للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الرحمن الجمجموني


مبحث في الجرح والتعديل

بسم الله الرحمن الرحيم
إثبات توثيق
كعب الأحبار ووهب بن منبه
حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإنكم كثيرًا ما تدعون إلى انتقاد المنار. وإن هذه أكبر مزية له؛ لأن تحقيق
المباحث العلمية من أسمى ما يتشوق إليه طلاب الحقائق الذين لا يستريحون إلا
بالوقوف عليها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالانتقاد والمناقشة والأخذ والرد. فإن
الحقيقة بنت البحث، وإن المناقشة في أي مبحث كان تولد فيه من الفوائد العلمية ما
تجعله مقدمًا على غيره من المواضيع الغفل التي لم يطرقها بحث فلم تنضج بعد.
ولم يكن لها في نفس القارئ ذلك الأثر الثابت الذي يشعر به عند تلاوة مواضع
البحث والمناظرة، وشتان بين اطلاعه على ما يحتمل أنه رأي شخصي، وبين ما
يعلم عنه من سميته في الحال.
لذلك أكتب ما يأتي:
أتيتم في خلال تفسير قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} (الأعراف: ١٠٧) من
سورة الأعراف بما يؤخذ منه أنكم تجرحون وتطعنون على كعب الأحبار
ووهب بن منبه بأنهما:
(١) رويا أخبار غرائب بني إسرائيل المكذوبة.
(٢) وكانا يدسان في الدين الإسلامي بكذب الرواية.
(٣) وأنهما من جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين عمر وعثمان رضي الله
عنهما كما هو موضح بصحيفة ١٦٩ من الجزء الثالث الصادر في ٢٩ شعبان سنة
١٣٤٢هـ ولما كان هذا التجريح غير المعروف عنهما عند رجال الحديث من
المتقدمين والمتأخرين إلى عصرنا هذا. ويوجب سوء سمعتهما عند قراء المجلة.
ويترتب عليه الحط من اعتبار أشهر كتب الحديث (البخاري ومسلم وأبي
داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وموطأ الأمام مالك) لذكرهما فيها على سبيل
الرواية عنهما والاحتجاج بهما في عدة مواضع. وكنا في وقت كثر فيه الملحدون
والمارقون الذين يثيرون على الدين الإسلامي أقل شبهة، فخشية أن يقول مارق: إن
صاحب المنار قد أظهر في رجال كتب الحديث التي تدعون صحتها من هو كذاب،
دساس، ويحاول أن يقيم من وراء ذلك دليلاً على تقصير أصحابها في انتقاء
رجالهم، ولا يخفى ما في ذلك من الخطر، وإيفاء للرجلين حقهما بادرت إلى انتقاد
هذا الطعن والتجريح مثبتًا براءة الحبرين مما ذكر بالإشارة إلى محال نصوص
علماء الجرح والتعديل الصريحة في توثيقهما توثيقًا لا يصح معه جرحهما بشيء
مما ذكر.
فلم تنشروا الانتقاد إلا بعد أكثر من عام أي في صحيفة ٧٣ من الجزء الأول
الصادر في ٢٩ رمضان سنة ١٣٤٣ متبعين له بشيء من الرد على. ثم لم تنشروا
بقية الرد إلا بعد عام آخر بصحيفة ٧١٦ من الجزء التاسع الصادر في ١٥ شعبان
سنة ١٣٤٤ فلما كمل الرد ولم أجد فيه ما يشفي العلة. بل زاد الطين بلة. فإنكم
وإن سلمتم ببرائتهما من الطعن الثالث فقد بالغتم في نسبتهما إلى الأولين وهما محل
الخطر (فوقفت حائرًا) لأن الأمر أصبح في احتياج لمزيد من بحث ودرس، وأنا
مشتغل بالحرث والدرس. ولم يكن بد من بيان الواقع من توثيق الحبرين وإلا كنت
جانيًا عليهما بتركهما بعد تعريضهما لأسنة البحث والمناظرة. فرجعت إلى ردكم
منقبًا عما حال دون إدراك الحقيقة، فوجدت السبب ينحصر في ثلاثة مواضع مهمة.
فتجدد أملي في أنه مع بيانها يزول ما كنت أحذر. حيث إنها في نفس المنار تنشر
ومن علق بنفسه شيء مما سبق يزول. وننال معكم بذلك من الله تعالى الرضا
والقبول.
***
الموضع الأول
قلب نص قاطع في الموضوع من الإثبات إلى النفي - وذلك فيما نقلتم في
سياق جرحكم كعب الأحبار بصحيفة ٧٧ من الجزء الأول المذكور ونصه (وقد
صرح الحافظ الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء في صحيح البخاري وغيره) .
ولما كان هذا غير المعروف راجعت ترجمته في الطبقات، أي تذكرة الحفاظ
بصحيفة ٤٥ من الجزء الأول فوجدت النص هكذا (وله شيء في صحيح البخاري
وغيره) .
هذا وقد قال الحافظ الذهبي في أول هذا الكتاب الجليل ما نصه (هذه تذكرة
بأسماء معدلي حملة العلم النبوي ومن يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف
والتصحيح والتزييف) واسما الحبرين ثابتان فيها وقال في ترجمة كعب المذكورة
(إنه من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب أسلم في زمن أبي بكر فقدم من
اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم وأخذ هو من الكتاب
والسنة عن الصحابة وتوفي في خلافة عثمان، وروى عنه جماعة من التابعين
مرسلاً. وله شيء إلخ وترجمة وهب بن منبه في صحيفة ٨٨ من الجزء نفسه
وقال فيها (إنه عالم أهل اليمن ولد سنة ٣٤هـ وروى عن أبي هريرة وعن عبد
الله بن عمر وابن عباس وأبي سعيد وجابر بن عبد الله وغيرهم وعنده من علم أهل
الكتاب شيء كثير فإنه صرف عنايته لذلك وبالغ. وحديثه في الصحيحين عن أخيه
همام) .
وقد نص صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبد العزيز الخولي المدرس بقسم
التخصص في القضاء الشرعي في رسالته مفتاح السنة المطبوعة والمنشورة بمجلة
المنار على أن تذكرة الحفاظ هذه من كتب الثقات. كما نص العلامة القاسمي في
كتابه الجرح والتعديل المطبوع والمنشور بالمنار أيضًا (على أن من الوجوه التي
تعرف بها ثقة الراوي ذكره في تاريخ الثقات) ، وحيث ثبت ذكر الحبرين في
هذه التذكرة وهي من تواريخ الثقات فيكون هذا حكمًا بتوثيقهما توثيقًا لا يقبل نقضًا
ومن ادَّعى غير ذلك فعليه البيان.
***
الموضع الثاني
حمل أقوال بعض سلف الأمة وعلمائها على غير مرادهم لعدم البحث - وذلك
ثابت في قولكم ضمن الرد بصحيفة ٧٧ من الجزء الأول المذكور ما نصه (أما
كعب الأحبار، فإن البخاري لم يرو عنه في صحيحه شيئاً ولكن ذكره فيه بما يعد
جرحًا له لا تعديلاً. قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من تهذيب التهذيب: وروى
البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث
رهطًا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق هؤلاء
المحدثين عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب (تأمل) .
قال الحافظ بعد نقل هذه العبارة عن الأصل: (قلت) هذا جميع ما له في
البخاري وليست هذه رواية عنه فالعجب من المؤلف كيف يرقم له ورقم البخاري
وليست هذه رواية عنه فيوهم أنه أخرج له.. . إلخ، يعني أن ذكر صاحب
التهذيب رقم البخاري وهو حرف (خ) عند اسم كعب غلط، وقد صرح الحافظ
الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء في صحيح البخاري وغيره. والمنتقد يبدي
ويعيد ذكر رواية البخاري عنه وتوثيقه له، وأقول: إن قول معاوية: إن كعبًا كان من
أصدق المحدثين عن أهل الكتاب، وإنهم مع ذلك اختبروا عليه الكذب طعن صريح
في عدالته وفي عدالة جمهور رواة الإسرائيليات؛ إذ ثبت كذب من يعد من أصدقهم
ومن كان متقنًا للكذب في ذلك يتعذر أو يتعسر العثور على كذبه في ذلك العصر إذ
لم تكن كتب أهل الكتاب منتشرة في زمانهم بين المسلمين كزماننا هذا، إلى أن قلتم:
وجمله القول أن جرح كعب لا يقتضي خسران شيء يذكر من العلم في صحيح
مسلم، ويوافق ما عند البخاري من إثبات معاوية لكذبه عنده وعند غيره؛ ولذلك امتنع
البخاري عن الرواية عنه على غرور الجمهور بعبادته. اهـ منار.
فهذه الجملة اشتملت عدا رأيكم على ثلاث عبارات للمتقدمين (الأولى) عبارة
سيدنا معاوية المروية في البخاري (الثانية) عبارة الحافظ ابن حجر المنصوصه
في كتابه تهذيب التهذيب (الثالثة) عبارة الحافظ الذهبي المثبتة في كتابه الطبقات
المذكورة. أما عبارة الذهبي فقد بينا ما فيها قريبًا وآفتها من كلمة (ليس) التي
حشيت فيها فقلبتها من الإثبات إلى النفي، وعبارة ابن حجر مترتبة معنى على
عبارة سيدنا معاوية. فوجب الكلام أولاً على عبارة معاوية رضي الله عنه من جهة
نصها ومعناها مع بيان غرض الإمام البخاري من ذكرها في صحيحه حتى يتبين
بجلاء إن كانت طعنًا على كعب أو توثيقًا له.
أما من جهة نصها في صحيح البخاري فهي في كتاب الاعتصام بالكتاب
والسنة، وقد أتى بها البخاري عقب ترجمته هكذا (بسم الله الرحمن الرحيم باب قول
النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء. وقال أبو اليمان: أخبرنا
شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطًا من
قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين
يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب. اهـ بخاري
وأثبت صاحب الفتح (إن) في رواية (وحدثنا أبو اليمان) وأنّ إنْ مخففة من
الثقيلة، وضبط شيخ الإسلام (وذكر) بالبناء للمفعول وفي النسخ المضبوطة بالقلم
علامة صحة حذف كلمة (أهل) عن أبي ذر الهروي فتكون روايته هكذا (الذين
يحدثون عن الكتاب) هذا ما يتعلق باللفظ.
وأما من جهة المعنى فأحسن ما يبين معناها هو نفس كلام سيدنا معاوية ذاته
عن كعب الأحبار شخصه.
وقد اطلعتم على عبارة أخرى لسيدنا معاوية صريحة في الثناء على كعب
وهي قوله: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالثمار، وإن كنا فيه
لمفرطين كما هو منصوص في تهذيب التهذيب قبل ما نقلتم منه مباشرة.
والعبارتان صدرتا منه رضي الله عنه بعد وفاة كعب لتصريحه بالتفريط في
الأخذ عنه في هذه، ولا ولى، قالها لما حج بالناس في خلافته كما نص عليه في
الفتح وكعب توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه كما سبق، أي فلم يطرأ ما يوجب
تغيير رأيه بين العبارتين.
فلا يصح مع ذلك قولكم إن العبارة - طعن صريح في عدالة كعب - إذ ثبت
كذبه - بل كان متقنًا للكذب - ومغررًا للجمهور بعبادته - كما سبق نقله عن المنار،
لأن هذا تناقض بين عبارتي خليفة من خلفاء الإسلام وصحابي من أكابر الصحابة
هداة الأنام مشهور بحصافة الرأي ومعروف بالبلاغة، فلا يتأتى منه أن يأسف على
التفريط في الأخذ عن كذاب، وليس من البلاغة وصف رجل في أول جملة
بأنه من أصدق المحدثين وفي آخرها بأنه من أكذب الكذابين وكيف يكون ذلك من
أحد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
على أن العبارة من حيث تركيبها العربي لا تصلح دليلاً مطلقًا على أقل ألفاظ
هذا التجريح فإن إسناد الكذب فيها إلى (الكتاب) باعتبار ما فيه من التبديل أقرب
من إسناده إلى (كعب) كما قرره شارح البخاري في توجيه احتمال رجوع الضمير
في (عليه) إلى (الكتاب) ولأنه أقرب مذكور.
وعلى كل حال فقد صارت هذه العبارة لا تصلح حجة على الطعن في كعب
لأن الدليل متى تطرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.
لذلك لم يقل أحد من علماء الحديث الذين شرحوا البخاري وغيرهم: إن هذه
العبارة قصد بها سيدنا معاوية تجريح كعب مطلقًا بل بعكس ذلك فهموا أنها صدرت
منه للدلالة على توثيق كعب بأنه كان من أصدق المحدثين عن الكتاب وأن الخليفة
ابتلى الكذب على الكتاب نفسه لما علمه فيه من التحريف والتبديل بناء على عود
الضمير على أقرب مذكور - وقد رأى ذلك العلامة السيوطي كما يؤخذ من كتابه
(إسعاف المبطأ) المطبوع حديثاً مع الموطأ بمطبعة عيسى الحلبي حيث ترجم لكعب
الأحبار بصفته أحد رجال الموطأ (المعروف بانتقاء الإمام مالك لرجاله من أوثق
رجال الحديث) مقتصرًا على صدر عبارة سيدنا معاوية في الاستدلال على توثيق
كعب لكونه يرى إعادة الضمير على الكتاب وأنه بناءً على ذلك لا ارتباط بين صدر
هذه العبارة وآخرها.
فالسيوطي جعل العبارة توثيقًا وهو متوفى سنة ٩١١هـ (هذا) ومن رأى
عود الضمير على كعب حمل الكذب في العبارة على ما يوجد في بعض أخباره من
الخطأ الذي سرى إليه من أهل الكتاب قبل إسلامه، ولا علاقة له بأمر الدين كالإخبار
بوقوع حوادث في المستقبل فلم يقع بعضها كما أخبر كعب.
يوضح هذا كله عبارة الحافظ ابن حجر في الفتح ونصه (قوله عليه الكذب)
أي يقع بعض ما يخبرنا عنه بخلاف ما يخبرنا به، فلفظ يقع يدل على أن المخبر
به أمور من قبيل ما يسمونه ملاحم، ولا علاقة لذلك بأمر الدين الإسلامي، ثم نقل
الحافظ ابن حجر عقب رأيه الشخصي المذكور عبارة ابن التين على طولها وعبارة
ابن حبان في توثيق كعب بما يقرب من هذا المعنى، ثم شرح توجيه إعادة الضمير
على الكتاب ونقل التصريح عن القاضي عياض بأن العبارة ليس فيها تجريح لكعب
بالكذب على كلا الاحتمالين، ثم ترجم لكعب موثقًا له وأتى في ضمن أدلة توثيقه
بقول سيدنا معاوية بلفظ (ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالبحار
وإن كنا فيه لمفرطين) والثمار أو البحار كلاهما كناية عن سعة علمه ونفعه)
أهـ فتح بتصرف فانظره.
أما القسطلاني فابتدأ شرح الموضوع بتوجيه الاحتمالين في مرجع الضمير
مباشرة، ونقل عن الحافظ ابن الجوزي المعروف بتشدده في التعديل ما نصه توثيقًا:
(يعني أن الكذب فيما يخبر به عن أهل الكتاب لا منه، فالأخبار التي يحكيها عن
القوم يكون في بعضها كذب فأما كعب الأحبار فهو من خيار الأحبار) ، وكذا عبارة
العيني والكرماني والسندي، وهو آخر من كتب على البخاري فيما نعلم.
واستدل صاحب كتاب إظهار الحق بعبارة سيدنا معاوية هذه على أن الصحابة
كانوا يعتقدون أن كتابي أهل الكتاب (التوراة والإنجيل) الموجودين محرفان كما في
الجزء الأول منه في الكلام على إثبات تحريف وتبديل التوراة والإنجيل، فاتضح
من ذلك معنى عبارة سيدنا معاوية، وأنه ليس فيها تجريح لكعب بالكذب وأن غرضه
منها إرشاد القرشيين إلى الثقة بما صح سنده إلى كعب مما حدث به عن كتب أهل
الكتاب القديمة؛ لأنه من أصدق المحدثين عنها - وذلك مثل ما أخبر به كعب من أن
النبي صلى الله عليه وسلم موصوف في التوراة بصفة واضحة حيث قال في السطر
الأول منها (محمد رسول الله عبدي المختار: مولده بمكة، ومُهَاجَرُهُ المدينة، ومُلْكُهُ
بالشام) كما نقله الحافظ ابن حجر على موضعين كلاهما في الفتح في شرح باب
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الأحزاب: ٤٥) من سورة الفتح في
كتاب التفسير من صحيح البخاري، وأشار إليه في تهذيب التهذيب في آخر ترجمة
كعب، وهذا من ثمار علمه التي صرح الخليفة أنهم فرطوا في الأخذ منها.
أما من جهة بيان غرض البخاري من ذكر عبارة سيدنا معاوية في صحيحة
فيؤخذ من قول الإمام العيني في شرحها ما نصه (مطابقته للترجمة في ذكر كعب
الأحبار الذي كان يتحدث من الكتب القديمة ويسأل عنها أحبارهم) ومنه يعلم أن
غرض البخاري هو الاحتجاج بكعب الأحبار في دفع التعارض بين النهي في
الترجمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء) وبين
الأمر في قول الله تعالى {فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} (يونس: ٩٤)
بأن كعبًا كان ممن يسألون؛ لأنه قرأ الكتاب من قبل ثم أسلم وشهد له سيدنا معاوية
بأنه من أصدق المحدثين عن الكتاب، والنهي هو عن سؤال من لم يسلم كما نص
عليه في الفتح في آخر شرح هذه الترجمة، وهذا يدل على عظيم ثقة الإمام البخاري
بكعب الأحبار؛ لأن احتجاجه به في أمر الدين كما ذكر أبلغ في الدلالة على ثقته به
من الرواية عنه وعلى أنه لم يمنعه من الرواية عنه إلا عدم وفرة السند الصحيح له
إليه على شرطه المعروف ومثل كعب في ذلك كمثل الإمام أبي حنيفة، وكثير من
أوثق المحدثين الذين لم تذكر لهم رواية في البخاري للسبب المذكور والإمام الشافعي
لم يكن له رواية في البخاري وإنما له شيء يسير في التعليقات فقط فلا يقال: إن
البخاري امتنع عن الرواية عن هؤلاء الأئمة لعدم ثقته بهم وإلى هنا انتهى الكلام
على عبارة سيدنا معاوية من كل أوجهها المذكورة وعلم غرضه فيها وغرض
البخاري من ذكرها في صحيحه بما توضح.
ولم يبق في هذا الموضوع سوى الكلام على عبارة الحافظ ابن حجر المتوفى
سنه٢٥٨هـ من جهة تعجبه ممن سبقه في عد كعب الأحبار من رجال البخاري بناءً
على عبارة سيدنا معاوية هذه مع أنها لم تكن رواية له عن كعب.
وقبل الكلام عن بيان غرض الحافظ ابن حجر من هذا التعجب أنقل شيئًا من
كلام علماء أصول الحديث يوضح لنا ما به يسمى الرجل من رجال صحيح
البخاري أو غيره. قال الحافظ ابن الصلاح في مقدمته المشهورة في النوع الثالث
والعشرين بصحيفة ٤١ ما نصه: (ثم من انزاحت عنه الريبة منهم بالبحث عن
حالة أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه، ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين
وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم فافهم ذلك فإنه مخلص حسن) ، وقال
العلامة ابن السبكي في الطبقات الكبرى في ترجمة الحافظ الذهبي المتقدم ما نصه:
نقلاً عن صاحب الترجمة (وقد كتبت في مصنفي الميزان عددًا كثيرًا من الثقات
الذين احتج البخاري أو مسلم أو غيرهما بهم لكون الرجل منهم قد دون اسمه في
مصنفات الجرح وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك وما زال يمر بي
الرجل الثقة وفيه مقال من لا يعبأ به. ثم استطرد إلى ذكر أسماء الذين لم يؤثر
عليهم ذلك الجرح لكون البخاري أو أحد أمثاله احتج ببعضهم إلى أن ذكر منهم
وهب بن منبه) ولم يذكر كعبًا؛ لأنه لم يجرح مطلقًا، وأما وهب فذكره؛ لأن ابن
الفلاس كان ضعفه قبل احتجاج البخاري به كما يأتي.
وقال شيخ الإسلام في شرح ألفية العراقي في مبحث (أصح كتب الحديث)
في إثبات أن البخاري ومسلم هما أصح الكتب ما نصه: (وما ذكر فيهما من
الضعفاء كمطر الوراق وبقية وابن إسحاق ونعمان بن راشد لم يذكر على سبيل
الاحتجاج بل على سبيل المتابعة والاستشهاد) .
فأنت ترى أن عباراتهم صريحة في أن كل من احتج به البخاري في صحيحه
يصير ثقة ولو كان مجروحًا من قبل وأنه لا يعبأ بكلام الجارح بعد ذلك الاحتجاج
وبناءً عليه صار كل من الراوي والمحتج به في البخاري حكمهما واحدًا في التوثيق
وباعتبار أن البخاري اعتمد في تكوين كتابه على الرواة والمحتج بهم يصح أن
يطلق على كل منهما أنه من رجال البخاري وأنه أخذ عنه بلا فرق بينهما في ذلك
أيضًا. (وقد احتج البخاري بكعب الأحبار احتجاجًا مهمًّا نافعًا كما سبق) .
فلا عجب حينئذ ممن عد كعبًا من رجال البخاري؛ لأنه متى علم السبب بطل
العجب واتضح أن صاحب التهذيب مصيب في عد كعب الأحبار من رجال البخاري
وأن ذكر حرف (خ) رقمًا على أخذ البخاري عن كعب صحيح لا (غلط) لأنه
اعتمد عليه في شيء من كتابه - على أنه لا غرض للحافظ ابن حجر من ذلك
التعجب إلا طلب النظر في الموضوع شأن أكابر المحققين إذا اختلفت وجهة نظرهم
مع من سبقهم يطلبون النظر في الأمر ليتبين الحق فيه وجل المنزه عن الخطأ
والنسيان وعلى ذلك أدلة منها أنه صرح بطلب النظر عقب عبارته هذه مباشرة
بقوله: وكذا رقم في الرواة عنه (كعب على معاوية ابن أبي سفيان رقم البخاري
معتمدًا على هذه القصة وفي ذلك نظر) .
يريد أن عبارة سيدنا معاوية قصها على الرهط من قريش ثناء على كعب لا
رواية عنه ولكن قول سيدنا معاوية (عنده علم كالثمار أو البحار) يدل على أخذه
عن كعب وإلا فمن أين علم ثمار علمه. ومنها أن ابن حجر أبقى حرف (خ) في
كتابه تهذيب التهذيب فلو كان جازمًا بغلط صاحب التهذيب في ذكر هذا الحرف
لحذفه هو من كتابه: ومنها أنه لم يجرح كعبًا بشيء ما في مؤلفاته بل ترجم له
ونقل توثيقه عن كثيرين تأييداً لتوثيقه له.
أما السابقون على الحافظ ابن حجر في عد كعب من رجال البخاري وتوثيقه
فهم الحافظ بن سرور المقدسي في كتابه الكمال وهو متوفى سنة ٦٠٠هـ وتابعه
على ذلك الحافظ المزي في التهذيب، وهو متوفى سنة ٧٤٢هـ وهو الذي يقصده
ابن حجر بقوله في عبارته: (فالعجب من المؤلف) ولكن الذهبي وافق المُزّي في
كتابه تهذيب التهذيب، وهو متوفى سنة ٧٤٨هـ ومن المتأخرين عن ابن حجر، وهو
موافق للمتقدمين عليه الحافظ الخزرجي في كتابه (خلاصة تهذيب الكمال) وهو
متوفى سنة ٩٢٣هـ ولم يوافق أحد ابن حجر من المتقدمين أو المتأخرين عنه في
التعجب من عد كعب من رجال البخاري.
البقية للآتي
((يتبع بمقال تالٍ))