لا ينتقل شعب من طور إلى طور أعلى منه أو أدنى إلا بسير إليه مقدر في الواقع ونفس الأمر تقديرًا تكون المسببات بقدر الأسباب، وسواء كان ذلك السير بتأثير حوادث الزمان وتقلب شؤون الاجتماع التي لا يشعر جمهور الشعب بها ولا يفطن لما يترتب عليها من العواقب النافعة أو الضارة، وإنما يشعر أفراد منه ببعض أحداث التغيير في الأعمال والعادات، فيحمدها أناس ويذمها آخرون، ولا يصل نظر الحامد ولا الذامّ إلى ما سيكون من مستقرها في مستقبل الأيام، أو كان السير بنظام موضوع لغرض مقصود، وقواد من الزعماء ألفوا الجمعيات وحزبوا الأحزاب ونقحوا أنظمة التربية وبرامج التعليم، أو كان مذبذبًا بين هذا وذاك. أما الحال الأولى فهي حال تطور الشعوب الجاهلة التي ليس فيها زعماء حكماء يقودونها في سيرها على علم بسنن الكون وشؤون الاجتماع، بل ينتقل إليها تغير الآراء وتجدد الأفكار والأنظار من شعوب أخرى على سبيل الاتفاق، أو على سبيل القصد من تلك الشعوب، كما هو شأن الشعوب القوية المستعمِرة مع الشعوب الضعيفة التي تطمع هي في بلادها، فإنها تتعمد إحداث التغيير في عقائدها وآرائها وعاداتها بالقدر الذي تحل به روابطها الاجتماعية، وتفسد عليها مقوماتها ومشخصاتها القومية، فتصبح مقسمةً على نفسها، ويجد الطامع فيها ما يطلب من الأعوان له عليها آنًا بعد آن. قال اللورد سالسبوري: إن مدارس المبشرين أول خطوة من خطوات الاستعمار، فهي تحدث في البلاد التي تنشأ فيها انقسامًا وتفريقًا بين أهلها يفقدون به وحدتهم، فيكونون عونًا للمستعمِر على أنفسهم -أو ما هذا مؤداه- وجاء في الجزء الكبير الذي خصصته مجلة (العالم الإسلامي) الفرنسية في مبحث (فتح العالم الإسلامي) [١] : إن المدارس التي أنشأها المبشرون في الآستانة وغيرها من البلاد العثمانية قد كان تأثيرها في حل المسألة الشرقية أعظم من عمل جميع سفراء الدول ومعتمديهم السياسيين [٢] . وأما الحال الثانية: فهي حال الشعوب العلمية الراقية ذات الزعماء الحكماء الذين يعرفون أمراض الاجتماع وعلله، فيداوون أمراضه ويصلحون خلله، ويكملون نقصه بما يهديهم إليه العلم بسنن الله في خلقه، فيزداد كمالاً، أو يعجزون عن ذلك، فيعود إلى الضعف والفساد. وأما الحال الثالثة: فهي حال الشعوب المخضرمة بمشابهتها للجاهلة الساذجة من وجه، وللعلمية من وجه آخر، وهي الشعوب الضعيفة ذات العلم التقليدي الناقص، كأهل البلاد التي بثت فيها تعاليمهم وآراءهم، فتبعتها تقاليدهم وعاداتهم، فتفرق أهلها شيعًا وأحزابًا مختلفةً متدابرةً، يعد كل منها الآخر ضارًّا للبلاد ومفسدًا لأهلها، وتكون فيها زعماء بالتكلف والتحزب يعملون للكسب والشهرة لا للمصلحة العامة، بل يجاهدون من هم أولى بالزعامة وأقدر على النهوض بالأمر منهم إلى أن يغلب فريق منهم الآخر باستمالة الرأي العام إليه. ليس المقام مقام بيان شؤون كل شعب من هذه الشعوب على التفصيل، وإنما المراد من هذه المقدمة تذكير القارئ بأن ما نعنيه بالتطور - وهو انتقال الأمة من طور إلى طور - إنما يكون بسير اجتماعي، منه ما هو صناعي، كالذي يكون بسعي زعماء الأمم الراقية، ومنه ما هو طبيعي ظاهر لبعض أهل البصيرة والعلم، أو خفي لا يُعلم به إلا بعد ظهور أثره، كتفجير الينابيع بعد تجمع الماء بالسريان في باطن الأرض، أو بين الجلي والخفي، كسير الظل. ثم إن سير السنن الاجتماعية الذي يكون به التطور قد يكون بطيئًا لا ينتهي إلى غايته إلا في عدة أجيال، وقد يكون سريعًا بما يُحدث في العالم من كبر أحداث الاجتماع، كظهور الاسلام في العرب الأميين، الذي أحدث أكبر انقلاب اجتماعي في جميع العالم القديم، فكان له ذلك الأثر العظيم في آسية وأفريقية وأوربة بإحياء موات العلم ودارس الحضارة، وكالثورة الفرنسية التي زلزلت ما كانت عليه دول أوربة من الاستبداد والاستعباد، وكحرب المدنية العامة الأخيرة التي زلزلت جميع الأمم والشعوب أشد زلزال، ومخضت العالم البشري مخضًا لم يتم تكوين زبده إلى الآن، وجميع الأمم والشعوب شاخصة الأبصار، متلعة الأعناق، مصيخة الأسماع، ترتقب النتيجة التي يجتهد أولو الأطماع المتداعون على افتراس الشعوب الضعيفة، كتداعي الجياع إلى القصاع في جعلها شر بلاء أصيب به البشر بعد أن ملأوا الأرض صياحًا بأنهم ما حاربوا إلا لتحرير البشر. كانت مصر مستقلةً استقلالاً داخليًّا تامًّا تحت سيادة الدولة العثمانية - التي لم يكن لها أدنى تدخل في إدارة مصر الداخلية - وكانت أوربة كلها مصدقةً على هذا الاستقلال وتناولها في البلاد معتمدون سياسيون، وكان الاحتلال الإنكليزي الذي وقع بطلب أمير البلاد ورضاء الدولة صاحبة السيادة موقتًا لم ينازع في استقلال البلاد، ولا في سيادة الدولة عليها، ووعدت الدولة وعودًا رسميةً كثيرةً بأنه لا بد من الجلاء عنها وتركها لأهلها، ولكنها في أثناء الحرب أعلنت الحماية عليها وجعلتها ميدانًا حربيًّا، وأباحت لسلطتها العسكرية أن تتصرف فيها تصرف المالك، فلما عقدت الهدنة هب المصريون للمطالبة باعتراف إنكلترة وسائر الدول - التي تعقد الصلح بين الأمم - لها بالإستقلال التام، وتألف وفد منها للسعي إلى ذلك اختار سعد باشا زغلول الشهير بصدق الوطنية والشجاعة الأدبية وقوة العارضة، وسعة المعارف في القوانين، رئيسًا له، وأخذ الوفد وثائق كثيرة من الألوف من المصريين الذين يمثلون الرأي العام المصري باستنابته عنهم، كأعضاء الجمعية التشريعية ومجالس المديريات والبلديات، وسائر طبقات الأهالي، وطفق يخاطب بذلك الحكومة البريطانية والرئيس ولسون , وسائر الدول بواسطة وكلائها السياسيين، ثم عقد الوفد اجتماعًا عامًّا في دار وكيله حمد باشا الباسل خطب فيه الرئيس والوكيل وغيرهم في بيان حقيقة المسألة المصرية، وما تطلبه البلاد من الاعتراف لها بالاستقلال، وأراد الرئيس عقد اجتماع آخر في داره، فمنعته السلطة العسكرية البريطانية من ذلك، ثم اعتقلته مع الوكيل المذكور وعضوين آخرين من أعضاء الوفد، هما: محمد باشا محمود سليمان وإسماعيل صدقي باشا، وأرسلتهم إلى مالطة، فهاجت الأمة المصرية لذلك هياجًا، وقامت بمظاهرات عظيمة في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدائن، وهاج الفلاحون وقبائل العربان، وقطعوا أسلاك البرق وقلعوا خطوط حديد السكك، ودمروا بعض محطاتها، حتى صار الهياج ثورةً عامةً، واستقالت وزارة حسين رشدي باشا احتجاجًا على مصادرة الحرية الشخصية، بنفي من ذُكر من أعضاء الوفد، وتعذر على السلطة تأليف وزارة جديدة. وكان حسين رشدي قد طلب قبل ذلك كله من الحكومة الإنكليزية الإذن له، ولعدلي باشا وزير المعارف بالسفر إلى إنكلترة لمفاوضة أولي الأمر فيها بما سيكون عليه شكل الحكومة بعد الحرب التي عاونت البلادُ المصرية وحكومتها فيها السلطة البريطانية أعظم معاونة شملت زهاء مليون شاب مصري، ساعدت السلطة الإنكليزية العسكرية على الأعمال الحربية في فلسطين حتى إنها كانت تسمي الحملة التي فتحت القدس الشريف (الحملة المصرية) وهذا الفتح هو الذي قال فيه المستر لويد جورج رئيس الوزارة الإنكليزية: إنه آخر حرب صليبية، وساعدتها كذلك في العراق , وفي مواضع أخرى، وناهيك بالمنافع المالية بأنواعها , ولكن الحكومة الإنكليزية أرجأت طلب الوزيرين أولاً، ثم أرادت أن يسافرا فأبيا إلا أن تأذن للوفد المصري بالسفر أيضًا، فصدر الأمر من لندن بالإذن لهما ولمن شاء من المصريين، ومنهم الأربعة المعتقلون في مالطة. فلما ظفر المصريون بالإذن لوفدهم بالسفر، نظموا مظاهرات أخرى، اشترك فيها جميع طبقات الأهالي حتى النساء المخدرات، فكن يطفن بسياراتهن ومركباتهن المزينات بالأعلام والرياحين، ويهتفن مع الهاتفين: لتحيى مصر، ليحيى الاستقلال التام: ليحيى سعد باشا زغلول، ليحيى أعضاء الوفد المصري إلخ. وقد حاولت السلطة العسكرية البريطانية منع المظاهرات الأولى والآخرة فلم تفلح، حتى إنها أطلقت رصاص البنادق والمدافع الرشاشة مرارًا على المتظاهرين، فلم يثنهم ذلك عن تكرار المظاهرات، بل منهم من قاوموا الجنود، وقتلوا منهم كثيرين، ولكن من قتلهم الجنود أكثر بالطبع، وقد قدرت السلطة من قتل في الشوارع بزهاء ألف نسمة منهم الكبير والصغير، وليس غرضنا من هذه الخلاصة تحرير تاريخ هذه الحوادث، ولا وصفها وصفًا شعريًّا لأجل التأثير، وإنما غرضنا أن نجعلها مقدمةً لما هو مقصدنا بالذات لما ترتب عليها من التطور الديني باتفاق المسلمين والقبط، وجعل الجامع الأزهر معهد السياسة الأكبر في مصر، والتطور الاجتماعي بدخول النساء في المظاهرات السياسية وإلقائهن الخطب في الشوارع والأسواق، فهذا أهم ما يُعنى به المنار.