بأحكام السفر والإقامة لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (تابع لما نشر في الجزء الماضي)
(فصل) في تمام الكلام في القصر وسبب إتمام عثمان الصلاة بمِنى وقد تقدم فيها بعض أقوال الناس والقولان الأولان مرويان عن الزهري وقد ذكرهما أحمد. روى عبد الرزاق: أنا معمر عن الزهري، قال: إنما صلى عثمان بمِنى أربعًا لأنه قد عزم على المقام بعد الحج ورجح الطحاوي هذا الوجه مع أنه ذكر الوجهين الآخرين فذكر ما رواه حماد بن سلمة عن أيوب عن الزهري قال: إنما صلى عثمان بمنى أربعًا لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام فأحب أن يخبرهم أن الصلاة أربع قال الطحاوي: فهذا يخبر أنه فعل ما فعل ليعلم الأعراب به أن الصلاة أربع فقد يحتمل أن يكون لما أراد أن يريهم ذلك نوى الإقامة فصار مقيمًا فرضه أربع فصلى بهم أربعًا فالسبب الذي حكاه معمر عن الزهري [١] ويحتمل أن يكون فعل ذلك وهو مسافر لتلك العلة قال: والتأويل الأول أشبه عندنا لأن الأعراب كانوا بالصلاة وأحكامها في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجهل منهم بها وبحكمها في زمن عثمان وهم بأمر الجاهلية حينئذ أحدث عهدًا إذ كانوا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العلم بفرض الصلوات أحوج منهم إلى ذلك في زمن عثمان فلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتم الصلاة لتلك العلة ولكنه قصرها ليصلوا معه صلاة السفر على حكمها ويعلمهم صلاة الإقامة على حكمها كان عثمان أحرى أن لا يتم بهم الصلاة لتلك العلة قال الطحاوي: وقد قال آخرون: إنما أتم الصلاة لأنه كان يذهب إلى أنه لا يقصرها إلا من حل وارتحل واحتجوا بما رواه عن حماد بن سلمة عن قتادة قال: قال عثمان بن عفان إنما يقصر الصلاة من حمل الزاد والمزاد وحل وارتحل، وروي بإسناده المعروف عن سعيد بن أبي عروبة، وقد رواه غيره بإسناد صحيح عن عثمان بن سعد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عباس بن عبد لله بن أبي ربيعة أن عثمان بن عفان كتب إلى عماله ألا لا يصلين الركعتين جابٍ ولا (تأن) ولا تاجر إنما يصلي الركعتين من كان معه الزاد والمزاد وروي أيضًا من طريق حماد بن سلمة أن أيوب السختياني أخبرهم عن أبي قلابة الجرفي عن عمه أبي المهلب قال: كتب عثمان أنه قال: بلغني أن قومًا يخرجون إما لتجارة وإما لجباية وإما لجريم ثم يقصرون الصلاة، وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا، أو بحضرة عدو: قال ابن حزم: وهذان الإسنادان في غاية الصحة، قال الطحاوي: قالوا: وكان مذهب عثمان أن لا يقصر الصلاة إلا من يحتاج إلى حمل الزاد والمزاد ومن كان شاخصًا، فأما من كان في مصر يستغني به عن حمل الزاد والمزاد فإنه يتم الصلاة، قالوا: ولهذا أتم عثمان بمِنى؛ لأن أهلها في ذلك الوقت كثروا حتى صارت مصرًا يستغني من حل به عن حمل الزاد والمزاد. قال الطحاوي: وهذا المذهب عندنا فاسد؛ لأن منى لم تصر في زمن عثمان أعمر من مكة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بها ركعتين ثم يصلي بها أبو بكر بعده كذلك ثم صلى بها عمر بعد أبي بكر كذلك فإذا كانت مع عدم احتياج من حل بها إلى حمل الزاد والمزاد تقصر فيها الصلاة فما دونها من المواطن أحرى أن يكون كذلك قال: فقد انتفت هذه المذاهب كلها لفسادها عن عثمان أن يكون من أجل شيء منها قصر الصلاة غير المذهب الأول الذي حكاه معمر عن الزهري فإنه يحتمل أن يكون من أجلها أتمها وفي الحديث أن إتمامه كان لنيته الإقامة على ما روينا فيه وعلى ما كشفنا من معناه. (قلت) الطحاوي مقصوده أن يجعل ما فعله عثمان موافقًا لأصله وهذا غير ممكن فإن عثمان من المهاجرين والمهاجرون كان يحرم عليهم المقام بمكة ولم يرخص النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم إذا قدموا مكة للعمرة أن يقيموا بها أكثر من ثلاث بعد قضاء العمرة كما قال في الصحيحين عن العلاء بن الحضرمي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثًا، ولهذا لما توفي ابن عمر بها أمر أن يدفن بالحل ولا يدفن بها، وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عاد سعد بن أبي وقاص وقد كان مرض في حجة الوداع خاف سعد أن يموت بمكة فقال: يا رسول الله أخلف عن هجرتي فبشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يموت بها، وقال: إنك لن تموت حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن مات بمكة. ومن المعروف عن عثمان أنه كان إذا اعتمر ينيخ راحلته فيعتمر ثم يركب عليها راجعًا فكيف يقال: إنه نوى المقام بمكة؟ ثم هذا من الكذب الظاهر فإن عثمان ما أقام بمكة قط بل كان إذا حج يرجع إلى المدينة. وقد حمل الشافعي وأصحابه وطائفة من متأخري أصحاب أحمد كالقاضي وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم فعل عثمان على قولهم فقالوا: لما كان المسافر مخيرًا بين الإتمام والقصر كان كل منهما جائزًا، وفعل عثمان هذا؛ لأن القصر جائز والإتمام جائز وكذلك حملوا فعل عائشة واستدلوا بما رووه من جهتها وذكر البيهقي قول من قال أتمها لأجل الأعراب ورواه من سنن أبي داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد عن أيوب عن الزهري أن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب؛ لأنهم كثروا عامين فصلى بالناس أربعًا ليعلمهم أن الصلاة أربع. وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا يعقوب عن حميد ثنا سليمان بن سالم مولى عبد الرحمن بن حميد عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن عثمان بن عفان أنه أتم الصلاة بمنى ثم خطب الناس فقال: أيها الناس إن السنة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة صاحبيه ولكنه حدث العام من الناس فخفت أن تعيبوا قال البيهقي: وقد قيل غير هذا والأشبه أن يكون رآه رخصة فرأى الإتمام جائزًا كما رأته عائشة (قلت) : وهذا بعيد فإن عدول عثمان عما داوم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخليفتاه بعده مع أنه أهون عليه وعلى المسلمين، ومع ما علم من حلم عثمان واختياره له ولرعيته أسهل الأمور وبعده عن التشديد والتغليظ لا يناسب أن يفعل الأمر إلا ثقل الأشد مع ترك ما داوم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخليفتاه بعده لمجرد كون هذا المفضول جائزًا، إن لم ير أن في فعل ذلك مصلحة راجحة بعثته على أن يفعله، وهبْ أن له أن يصلي أربعًا فكيف يلزم بذلك من يصلي خلفه؟ فإنهم إذا ائتموا به صلوا بصلاته فيلزم المسلمين بالفعل الأثقل مع خلاف السنة لمجرد كون ذلك جائزًا وكذلك عائشة وقد وافق عثمان على ذلك غيره من السلف أمراؤهم وغير أمرائهم وكانوا يتمون وأئمة الصحابة لا يختارون ذلك كما روى مالك عن الزهري أن رجلاً أخبره عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد يغوث كانا جميعًا في سفر وكان سعد بن أبي وقاص يقصر الصلاة ويفطر وكانا يتمان الصلاة ويصومان فقيل لسعد نراك تقصر من الصلاة وتفطر ويتمان فقال سعد: نحن أعلم وروى شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن المسور قال كنا مع سعد بن أبي وقاص في قرية من قرى الشام فكان يصلي ركعتين فنصلي نحن أربعًا فنسأله عن ذلك فيقول سعد نحن أعلم وروى مالك عن ابن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال جاء عبد الله بن عمر يعود عبد الله بن صفوان فصلى بنا ركعتين ثم انصرف فأتممنا لأنفسنا (قلت) عبد الله بن صفوان كان مقيماً بمكة فلهذا أتموا خلف ابن عمر وروى مالك عن نافع أن ابن عمر كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعًا وإذا صلى لنفسه صلى ركعتين قال البيهقي: والأشبه أن يكون عثمان رأى القصر رخصة فرأى الإتمام جائزًا كما رأته عائشة قال: وقد روي ذلك عن غير واحد من الصحابة مع اختيارهم القصر ثم روى الحديث المعروف من رواية عبد الرزاق عن إسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي ليلى قال: أقبل سلمان في اثني عشر راكبًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحضرت الصلاة فقالوا: تقدم يا أبا عبد الله فقال: إنا لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم إن الله هدانا بكم قال: فتقدم رجل من القوم فصلى بهم أربعًا قال فقال سلمان ما لنا ولا لمربعة إنما كان يكفينا نصف المربعة ونحن إلى الرخصة أحوج قال فبين سلمان بمشهد هؤلاء الصحابة أن القصر رخصة (قلت) هذه القضية كانت في خلافة [٢] . وسلمان قد أنكر التربيع وذلك أنه كان خلاف السنة المعروفة عندهم فإنه لم تكن الأئمة يربعون في السفر وقوله ونحن إلى الرخصة أحوج يبين أنها رخصة وهي رخصة مأمور بها كما أن أكل الميتة في المخمصة رخصة وهي مأمور بها وفِطْر المريض رخصة وهو مأمور به والصلاة بالتيمم رخصة مأمور بها والطواف بالصفا والمروة قد قال الله فيه {فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: ١٥٨) وهو مأمور به إما ركن وإما واجب وإما سنة، والذي صلى سلمان أربعًا يحتمل أنه كان لا يرى القصر إلا في حج أو عمرة أو غزو وكان لكثير من السلف والخلف نزاع في جنس سفر القصر وفي قدره فهذه القضية المعينة لم يتبين فيها حال الإمام لمثله إما لأن سفره كان قصرًا عنده، وإما لأن سفره لم يكن عنده مما يُقصر فيه الصلاة فإن من الصحابة من لا يرى القصر ومتابعة سلمان له تدل على أن الإمام إذا فعل شيئًا متأولاً اتُّبع عليه كما إذا قنت متأولا أو كبر خمسًا أو سبعًا متأولا والنبي - صلى الله عليه وسلم- صلى خمسًا واتَّبعه أصحابه ظانين أن الصلاة زِيدَ فيها، فلما سلم ذكروا ذلك له فقال (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإن نسيت فذكروني) ، وقد تنازع العلماء في الإمام إذا قام إلى خامسة هل بتابعة المأموم أو يفارقه ويسلم أو يفارقه وينتظره أو يخير بين هذا وهذا على أقوال معروفة وهي روايات عن أحمد أو رأى أن التربيع مكروه وتابع الإمام عليه فإن المتابعة واجبة ويجوز فعل المكروه لمصلحة راجحة ولا ريب أن تربيع المسافر ليس كصلاة الفجر أربعًا، فإن المسافر لو اقتدى بمقيم لصلى خلفه أربعًا لأجل متابعة إمامه، فهذه الصلاة تفعل في حال ركعتين، وفي حال أربعًا بخلاف الفجر فجاز أن تكون متابعة الإمام المسافر كمتابعة المسافر للمقيم؛ لأن كلاهما اتَّبع إمامه وهذا القول وهو القول بكراهة التربيع أعدل الأقوال وهو الذي نص عليه أحمد في رواية الأثرم، وقد سأله هل للمسافر أن يصلي أربعًا؟ فقال: لا يعجبني ولكن السفر ركعتان وقد نقل عنه المروذي أنه قال: إن شاء صلى أربعًا وإن شاء صلى ركعتين ولا يختلف قول أحمد: إن الأفضل هو القصر بل نقل عنه إذا صلى أربعًا أنه توقف في الإجزاء ومذهب مالك كراهية التربيع وأنه يعيد في في الوقت ولهذا يذكر في مذهبه هل تصح الصلاة أربعًا؟ على قولين. ومذهب الشافعي جواز الأمرين وأيهما أفضل فيه قولان أصحهما أن القصر أفضل كإحدى الروايتين عن أحمد وهو اختيار كثير من أصحابه وتوقف أحمد عن القول بالإجزاء يقتضي أنه يخرج على قوله في مذهبه وذلك أن غايته أنه زاد زيادة مكروهة وهذا لا يبطل الصلاة فإنه أتى بالواجب وزيادة والزيادة إذا كانت سهوًا لا تبطل الصلاة باتفاق المسلمين وكذلك الزيادة خطأ إذا اعتقد جوازها وهذه الزيادة لا يفعلها من يعتقد تحريمها وإنما يفعلها من يعتقدها جائزة ولا نص بتحريمها بل الأدلة دالة على كون ذلك مخالفًا للسنة لا أنه محرم كالصلاة بدون رفع اليدين ومع الالتفات ونحو ذلك من المكروهات وسنتكلم إن شاء الله على تمام ذلك. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))