مضار تربية النساء الاستقلالية في الإفرنج (تمهيد) للأمم طريقان تسير عليهما في حياتها الاجتماعية طريق الهداية الدينية مع النظر والتجربة وطريق النظر والتجربة بدون استعانة بهداية الدين. ولا يعرف التاريخ أمة من الأمم ارتقت في الحياة الاجتماعية دون دين ولكن كثيرًا من قادة الإفرنج في السياسة والعلم قد مرقوا من النصرانية واستدبروا تعاليمها الاعتقادية والأدبية والعلمية في طريق مدنيتهم مقررين أنه لا يعتمد في شؤون الحياة إلا على النظر والتجربة معًا دون ما عداهما فاشتهر في العالم أن الإفرنج مرقوا من الدين في الواقع وإنما ينصرونه ويتعصبون له لأجل السياسة الخارجية وأنهم لم يرتقوا إلى فئة حضارتهم هذه إلا بهذا المروق والاستدبار. وهذه شبهة أو حجة على بطلان النصرانية إذا كان الدين كما يقول المسلمون سائقا إلى إصلاح الدارين وسعادة الحياتين، ولكننا رأينا من كُتاب النصاري من يقول: إن الدين خاص بطلب الدار الآخرة، ومراعاة تعاليمه في أمور الدنيا مفسد لها. وقد خدع بمثل هذه الأقوال والأحوال بعض المسلمين الجغرافيين الذين لا يعرفون من الإسلام إلا بعض ما يرون ممن عاشوا معهم فحسبوا أن المسلمين لا يرتقون إلا بمثل ما ارتقى به الإفرنج من استدبار الدين والاعتماد على النظر والتجربة اللذين هما طريق تمحيص العلم. يقيسون دينًا على دين يخالفه في حقيقة معناه وفي تعاليمه الاعتقادية والأدبية والعملية وفي آثاره الاجتماعية والمدنية ولا حجة لهم إلا أن الإفرنج باستدبار الدين ناجحون والمسلمين في الواقع ونفس الأمر خاسرون، ولو أبصروا لرأوْا أن هذا الخسار، إنما تولد من المروق والاستدبار. وأن قياسهم إنما هو قياس الضد على الضد، ولله الأمر من قبل ومن بعد. لقد سبَح القلم إلى ما ليس من موضوعنا في هذا التمهيد والذي نريد أن نقوله هو أن الإنسان على كونه أرقى الأحياء في هذه الأرض لم يستغن ولن يستغني بنظره وتجاربه عن هداية الدين وإرشاده، ولدين وثني خير له من ترك التدين بالمرة. وأن كل أصول الارتقاء التي بُني عليها عمل مُستَدْبري النصرانية في أوروبا مستفادة من الدين إما من بقايا دينهم تقليدًا وإما مما وصل إليهم من الإسلام اجتهادًا. وأنه يجب على المسلمين الذين وجهوا وجوههم للحضارة الإفرنجية بالتربية والتعليم أن يترووا في نظام هذه التربية وقوانينها فلا يجعلوها تقليدية خالصة. وأنه يجب أن يكون أول هذا التروّي تقوية الرابطة الملية التي كانوا بها أمة لئلا تكون التربية مفرقة لاجتماعهم ممزقة لشملهم فيكونوا كالباحث عن حتفه بظلفه، وأنه يجب إقامة ما قرره الدين على سبيل القطع والتروّي والاجتهاد فيما وكله إلى الناس والاعتماد فيه على النظر والتجربة والاعتبار بسِيَر الأمم ونتائجه. وأن أكبر العبر ما وقع فيه الإفرنج من الأمراض الاجتماعية بشذوذهم عن هداية الدين في كثير من المسائل وإن انتفعوا نفعًا عظيمًا في أمور أخرى إذا خالفت النصرانية فإنها توافق الإسلام بل هي لا بد ترجع إلى أصل من أصول هدايته كما تقدمت الإشارة إليه آنفًا. مسألة النساء: وبعد هذا التمهيد نقول: إن لدينا الآن مسألة كبيرة وهي مسألة النساء، كيف يُعلَّمن، وكيف يُربَّيْن ليكن عونًا للرجال على الارتقاء ومجاراة الأمم الحية؟ . إن طلاب تغيير سير الأمة بالتربية والتعليم قد وضعوا نصب أعينهم أوربا وارتقاءها فمنهم من يطلب محاكاتها وهم الحكام وبعض العقلاء، ومنهم من يستحب تقليدهم تظرفًا وتزلفًا وهم الذين أخذوا قشورًا من العلوم المصرية في مدارس أوربا أو مدارس بلادهم التي أنشئت لهذه العلوم وفتنوا بزخرف المدينة الأوربية وبهرجها. كانت فرنسا هي القبلة الأولى للأستانة ومصر في طلب هذا التحول؛ لأنها أم هذه المدنية الجديدة في الغرب والشرق. ثم إن مصر وجهت وجهها في هذه السنين إلى إنكلترا بحكم طبيعة الاحتلال الإنكليزي ومثلها الهند في هذا التوجه. ويرى هؤلاء أن الإنكليز أَقْوم تربية من الفرنسيس، ولذلك نورد لهم ما استفدناه بالمذاكرة والمناظرة مع بعض أهل العلم والخبرة التامة من الإنكليز في مسألة النساء ليعلموا أن التروي الذي قلنا بوجوبه في التمهيد لا بد منه. ثم ننتقل إلى الحكم بضرورة اتباع الهداية الإسلامية في مسألة النساء والتربية القويمة التي تنطبق عليها ليتبين لهم أن طريقة النظر والتجربة في هذا القرن لم تُغن عن الهداية التي جاءت على لسان نبي أمي منذ ثلاثة عشر قرنًا ونيفًا. الغرض من التربية والتعليم سعادة الأمة بهناء المعيشة وشرف المنزلة وإنما يطلب الهناء والشرف للحي النامي، فإذا كانت طريقة التربية والتعليم تؤدي إلى قلة النسل وعدم نموه فتلك هي الطريقة السوءى، وسلوكها هو الجناية الكبرى على البشر. وتربية الإناث تربية استقلالية كما يتربى الذكور سواء مخل بوظيفة النساء الفطرية ومؤدّ إلى تلك النتيجة المخيفة قلة النسل المؤذنة بهلاك البشر. أنتجت هذه التربية في إنكلترا النتائج الآتية: (١) اعتماد النساء على أنفسهن في المعيشة والكسب. (٢) توجههن إلى الأعمال الخارجية، أي التي تكون خارج البيوت وتنافي تدبير المنزل. (٣) رغبة الكثير منهن عن الزواج بالمرة، وقال بعض أطباء الإنكليز: إنه عرف بالاختبار أن نحو أربعين في المائة من النساء كذلك. وقال بعض أطباء فرنسا: إن إناث البشر كإناث سائر الحيوانات، الأصل فيهن الرغبة عن مباشرة الرجال إلا في وقت مخصوص وهو وقت الاستعداد لقبول التلقيح، وإن ما عدا هذا فهو عارض على البشر وبين أسبابه وذكر أن هذا العارض يكون في بعض الأفراد مرضًا من نوع (الهستيريا) وليس هذا محل شرح أقواله. (٤) أن أكثر النساء المتعلمات المتربيات يكرهن الأمومة إما لما في الحبَل والولادة من المشقة والتعب وإما لإضطرارهن إلى ملازمة البيوت في معظم مدة الحبَل والرضاعة إذا هن أرضعن أولادهن، والبيوت صارت في نظرهن كالسجون لتعودهن على كثرة الخروج. وإما لاحتياجهن في ذلك إلى نفقات كثيرة تعوزهن أو يفضلن التوسع بها في الترف. ومنهن من يذهب في ذم الأمومة مذهب الخيال الذي يلتبس عليهن بنظريات الفلسفة أو تقاليد الدين المسيحي في جعل الإنسان ملكوتيًا فيقلن: إن الحبل والولادة من صفات الحيوانات فينبغي الترفع عنه. وهذه جهالة بمعنى الإنسان وما هو إلا حيوان أَرْقى من سائر الأنواع في جنسه. وليس في استطاعة الخيال أن يخرجه عن كونه حيوانًا وإن استند إلى الفلسفة أو الدين. (٥) أنه قد نشأ في النساء تناول الأدوية لمنع العلوق وللإسقاط بعد تحققه. (٦) أن البنت قلما تتزوج في أول طور الاستعداد للأمومة وهذا التأخير من أسباب عسر الولادة؛ لأن الأعضاء في طور الحداثة تكون مرنة تتمدد بسهولة فإذا كبر السن قلَّت هذه المرونة المسهلة للولادة. ويزيد العسر عسرًا ضعف الأجسام بالإفراط في الترف والنعيم فصار من الضروري أن لا تلد المرأة إلا وهي مخدرة بالكلوفورم وبمساعدة الأطباء. (٧) أن الولادة قلما تنتهي بسلامة من مرض خطر، فهذه سبع نتائج بعضها سبب لآخر ونضيف إليها نتيجتين عامتين في النصارى وهما: (٨) أن المرأة ملزمة في عرف النصارى بأن تدفع لمن ترغب في التزوج به مهرًا، وكثيرًا ما يعسر عليها ذلك فتضطر إلى التبتل أو البِغاء. (٩) أن الرهبانية مشروعة للنساء كالرجال ومعدودة في الفضائل الدينية عند أكثر النصارى. فهذه تسع أسباب من أسباب قلة النسل ومقدمات انقراض الأمم. وما عدا الأخيرين منها فهو من آثار التربية الأوربية. ولما كانت فرنسا هي السابقة في هذه التربية النسائية ظهر فيها قلة النسل وأطباؤها وساستها في حيرة من أمره. وستتبعها إنكلترا في ذلك بعد سنين، وإن خفي ذلك على المعجبين بتربيتها من الشرقيين. وإذا التفتنا إلى جانب الرجال نراهم في إنكلترا يأخذون إخذ الذين سبقوهم بهذه المدنية الفاسقة في فرنسا، فأكثر الشبان يرغبون عن الزواج بالمسافحة والمخادنة، ولا يكاد أحدهم يتزوج حتى يناهز الأربعين سنة أو يجاوزها، ثم هو لا يود أن يكون له ولد كثير وإنما يبتغي وليًّا يرث ماله ويحفظ اسم بيته إن كان من أصحاب البيوتات ولا يكره أن يكون له ثانٍ يخلف الأول إذا هو درج فإن عُزِّر بثالث احتمله وكره كرهًا شديدًا أن يزيد ولده عن عدد (الأقانيم الثلاثة) ويتفق مع زوجه على الإجهاض إذا كانت ودودًا ولودًا. ولا تحسبن هذا الصياح والعويل من ساسة فرنسا وبعض كُتَّابها في الشكوى من قلة النسل عامة في الأمة بل الأكثرون يرون ذلك شرطًا في سعادة الأمم كما يرونه شرطًا في سعادة البيوت فإن الأمة التي يتضاعف سكانها في مدة قريبة لا تلبث أن تضيق بها بلادها وتضطر إلى المهاجرة إلى بلاد دونها لتعمرها وتغالب أهلها عليها وفي ذلك من الشقاء استبدال الدار الخربة بالدار العامرة. ويقولون: إن الدولة لا تشكو من قلة النسل حبًا في الأُمة ولكن طمعًا في مباراة الدول المستعمرة، فالسبب في ذلك طمع المُلْك الذي لا يكتفون ببذل رفاهة الأمة في سبيله وإنما يبذلون أيضا أموالها ودماءها. لهذا يعسر على مثل فرنسا أن تعالج هذا الداء الاجتماعي القاتل مادامت على هذه الطريقة في التربية والتعليم وفساد العقيدة وحرية الفسق والفجور. بقي علينا أن نلتفت لفتة ثالثة إلى البيوت لننظر كيف يعيش الزوجان اللذان نظرناهما منفردين أو وصفناهما من حالهما منفصلين. يتوهم المفتونون بمدنية أوربا أن السعادة المنزلية ونعيم المعيشة الزوجية، يوجدان في الغرب حيث توجد العلوم العالية والتربية المشتركة بين الصنفين. ويتوهم أكثر الذين قرأوا ذلك الوصف البليغ المؤثر للحياة الزوجية السعيدة في كتاب (تحرير المرأة) أنه وصف منتزع من البيوت الأوربية، فمنهم من يتمنى مثله بتربية مثل تلك التربية وتعليم مثل ذلك التعليم، ولا مانع لنا منه كما يقول الكتاب. ومنهم من يرى أن المسلمين محجوبون عن تلك السعادة بحجاب النساء وأنه لا سبيل إليها فما لنا إلا أن نسأل الله أن يعوضنا عنها في الآخرة ما هو خير منها. الحق الذي لا مِرْية فيه أن هناء المعيشة الزوجية لا يتحقق إلا بتحقيق أمور: (أحدها) إذعان المرأة بأن الرجل هو سيد المنزل ورئيسه وأنها هي تابعة ومرءوسه له. ولا تذعن في نفسها هذا الإذعان إلا إذا تربت عليه واعتقدته دينًا. (ثانيها) ثقة الزوجين بالاختصاص بأن يعتقد الرجل أنه لا يشاركه أحد في زوجه وتعتقد المرأة أن زوجها لا يختلف إلى غيرها من خدن أو بغيّ. وهذان الأمران متحققان في الشرق بالدين أكثر من تحققهما في الغرب. ولا أستثني من الشرق مصر التي هي أفسق بلاد الشرق وأكثرها فسادًا في البيوت (العائلات) . (ثالثها) المشاكلة في الطباع والمقاربة في السجايا والأفكار. وهذا الامر ظاهر في الغربيين وهو في الشرقيين كذلك في الغالب. ومن غير الغالب بعض المتعلمين من المصريين فإنهم لا يجدون في النساء من يقاربهم في أفكارهم. وهم الذين يشكون من حال النساء ويطلبون تغييرها بتربية وتعليم جديدين وإن لرغبتهم تأثيرًا كبيرًا في الأمة؛ لأنها موافقة لرغبة الحكومة وسعيها. والعمل على هذا وإن أنكره بالقول الأكثرون. نعم يجب أن يكون النساء على مقربة من الرجال في الأفكار والأخلاق والمقاصد والرغبات، فالبلاد التي انتشر فيها تعليم البنين ينبغي أن ينتشر فيها تعليم البنات حتى لا تتسع مسافة الخُلف بين الصنفين ولما في التربية والتعليم من الفوائد الكثيرة، ولكن يجب علينا أن لا نتبع خطوات الأوربيين قدمًا بقدم وأن لا نحتذي شاكلتهم حذو القذة للقذة بل علينا أن نتوقى من أول السير كل ما رأيناه سيئ العاقبة فيهم وذلك يرجع إلى أصول أهمها تربية الأنثى تربية استقلالية تامة وتعليمها كل ما يتعلمه الذكور، فهذان الأمران ينافيان إذعانها لسيادة الرجل باطنًا وظاهرًا ويبغضان إليها ملازمة البيوت وهي وظيفتها الطبيعية الشرعية التي ليس لها تركها إلا لسبب مُقْتَضٍ كما أنهما يعرّضانها لتدنيس عِرْضها وإهانة شرفها الذي لا تسمو عند الرجل ولا تملك قلبه إلا به. وحسبي أن أقول في التربية النافعة للنساء: يجب أن تكون إسلامية وأن أقول في تعليمهن الأول: إنه كتعليم الرجال أي ينبغي أن يعرفن مبادئ العلوم المدرسية كلها، وأما ما وراء هذا فيجب أن لا يتوسعن إلا فيما يلزم للبيوت من تدبير ونظام وتربية أطفال. ومن ذلك صنائع اليد والخياطة. فعُلِمَ مما تقدم أنه يجب علينا التروّي في تربية البنات وتعليمهن وأن لا نقلد فيهما الغربيين تقليدًا أعمى لا سيما فيما يَحْظره علينا ديننا فقد تبين بسير العلم والتجربة في أوربا عدة قرون أن كل ما خالفوا فيه الإسلام كان ضارًّا فقد رجعوا إلى الطلاق الذي كانوا يعدّونه من أضرّ الأمور في الاجتماع البشري فصاروا يعدونه مِثْلنا من ضروراته وقد بدأوا يشعرون بأن تعدد الزوجات من ضرورات الاجتماع أيضا ووجد من نسائهم داعيات إليه لا سيما في بلاد الإنكليز حيث يزيد عدد النساء على الرجال ضِعْفين فيكثر الزنا ويكثر عدد النساء اللواتي لا عائل لهن كما بيّناه في مقالة مستقلّة بالنقول والشواهد عن جرائد إنكلترا (راجع ٤٨١ م٤) ولنا أن نعتبر أن تأييد سير العمران وحوادث الزمان لأحكام الاجتماع في الإسلام من جملة الدلائل والبراهين على صحة أصله وكونه وحيًا من الله تعالى لا وضعًا من حكماء البشر كما يتوهم الملحدون. وقد طال بنا الكلام، والمسألة تحتاج زيادة في البسط نُرْجئه إلى فرصة أخرى.