للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي


الإرشاد
ماضي المسلمين وحاضرهم، الإرشاد وما له من التأثير والمكانة في الحياة
الإسلامية - الصفات التي يجب أن تتوفر في المرشد - أدلة وجوب الإرشاد من
الكتاب والسنة - مَنْ يَصلح للإرشاد - أشهر طرق الإرشاد الخطابة - الدرس -
التمثيل - الأسوة الصالحة - الكتابة - كيف يتكون المرشدون؟
كلما فكرت في أمر المسلمين، وما كان لهم من عز وما أصبحوا فيه من ذل
وما عرف لهم من الملك الواسع، وعنهم من العدل الشامل، وما صاروا إليه من
كلمة متفرقة وممالك ملتهمة وبلاد مستعمرة - كلما جد بي التفكير في ذلك حضرتني
كلمة (الإرشاد) وملكت علي نفسي واستولت على فكري، وكيف لا تكون كذلك
وبها قامت هذه الملة، وانتشرت هذه الشرعة، وتكون بها الملك الإسلامي في
مشارق الأرض ومغاربها وشماليها وجنوبيها، فمحمد عبد الله ورسوله (صلى الله
عليه وسلم) لم تكن له الجيوش المؤلفة، ولا الأساطيل القوية، ولا الغواصات
الماخرة، ولا الطيارات السابحة، ولكن بين جنبيه نفس طاهرة وروح مكملة
حركت لسانه بالدعوة إلى الحق وإرشاد الخلق والأخذ بهم عن اللمم، إلى السبيل
الأمم ففعلت نفسه بنفوسهم وروحه بأرواحهم ما لا تفعله القوى الطاهرة، فإنها إن
حركت الأجساد إلى حيث يريد المستعبدون الظالمون، فإنها لا تحرك القلوب نحو
الغاصبين المستبدين، بل ربما أيقظت نائمهم وأجدت خاملهم، وبعثت ساكنهم إلى
حيث يناوئ الغاصب ويقهر الغالب ويرد الكائد، ثم يختط لنفسه من طرق السعادة
وسبل العزة ما يمكن له في الأرض، ويستعيد به الملك الغابر والمجد السالف
وسيطرة الأولين وعزة المؤمنين.
قام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا حول له ولا قوة إلا الدعوة إلى الخير
ينطق بها قلبه قبل أن ينطق لسانه ويظهر أثرها في عمله وخلقه قبل
أن تنظم في كلمة فكان الناس يسمعون مع صوته وحي قلبه، ويرون في خلقه وفعله
أسوة حسنة وقدوة صالحة فكل عضو من أعضائه داعية وكل حاسة من حواس
سامعيه مشغولة بدعوته منصرفة عن غيره، فكيف لا يسيرها حيث يحب ويسخرها
حيث يود ولا يحب إلا الخير ولا يود للناس إلا ما انطوت عليه نفسه وجبلت عليه
روحه من معالي الأمور ومكارم الأخلاق وكبار الآمال. وكذلك صَحْب رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) والتابعون لهم بإحسان كانوا داعين بعملهم وقيلهم إلى هذا
الدين فاستطاعوا أن ينشروه في قلوب الملايين من البشر قبل أن ينشروا سلطانه في
معظم المعمور من الأرض إذ ذاك.
وكما كان بهذه الكلمة قيام الأمم، وبناء الدول كان بتركها وإهمالها دكَّ هذا
البناء الشامخ الذي بناه على أساس الحق والعدل آباؤنا السابقون وسلفنا الصالحون،
وبعثرة هذا المُلك العريض الذي توطن (سرة) الكرة الأرضية، وخير ما فيها من
بلاد، فهي كلمة من فهمها حق فهمها وقام بحقوقها وحفظ عليها حرمتها كانت له
أكبر عون على آمال يريد تحقيقها وأماني يود حصولها. ومن ضيعها وحقر شأنها
ونكث عهدها لم تؤاته على آماله، بل سلبت منه ما كان جمعه وهدمت ما كان أقامه.
وإذ كانت هذه مكانة الإرشاد كان من الواجب علينا أن نعالج موضوعه ونُلم
بأبحاثه حتى نحرك آلاف العلماء ليقوموا بواجب النصح ويؤدوا العمل الذي كتب
الله عليهم أن يؤدوه، وأخذ عليهم الميثاق أن يبينوه ولا يكتموه. وحتى يعرف الذين
قصدوا للإرشاد - ولم يحسنوا - الطريق السوي الذي يصلون منه إلى النفوس
فيحركونها نحو ما يحبون، أو يكونوها كما يبغون - وقد رأيت أن أقسم الموضوع
إلى أربعة أقسام:
الأول - في وجوب الإرشاد.
الثاني: في بيان من يصلح للإرشاد.
الثالث: في طرق الإرشاد.
الرابع: كيف يتكون المرشدون.
***
١- في وجوب الإرشاد:
قال الله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤) وقال تعالى {إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ
يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ
وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: ١٥٩-١٦٠) .
وقال تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ
فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران:
١٨٧) وقال {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: ٧٨-٧٩) . وقال {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن
قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (المائدة: ٦٣) .
وقال تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: ٧١) . وقال {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً
مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} (فصلت: ٣٣) . وقال
تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: ١٢٥) . وقال:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ
المُشْرِكِينَ} (يوسف: ١٠٨) وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ
عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: ١٣٢) وقال تعالى:
{فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: ١٢٢) .
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم
يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) .
وروى الشيخان عن تميم الداري عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
(الدين النصيحة) قاله ثلاثًا، قال: قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله
ولأئمة المسلمين وعامتهم.
وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون
وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون
ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم
بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة
خردل) .
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي ذكرنا كثيرًا منها وإن كان المتروك
أكثر لنبين لحضرات العلماء الذين يعيشون لأنفسهم دون أمتهم ودينهم أن واجب
الإرشاد ليس دون الصلوات والزكوات والفرائض المحتمة في الدين المعروفة بين
جمهور المسلمين. فهل رأيت من الحث في القرآن على الصيام الذي هو ركن من
أركان الإسلام مثل ما رأيت من الحث على الإرشاد ووجوب التذكير والعظة
والإنذار بسوء العاقبة لمن قعد عن القيام بهذا الواجب الذي من أجله بعث الله الرسل
مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؟ والذي من أجله أنزل
كتبه بين خلقه يستضيئون بنورها إذا أظلمت عليهم المقاصد والْتَوَت طرق الحق
وضل الناس المحجة. وهل مدح الله العلماء بما مدحهم به في القرآن إلا لأنهم ورثة
الأنبياء، يبلغون الشرائع للناس ويرشدونهم إلى طرق الفلاح والنجاح، يرشدونهم
إلى أسباب السعادة والعزة في هذه الدار {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ
المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (المنافقون: ٨) وفي الدار الآخرة {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ
الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: ٦٤) .
***
١ـ من يصلح للإرشاد:
ما خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان، وما خرج من القلب وصل إلى
القلوب فحرك دم الإصلاح فيها فحرك الأعضاء إلى الخير والعمل الصالح حركها
إلى حيث السعادة للنفس والعشيرة والخلق، فالنفس الطيبة لا تصدر إلا طيباً، النفس
المكملة تستطيع أن تكمل غيرها والنفس الناقصة أولى بها أن تتدارك عيوبها ثم
تتطلع بعد ذلك لإصلاح غيرها، ولا يمكن أن يعطي الشيء فاقده بل ينفق كل امرئ
من وجده. إذا أردنا أن نعرف المثل الأعلى للمرشدين فعلينا بالأنبياء والمرسلين،
فمن صفاتهم نتعرف صفات المرشدين، ومن طرقهم نتبين طرق المصلحين
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ
كَثِيراً} (الأحزاب: ٢١) .
المرشد شخص كملت نفسه وتهذب خلقه، ورشد عقله عامل بما علم واقف
عند ما رسمه له الشارع لا يلتوي عنه يمنة أو يسرة ملئ قلبه بخشية الله، فلا يفعل
ما يفعل ولا يترك ما يذر خشية من الناس أو من قانون وضعي تنطبق عليه
نصوصه بل يفعل الخير ويترك الشر؛ لأنه يرى سلطان الله محيطًا به من كل جانب
ويرى عين الله تبصره كل حين. تبصره وهو على ملأ من الناس قد غمره نور
الشمس، وتبصره وهو في زوايا بيته في الظلام الدامس والليل الحالك يحب ما
يقربه إلى ربه ويبغض كل ما يبعده عن سبيله يرى أن كتاب الله إمامه فلا يحكم
بغير ما يحكم، ولا يقول غير ما يقول يجعله سلوته في غذواته وروحاته، وفي
أوقات فراغه يعكف عليه يتعلم منه الحكمة ويتبصر منه طرق الهداية وموارد
الرشاد. يتأسى بالرسول (صلى الله عليه وسلم) في أعماله وأخلاقه وعقائده
وآدابه.
المرشد شخص بصير بأحوال الناس خبير بأمورهم ليس خبًّا ولا مغفلاً
يضحك عليه ويسخر منه، عليم بالطريق الذي يسوسهم منه ويأخذ بهم إلى حيث
عزهم ومجدهم وعلوهم وسعدهم المرشد شخص جعل الصبر عدته، وتحمل الأذى
في سبيل الحق خلته، فما يصيبه من الآلام وما ينتابه من النائبات يتقبله بقلب ثابت
وجأش رابط بل يستعذب المر في سبيل الدعوة ويستسهل الصعب في سبيل إعلاء
كلمة الله، كلما طعن بطعنة أو قذف بسبه تأسى بالأنبياء قبله وقال: هذا سيد الرسل
رمي بالسحر والجنون والافتراء على الله ومس الشيطان وأُوذي في سبيل الله أشد
الإيذاء فما كان يقول إلا (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ثم يقول لنفسه إن
مرتبة الإرشاد من المراتب العالية التي لا تنال إلا بالجد والصبر على المشاق،
ويتمثل قول الله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ} (السجدة: ٢٤) .
المرشد لا يعرف اليأس إليه سبيلاً، وكيف يتسرب اليأس إلى نفسه وما عليه
إلا البلاغ المبين، فإن عمل الناس بما دعا فتلك البُغية، وإن أعرضوا عنه فإنما
عليه البلاغ وعلى الله الحساب، إذا خاطبه ضعيف الإيمان وقال له مثبطًا من عزمه:
وماذا تبلغ كلمتك من نفوس الناس، وماذا عسى أن يكون أثرها فيهم؟ حكى له
قول الله في قوم من بني إسرائيل قالوا مثل مقالته {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ
قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الأعراف: ١٦٤) .
المرشد شخص يعرف القرآن جد المعرفة، ويعرف أعمال الرسول (صلى
الله عليه وسلم) وهديه في صلاته وزكاته وصيامه وحجه ومعاشرته لأهله وقومه
وجهاده في سبيل نشر الدين.
المرشد سياسي حكيم يأتي الناس من جهة ما يعرفون ليصل بهم إلى ما
ينكرون من حيث لا يشعرون فيسقيهم الدواء في كوب الشراب العذب مضيفًا إليه
من المواد ما يغطي مرارته، يدعوهم إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة،
ويجادلهم بالتي هي أحسن، فلا يشتد في موضع اللين، ولا يلين في موضع الشدة
ولا يمنع الشر بالقوة إذا كانت الكلمة البالغة كافية.
يعظهم بالقول الرقيق، والأسلوب العذب الذي لا يعلو على إفهامهم، ويجري
في مجارى حديثهم.
المرشد النابه يستطيع أن يعظ كل صنف من الناس وإن كانوا حكامًا ظالمين
وعتاة جبارين وإن كانوا ممن ينفرون منه إذا رأوه، ويهرولون عنه إذا لاقوه، فهو
بحيلته ودهائه يستطيع أن يرد شاردهم، ويكبح جامحهم إلى حيث يسمعون عظته
البليغة، وقولته الساحرة الفاعلة في النفوس، ما لا تفعله السيوف.
ولو أردنا أن نسوق لذلك الأمثال لكان من ذلك مؤلف ضخم وحسبنا في ذلك
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ففيها زاد المرشدين وعدة الداعين.
***
٣ - طرق الإرشاد:
طرق الإرشاد كثيرة ولكن نجتزئ بمشهورها عن استقصائها فنقول: أشهر
طرق الخطابة والدرس والتمثيل والأسوة الصالحة والكتابة.
أما الخطابة فهي أشد هذه الطرق أثرًا في النفوس إذا كانت صادرة من قلوب
مخلصة طاهرة طيبة، وكان لصاحبها من طلاقة اللسان ما يحسن التعبير به عما
يكنه الفؤاد، وكان الخطيب مراعيًا مقتضيات الأحوال فيخطب في الحوادث النازلة
الوقائع الجديدة، ولا يسلك ما يسلكه خطباؤنا في هذا العصر، ينهون عن جرائم
كانت في سالف الأيام ولم يكن لها وجود بين الناس بل لا يعرفون اسمها إلا من
طريق الخطباء، ويأمرون الناس بما هم به قائمون بدل أن يأمروهم بما هم فيه
مقصرون، وينهوهم عما هم له مجترحون، نرى خطباءنا يخطبون بما يعلو على
الأذهان، ولا يفهمه إلا العلماء، ويكثرون من المجازات والاستعارات والمحسنات،
وإن كان في ذلك إضاعة المعنى والتعمية في المغزى، وكان جديرًا بهم أن
يخاطبوا الناس بما يعقلون، ويتخيروا من الألفاظ ما يعرفون، فليس الغرض من
الخطابة امتحان الخطيب ومعرفة بلاغته، وإنما الغرض إيصال المعاني إلى القلوب
فكل طريق يصل بالخطيب إلى هذه الغاية عليه أن يسلكه، ولو كانت عبارته أقرب
إلى العامية منها إلى العربية الفصحى، وليت هذه الخطب من صنع الخطباء،
ولكن أكثرها من صنع القدماء، على أني لا أحبذ في الخطيب أن يخطب من حفظه
أو من ورق في يده، ولكن أحب له أن يرتجل، وأن يأخذ من حال الحاضرين ما
يجعله موضوع خطابته، فإن رأى منكرًا أو بدعة ولو في أثناء الخطابة تحول
بكلامه نحوها كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا أقصد بالخطابة خطابة الجمع فحسب بل ما يشمل ذلك ويشمل إلقاء
المحاضرات في الجامعات والمنتديات بل الخطابة على الجماهير في الميادين العامة
والمتنزهات الجامعة، فإن قصر الخطابة على ما يكون يوم الجمع في المساجد
ضئيل الأثر، قليل النفع فإن من يحضرون المساجد قليل بالنسبة لمن يغيبون؟ ثم
أكثر الحاضرين نفوسهم عارفة للدين ولكن أولئك الذين لا يعرفون بيوت الله أولى
بالعظة والتذكرة وربما كان فيهم نفوس متقبلة، وأرواح مستعدة.
وحبذا لو عينت وزارة الأوقاف مرشدين في الميادين والمتنزهات والمنتديات
والمجتمعات وأمرت وزارة الداخلية الجنود بأن يحافظوا على النظام ويسهلوا
للواعظين القيام بهذه المهمة، ولقد فكرت وزارة الأوقاف في إصلاح الخطابة فطلبت
إلى المربين والمرشدين والواعظين والكاتبين أن يوافوها بخطب تناسب العصر
وتقتلع من النفوس جراثيم الأمراض الخلقية، فتقدم إليها أولئك بما جادت به القرائح
ولا ندرى ما صنعت بهذه الخطب التي وعدت المتفوقين فيها بمكافأة، على أن هذه
الطريقة في الإصلاح قليلة الفائدة فإن الخطيب إذا كانت نفسه مصدر خطابته وكانت
زكيه طيبة اجتمع كلامه وحاله وقلبه في التأثير على السامعين فكان لثلاثهتا من
التأثير ما ليس لكلمات يلوكها بلسانه، لا صلة بينها وبين قلبه، بل ربما كان جاهلاً
معناها، غير واقف على مغزاها، فلا جرم كان ما صاغه أفيد في العظة مما صاغه
غيره لعالم غير عالمه.
وأما الوعظ من طريق الدرس فله في نفوس الطلبة آثار حسنة، خصوصًا إن
كانوا صغارًا لم تتلوث نفوسهم بعد، بل كانت على الفطرة التي فطروا عليها، فإن
المدرس الماهر يستطيع أن يصوغ هذه النفوس في القالب الذي يحب، وإذا عرفنا
طول عشرة التلميذ لمعلمه أدركنا أن كلمات المعلم ربما سكنت القلوب ساعة تخرج
لسابق المعرفة وطول التجربة، وإذا كان المدرسون أكثر الفئات الصالحة للوعظ
علمنا أن واجبهم في الدعوة عظيم، ولا سيما أنهم يصاحبون الطالب بضع سنين،
فلو أن مدرسي المدارس الأولية والابتدائية والثانوية والعالية والمعاهد الدينية عنوا
ببث الأخلاق الفاضلة والعقائد الحقة في نفوس المتعلمين لغيروا هذه النفوس في
الزمن اليسير إلى ما هو خير وأصلح، وكل مدرس يستطيع أن يقوم ببث ذلك،
ولو لم يكن العلم الذي يدرسه من علوم الدين أو الأخلاق فإن للطلبة أوقاتًا يسأمون
فيها العلم المحتم، وتتعطش نفوسهم للمسائل الخارجية، فلو أن نفس المعلم عنيت
بالإرشاد ما صدها عن غرضها صاد، وليس في هذا تقصير في القيام بالواجب،
فإن تكوين الأخلاق والآداب أولى من حشو الأدمغة بالمسائل العلمية، وماذا تنتفع
من علم شخص فسدت أخلاقه وآدابه وعاث في الأرض فسادًا، فليتق الله حضرات
المعلمين، وليعلموا أن الله أودعهم ودائع وأوجب عليهم رعايتها والقيام بحقها فهم
رعاتها وكل راع مسئول عن رعيته.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أذكر حضرات المدرسين الذين عينتهم وزارة
الأوقاف للوعظ والتذكير بأن يتخيروا المواضيع التي تناسب العامة وتليق بالجمهور
كشرح آية أو حديث بعبارة سهلة يكثر فيها ضرب الأمثال بالمعهود لهم ولا يعمدوا
إلى المسائل الفقهية العويصة فيشرحوها للعامة فإن ذلك لا مضلة ولا هداية.
ولقد سمعت مرة مدرسًا يفسر للعامة (آلم) ويذكر ما فيها من وجوه الإعراب
ومختلف الأقوال، والحمد لله أن لم يكن أمامه إلا شخصان، وأظن أنهما لم يجلسا إليه
لسماع عظته وإنما جلسا خشية أن لا يجد المدرس من يسمع لقوله. ورأيت من يعلم
الناس الصلاة فيقول فرائضها كذا وواجباتها ثمان وسبعون وسننها ثلاثون فهلا ترى-
أرشدك الله - أن هذا منفر لا داعية، ومعسر على الناس لا ميسر والله يقول:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: ٧٨) {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ
يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: ١٨٥) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يسّروا ولا
تعسروا) وكان خيرًا لهذا المدرس أن يشرح الصلاة ببيان صفتها بقوله وعمله فإن
تلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتلك الخطة المناسبة لإفهام الجمهور.
ولقد وزعت وزارة الأوقاف على مدرسيها وخطبائها كتاب (مفتاح الخطابة
والوعظ) والذي هو آيات بينات وأحاديث صحيحة فلأن يدرسوا للناس هذا الكتاب
أولى من درسهم كتب الفقه والكلام، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي
هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما التمثيل فلا بأس به لو خلا من الغرام والعشق والغيد الحسان، ولكن
يظهر أن ذلك من لوازمه في عصرنا وأنه لا تنفق سوقه إلا بهذه المحسنات، لهذا
كان من رأينا أن إثمه أكثر من نفعه وشره فوق خيره سيما إذا علمنا أن أكثر
الطبقات التي تقوم به من الطبقات المنحطة الذين تلوثت نفوسهم بالفسق والفجور،
وعقولهم بالمخدرات والخمور، فإقفال هذه الدور خير من فتحها وحبذا لو فعلت
الحكومة ذلك، وحملها في النهي عن المنكر أكبر الأحمال، فإن عليها منه بقدر ما
لها من السلطان، وسلطانها أكبر سلطان، وإن الله ليزع بالسلطان أكثر مما يزع
بالقرآن.
وأما الأسوة الصالحة فهي الداعي الصامت الذي يؤثر بصمته كما يؤثر المتكلم
بكلمه، بل ربما كان الصمت أشد بلاغة من المنطق، يدعوك بعض الناس إلى الخير
بكلامه وربما كان عمله على خلاف ما دعا إليه، فمثل هذا لا يرجى من وراء وعظه
خير، وإنما الخير في كلام تعززه أعمال، وفي مثل هذا يقول الله تعالى
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (البقرة: ٤٤) ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً
عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف: ٢-٣) .
يقول علماء الأخلاق: إن البيئة والوسط الذي يعيش فيه الإنسان له تأثير كبير
في تكوين أخلاقه، فإن كان صالحاً كان كل ما حواه صالحاً، وإن كان فاسداً انتشر
الفساد منه إلى كل ما جاوره، وما يقولونه حق، وذلك لأن أعمال المجتمع الطيب
تسري في نفوس الأفراد من غير أن يشعروا، وكذلك الفرد الصالح يؤثر فيمن حوله
بالصلاح، ولذلك آمن كثير من الناس بالرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد أن
عرفوا حاله وخلقه، فكان منهما أكبر شاهد على صدقه، ويقول الله في حقه {لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: ٢١) ويقول في إبراهيم {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ} (الممتحنة: ٤) فإذا كان بعض الناس يعييه الكلام والموعظة
باللسان فليحسن خلقه وعمله، فإن ذلك إرشاد ودعوة وقيام بواجب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
أما الكتابة فإنها، وإن كانت أندى صوتاً وأبعد مدى لأنها تسمع القريبين
والبعيدين والأجيال الحاضرة والقابلة أثرها دون أثر الخطابة فإن الحال فيها يساعد
اللسان وربما فهم السامعون من الحال فوق ما يفهمون من المقال.
والكتابة التي تعتبر من طرق الإرشاد هي الكتابة الخطابية التي يقصد فيها
تحريك أوتار القلوب والتأثير في الأعصاب الحساسة ومثالها الأعلى القرآن فإن
طريقته خطابية ولكن مبناها الحق والواقع دون التصور والخيال. أما الكتابة
العلمية فصلتها بالأخلاق ضعيفة وإن كانت علاقتها بالعقول وثيقة وتكوين الأخلاق
يجب أن تنمى فيه نحو المشاعر والعواطف، دون الأفكار والعقول.
وقد أصبحت إذاعة الكتابة ميسرة فالمطابع انتشرت في كل مكان والجرائد
والمجلات ذاعت في أقطار المعمورة، فما على الكاتب إلا أن يكتب على نحو ما
رسمنا فإذا بكتابته قد عبرت الفيافي والبحار ودوى صوتها في الأفاق وتلقفها ملايين
البشر متلمسين خير ما فيها، والواعظ الحر يستطيع أن يبلغ الناس من طرق كثيرة
ربما عرف منها ما جهلناه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
(لها بقية)
... ... ... ... ... ... ... محمد عبد العزيز الخولي
... ... ... ... مدرس بقسم التخصص بمدرسة القضاء الشرع
((يتبع بمقال تالٍ))