للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار
أسئلة من سومطرا
(س١-٣) لصاحب الإمضاء في فيلمبغ (سومطرا) .
إلى حضرة الأستاذ الأكبر مرشد الأنام، ومشيد دعائم الإسلام، السيد محمد
رشيد رضا. بعد التحية والإكرام؛ بناءً على واسع حلمكم، ووافر علمكم، أتجاسر
على أن أقدم لحضرتكم بعض المسائل الدينية التي أعيانا حلها، وقد أصبحت اليوم
بطرفنا من الوقائع الحالية، مؤملاً من حميد شيمكم أن تجيبونا عنها على صفحات
مناركم المنير، ولشدة مسيس الحاجة إلى الجواب نلح على سماحتكم في المبادرة به،
فالناس لجنابكم منتظرون، ولكم من الله جزيل الأجر، ومنا جميل الشكر، وهي
هذه:
(١) ما قولكم - لا برحتم نورًا للمبتدئين، وحسامًا مصلتًا على رقاب الملحدين
- في جبانة ببلادنا تدفن فيها أموات المسلمين، وقد اشتدت في هذه الأيام إليها حاجة
الحكومة؛ لجعلها رصيفًا على البحر لوقوف البواخر؛ بسبب لياقتها لذلك وقربها من
الميناء، وقد أضحى من المتعذر هنا وجود غيرها من الأراضي التي تجدر بأن تكون
رصيفًا، وقد أعلنت الحكومة قصدها هذا، وطلبت من المسلمين من غير إجبار أن
ينبشوا موتاهم، وينقلوهم إلى مكان آخر؛ ليتسنى لها بحث الأرض المطلوبة
وتسويتها؟ ولا برحت تكرر الطلب مع الإعلان بعدم الإكراه، فهل يجوز للمسلمين -
والحالة هذه - نبش موتاهم نظراً للمصلحة العمومية أم لا؟ فإن قلتم لا، فهل يحصل
الجواز لو فرضنا وجود الإكراه والإجبار من الحكومة أم لا يحصل؟ تفضلوا
سادتي بادروا بالجواب.
(٢) وما قولكم لا زال مناركم شجًا في حلوق الدجالين، وشبًا ترتعد منه
فرائص المحتالين، في خضاب اللحية أو حلقها، هل ورد في السنة المنيفة نص
يصرح بتحريم ذلك، فإن قلتم: لا، فهل وقع الإجماع على التحريم، وما هو
الحكم فيما لم يَنُص الكتاب والسنة على تحريمه، ولا انعقد عليه الإجماع، وهل
للقياس مدخل في هذا الباب؟ أفيدونا مأجورين.
(٣) وما قولكم - حفظكم الله وأبقاكم - في ضمانة الحياة، هل يجوز في
شرعنا الشريف الجنوح إليها؟ وما الدليل على عدم الجواز لو فرضنا قولكم به؟
فإن سبق لكم في هذا كلام في المنار أو غيره، فالمأمول من فضلكم عدم إحالتنا
عليه، والمكرر يحلو، جزاكم الله عن هذه الأمة خيرًا، آمين.
... ... ... ... ... ... السيد جعفر بن شيخ السقاف
(ج١ نبش المقابر وجعلها للمصلحة العامة)
المشهور في كتب الفقه أن المقابر المسبلة يحرم البناء فيها، سواء كان المبني
قبة أم بيتًا أم مسجدًا ويجب هدمه، قال ابن حجر الهيتمي: حتى قبة إمامنا الشافعي
التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين
الرفع للإمام. وقال: إنه لا يجوز زرع شيء فيها؛ لأنه لا يجوز الانتفاع بها بغير
الدفن.
قال الشمس الرملي: وقد أفتى جماعة من العلماء بهدم ما بني فيها، ويظهر
حمله على ما إذا عرف حاله في الوضع، فإن جهل ترك حملاً على وضعه بحق،
كما في الكنائس التي نقر أهل الذمة عليها في بلدنا، وجهلنا حالها، وكما في
البناء الموجود على حافة الأنهار والشوارع، وصرح في المجموع بحرمة البناء
في المسبلة، قال الأذرعي: ويقرب إلحاق الموات بها؛ لأن فيه تضييقًا على
المسلمين بما لا مصلحة ولا غرض شرعي فيه بخلاف الإحياء ا. هـ وتأمل تقييده
الحرمة بالتضييق بما لا مصلحة فيه، وهل يعمل بمفهومه من أنه إذا كانت هناك مصلحة عامة وامتنع التضييق باستبدال تلك المقبرة بغيرها فإنه يجوز.
وأما نبش القبور، فإن كان قبل البلى حرم إلا لضرورة وعد الفقهاء منها
الدفن بغير غسل، أو في أرض مغصوبة، أو ثياب مغصوبة، أو لغير القبلة أو
وقع في القبر مال، وغير ذلك، قال الرملي في النهاية أما بعد البلى عند من مر
(أي أهل الخبرة بتلك الأرض) فلا يحرم النبش، بل تحرم عمارته وتسوية ترابه
عليه، إذا كان في مقبرة مسبلة؛ لامتناع الناس من الدفن فيه لظنهم عدم البلى.
وقال الشعراني في الميزان الكبرى: (واتفقوا على أنه لا يجوز حفر قبر
الميت؛ ليدفن عنده آخر إلا إذا مضى على الميت زمن يبلى في مثله ويصير رميمًا،
فيجوز حينئذ، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: إذا مضى على الميت حول،
فازرعوا الموضع اهـ.
والشافعية صرحوا بمنع زراعة المقبرة المسبلة والموقوفة، كالبناء عليها
وتشريف القبور فيها؛ لأن ذلك يمنع من الانتفاع.
وفي كتاب (كشف القناع عن متن الإقناع) من كتب الحنابلة المعتبرة؛ أن
البناء على القبر مكروه، وفي المسبلة أشد كراهة، وعن الإمام أحمد منعه في وقف
عام، ثم قال ما نصه: وإذا صار (الميت) رميمًا جازت الزراعة وحرثه (أي
موضع الدفن) وغير ذلك؛ كالبناء عليه، قاله أبو المعالي. والمراد (أي بقول أبي
المعالي) : تجوز الزراعة والحرث ونحوهما إذا صار رميمًا (إذا لم يخالف شرط
الواقف لتعيينه الجهة) بأن عين الأرض للدفن، فلا يجوز حرثها ولا غرسها. اهـ.
المراد منه، ثم ذكر جواز نبش قبور المشركين؛ ليتخذ مكانها مسجدًا؛ لأن موضع
مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان مقبرة لهم؛ فاشترى الأرض، وأمر بنبشها
وجعلها مسجدا، وكذا إذا كان فيها مال. وعبر في المنتهى من كتبهم بقوله: (ويباح
نبش قبر حربي لمصلحة أو لمال فيه) .
هذا ما رأيت أن أورده من كلام الفقهاء، والمذاهب فيه متقاربة، ولا أذكر
نصًا صريحًا عندهم في الواقعة، وقد رأيت ما ذكره بعضهم من المصلحة،
وجمهورهم على أن المقبرة الموقوفة أو المسبلة ليس لأحد أن يتصرف فيها بغير
الدفن، حتى إنهم منعوا أن يحفر الإنسان فيها قبرًا لنفسه أو لغيره من الأحياء؛
ليدفن فيه عند الموت، ومن الفقهاء من يرى أنه يجوز التصرف في الوقف
بالاستبدال، وبما هو أقرب إلى مقصد الواقف، والتصرف في المسبلة أهون،
وروي عن الإمام أحمد جواز استبدال مسجد بمسجد للمصلحة، واحتج بأن عمر
أبدل مسجد الكوفة القديم بآخر، وصار الأول سوقًا، وجوز أن يباع ويبنى بثمنه
غيره للمصلحة، ولو في مكان أو بلد آخر.
أما الكتاب فلا ذكر فيه لهذه المسألة، والسنة كذلك، إلا أنه ورد فيها مما
يتعلق بالمسألة حديث بناء مسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكان كان مقبرة،
وتقدمت الإشارة إلى ذلك في كلام الفقهاء، وحديث جابر عند البخاري والنسائي
قال: (دفن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتى أخرجته فجعلته في قبر على حدة.
قال بعض العلماء: وفيه دليل على أنه يجوز نبش الميت لأمر يتعلق بالحي،
أي على رأي من يعد فعل الصحابي حجة، وهو خلاف ما عليه الجمهور، ولو
كان لهم عناية بالاحتجاج لهذه المسألة، لقالوا: إن هذا العمل مما لا يخفى، وقد
أقره الصحابة عليه، فكان إجماعًا، وكم قالوا مثل ذلك.
والذي أراه أن هذه المسألة كسائر المسائل التي لا نص فيها عن الشارع ترد
إلى أولي الأمر من المسلمين، وهم رءوس الناس وأصحاب العلم والمكانة فيهم،
فيتشاورون فيها، ويقررون ما يرون فيه المصلحة للمسلمين، فإذا رأوا المصلحة
في استبدال مقبرة أخرى بها استبدلوا، ولهم أن ينقلوا حينئذ رمم الموتى ويدفنوها
في المقبرة الجديدة، وإلا فلا. وأما إذا أكرهتهم الحكومة على ذلك، فالأمر ظاهر
أنهم يكونون معذورين.
(ج ٢ خضاب اللحية وحلقها)
أما خضاب اللحية وكذا غيرها فهو مستحب، وقد ثبت في الأحاديث
الصحيحة الأمر به؛ كحديث أبي هريرة في الصحيحين: (إن اليهود والنصارى لا
يصبغون فخالفوهم) وهناك أحاديث أخرى، وفيها تصريح بالخضاب بالحمرة
والصفرة والحناء والكتم وهو - بالتحريك - نبات بالبادية خضابه أصفر، وإذا مزج
بالحناء جاء لون الشعر بين السواد والحمرة. وخضب النبي صلى لله عليه وسلم كما
صححه النووي والحسن والحسين وكثير من كبراء الصحابة، وكره بعض
العلماء الخضاب؛ لما ورد من وصف الشيب بالنور، وقال بعضهم: يتبع عادة
بلده؛ لأن هذه المسألة من العادات لا من العبادات، ولكن آداب السلف أعلى،
فينبغي إيثارها.
قال علي القاري في الشمائل: ثم إن القائلين باستحباب الخضاب، اختلفوا
في أنه يجوز الخضب بالسواد والأفضل بالحمرة والصفرة، فذهب أكثر العلماء إلى
كراهة الخضاب بالسواد، وجنح النووي إلى أنها كراهية تحريم، وأن من
العلماء من رخص فيه للجهاد ولم يرخص في غيره، واستحبوا الخضاب بالحمرة
أو الصفرة؛ لحديث جابر قال: أتي بأبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم فتح مكة، ورأسه كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
غيروا هذا، واجتنبوا السواد أخرجه مسلم ثم قال: والثغامة بضم المثلثة وتخفيف
المعجمة نبات شديد البياض زهره وثمره، ولحديث أبي ذر رفعه (إن أحسن ما
غيرتم به الشيب الحناء والكتم) أخرجه الأربعة وأحمد وابن حبان وصححه
الترمذي، وتقدم أن الصبغ بهما يخرج بين السواد والحمرة. اهـ.
أقول: حديث مسلم في أبي قحافة رواه أحمد من حديث أنس بلفظ (ولا
تقربوا السواد) ، وزاد في الفردوس يعني أبا قحافة، فالنهي في الحديث خاص به،
والسواد للشيخ الهرم يستقبح. وفي الباب حديث ابن عمر عن الطبراني والحاكم
(الصفرة خضاب المؤمن والحمرة خضاب المسلم والسواد خضاب الكافر) .
والحديث منكر كما قال الحافظ الذهبي، وقال الهيتمي: فيه من لم أعرفه. وحديث
ابن عباس عند أبي داود والنسائي (سيكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا
السواد كحواصل الحمام لا يجدون رائحة الجنة) ، زعم العراقي أن إسناده جيد،
ولكن قال ملا علي القاري: في إسناده مقال، ولو كان مما يحتج به لجزموا
بالتحريم، وحديث أبي الدرداء (من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة)
قال علي القاري: إسناده لين اهـ. والصواب أن ضعفه أشد من ذلك، ولا يصح
في هذه الحنيفة السمحة، مثل هذا الوعيد فيما لا ضرر فيه في دين ولا نفس ولا
عرض ولا عقل ولا مال، وهي الكليات الخمس للمحرمات في الإسلام. على أن
هذه الأحاديث الضعيفة معارضة بمثلها، وبما هو أقوى كحديث الأمر المطلق
بالصبغ في الصحيح، وحديث صهيب عند ابن ماجه (إن أحسن ما اختضبتم به
لهذا السواد، أرغب لنسائكم فيكم، وأهيب لكم في صدور عدوكم) ؛ ولأجل
التعليل الثاني، قال بعض العلماء: إن كراهة الخضاب بالسواد، تنتفي بنية الجهاد
أي: لمن هو من أهله، وحملوا على ذلك ما روي عن بعض السلف من
الاختضاب به، ومنهم ابن عمر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، وما ورد
من تعليل كراهة السواد؛ لكونه كان من عادة الكفار، يفيد زوال الكراهية بانتفاء
اختصاصهم بذلك، وتتجه الكراهية الشديدة بل التحريم إذا كان في الخضاب غش
محرم.
وأما حلق اللحية فهو مكروه، فإن من آداب السنة قص الشارب وإعفاء اللحية،
وفي ذلك عدة أحاديث في الصحيحين والسنن، وقد علل ذلك فيها؛ بمخالفة
المشركين والمجوس واليهود والنصارى، وذلك أن الأمم تتميز بآدابها وعاداتها
وأزيائها، وإنما يتشبه الضعيف بالقوي، والواطئ بالعلي، وقد يفضي إسراف
الضعيف في التقليد والتشبه إلى ضياع استقلاله، وتمكين من يتشبه بهم ويقلدهم من
التصرف بجميع أمره، فلا يقولن قائل: إن هذا من أمور العادات لا من أمور الدين،
وقد فقه حكمته وفائدته للمتبعين، وأشهر الأحاديث في ذلك حديث ابن عمر
مرفوعًا (خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفروا اللحى) رواه الشيخان، وإذا
زال الاختصاص زال معنى التمايز، وقد صار بعض المسلمين يعفي لحيته تشبهًا
بالإفرنج. وأما سؤال السائل في هذا المقام عن العمل؛ بما لم يرد فيه كتاب ولا
سنة ولا إجماع، فقد أشرنا إلى جوابه بالإجمال في الجواب الأول، ويراه مفصلاً
في تفسير هذا الجزء من المنار وما قبله.
(ج ٣ ضمان الحياة)
لم يذكر السائل كيفية هذا الضمان ولا عقده، والمشهور أن هذا عن العقود
التي تشبه الميسر (القمار) ؛ في كون الذي يعطي المال لشركة الضمان، لا
يعطيها إياه في مقابلة عمل تعمله له أو منفعة تسديها إليه، وإنما يرجو بذلك أن
تأخذ ورثته منها أكثر مما أعطى إن هو مات قبل المدة المعينة، وجمهور الفقهاء
يصرحون بأن مثل هذا العقد باطل ومحرم؛ لما فيه من إضاعة المال الواجب
حفظه، وعدم بذله إلا فيما فيه منفعة دينية أو دنيوية معلومة أو مظنونة، وليست
كل العقود التي يحكم الفقهاء ببطلانها محرمة دينيًا فإنهم قد يشترطون شروطًا
اجتهادية، لا يحكم قاضيهم ولا ينفذ أميرهم الحكم إلا إذا تحققت في العقد، وإلا لم
يكن في ترك الشرط منها مخالفة لأمر الله ورسوله، وقد صرح بعض الفقهاء بحل
جميع العقود والشروط التي يتعاقد الناس عليها، ويشترطونها إذا لم تكن مخالفة
للكتاب والسنة الصحيحة، وهذا هو الصواب. وقد ذكرناه في المنار غير مرة،
وربما نفصل القول فيه في وقت آخر تفصيلاً.