واليوم ينازع
طوائف أخرى، ولا نخاله يتغلب عليهم، فكشف هذا عن نوع من الضعف، ولا
يكون ناشئًا إلا عن شيء من الإهمال في اتباع أوامر الشرع الإسلامي ونواهيه
بحكم قول الله في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) وقد يكون ذلك وربما لا ينكر الآن أن كثيرًا من عامة المسلمين وإن
صحت عقائدهم من حيث ما تعلق به الاعتقاد، إلا أنهم لا ينهجون في بعض
أعمالهم منهاج الشريعة الغراء، وهذا مما يُحْدِث ضعفًا في الأمة بقدر الميل عن
جادة الاعتدال في الفضائل والأعمال {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: ٣٠) .
إلا أن المسلمين لم يزالوا على أصول الفضائل الموروثة عن أسلافهم، ولهم
حسن الإذعان لما جاء به شرعهم، وكتاب الله متلوّ على ألسنتهم وسنة نبيهم
يتناقلونها رواية ودراية وسير الخلفاء الراشدين والسلف الصالح مرسومة على
صفحات نفوس الخاصة منهم، فليس ما طرأ على بعضهم من الغفلة عن متابعة
الشرع وما تسبب عنه من الضعف في القوة إلا عرضًا لا يبقى، وحالاً لا يدوم.
انظر نظرة إنصاف إلى ما أودعته آيات القرآن من غرر الفضائل وكرائم
الشيم، وإلى حرص المسلمين على احترام كتابهم وتبجيله، تجد من نفسك حكمًا باتًّا
بأن علماء الديانة الإسلامية لو نشطوا لأداء وظائفهم المفروضة عليهم بحكم وراثتهم
لصاحب الشرع والمحتومة على ذمتهم بأمر الله الموجه إلى الذين يعقلونه وهم هم
في قوله الحق: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤) وبالحض الإلهي المفهوم من
قوله: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ} (التوبة: ١٢٢) (المؤمنين) {طَائِفَةٌ
لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: ١٢٢) ولو قاموا يعظون العامة بما ينطق به القرآن ويُذَكِّرونهم بما
كان عليه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الناهجون على سنته من
الأخلاق المحمودة والأعمال المبرورة؛ لرأيت الأمة الإسلامية ناشطة من عقالها
متضافرة على إعادة مجدها وصيانة ولايتها العامة من الضعف، وبيضة دينها من
الصدع كل ذلك في أقرب وقت، ولن تكون إلا صيحة واحدة فإذا هم قيام ينظرون.
ولا ريب أن الراسخين في العلم من أهل الدين الإسلامي يعلمون أن ما أصيب
به المسلمون في هذه الأزمان الأخيرة إنما هو مما امتحنهم الله به جزاء على بعض
ما فرطوا، وليس للناس على الله حجة، فالرجاء في هممهم وغيرتهم الدينية
وحميتهم الملية أن يوجهوا العناية إلى رتق الفتق قبل اتساعه، ومداواة العلة قبل
استحكامها، فَيُذَكِّروا أبناء الملة بأحكام الله، ويحكموا بينهم روابط الأخوة والألفة
كما أمر الله في كتابه وعلى لسان نبيه، ويبذلوا الجهد لمحو اليأس والقنوط الذي
ملك أفئدة البعض منهم، ويقنعوهم بأنه لا ييأس من لطف إلا الذين في قلوبهم
مرض، وفي عقائدهم زيغ، ويسيروا بهم في سبيل يجمع كلمتهم ويوحد وجهتهم
ويقوي فيهم إباءة الضيم والنفرة من الذل، ويحرك فيهم روح الأنفة حتى لا تسمح
نفس أحدهم أن يأتي الدنية في دينه، ويكشفوا لهم حقيقة وعد الله ووعده الحق في
قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: ٤٧) .