للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


القوة في المال
رسالة حكيمة وردت إلينا من أحد كتاب دمشق الشام الأفاضل، فأثبتناها لما
فيها من التنبيه والفائدة، شاكرين فضل مُرْسِلها وغيرته وهي:
نِعْمَ المُعِينُ على المروءة للفتى ... مال يصون عن التبذل نفسه
لا شيء أنفع للفتى من ماله ... يقضي حوائجه ويجلب أنسه
وإذا رمته يد الزمان بسهمه ... غدت الدراهم دون ذلك ترسه
المال ولا أزيد القراء به علماً من أعظم أسباب السعادة والرفاه، وبواعث
السؤدد والمنفعة والجادة، بل هو المحور الذي تدور عليه الأعمال، وتناط به
الآمال، وتحط عنده الرحال، وتوجه إليه همم الرجال، فلا يستغنى عنه في حال من
الأحوال.
لابد للمرء من مال يعيش به ... وداخل القبر محتاج إلى الكفن
بالمال تقضى الحاجات، تنال الرغبات، وترد اللهفات، وتضاعف
الحسنات، وتستجلب الدعوات، وتعمل الخيرات، وترفع الدرجات، فهو زينة
الحياة، وغاية الغايات.
شيئان لا تحسن الدنيا بغيرهما ... المال تصلح منه الحال والولد
زين الحياة هما لو كان غيرهما ... كان الكتاب به من ربنا يرد
والفقر أعاذنا الله وإياكم منه، هو البلاء الأكبر، والموت الأحمر
إذا قل مال المرء قل حياؤه ... وضاقت عليه أرضه وسماؤه
وأصبح لا يَدْرِي وإن كان حازمًا ... أَقُدَّامُه خير له أم وراؤه
كم صير العزيز ذليلاً، والشريف وضيعاً، وقد ورد فيه: (كاد الفقر أن يكون
كفراً) وما ضرب العباد بسوط أوجع من الفقر.
غالبت كل شديدة فغلبتها ... والفقر غالبني فأصبح غالبي
إن أبده أفضح وإن لم أبده ... أقتل فقبح وجهه من صاحب
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
وفي الحديث الشريف: (لا خير في مَن لا يحب المال ليصل به رحمه،
ويؤدي به أمانته، ويستغني عن خلق ربه) ، ومن كلام الإمام الثوري: المال في
هذا الزمان عز للمؤمن. ومن كلامه أيضًا المال سلاح المؤمن في هذا الزمان.
هذا قليل من كثير مما قيل في فضل المال وفوائده ومنافعه، بالنظر للأفراد،
وأما بالنظر للأمة ففوائده أعظم وأجل، وفقده أدهى وأمر، قال حكيم: لا دولة إلا
بالرجال، ولا رجال إلا بالمال، ولا مال إلا بالعمارة. فالمال هو ميزان قوة الأمة،
وداعية مجدها واستقلالها، خصوصاً في هذا الزمان الذي أضحى مدار الأعمال فيه
على المال؛ إذ بالمال تسد الثغور، وتشاد القلاع والحصون، بالمال تجمع الجموع،
وتحشد الجيوش، بالمال تصان الحدود من هجمات الأعداء، وتسير الأساطيل في
عرض البحار، بالمال تبتاع العدد من أسلحة ومدافع وذخائر، فالقوة كل القوة في
المال، كما أن كل الصيد في جوف الفرا، ولا حياة للأمة بلا مال، ولا وجود ولا
استقلال، ومعلوم أن ثروة كل دولة من ثروة أمتها، وثروة الأمة من ثروة الأفراد،
فإذا كان الأفراد أغنياء كانت الأمة غنية، وإذا كانت الأمة غنية كانت الدولة قادرة
على حفظ دمارها، وحماية بيضتها وصد هجمات الأعداء عنها، ومنع مطامع
الطامعين فيها، إذ لا يخفى أن الجسم المادي كبيرًا كان أو صغيرًا - من الكرة التي
يلعب بها الأولاد الصغار إلى أكبر الثوابت - هو مؤلف من جواهر فردة، وقوته
عبارة عن مجموع قوة هذه الجواهر، فكذلك الدول العظيمة مؤلفة من مجموع أفراد
تبعتها، وقوتها عبارة عن قوة تلك الأفراد، فإذا أعنت صانعاً على إحياء صناعته، أو
تاجراً على توسيع تجارته، أو زارعاً على إتقان زراعته، فقد أحسنت إلى ذلك
التاجر والصانع والزارع (أولاً) ، وزدت في ثروة بلادك (ثانيًا) ، وفي أمتك
ودولتك (ثالثاً) ، والعكس فالصانع والتاجر والزارع يجب أن يكون لهم المقام الأول
في الهيئة الاجتماعية؛ لأن عليهم مدار الثروة والقوة.
فإذا علمت هذا ظهر لك خطأ بعض الجهلاء، المُتَّسِمين بسمة العلماء، الذين
يُزهِّدون الناس في الأشغال والأعمال، ويثبطون هِمَمهم عن العمل بحجة أنهم
يُزهِّدونهم في الدنيا الفانية، ويقربونهم من الآخرة الباقية، وإن الساعة على وشك
القيام، فلا حاجة إلى هذا الاهتمام، يحسبون بذلك أنهم يُحسنون صنعاً، ألا ساء ما
يعملون، يعتاضون بهذا عن تنشيطهم الناس بصفة أنهم قادة العقول، إلى النهوض
من سنة الخمول، إلى الكد والجد ومناظرة غيرهم في جهاد الأعمال والأشغال، فإن
الدنيا مزرعة الآخرة، والشرع الإسلامي لم يحظر على أحد الكسب والارتزاق
بالوجوه المشروعة، وقد جاء في الحديث: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل
لآخرتك كأنك تموت غدًا) ، وما ورد من التزهيد في الدنيا يراد به الزهد بما في
أيدي الناس.
وأما احتجاجهم على وشك قيام الساعة، فالساعة علمها عند الله سبحانه وتعالى،
كما جاء في الكتاب، وما يعنينا إن كانت قريبة أم بعيدة، فعلينا أن نعمل بتلك
القاعدة الذهبية التي وضعها أحد الفضلاء، وتربى أولادنا عليها وهي: (إذا أخبرنا
مَلَك من السماء بأننا سنموت غدًا فيجب أن نتم واجباتنا اليوم ونموت غدًا) ، ومعلوم
أن موارد الكسب ثلاثة: الزراعة والتجارة والصناعة (سنفرد لكل واحد منها مقالة
في المستقبل) ، وقوامها كلها بالتوفير والاقتصاد، وليس المراد بالتوفير الشح
والبخل المذمومين شرعًا وعقلاً، بل إتقان أساليب الكسب والارتزاق وتوفير الثروة
العمومية وإصلاح التجارة والزراعة والصناعة على الطرق التي يجري عليها
الغربيون، ورائد ذلك كله العالم الصحيح، كما سنبينه في فرصة أخرى.
والقصد من هذا التمهيد كله ذكر بعض ما شاهدته في الديار المصرية مما
يُذْهِب ثروة أهلها وملاشاتهم، إن ظلوا على سباتهم وغفلتهم، وذلك أني زرت
الديار المصرية منذ عشرين سنة وزرتها في العام الماضي، فوجدت فرقاً كليًّا في
الزيارتين، وجدت في الزيارة الأولى مصر للمصريين، وفي الثانية مصر للدخلاء
والغرباء، وجدتهم قابضين على الوظائف المهمة، والأشغال العظيمة، وجدت
المالية بيدهم، وكذا التجارة، والبنوكة، والأشغال العمومية، وجدت الوطنيين آلة
صماء بأيديهم، وجدت أكثر أبناء الأعيان الذين هم رجال المستقبل منغمسين في
المنكرات، عاكفين على اللذات، ينفقون المال جذافاً في سبيل البذخ والشهوات،
وكثيرين منهم باعوا ما تركه لهم أسلافهم من الأطيان والعقار وأضاعوه في المقامرة
وأخواتها من الفواحش، وجدت الوطنيين مثقلين بالديون للأجانب، وجدت أكثر
سراتهم ووجهائهم عاكفين على اللهو والبطالة، وأحوالهم في تأخر وتقهقر،
والأجنبي يبتز أموالهم ويتملك أطيانهم، وإذا سافر أحدهم إلى البلاد الأوربية، كما
هي عادة بعضهم في زمن الصيف وإبان القيظ، فلا يعود منها بتجارة أو صناعة
تعود عليه وعلى بلاده بالنفع والفائدة، بل بأحمال من الأزياء والعادات الإفرنجية،
التي تذهب بجانب كبير من ثروته إذا لم تذهب بمجموعها. وقد شاهدت واحداً منهم
فتح مخزناً كبيراً لتجارة واسعة قرب الأزبكية، فتنازل الخديوي أيده الله يوم فَتْح
المخزن لتشريف مخزنه بذاته الكريمة، وهنأه بذلك تنشيطًا لغيره باحتذاء مثاله.
ثم جُلت في الأرياف حتى انتهيت إلى الحدود، فرأيت مثل ما رأيت في
البنادر الكبيرة وزيادة: رأيت الدخلاء قد نصبوا فيها للفلاحين المساكين فخاخ
المسكر والميسر والفواحش والربا الفاحش، يوقعونهم فيها ويستولون على أطيانهم.
رأيت في الأقصر دارًا كبيرة حمراء على هيئة البرابي المصرية القديمة لرجل
أجنبي، قدم البلاد منذ بضع سنين، فسمع أن الفلاحين يستدينون الجنيه الواحد
بخمسة غروش في الشهر، فاستوطن ذلك المحل، وأخذ يقرض الفلاحين الدنانير
بذلك الربا الفاحش، فأثرى إثراءً مفرطاً، وبنى تلك الدار على الهيئة التي ذكرناها،
وقلما مررت بكفر إلا ورأيت فيه المواخير والحانات ومحلات المقامرة والفحش،
والعمد والفلاحين عاكفين عليها أي انعكاف، وكنت إذا مررت بعزبة عامرة وفيها
الآلات المتقنة لري الأرض أسأل عنها فيقال لي: إنها لفلان الأجنبي ابتاعها حديثًا
من فلان الوطني، وإذا مررت بعزبة عامرة تسقَى بالشادوف أو الساقية أسأل عنها
فيقال لي: إنها لفلان الوطني، وهو على وشك أن يبيعها؛ لأنه مثقل بالديون بالبنك،
أو لفلان الأجنبي، وفي الجملة إنني رأيت تنازع البقاء في هذا القطر بالغاً أشده
بين الوطنيين والدخلاء، ولا بد أن يؤدي إلى نتيجته المعلومة (بقاء الأنسب) أي
ملاشاة الوطنيين (لا سمح الله) إذا ظلوا على حالتهم الحاضرة، وقيام الدخلاء
مقامهم، فيصبحون لديهم أجراء يستخدمونهم كما يستخدمون البهائم، فبمثل هذا
يجب الوعظ والإنذار، ولمثل هذا يجب توجه الأفكار وتنبه الهمم، ولما كانت
جريدتكم من الغيرة والحمية بالمكان الذي نعلمه ويعلمه الجميع كتبت إليها بهذه
العجالة مع علمي أني بذلك كمهدي السمك إلى البحر، والتمر إلى هجر، وبالله
التوفيق.