للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

أسئلة عن أحاديث ومسائل
س٦٣: من صاحب الإمضاء في بيتاوي (جاوه) .
سيدي الأستاذ الحكيم: إن الأحاديث الضعيفة وما قاربها في الرتبة أعظم
تكأة للدجالين، وأكبر شبهة على الصادقين المسترشدين، ولعلمي أنه لا يوجد
طبيب لأدواء المسلمين المزمنة غيركم - غلو لا نرضاه ولا نَوَدُّ صحته -
جئتكم متطفلاً على أعتابكم، راجيًا من جميلِ فضلِكُم وكرمِ إحسانكم، أن
تُحققوا رجائي، وتُفِيضُوا عليّ من صيب علمكم وإرشادكم ما يفعم إنائي
ويشفي أدوائي، ولعله قد سبق لكم جواب على بعض هذه الأسئلة في أعداد
سابقة؛ فأرغب إليكم أن لا تحيلوني على ما ليس عندي، وإن تفضلتم بالمبادرة
بالجواب فأنتم أهل الفضل ومعدن الإحسان، فما قول سيدي في:
١- حديث: (أكثر أهل الجنة البله) ، وكيف يتفق مع قول النبي صلى
الله عليه وسلم:
٢ - (إِنَّمَا يُثَابُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ) ؟
٣- وحديث: (يَأَتْي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَعْرُجُ فِيِهِ الْعُقُولُ) ؛ وهل تعرج
من العرج أو من العروج؟
٤- وحديث: (خُذُوا نِصْفَ دِيِنِكُمْ عَنْ حُمَيْرا) ؟
٥- وحديث ثناء النبي على أويس ولقيا عمر وعلي له، وطلبهما منه
الدعاء؟
٦- وحديث: (أَرواح الشهداء في جوف طير معلقة تحت العرش)
وهل روح الشهيد هي روح الطير أم لا؟
٧- وهل يثاب قارئ القرآن وإن لم يفهم معناه أو فهمه على غير المراد؟
٨- وما يروى عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه أكل طعامًا، فبان
له أن فيه شبهةً أو حرامًا فَتَقَايأَهُ، فهل لنا قُدْوَةٌ في عمل الصديق؟
٩ - ألا وإن من أكبر الشبه الفاتكة بالعقول ما يدّعيه المشعوذون من
عبدة الجن من قولهم: إنهم يتصورون بصور مختلفة، ويتشكلون بأشكال
متنوعة إلى آخر ما يدعون ويزعمون، وقديمًا كنت لا أُعَوِّلُ على مختلقاتهم،
ولا أُعِيِرُ أذني لسماع خرافاتهم وخزعبلاتهم؛ حتى سمعت كلام الأستاذ الإمام
في هذا الموضوع فانشرح له صدري، وزال به غين الإشكال عن فهمي،
غير أني ارتبكت في تأويل قول الله تعالى عن أضياف إبراهيم حيث تَصوّروا
في صورة البشر ... إلخ ما يقول أهل التفسير.
١٠ - وهل القائل:
علة الكون أنت ولولاك ... لدامت في غيبها الأشياء
يعني بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، مصيب في قوله أم مخطئ؟ فقد
اتخذ هذا القول بعض السذج من عقائد الدين الواجبة التسليم. أفيدوني سيدي
عن هذه الكلمات، وإن كانت ليست من الأهمية بمكان فقد أنزلت أملي بأعتابكم،
وأَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعَمَّمَ النَّفعُ بِكُم ويُؤْتِيكُم مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا.
ع. ب. ح.
(الجواب)
١- حديث: (أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ)
هذا الحديث رواه البيهقي في الشعب، والبَزَّار في مسنده عن أنس
وهو ضعيف، قال ابن الأثير: هو جمع الأبله، وهو الغافل عن الشر
المطبوع على الخير، وقيل: هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور،
وحسن الظن بالناس؛ لأنهم أغفلوا أمر دنياهم فجهلوا حذق التصرف فيها،
وأقبلوا على آخرتهم فشغلوا أنفسهم بها، فاستحقوا أن يكونوا أكثر أهل
الجنة، فأمّا الأبله وهو الذي لا عقل له فغير مراد في الحديث، وفي حديث
الزبرقان (خَيْرُ أَوْلادِنَا الأَبْلَهُ الْعَقُوُلُ) ، يريد أنه لشدة حيائه كالأبله وهو عقول
اهـ. وفَسّر في مادة عقل بأنه الذي يُظَنُّ به الحُمْقُ فإذا فتش وُجِدَ عَاقِلاً،
وقال سهل التستري الصوفي: هم الذين ولهت عقولهم وشغلت بالله عز
وجل، وقال بعضهم في تفسيره: إن من عبد الله تعالى لأجل الجنة فهو
أبله في جنب من يعبده لكونه ربًّا مالكًا، وقد يقال: إن هذا يُعَدُّ أيضًا أبله
في جنب من يعبده لعلمه بكماله الذي تدل عليه جميع أسمائه الحسنى
وصفاته العليا. وقال بعضهم: إن المراد بالجنة ما يقابل الدرجات العلى من الجنة
التي هي منازل المقربين الذين هم أرقى من هؤلاء.
* * *
٢- حديث: (إِنَّمَا يُثَابُ النَّاس عَلَى قَدْر عُقُولِهِمْ)
لا أذكر أنني رأيت هذا الحديث في دواوين المحدثين بهذا اللفظ، وما
أراه إلا من موضوعات المتأخرين، ولكن ورد في معناه حديث عائشة
في نوادر الأصول للحكيم الترمذي وهو أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم:
بأي شيء يتفاضل الناس؟ قال: (بالعقل في الدنيا والآخرة) قالت: قلت:
أليس يجزى الناس بأعمالهم؟ قال: (يا عائشة وهل يعمل بطاعة الله إلا
من عقل؟ فبقدر عقولهم يعملون وعلى قدر ما يعملون يجزون) ، وحديث
أنس عند الحكيم الترمذي في نوادره أيضًا: (إن الأحمق يصيب بحمقه
أعظم من فجور الفاجر، وإنما يقرب الناس الزلف عقولهم) ورواهما داود
ابن المحبر في كتاب العقل وتختلف ألفاظهما عنده وهو نفسه مختلف فيه
قيل: هو ثقة، وقال أحمد: لا يدري ما الحديث، وقال الدارقطني فيه: متروك.
وقال في كتابه كتاب العقل: وضعه أربعة أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه
منه داود بن المحبر فَرَكَّبَهُ بأسانيدَ غير أسانيد مَيْسَرة إلخ ما قال. أما سند
حديث أنس في النوادر ففيه جهالة، وأما سند حديث عائشة عنده فحسبك
أن في إسناده ميسرة بن عبد ربه الفارسي البصري قال ابن حبان: كان
يروي الموضوعات عن الأثبات، وهو واضع أحاديث فضائل القرآن،
وقال أبو داود: أقر بوضع الحديث. فعلى هذا لا حاجة إلى الجمع بين
الحديثين فأحدهما ضعيف والآخر موضوع، ولو فرضنا أنهما صحا فما
قاله ابن الأثير في تفسير الأول كاف في منع التعارض.
* * *
٣ - حديث عرج العقول
حديث: (يَأَتْي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَعْرُجُ فِيِهِ الْعُقُولُ) موضوع أيضًا.
* * *
٤ - حديث: (خُذُوا شَطْرَ دِيِنِكُمْ عَنْ الحُمَيْرَاءِ)
هكذا ذكر الحديث في الكتب قال السخاوي: يعني عائشة رضي الله
عنها، قال ابن حجر: لا أعرف له إسنادًا، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث،
إلا في النهاية لابن الأثير، ولَمْ يذكر من خرجه.
وذكر الحافظ عماد الدين أنه سأل المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه اهـ،
أقول: وإذ لم يعرفه هؤلاء الحفاظ الذين أحاطوا بجميع كتب الحديث علمًا
وحفظًا فمن يعرفه؟ وقد قال بعضُ العلماء في تفسيره على تقدير ثبوته: إن
المراد بشطر الدين الأحكام الخاصة بالنساء باعتبار قسمة الأحكام الشرعية إلى
قسمي المكلفين من النساء والرجال.
* * *
٥ - حديث ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على أويس القرني
روى مسلم في صحيحه عن أسير بن جابر أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر
وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس، فقال عمر: هل ههنا أحد من القرنيين؟
فجاء ذلك الرجل فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال:
(إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس لا يدع باليمن غير أُمٍّ له قد كان به
بياض؛ أي بَرَصٌ فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم فمن
لقيه منكم فليستغفر لكم) وروى أيضًا عنه عن عمر أنه قال: إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن خير التابعين رجل يقال له
أويس له والدة وكان به بياض فمروه فليستغفر لكم) ؛ وروى عنه أيضًا قال:
كان عمر إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر
حتى أتى على أويس فقال له: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من
مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرئت منه إلا موضع
درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن
من مراد ثم من قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم له والدة
هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)
فاستغفر لي. فاستغفر له. فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال: ألا
أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي. فلما كان من
العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس فقال: تركته
رث البيت قليل المتاع (فذكر له عمر الحديث) قال: فأتى أويسًا فقال: استغفر
لي، فقال: أنت أحدث عهد بسفر صالح فاستغفر لي، قال: لقيت عمر؟ قال:
نعم، فاستغفر له، ففطن له الناس فانطلق على وجهه، قال أسير (الراوي) :
وكسوته بردة فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة؟ اهـ.
هذه رواية مسلم في صحيحه عن أسير بن جابر، وروى حديثه ابن
سعد وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر في تاريخه مطولاً
في قصة لأويس عن حاله في الكوفة، وروى قصته ابن عساكر وغيره
عن صعصعة بن معاوية وسعيد بن المسيب والحسن والضحاك بأسانيدَ
ضعيفة كلها عن عمر بن الخطاب، وفي رواية الضحاك عن ابن عباس
عند ابن عساكر أن عمر وعليًّا ركبا حمارين، وأتيا الأراك حيث كان
أويس وأنهما طلبا منه الدعاء فدعا لهما وللمؤمنين والمؤمنات.
وهذه الرواية لا تصح وإنما الصحيح من كل ما روي عن أويس هو ما
أخرجه مسلم عن أسير بن جابر ويقال ابن عمرو، وكان يقال له يسير أيضًا
على أن ابن حبان قال عند ذكره له في الثقات: (في القلب من روايته
قصة أويس شيء إلا أنه حكى ما حكى عن إنسان مجهول فالقلب إلى أنه
ثقة أميل) . وقال ابن سعد: كان ثقة وله أحاديث. وذكره العجلي في الثقات
من أصحاب ابن مسعود. وقال ابن حزم: أسير بن جابر ليس بالقوي، الجمهور
على توثيقه تبعًا لمسلمٍ.
* * *
٦ - حديث: (أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ)
حديث: (أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ) ، قد رواه أحمد في مسنده،
ومسلم في صحيحه، وأصحاب السنن الأربعة، وهو وارد في شهداء أحد، وقد
اختلفت ألفاظه عند رواته، ففي بعضها أنها تكون في حواصل طير، وفي بعضها في
صورة طير وفي بعضها (كطير خضر) ، ومجموع الروايات يدل على أن
أرواحهم تتشكل بصورة الطير فترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، ويكون
ذلك شأنها إلى يوم القيامة فتبعث مع سائر الخلق في الأجساد المعروفة،
وليس معناه أنها تحل في طير من الطير الموجودة كما يقول أهل التناسخ،
والحديث يمثل لنا حياة الشهداء الغيبية في عالم الغيب، قال بعض العلماء: إنه
خاص بشهداء أحد، وقيل: بل يعم من كان مثلهم في الإخلاص، ولا يمكن أن
يعم كل من قتل في الحرب لما ورد من عقاب من يقاتل رياء وسمعة.
* * *
٧ - ثواب تالي القرآن بغير فهم
الأصل في مشروعية تلاوة القرآن الاهتداء والاعتبار والاتعاظ به،
ولا يكون ذلك إلا بالتدبر والفهم، وتلاوة القرآن مع الغفلة عن معناه ذنب
كما ورد في الأثر: (رُبَّ تَالٍ لِلْقُرْآنِ وَالْقُرْآَنُ يَلْعَنُهُ) وقد يثاب التالي
بغير فهم إذا كان يتلو لغرض شرعي آخر كتجويد التلاوة والحفظ؛ فإن
توجه الذهن إلى ضبط الألفاظ وإتقان مخارج الحروف مثلاً يشغل عن تدبر
المعاني؛ ولكن مثل هذا يكون غرضًا عارضًا لا دائمًا.
* * *
٨ - ورع الصديق والقدوة به.
روى البخاري عن عائشة أنه كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج،
وكان أبو بكر يأكل من خراجه؛ فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال
له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في
الجاهلية فأعطاني، وفي رواية أبي نعيم كنت مررت بقوم في الجاهلية
فرقيت لهم فوعدوني فلما كان اليوم مررت بهم فإذا عرس لهم فأعطوني،
فأدخل أبو بكر أصابعه في فيه وجعل يقيء حتى ظننت أن نفسه ستخرج،
ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء.
وروى مالك من طريق زيد بن أسلم مثل ذلك عن عمر الفاروق، قال زيد:
شرب عمر لبنًا فأعجبه فسأل الذي سقاه: من أين لك هذا اللبن؟ فأخبره أنه ورد على
ماء - قد سَمَّاهُ - فإذا نعم الصدقة وهم يسقون، فحلبوا لي من ألبانها، فجعلته في
سقائي فهو هذا. فأدخل عمر يده فاستقاء.
أين أهل زماننا وغير زماننا من هذا الورع وقد صار من يتقي الحرام
الصريح المجمع على تحريمه يعد من النوادر في أكثر الأمصار والحواضر،
التي يزعم متفرنجة أهلها أنهم أرقى وأكمل من السلف الصالح؛ لأنهم في
زمن اتسعت فيه دائرة الفنون والصناعات؟
* * *
٩ - تشكل الملائكة والجن
لا حاجة إلى تأويل ما ورد عن ضيف إبراهيم، وهو لا يدل على صدق
أولئك الدجالين في حكاياتهم الخرافية عن الجن، وهل تقاس الملائكة
بالحدادين؟ ! نقبل كلَّ ما ورد في التنزيل عن عالم الغيب، وكذلك ما صح
في الأخبار ولا نقيس عليه، ونقول: صدق الله ورسوله وكذب الدجَّالون.
* * *
١٠ - القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم علة لخلق الكون.
المشهور المعروف عن متكلمي الأشاعرة الذين يتبعهم أكثر المسلمين
أن أفعال الله تعالى لا تعلل، ولكنهم يقبلون أمثال هذا البيت في الإطراء
وقصائد المدح.
وهذا المعنى في البيت مأخوذ من حديث: (لَوْلاَكَ لَمَا خُلِقَت الأَفْلاَكُ)
وهو موضوع كما قال الصغاني وابن تيمية وغيرهما.
* * *
(حَدِيثُ: الْعَمَائِمُ تِيِجَانُ الْعَرَبِ)
س٤٦: من صاحب الإمضاء في فليمبغ بجاوه.
سيدي أسألك عن لفظ: إذا وضعت العرب عمائمها فقد ذلت، هل هو
خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أم أثر وما هو معناه؟ تفضل أجبني
على صفحات المنار.
... ... ... ... ... ... ... عقيل بن عبد الله الحبشي
ج: روى الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس مرفوعا:
(الْعَمَائِمُ تِيِجَانُ الْعَرَبِ، فَإِذَا وَضَعُوا الْعَمَائِمَ وَضَعُوا عِزَّهُمْ) وسنده
ضعيف، ولعل معناه أن العمائم لما كانت هي العلامة التي تمتاز بها
العرب عن غيرها من الأمم في المشخصات الظاهرة، وكان وضعها لها
وتركها إياها تركًا لرابطة من الروابط العامة بينها، ولا يكون غالبًا إلا
لتفضيل زي آخر من أزياء الأمم عليها، لما كان ذلك كذلك كان ترك
العمائم احتقارًا لهذا الزي المشخص يتضمن احتقارًا ما لأهله وتفضيلاً لمن
استبدل زيَّهم به عليهم، وذلك مبدأ ترك العز - عز الاستقلال - وتفضيل
الأفراد أمتهم على غيرها.
* * *
(تمثيل الوقائع التاريخية والخيالية للاعتبار)
س٦٥: من صاحب الإمضاء الحرفي في دمشق الشام.
سيدي الأستاذ صاحب المنار الأغر.
ما رأي الأستاذ حفظه الله في تمثيل الروايات الأخلاقية التي لا
يشوبها من ضروب الخلاعة، أو من ظهور النساء حاسرات على
المسارح والتي تحبب الحضور بالفضيلة وتنفرهم من الرذيلة؟ وهل يجوز
لنا أن نعتبر التمثيل غيبة فنحرمه بدعوى أن الغيبة محرمة؟ وهل ورد في
النصوص الشرعية تصريحًا أو تلميحًا ما يدل على حرمة التمثيل الأخلاقي،
أو يشير إلى اجتنابه، وعهدنا بهذا النوع من التمثيل أنه خير ما يغرس
في النفوس حب الفضائل وكره الرذائل؟
أرجو إجابتي على هذه الأسئلة حتى لا يبقى مجال لتغرير المسلمين
باسم الشريعة، ورميها بسهام غير سديدة، هدانا الله بمناركم الوضَّاح إلى
أقوم طريق. (ع..)
ج: جاءنا مثل هذا السؤال أيضًا من دمشقي آخر أشار إلى اسمه
بحرفي م. ن، وجاء في سؤاله أن للسؤال واقعة حال في دمشق، وهي
أن تلاميذ المدرسة العثمانية بدمشق مثلوا قصة زهير الأندلسي التي تشرح
كيفية انقراض المسلمين من الأندلس فقام بعض الحشوية من طلاب الشهرة
وأصحاب الدعوى يشنعون على المدرسة ويكفرون تلاميذها ومعلميها
ويزعمون أنهم حاولوا هدم الإسلام بتذكير المسلمين بأسباب انقراض
المسلمين من مملكة إسلامية كانت زينة ممالك الأرض بالعلوم والفنون
والآداب، وخطبوا بذلك على المنابر في رمضان فصدق فيهم قول من قال:
إن لمتعصبي دمشق في كل رمضان ثورة.
أشار السائل الذي نشرنا نص سؤاله إلى ما صرح به السائل الآخر
من احتجاج محرمي التمثيل على تحريمه بأنه يتضمن الغيبة وقال هذا
المصرح: إن بعضهم حرّم قراءة الجرائد والمجلات بمثل هذا الدليل.
نقول: إن صح قولُهم: إن تلك القصة أو الواقعة التي مثلت في
دمشق كانت متضمنة لشيء من الغيبة، وهو ما يستبعد جدًّا، فالمحرم فيها
هو الغيبة لا جميع القصة ولا القصص التي تمثل ولا التمثيل نفسه. وكان
الأظهر أن يقولوا إنها تتضمن الكذب في بعض جزئياتها، وكأنهم فطنوا
إلى كون الكذب غير مقصود فيها، ولا يتحقق إلا بالنسبة إلى مجموع القصة إذا
كان ما تقرره وتودعه في الأذهان من مغزاها المراد غير صحيح؛
كأن تصور قصة زهير لقرائها وحاضري تمثيلها أن الأسبانيين اضطهدوا
المسلمين وفتنوهم عن دينهم وخيروهم بين الكفر والخروج من الوطن،
ويكون هذا الذي تصروه لم يقع أو وقع ضده.
هذه القصص التمثيلية من قبيل ما كتبه علماؤنا المتقدمون من
المقامات التي تقرأ في المدارس الدينية وغير الدينية كمقامات البديع
ومقامات الحريري، وقد كان الحريري رحمه الله تعالى توقع أن يوجد في
عصره أمثال أولئك المتنطعين الذين حرموا قصة زهير الأندلسي فرد
عليهم بقوله في فاتحة مقاماته:
على أني وإن أغمض لي الفطن المتغابي، ونضح عني المحب
المحابي، لا أكاد أخلص من غمر جاهل، أو ذي غمر (حقد) متجاهل،
يضع مني لهذا الوضع، ويندد بأنه من مناهي الشرع، ومن نقد الأشياء
بعين المعقول، وأنعم النظر في مباني الأصول، نظم هذه المقامات، في
سلك الإفادات، وسلكها مسلك الموضوعات، عن العجماوات والجمادات،
ولم يسمع بمن نبا سمعه عن تلك الحكايات، أو أَثِمَ رواتُها في وقت من
الأوقات، ثم إذا كانت الأعمال بالنيات، وبها انعقاد العقود الدينيات، فأي
حرج على من أنشأ مقامات للتنبيه، لا للتمويه، ونحا بها منحى التهذيب،
لا الأكاذيب، وهل هو إلا بمنزلة من انتدب لتعليم، وهدي إلى صراط
مستقيم.
فهو يقول إنه لم يعرف عن أحد من علماء الأمة إلى زمنه أنه حرم
أمثال تلك القصص التي وضعت عن الحيوانات ككتاب كليلة ودمنة وغيره؛
لأن المراد بها الوعظ والفائدة وصورة الخبر في جزئياتها غير مرادة،
وما سمعنا بعده أيضًا أن أحدًا من العلماء حرّم قراءةَ مقاماتِه، ولكن اجتهاد بعض
المغرورين بالحظوة عند العوام يتجرءون على تحريم ما لم يحرمه الله
ورسوله، ولا حرم مثله أحد من علماء الملة، وهم مع هذا يتبرمون بألسنتهم من
دعوى الاجتهاد واسم الاجتهاد، ويشنعون على من يقول: إنه يمكننا أن
نعرف الأحكام بأدلتها الشرعية، فهم يعترفون بأنهم ليسوا أهلاً للاستدلال
ولا لمعرفة حكم بدليله، ويَدَّعُون أنهم مقلدون لبعض الأئمة المجتهدين رضوان الله
عليهم فليأتونا بنص من أولئك الأئمة على تحريم ما حَرَّمُوه إن كانوا صادقين.
ثم نقول من باب الدليل: قد فسر الحرام في بعض كتب الأصول بأنه
خطاب الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا فليأتونا بخطاب الله المقتضي
لتحريم تمثيل الوقائع الوعظية والتهذيبية، أما أصول المحرمات في الكتاب
فقد بينها الله تعالى بالإجمال في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً
وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: ٣٣) ؛ أفلا يخشى أولئك
المتجرئون أن يكونوا من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، الذين قال فيهم
أيضًا: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا
عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل: ١١٦)
وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا
مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيِرٌ مِنَ النَّاسِ) الحديث، وهو في الصحيحين والسنن
كلها من حديث خيار الآل والصحب علي وولده الحسين والعبادلة
الثلاثة وعمار والنعمان بن بشير رضي الله عنهم، فإذا كان الحرام بَيِّنًا؛
فكيف يخفى منه مثل هذا الحكم على جميع المسلمين في هذه القرون
الطويلة، ولا يهتدي إليه إلا أولئك المضيقون في هذا العام؟ إننا لا نرى
وجهًا ما لهذا التحريم ولو سلَّمنا أن في القصة الممثلة كلامًا يصح أن يعد
غيبة أو كذبًا فإننا نعلم أن في كثير من كتب الحديث والفقه والوعظ أحاديث
موضوعة، ولم يقل أحد إن ذلك يقتضي تحريم تأليف تلك الكتب وقراءتها
وطبعها، وفي كتب الحديث طعن في الرجال فهل نحرم علم أصول
الحديث؟ إلا أنه ليحزننا أن يكون لأمثال هؤلاء المفتاتين المتنطعين كلمة تسمع
في مدينة دمشق الفيحاء التي هي أجدر البلاد بأن تكون ينبوعًا لحياة
الدين والعلم والارتقاء في سورية وجزيرة العرب كلها، وما آفتها إلا نفر من
المتنطعين قد جعلوا الدين عقبة في طريق الارتقاء العلمي والعملي،
فنسأل الله تعالى أن يلهمهم الرشد، ويهديهم طريق القصد، أو أن يبصر
العامة كالخاصة في تلك المدينة الزاهرة بحقيقة أمرهم، حتى لا تتبع كل
ناعق منهم.
* * *
(خطبة الجمعة بالعربية والعجمية)
س٦٦ من صاحب الإمضاء في مكة المكرمة.
الحمد لله الذي جعل السؤال متوسلاً لمزيل الإشكال، والصلاة
والسلام على النبي ذي الجمال، وعلى آله وصحبه ذوي الكمال، أما بعد،
فما قولكم دام فضلكم في أداء بعض خطبة الجمعة بالعربية وبعضها بالعجمية؛
لأجل تفهيم من يحضرها من الأعاجم الذين لا يفهمون العربية فهل تكون
هذه الخطبة والحال ما ذكر تعد فاصلاً أم لا؟ أفتونا بالجواب، ولكم الأجر
والثواب، والسلام في المبدأ والختام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه أضعف الطلبة
... ... ... ... ... ... ... ... ... إبراهيم المكي
ج: هذا السؤال مبني على ما قاله الفقهاء الشافعية في بحث اشتراط
كون الخطبة بالعربية لاتباع السلف والخلف الذي هو إجماع عملي متواتر؛
ولأنها من الأذكار التي شرعها الله لنا في عبادتنا كتكبيرة الإحرام وقراءة القرآن
في الصلاة، ونزيد على هذين التعليلين والدليلين أن وحدة الأمة الإسلامية
أمة التوحيد لا تتم إلا إذا كان لها لسان مشترك يعرفون به دينهم من مصدر
واحد وتأثير واحد؛ وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون
مصالح دنياهم، كذلك فيكون بعضهم لبعض كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا.
قال الفقهاء في هذا البحث: إن الأعاجم إذا أمكنهم تعلم الخطبة
بالعربية وجبت عليهم على سبيل فرض الكفاية فإن لم يقم بها أحد منهم
أثموا كلهم ولا جمعة لهم بل يصلون الظهر، وقالوا: يجب السفر لأجل
تعلمها إذا تعين ولو زاد على مسافة القصر وقالوا في حال عدم إمكان تعلم
الخطبة بالعربية، وهذا لا يكون إلا نادرًا وفي بعض المواضع والأحوال، خطبوا
بلغتهم مترجمين أركان الخطبة العربية فإن لم يحسن أحد منهم الترجمة
فلا جمعة لهم، وقالوا: إنه يشترط الموالاة بين أركانها وبين الخطبتين،
وبينهما وبين الصلاة.
إذا تبين هذا نقول: الظاهر أن السائل يريد بأداء بعض الخطبة
بالعربية أداء جميع أركانها من الحمدلة والتصلية والوصية بالتقوى وقراءة
الآية والدعاء، ويريد بأداء بعضها بالعجمية إيراد طائفة من الوصية
والوعظ بالعجمية لأن هذا هو الذي يضر فيه الفصل الذي جعله موضع
الاستفهام وجوابه بناء على مذهب الشافعية أن الفصل الذي يضر هو ما
كان بقدر صلاة ركعتين بأخف ممكن فأكثر وهو زهاء دقيقتين فإن كان
أقل من ذلك لم يضر، على أن اشتراط الموالاة ليس متفقًا عليه وجعله في
المنهاج أظهر القولين، وقد سبق لنا استحسان ما يفعله بعض علماء
الأعاجم من ترجمة الخطبة بعد الصلاة.
* * *
الموالاة وتعاون المسلمين مع غيرهم
واستعانتهم بهم على الخير
س٦٧: من صاحب الإمضاء في دمشق الشام صاحب سؤال ٣٤
و٣٥ في ص ٤٢٩.
حضرة مدير مجلة المنار الأجل
نشكركم على بيانكم للأحكام المتعلقة بمسألة دخول المسلم في جمعية
سرية بيد أنه استشكل علينا قولكم: إنه يجوز للمسلم أن يدخل في كل
جمعية عملها مشروع؛ وإن كان أعضاؤها أو رئيسها من غير المسلمين
اهـ.
وهنا لنا سؤال نرغب إليكم أن تجيبونا عنه وهو: ألا يعد دخول
المسلم حينئذٍ موالاة لأبناء الملل الأخرى، واستعانة بهم، واستراشادًا
بآرائهم؟ وإذا كان كذلك فهل هو سائغ.
وذكرتم أن المسلم إذا دخل في جمعية على أنه ليس فيها شيء مخالف
للشرع الثابت ثم ظهر له فيها ما يخالفه، ولم يستطع إزالته وجب عليه أن
يتركها ويتبرأ منها اهـ، وهنا نسألكم عن الحكم فيما إذا كانت تلك
الجمعية تمنع الداخل فيها من الانسحاب منها بمقتضى حلفه اليمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ابن الأمير محمد
ج: نهي المسلمون أن يوالوا غير المسلمين في دينهم ونصرة أقوامهم
على المسلمين، وهذا ما كان يُفْهَمُ من النهي عن اتخاذهم أولياء من دون
الله، وما ورد في الحديث من نفي الاستعانة بالمشركين إنما ورد في
الاستعانة بهم في الحرب، وله معارض؛ ولذلك كانت المسألة خلافية
والظاهر أن عدم الاستعانة كان عند الاستغناء عنها؛ وإلا فقد ثبتت
الاستعانة في السنة وسيرة الصحابة - رضي الله عنهم - وليس هذا المقام
هو مقام التفصيل في ذلك، وقد سبق لنا بيانه في موضعه من قبل، وهو
ليس مما نحن فيه، وأما التعاون على دفع الشر أو فعل الخير فهذا لا مجال
للخلاف فيه، وينزه الإسلام أن يمنعه، مثاله ما ذكرنا في جواب السؤال
السابق من التعاون في جمعية الإسعاف، وهل يوجد مجال للخلاف في
الاستعانة بالكتابي أو الوثني أو الملحد على إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق
وإقامة الحمل يقع في الطريق؟ إنه لا يستطيع أحد أن يهجو دينًا بحق أشد
من هجوه بتحريم مثل هذه الأعمال.
أما الجمعيات التي يشترط فيها الحلف على عدم الخروج منها
فالاحتياط اجتنابها فإن احتاج أحد إلى الدخول فيها لمصلحة مشروعة
يستثنى أو يقيد الحلف بما إذا لم يظهر له فيها ما يخالف اعتقاده، فإن حلف وأطلق
ثم رأى منكرًا لم يستطع إزالته، ورأى أن بقاءه في الجمعية يتضمن إقرار
هذا المنكر أو تقويته وجب عليه أن يترك ويُكَفِّرَ عن يمينه؛ فإن المنكر لا
يلزم باليمين، وقد ورد الإذن بنقض اليمين فيما دون ذلك ففي الحديث الصحيح:
(مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ
يَمِينِهِ) رواه مسلم وغيره.
* * *
(استدراك على الفتوى في إنزال القرآن على سبعة أحرف)
فاتنا أن نذكر في تلك الفتوى المنشورة في الجزء الماضي ص٧٣٦ ما
ورد في حديث إنزال القرآن على سبعة أحرف من الروايات الصحيحة عند
الشيخين وغيرهما؛ فقد بنينا الجواب على اللفظ الذي أورده السائل
وروايته ضعيفة، فوجب التنبيه.