قد بينا في المقالة الثانية رأي أحمد صفوت أفندي [١] في الكتاب والسنة والإجماع والقياس من أصول الشريعة , وتكلمنا في المقالة الثالثة على أصلي الإجماع والقياس، وأرجأنا الكلام على الأصلين الأولين بالتفصيل إلى هذه المقالة فنقول: أحكام السنة ملخص ما نقلناه من خطبة الرجل في أحكام السنة (ص٤٠٧ م٢٠) أنها قسمان: خاص: وهو ما كان من قبيل أحكام المحاكم في القضايا الفردية , وعام: وهو ما كان من قبيل القواعد والقوانين لزمنه صلى الله عليه وسلم، وزعم أن كلاًّ من القسمين قد ثبت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بصفته حاكم الأمة وقاضيها , أي: لا بكونه رسول الله - تعالى - والمبلغ عنه، وأن لكل حاكم يجيء بعده حق الحكم والتشريع الذي كان له في الأحكام المدنية، وله أن يغير ويلغي من تلك الأحكام ما يرى مصلحة الناس في تغييره وإلغائه. ونقول: إن هذا الذي قرره مخالف لما جرى عليه المسلمون منذ ظهر الإسلام إلى هذا اليوم، فهو مشاقة للرسول واتباع لغير سبيل المؤمنين، وخروج عن إجماعهم الحقيقي، لا العرفي عند الأصوليين فقط، ولكنه يقرره بصفته مسلمًا كما قال، وقد علم مما بيناه في المقالة الثالثة مكانه من الإسلام. أما المسلمون فهم متفقون على أن الحكم لله وحده {إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (الأنعام: ٥٧) وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ عن الله تعالى، وأُمر أن يحكم بين الناس بما أراه الله فيما أنزل الله من الكتاب والميزان، والمراد بالميزان: العدل والقسط، والموازنة بين أحكام النصوص في القياس والرأي، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة: ٤٨) الآية، وقال: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: ١٠٥) وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} (الشورى: ١٧) وقال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: ٢٥) وقال تبارك اسمه: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: ٤٢) وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: ٥٨) وقال: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: ٨) أي: ولا يكسبنكم بغض قوم وعداوتهم لكم أو بغضكم لهم، جريمة ترك العدل فيهم، بل يجب أن تعدلوا فيمن تبغضون ومن يعاديكم، كما يجب أن تعدلوا فيمن يحبكم وفيمن توالون على سواء، فالعدل واجب لذاته لا يختلف باختلاف من يحكم بينهم ومن يعاملون. قلنا: إن المسلمين اتفقوا على أن الحكم لله وحده , أي: هو له لذاته؛ لأنه هو رب العباد الذي يعلم ما فيه الخير والمصلحة لهم، والذي يجب عليهم الخضوع والانقياد له، ولهم العز والشرف في ذلك، وليس لبشر أن يعلو على جماعة البشر، فيكون سيدًا مسيطرًا عليهم بقوته أو عصبيته رضوا أم سخطوا؛ لأن هذا ذل وعبودية لا تجب عليهم إلا لربهم وخالقهم، ولذلك جعل الله الرسل معلمين هادين، لا جبارين ولا مسيطرين. وقد اختلف العلماء في أحكام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: هل كانت كلها بوحي من الله، أم كان بعضها بالاجتهاد والقياس؟ وهل أذن الله له أن يحكم برأيه فيما لم يُوحَ إليه فيه شيء لا بالنص ولا بالاقتضاء أم لا؟ وقد جعل الله تعالى أمر المؤمنين شورى بينهم، حتى إنه أمر الرسول نفسه بمشاورتهم في الأمر، وإنما أوجب عليهم طاعة أولي الأمر منهم بالتبع لطاعة الله ورسوله، فلا يطاع أحد منهم في معصيته و (إنما الطاعة بالمعروف) كما ثبت في الحديث الصحيح [٢] ، بل قال تعالى في آية المبايعة للرسول: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: ١٢) وبهذا يعلم الفرق بين طاعة الرسول وطاعة غيره من أولي الأمر، وقد فصلنا ذلك في تفسير {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) [٣] فما قرره أحمد أفندي صفوت من مساواة الرسول صلى الله عليه وسلم بغيره من الملوك والسلاطين في التشريع - باطل مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين , وكذا للمعقول، فطاعة الرسول من أصول الإيمان، واستحلال مخالفته والقول بنسخ آحاد الحكام لأحكامه وشرعه، كفر صريح، بل يشترط في صحة الإيمان الإذعان لحكمه والرضا به ظاهرًا وباطنًا {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: ٦٥) [٤] . هذا وإننا نرى هؤلاء المتفرنجين يقتدون بأئمتهم الإفرنج في كل شيء ضار، ولا يقتدون بهم في احترام سلفهم من رجال القانون والمشترعين ورؤساء الحكام , وناهيك بالإنكليز والأمريكان منهم، فإنهم لا يزالون يحافظون على أقوال سلفهم، وحكامهم ما لم يضطروا إلى تركها اضطرارًا، ومن ذلك ما يطرق مسامعنا كثيرًا في هذه الأيام من تكرار مذهب (منرو) واستمساك أهل الولايات المتحدة بعروته حتى إن منهم من يقاوم به مشروع جمعية الأمم الذي هو أشرف مشروع يعلو به قدر أمتهم ورئيسهم إذا هو نجح في تنفيذه، وإلا كان الأمر بالعكس أو الضد. وتراهم مع هذا يقولون: إنه يجب الوقوف به عند حد مذهب (منرو) الذي من مقتضاه: عدم تدخل حكومتهم في شؤون العالم القديم في مقابلة عدم السماح بالتعرض لشؤون العالم الجديد تحقيقًا لقول (منرو) (أمريكا للأمريكيين) أفليس كل من يوصف بالإسلام أجدر بالاستمساك بأقوال نبيه من استمساك هؤلاء الناس بمن لا يساوي قلامة ظفره من زعمائهم؟ أما إنه كان ينبغي ذلك المنسوب إلى دينه أو قومه , وإن لم يكن مؤمنًا به! إلا أنهم جهلوا الدين وفوائده الروحية والدنيوية، فأرادوا التفلت منه مع البقاء على الاستفادة من الانتساب إليه، على ما تقدم بيانه في المقالة الأولى. وقد وقع في بعض ما نقلناه في المقالة الثانية من كلام أحمد صفوت أفندي: أن الخروج عن السنة لمصلحة لا ينافي طاعة الرسول التي فرضها الله تعالى على المؤمنين. وفيه أن دعوى الخروج للمصلحة يتوقف على معرفة السنة وجعلها هي الأصل المتبع بعد كتاب الله تعالى , وعدم الخروج عن شيء منها إلا بعد أن يثبت لأهل الحل والعقد من المؤمنين في بعض المسائل أنه عرض من أحوال العصر ما يجعل العمل بالسنة في تلك المسألة مُخلاًّ بالمصلحة العامة , ومفضيًا إلى مفسدة راجحة , أو حرج وعسر مما رفعه نص الكتاب العزيز بحيث يظهر لأهل الحل والعقد أن ترك السنة - والحالة هذه - منطبق على القواعد الشرعية المقررة في إباحة الضرورات للمحظورات وتقديرها بقدرها , وارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد من أحدهما، ولكننا نرى هؤلاء المتفرنجين لا يدرسون شيئًا من كتب السنة ألبتة، بل يقبلون ما يخالفها من المفاسد ويدْعون إليه , وينسخون به سننًا كثيرةً ونصوصًا في كتاب الله صريحةً , كقاعدة الحرية الشخصية التي كررنا ذكرها في المقالات السابقة من جهة إباحتها للزنا واستحسانه وإبطال أحكام شرعية كثيرة لأجله. على أنه قال بعد ذلك عند الكلام على الكتاب: إن ما زاد عليه من سنة أو إجماع، فحكمه الجواز: إن شاء قام به الفرد، وإن لم ير مصلحةً في ذلك فله العدول عنه. فجعل السنة وإجماع الأمة، كآراء أفراد الناس وأقوالهم، وإن كانوا من الجهال والأنذال. فإن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من حيث وجدها، فهل وجدت أمة من أمم الأرض تجعل أحكام أنبيائها وحكم حكمائها وإجماع علمائها وحكامها وزعمائها - كآراء تحوت الناس وغوغائهم يتبع كل فرد فيها رأيه وهواه، فإن رأى مصلحةً له في شيء منها كان له أن يأخذ به، وإن لم ير له فيه مصلحةً رده؟ أما إنه لو رزئ البشر بمثل هذا الرأي الأفين من أول نشأتهم لكانوا أدنى منزلة من جميع أنواع الحيوان، ولم يتكون منهم قبيلة ولا شعب ولا أمة؛ لأن الشعوب والأمم إنما تتكون بما يفعل ماضيها في مستقبلها، وسنة الارتقاء فيها أن يبني الخلف على أساس السلف , فيحفظوا من الماضي أمثل ما اهتدى إليه العلماء والفضلاء , ويزيدوا عليه ما يزيد مقومات الأمة ومشخصاتها قوةً وتمكينًا. القرآن أصل الأصول للشريعة جعل أحمد صفوت أفندي أحكام القرآن المجيد ثلاثة أقسام: المحرم , والواجب , والجائز. وقال: إن حكم الأول: أن لا يُتَعَرض له ولا يحكم بشيء يخالفه في مرماه، ومثَّل له بتحريم نكاح الأم والأخت والجمع بين خمسة أزواج، وحُكم الثاني: أن يبقى منه ما تتحقق به الحكمة المقصودة منه، ومثل له بإيفاء العدة والإشهاد على الزواج، وحكم الثالث: أن الإنسان مخير فيه، وأن لكل حكومة أن تحرم منه بالقوانين الوضعية ما تشاء، ومثَّل له بتعدد الزوجات. أما كلامه في حكم الأول - وهو ما حرمه الله في كتابه - فمجمل غامض؛ فإن قوله: (ولا يحكم بشيء يخالفه في مرماه) يجعله كالقسم الثاني؛ لأن مرمى الشيء هو الغرض الذي يقصد به , وهو عين حكمته، وإذا كان المراد مراعاة حكمته دون نصه لا يبقى معنى لقوله: لا يتعرض له، وقد حرم الكتاب الربا والزنا وجعل للزنا عقابًا بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور: ٢) الآية، فهل يجعل هذا العقاب على فعل الزنا نفسه , أم على مرمى تحريمه والغرض الذي حُرم لأجله؟ وما هو ذلك المرمى؟ هل لكل أحد من أفراد الناس أو من رؤساء الحكام أن يعين ذلك المرمى ويعلق الحكم به؟ فإذا فهم أحد الأفراد أن الغرض من تحريم الزنا ما يترتب عليه من ضرر اختلاط الأنساب, أو التعادي بين الناس , أو قلة النسل , أو حدوث بعض الأمراض - فهل له أن يستبيح منه ما يأمن هو ذلك الضرر فيه؟ وإذا اعترف بعض الناس للقاضي المسلم بالزنا فهل يوقف إقامة الحد عليه حتى يعلم أن زناه قد ترتب عليه مرمى التحريم؟ وما يقال في الزنا يقال في محرمات النكاح، كالأم والبنت والأخت، فقد يدّعي أفراد المكلفين أو القضاة أن لذلك غرضًا ومرمى هو الذي تمتنع مخالفته , وأن التحريم يزول بزواله، وعند ذلك يمكن استباحة جميع ما حرمه الله تعالى لمن شاء. وأما حكم الثاني - وهو ما أوجبه الله تعالى في كتابه - فقد بين المراد من بقاء ما تحقق به الحكمة المقصودة منه بالمثلين اللذين ذكرهما، وهو أن حكمة العدة براءة الرحم من الحمل , وحكمة الإشهاد على الزواج إعلانه، قال: (فلا حرج في أن نصل إلى الغرض المقصود من أفيد الطرق وأخصرها) وعَدَّ جعل عقد الزواج رسميًّا مغنيًا عن الإشهاد، ومرور أكثر مدة الحمل على الطلاق مغنيًا عن التقيد بالتربص ثلاثة قروء، وقد قلنا في المقالة الثانية: إنه يمكن الاستغناء عن العدة ألبتة بناءً على قاعدته فيما إذا علم بطريقة فنية براءة الرحم من الحمل , كرؤيته خاليًا من الحمل بمثل الأشعة المعروفة بأشعة (رونتجن) . ونقول: إن الإشهاد على عقد النكاح غير منصوص في الكتاب العزيز، وإنما أمر في سورة الطلاق بالإشهاد على الرجعة وبت الطلاق , ولا شك في أن أحمد صفوت أفندي لا يفرق بينهما في حكمه بالاستغناء عن الإشهاد بجعل ما ذكر رسميًّا مهما تكن حكمة الأمر به، وجمهور أهل السنة على أن هذا الإشهاد مستحب لا واجب , وأن الإشهاد على عقد النكاح واجب وشرط لصحة العقد، وقد ينازع في زعمه أن جعل العقد رسميًّا يغني عن الإشهاد، فإن فائدة الإشهاد أن يعلم الناس بأن زيدًا تزوج، فلا يتهمه أحد بأنه يعاشر امرأة بالفسق، وجعل الزواج رسميًّا لا يترتب عليه هذه الفائدة؛ لأنه قد يحصل بعلم كاتب العقد وحده. ثم إنه على تقدير قبول قاعدته الفاسدة ينازع بما زعم أنه هو حكمة العدة، فإن للعدة عدة حكم وفوائد منها ما هو غير مطرد، وهو ظهور براءة الرحم فإنه خاص بالحائل المستعدة للحمل , وقد أوجب الله العدة على غير المستعدة له كالصغيرة واليائسة، ومنها ما هو مطرد كحفظ كرامة الزوج الأول , والتوسعة على المطلق في الوقت الذي يمكن أن يؤاخذ فيه نفسه لعله يراجع، وبهذا نعلم شيئًا آخر من مفاسد القاعدة، وهو تحكم الأهواء في اختراع الحِكم التي تراعى ويحافظ عليها في الأحكام التي أوجبها كتاب الله، فإذا أخطأ الناس في معرفة الحكمة نكون قد تركنا حكم ربنا لوهم جهلي تراءى لهم {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} (الكهف: ٥٠) وأهواؤهم هذه ليس لها أساس ثابت من الحق ولا من الفضيلة , وما يسمونه المصلحة تابع للهوى أيضًا، فإن أصل التشريع الأعظم عندهم أن تكون الأحكام موافقةً لعادات الأمة وأحوالها التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا هم لم يقفوا عند عقائد الدين وفضائله , ولا غيره من مقومات الأمة السابقة كما علمنا من أقوالهم وأفعالهم - فلا يبعد أن يُحللوا ما أشرنا إليه آنفًا من نكاح البنات والأخوات !! فقد نُقل عن بعض كبرائهم الزنا ببنته وأمثال ذلك، وحَكَم قاضٍ من قُضاتهم في هذه البلاد منذ سنين قليلة ببراءة أستاذ من أساتذتهم في المدارس الأميرية تصبَّى امرأة متزوجة بما يفتنها عن زوجها , ويزري بكرامتها بمثل قوله لها في الطريق العام: إن جمالها حرم عليه نوم الليل! ! وعلل القاضي المتفرنج حكمه بالبراءة بأن الأستاذ لم يأت شيئًا نكرًا , وأن ما صدر عنه ليس إلا الإعجاب بالحسن والجمال، وهو من آيات الارتقاء في الذوق والخيال، الذي هو منتهى الكمال! ! وقد اضطربت البلاد لهذا الحكم , ولهجت الجرائد باستهجانه والإنكار عليه، ونحمد الله أن أبطلته محكمة الاستئناف، فأرضت الصيانة والعفاف. وأما حكم الثالث - وهو ما جعله القرآن جائزًا - فقد بينه أيضًا، وجعله كأن لم يكن , فأما كون الأفراد مخيرين فيه عملاً فصحيح، وأما كون الحكام يجوز لهم أن يحرموا منه ما شاءوا فباطل، إذ ليس الحكام أربابًا حتى يحللوا ويحرموا على الناس بمحض مشيئتهم، فما أحله الله فليس لأحد أن يحرمه إلا بإذن من الله عز وجل {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل: ١١٦) والله أرحم بعباده من أنفسهم، فهو لم يحرم عليهم إلا ما هو خبيث ضار , ولم يحل لهم إلا ما هو طيب نافع، كما قال تعالى في وصف رسوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} (الأعراف: ١٥٧) فإذا عرض من حوادث الزمن ما يجعل بعض الحلال ضارًّا وبعض الحرام ضروريًّا، تغير الحكم بحسب ذلك العارض وعلى قدره، فقد قال تعالى بعد تحريم محرمات الطعام: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: ١١٩) فالضرورات تبيح المحظورات وتحظر المباحات، ولكنها تقدر بقدرها، والرأي في ذلك لأولي الأمر من الأمة , وهم أهل الحل والعقد ورجال الشورى في المصالح العامة، ويجب على الحكام أن يحكموا بما يستنبطونه لهم من أمثال هذه الأحكام التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، ومثلهم نواب الأمة عند أمم الحضارة في هذا العصر. وخلاصة ما يقترحه هذا المتفرنج من الإصلاح في أحكام كتاب الله: أن ما أحله الله للناس، فلكل حاكم أن يحرمه عليهم إذا شاء، وما حرمه عليهم تراعى فيه حكمة التحريم بحسب فهم الناس لها، ولهم أن يفعلوا المحرم إذا كان فعله لا يبطل تلك الحكمة، وكذا ما أوجبه عليهم فليس عليهم إلا ترك الحكم بما يخالف مرماه، وغرضه من الإيجاب لا نفس الواجب، وصرح بهذه النتيجة في الأقسام الثلاثة بقوله عقب التصريح بالاستغناء عن عدة النساء والشهادة على عقد النكاح بقوله: (وبذلك ينقض وجوب التقيد بالمعاني الحرفية للألفاظ القانونية الواردة في القرآن) . وهذا نص صريح في ترك أحكام القرآن كلها، وعدم الرجوع إلى شيء منها لا للعمل بها ولا للاستنباط منها، ويكفي المسلمين - على هذا الرأي - أن يجمع مثل أحمد صفوت أفندي ما يفهمه من مرامي الواجبات وحِكم المحرمات في عدة مسائل أو قواعد تذكر في مقدمات القوانين الوضعية , أو تجعل شروطًا لبعض أحكامها، كأن يقال: يشترط في صحة زواج المطلقة أو المتوفى زوجها أن لا تكون حاملاً من الزوج الأول. ومن المعلوم بالضرورة أن هذا القانوني الذي تصدى لإصلاح شريعة الإسلام باسم الإسلام يقول بوجوب التقيد بالمعاني الحرفية للقوانين الوضعية التي وضعها الإفرنج لمصر، فهي مفضلة عنده وعند أمثاله على كتاب الله تعالى، وليس هذا بعجيب منه , ولكن العجيب الذي ليس وراءه عجب أن يخطب خطبةً في جمهور كبير من رجال القانون بمصر يدعو فيها المسلمين باسم الإسلام إلى نبذ جميع أحكام كتاب ربهم وسنة رسولهم وإجماع أمتهم وفقه جميع أئمتهم، ويسمي ذلك إصلاحًا لشريعتهم ومبدأً لترقيتهم، ثم يطبع ذلك وينشره بين الناس , فيقره جمهور من رجال القضاء ويسكت عنه الكتاب والعلماء، وحسب هؤلاء تكفير بعضهم بعضًا بالمسائل الخلافية، ككون الحجة على نبوة آدم وأبوته للناس ظنيةً أو قطعيةً، وإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.