(الوجه الثالث والأربعون) قولهم: إن الله سبحانه وتعالى أثنى على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وتقليدهم هو اتباعهم بإحسان. فما أصدق المقدمة الأولى وما أكذب الثانية؛ بل الآية من أعظم الأدلة ردًّا على فرقة التقليد؛ فإن اتباعهم هو سلوك سبيلهم ومنهاجهم، وقد نهوا عن التقليد وكون الرجل إمعة. وأخبروا أنه ليس من أهل البصيرة ولم يكن فيهم - ولله الحمد - رجل واحد على مذهب هؤلاء المقلدين. وقد أعاذهم الله وعافاهم مما ابتلى به من يرد النصوص لآراء الرجال وتقليده لها فهذا ضد متابعتهم وهو نفس مخالفتهم؛ فالتابعون لهم بإحسان حقًّا هم أولو العلم والبصائر الذين لا يقدمون على كتاب الله وسنة رسوله رأيًا ولا قياسًا ولا معقولاً ولا قول أحد من العالمين. ولا يجعلون مذهب أحد عيارًا على القرآن والسنن فهؤلاء أتباعهم حقًّا. جعلنا الله منهم بفضله ورحمته. يوضحه: (الوجه الرابع والأربعون) أن أتباعهم لو كانوا هم المقلدين الذين هم مقرون على أنفسهم، وجميع أهل العلم أنهم ليسوا من أولي العلم لكان سادات العلماء الدائرون مع الحجة ليسوا من أتباعهم، والجهّال أسعد باتباعهم منهم، وهذا عين المحال؛ بل من خالف واحدًا منهم للحجة هو المتبع له دون من أخذ قوله بغير حجة، وهكذا القول في اتباع الأئمة - رضي الله عنهم - معاذ الله أن يكونوا هم المقلدين لهم الذين ينزلون آراءهم منزلة النصوص؛ بل يتركون لها النصوص فهؤلاء ليسوا من أتباعهم، وإنما أتباعهم من كان على طريقتهم واقتفى منهاجهم. ولقد أنكر بعض المقلدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي وهي وقف على الحنابلة والمجتهد ليس منهم، فقال: إنما أتناول ما أتناول منها على معرفتي بمذهب أحمد لا على تقليدي له. ومن المحال أن يكون هؤلاء المتأخرون على مذهب الأئمة دون أصحابهم الذين لم يكونوا يقلدونهم. فأتبع الناس لمالكٍ ابنُ وهب وطبقته ممن يحكّم الحجة، وينقاد للدليل أين كان، وكذلك أبو يوسف ومحمد أتبع لأبي حنيفة من المقلدين له مع كثرة مخالفتهما له وكذلك البخاري ومسلم وأبو داود والأثرم، وهذه الطبقة من أصحاب أحمد أتبع له من المقلدين المحض المنتسبين إليه، وعلى هذا فالوقف على اتباع الأئمة أهل الحجة والعلم أحق به من المقلدين في نفس الأمر. (الوجه الخامس والأربعون) قولهم: يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) . جوابه من وجوه: أحدها: أن هذا الحديث قد روي من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر، ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر ولا يثبت شيء منها. قال ابن عبد البر: ثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد أن أبا عبد الله بن مفرح حدثهم ثنا محمد بن أيوب الصموت، قال: قال لنا البزّار: وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الثاني: أن يقال لهؤلاء المقلدين فكيف استجزتم ترك تقليد النجوم التي يُهتدَى بها وقلدتم مَن هو دونهم بمراتب كثيرة. فكان تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد آثر عندكم من تقليد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. فما دل عليه الحديث خالفتموه صريحًا واستدللتم به على تقليد من لم يتعرض له بوجه. الثالث: أن هذا يوجب عليكم تقليد من ورث الجد مع الإخوة منهم، ومن أسقط الإخوة به معًا. وتقليد من قال: الحرام يمين، ومن قال: هو طلاق. وتقليد من حرم الجمع بين الأختين بملك اليمين، ومن أباحه. وتقليد من جوز للصائم أكل البرد، ومن منع منه. وتقليد من قال: تعتد المتوفى عنها بأقصى الأجلين، ومن قال بوضع الحمل. وتقليد من قال: يحرم على المحرم استدامة الطيب، وتقليد من أباحه. وتقليد من جوز بيع الدرهم بالدرهمين، وتقليد من حرمه. وتقليد من أوجب الغسل من الإكسال، وتقليد من أسقطه. وتقليد من ورث ذوي الأرحام، ومن أسقطهم. وتقليد من رأى التحريم برضاع الكبير، ومن لم يره. وتقليد من منع تيمم الجنب، ومن أوجبه. وتقليد من رأى الطلاق الثلاث واحدًا، ومن رآه ثلاثًا. وتقليد من أوجب فسخ الحج إلى العمرة، ومن منع منه. وتقليد من أباح لحوم الحمر الأهلية، ومن منع منها. وتقليد من رأى النقض بمس الذكر، ومن لم يره. وتقليد من رأى بيع الأمة طلاقها، ومن لم يره. وتقليد من وقف المولى عند الأجل، ومن لم يقفه، وأضعاف أضعاف ذلك مما اختلف فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن سوغتم هذا فلا تحتجوا لقول على قول، ومذهب على مذهب؛ بل اجعلوا الرجل مخير في الأخذ بأي قول شاء من أقوالهم. ولا تنكروا على من خالف مذهبكم واتبع قول أحدهم. وإن لم تسوغوه فأنتم أول مبطل لهذا الحديث ومخالف له وقائل بضد مقتضاه وهذا مما لا انفكاك لكم منه. الرابع: أن الاقتداء بهم هو اتباع القرآن والسنة والقول من كل مَن دعا إليهما منهم فالاقتداء بهم يحرم عليكم التقليد ويوجب الاستدلال وتحكيم الدليل كما كان عليه القوم رضي الله عنهم. وحينئذٍ فالحديث من أقوى الحجج عليكم وبالله التوفيق. (الوجه السادس والأربعون) قولكم: قال عبد الله بن مسعود: من كان مستنًّا منكم فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد. فهذا من أكبر الحجج عليكم من وجوه: فإنه نهى عن الاستنان بالأحياء وأنتم تقلدون الأحياء والأموات. الثاني أنه عيَّن المستن بهم فإنهم خير الخلق، وأبر الأمة وأعلمهم رضي الله عنهم. وأنتم معاشر المقلدين لا ترون تقليدهم، ولا الاستنان بهم وإنما ترون تقليد فلان وفلان ممن هو دونهم بكثير. الثالث: أن الاستنان بهم هو الاقتداء بهم، وهو بأن يأتي المقتدي بمثل ما أتوْا به ويفعل كما فعلوا. وهذا يبطل قبول قول أحد بغير حجة كما كان الصحابة (رضي الله عنهم) عليه. الرابع: أن ابن مسعود قد صح عنه النهي عن التقليد وأن لا يكون الرجل إمعة لا بصيرة له. فعلم أن الاستنان عنده غير التقليد. (الوجه السابع والأربعون) قولكم: قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وقال: (اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي) . فهذا من أكبر حججنا عليكم في بطلان ما أنتم عليه من التقليد؛ فإنه خلاف سنتهم. ومن المعلوم بالضرورة أن أحدًا منهم لم يكن يدع السنة إذا ظهرت لقول غيره كائنًا من كان، ولم يكن له معها قول ألبتة وطريق فرقة التقليد خلاف ذلك. يوضحه: (الوجه الثامن والأربعون) أنه صلى الله عليه وآله وسلم قرن سنتهم بسنته في وجوب الاتباع. والأخذ بسنتهم ليس تقليدًا لهم بل اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أن الأخذ بالأذان لم يكن تقليدًا لمن رآه في المنام. والأخذ بقضاء ما فات المسبوق من صلاته بعد سلام الإمام لم يكن تقليدًا لمعاذ؛ بل اتباعًا لمن أمرنا بالأخذ بذلك فأين التقليد الذي أنتم عليه من هذا؟ يوضحه: (الوجه التاسع والأربعون) أنكم أول مخالف لهذين الحديثين؛ فإنكم لا ترون الأخذ بسنتهم، ولا بالاقتداء بهم واجبًا وليس قولهم عندكم حجة، وقد صرح بعض علمائكم بأنه لا يجوز تقليدهم ويجب تقليد الشافعي، فمن العجائب احتجاجكم بشيء أنتم أشد الناس خلافًا له وبالله التوفيق يوضحه: (الوجه الخمسون) أن الحديث بجملته حجة عليكم من كل وجه: فإنه أمر عند كثرة الاختلاف بسنته وسنة خلفائه وأمرتم أنتم برأي فلان ومذهب فلان. الثاني: أنه حذر من محدثات الأمور وأخبر أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ومن المعلوم بالاضطرار أن ما أنتم عليه من التقليد الذي ترك له كتاب الله وسنة رسوله، ويعرض القرآن والسنة عليه، ويجعل معيارًا عليهما من أعظم المحدثات له، والبدع التي برأ الله سبحانه القرون التي فضّلها وخيّرها على غيرها منه. وبالجملة فما سنَّه الخلفاء الراشدون أو أحدهم للأمة فهو حجة لا يجوز العدول عنها فأين هذا من قول فرقة التقليد: ليست سنتهم حجة ولا يجوز تقليدهم فيها، يوضحه: (الوجه الحادي والخمسون) أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في نفس هذا الحديث: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا) . وهذا ذم للمختلفين وتحذير من سلوك سبيلهم وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد، وأهله الذين فرقوا الدين وصيروا أهله شيعًا كل فرقة تنصر متبوعها، وتدعو إليها، وتذم من خالفها، ولا يرون العمل بقولهم حتى كأنهم ملة أخرى سواهم يدأبون ويكدحون في الرد عليهم ويقولون: كتبهم وكتبنا وأئمتهم وأئمتنا، ومذهبهم ومذهبنا، هذا والنبي واحد، والقرآن واحد، والدين واحد، والرب واحد. فالواجب على الجميع أن ينقادوا إلى كلمة سواء بينهم كلهم وأن لا يطيعوا إلا الرسول ولا يجعلوا معه من يكون أقواله كنصوصه ولا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا! فلو اتفقت كلمتهم على ذلك وانقاد كل واحد منهم لمن دعاه إلى الله ورسوله وتحاكموا كلهم إلى السنة وآثار الصحابة لقل الاختلاف وإن لم يعدم من الأرض. ولهذا تجد أقل الناس اختلافًا أهل السنة والحديث. فليس على وجه الأرض طائفة أكثر اتفاقًا، وأقل اختلافًا منهم لما بنوا على هذا الأصل، وكلما كانت الفرقة عن الحديث أبعد كان اختلافهم في أنفسهم أشد وأكثر، فإن من رد الحق مرج عليه أمره، واختلط عليه، والتبس عليه وجه الصواب، فلم يدرِ أين يذهب، كما قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} (ق: ٥) . ((يتبع بمقال تالٍ))