للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا


استنهاض همم
(١٤)
إن ما ذكرنا من حركة خواطر المسلمين، وتناجي أرواحهم في إصلاح
شؤونهم، لابد أن يعقبه انصلات عزائمهم، وتحفز هممهم للوثوب، فيندفعون وراء
الأعمال اندفاع السيل المنهمر، تتحاور علماؤهم في شأن العلوم الإسلامية الدينية
واللغوية، وتنقيحها وميز كل علم عن آخر، ووضع تآليف جديدة سهلة المأخذ،
خالية عن الركاكة والتعقيد في كل فن، مرتبة على حساب مقدرة الطالب، ونبش ما
لأسلافنا من الآثار والتآليف النفيسة التي أودع فيها طرائق السلف الصالح وأعمالهم،
وأخلاقهم وآدابهم ومشاربهم، ونشرها بين الكافة لينتفعوا بها، وإحياء العلوم
الأدبية والأخلاقية والتاريخية، وحمل الطلاب والناشئين على دراستها، ثم النظر
في طريقة التعليم وتحسينها، وجعلها بحيث يمكن للطلاب من تحصيل العلم
الإسلامي بمدة قصيرة، ثم إذا رأى بعض أولئك الطالبين من نفسه ميلاً للتبحر في
العلوم الإسلامية والتعمق فيها، أو الإخصاء [١] في علم واحد منها والتوسع فيه -
كان له أن يكب على تقصي الأبحاث في مسائل تلك العلوم، وانخزالاً دون تتبع
أبحاثها، وتأثر نتائجها، حق له أن يعكف على دراسة الفنون العصرية في كتب
مؤلفة لهذه الغاية، ويتخير له علمًا منها يخصي فيه ويتضلع من مسائله، فيستفيد
منه، ويفيد أهل وطنه وأبناء قومه.
لا تنهمك الطلبة في علوم عقيمة لا تنتج فائدة ولا تبعث على عمل. العلم
هو ما يربي في نفس الطالب ملكات فاضلة وأخلاق شريفة تحركه في تحصيل ما
به منفعة تعود على ذاته بالخير الدنيوي أو الأخروي، أو مصلحة عامة تورث
مجموع الأمة مجدًا وسعادة وعزًّا، وسيادة العلم ما يتوقف عليه انتظام مصالح البشر،
ويحتاجون إليه في قيام شأنهم، وحسن معيشتهم وراحتهم. ليس من العلم النافع
في شيء العلم الذي يضعف قوة العقل الحاكمة ويوهنها، ويقتصر أثره على تقوية
الذاكرة وتنميتها، ليس من العلم في شيء علم من ينفق عمره ويبذل ثمين وقته في
تفهيم أساليب المتقدمين أو المتأخرين، وتحليل عباراتهم، وتفكيك عقد أبحاثهم،
وتصحيح أغلاطهم، وتأويل أوهامهم.
هذا ما يخلق بالعلماء أن ينظروا فيه، ويتوخوا إصلاحه، ومداركة خلله،
والمتمرنون على الخطابة منهم يعظون العامة في المحافل والمجامع، ويحثونهم على
العمل والنشاط في الكسب، ويوقظون أفكارهم من سِنَةِ الغفلة، ويشعرون قلوبهم
العزة والنخوة، ويشربونها حب المجد والميل إلى المعالي، ويفهمونهم أنهم لم يزالوا
بعد في مرتبة الإنسانية، وأن مزاياها الفاضلة لم تزل متأصلة في نفوسهم، وأن تلك
المزايا قد يورثونها لخلائفهم وأعقابهم، فتقوى فيهم، وربما ينشأ عنها في بعضهم
أعمال شريفة، تكون عاملة في نهضة الأمة، ونشلها من حضيض الخمول إلى بقاع
القوة والسيادة، لا ريب أن مثل هذا الكلام يحض العامة على النظر، ويبعث هممهم
للعمل، ويحبب إليهم تربية أطفالهم، وتخريج أحداثهم في العلوم والآداب، فينتشر
التعليم والتهذيب بين الدهماء وسواد الأمة الذين هم حقيقة الأمة، ومنهم تكون هيئتها
ويرتفع بنيانها.
وينشئ الكتبة البارعون المقالات المسهبة في العصر ومقتضياته، وفائدة
التعاون والتكاتف في قيام المشروعات الكبرى، ويبينون لهم كيف يشرعون؟ ومن
أين يبتدأون؟ ويقوم ذوو اليسار والمال بتأسيس جمعيات خيرية، وشركات مالية،
تتبارى في خدمة الأمة، والأخذ بعضدها، كل منها يبادر إلى عمل أو مشروع يعلم
احتياج الأمة إليه، وتوقف نهضتها عليه، ووراء ذلك السلطة الوازعة، تحدو
بالمقصرين، وتأخذ بحُجُز المعتدين الجائرين، إلى آخر ما تكفلتْ باستيفاء
تفاصيله وإيضاح طرائقه صحائف مجلة (المنار) الغراء.
أما والله لو هبت الأمة للإصلاح كما ذكرنا، وخف كل فرد من أفرادها للعمل
كما شرحنا، واستقاموا على الطريقة التي نهجها الله تعالى لإسعاد الأمم، وقيام
الدول لما أتى عليها من الزمان الأمثل ما أتي على أمة اليابان حتى تُزاحم السابقين،
وتسود مع السائدين، وتأمن على جنسيتها ولغتها، وتبوأ مستقبلها متبوأً رَحْبًا.
فما أتممت كلامي حتى اعترض الحديث معترض يسأل: كيف يتسنى للأمة
العمل والنهوض، وهذه عقبان المطامع تحوّم حول البلاد، وتهم بالهوىّ عليها
لتمزيقها واختطاف أشلائها؟ أم كيف ينفسح الوقت للشروع في الإصلاح، وأراه
لو انفسح للشروع فيه لا ينفسح لإنجازه والتمتع بنتائجه فما الفائدة إذن من
العمل، ولماذا ننضي العزائم، ونعيي الهمم في تحصيل ما نُصد عن إتمامه، ونُرد
دون بلوغ غايته.
ومذ سمعت ما قاله هذا القانط الساخط، وجمت [٢] وحسبلت [٣] ، وقلت: إن
بين أيدي العاملين لنهزة تكفي - بمعونة الله - لوضع مقدمات الإصلاح والانتفاع
بنتائجها واجتناء ثمراتها، لكن عليهم أن يغتنموا تلك النهزة، ويسارعوا لاختلاسها
قبل جموحها وشماسمها، وقد استبان القارئ مما ألممنا به من شؤون الولايات
العثمانية، ومطامع الدول فيها أن الاضطراب السياسي والانشقاق الداخلي بلغا
مبلغهما في ولايتي الأرمن ومكدونيا بحيث تذهب النفس إلى أن الزمان قد لا ينفسح
لترقيهما، قبل أن يُختزلا من بين أخواتهما، أما سائر الولايات التركية والعربية
فليست بهذه المثابة، وإن كانت مهددة بالأخطار، ومحتَّفة بالأطماع، فالمدة بين
يديها أفسح، والأمل في حفظ استقبالها ووقاية استقلالها أقوى وأرجح.
((يتبع بمقال تالٍ))