للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي

] نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [[*]
قال الأستاذ الإمام - عليه رضوان الله تعالى -: (يستحيل بقاء الأزهر
على حاله: فإما أن يصلح، وإما أن يسقط) ، وكان - أكرم الله مثواه - باذلاً جُلَّ
عنايته في إصلاحه؛ حذرًا من سقوطه وحرمان المسلمين مما يرجى بإصلاحه، وكان
أقدر من عرفنا من الناس على هذا الإصلاح وسائله ومقاصده، وأحكمهم في تنفيذه،
إلا أنه أخطأ في أمر واحد لولاه لتم له ما أراد من الإصلاح؛ وهو فوق ما طلب منه
ذلك الأمر هو محاولة إصلاحه برضى كبراء شيوخه، واستعمالهم فيه بالإقناع
دون السلطة، إلا ما بدأ به من وضع قانون لإدارته، والسعي في إصدار إرادة من
الأمير به بناءً على قرار من مجلس النظار؛ لعلمه أن العمل بدون ذلك متعذر.
ولا محل لشرح ذلك هنا بل موضعه الجزء الأول من تاريخه الذي نعتني بطبعه
الآن، وإنما نريد أن نبين أنه كان يحاول تنفيذ هذا القانون بدون استعانة بسلطة
التنفيذ في البلد؛ بل بمجرد رضى شيخ الأزهر وأعضاء الإدارة.
كان الشيخ حسونة النواوي أول من ولي المشيخة، واختير للعمل بهذا القانون
مع المرحوم وسائر من اختيروا للإدارة، وكان المرحوم هو الذي اختاره، وسعى
لدى الأمير بتعيينه وكيلاً للشيخ الإنبابي المرحوم ثم أصيلاً، وقد استعان على هذا
ببعض أصدقائه كالمرحوم أمين باشا فكري. ذلك أنه كان يعتقد أن الشيخ حسونة
أمثل الشيوخ وأرجاهم لقبول الإصلاح، علمت ذلك منه أول مقدمي لمصر سنة
١٣١٥؛ إذ قلت له: سمعت من بعض مجاوري الأزهر الطرابلسيين أن شيوخ
الأزهر قد امتعضوا من جعل الشيخ حسونة شيخًا للأزهر؛ لأنهم لا يعدونه من كبار
العلماء.
فقال: إن كانوا يعنون بذلك أنه لا يقدر على إيراد الاحتمالات الكثيرة في مثل
عبارة جمع الجوامع؛ فهذا صحيح ولكن هذه الاحتمالات التي يوردونها ليست من
العلم في شيء، والشيخ حسونة أمثلهم. وقد دلت التجارب على صدق هذا القول-
ولا ننسى فضل المرحوم السيد علي الببلاوي الذي ظهر من فضله فوق ما كان يظن
فيه - فإن ما جرى على يد الشيخ حسونة أولاً وآخرًا، لم يجر على يد غيره
مثله.
نعم كان الشيخ حسونة يرجئ بعض ما يقترح المرحوم؛ عملاً بالتدريج عن
رأي واعتقاد، ولكنه لم يكن يقرر الشيء ولا ينفذه؛ كما فعل من جاء بعده ما عدا
الببلاوي، وقد تقلب على الأزهر في هذه المدة عدة شيوخ، كان أشهرهم في علوم
الأزهر أبعدهم عن الإصلاح. فالشيخ سليم البشري من أشهرهم لم يجر على يده
شيء، بل كان معارضًا لكل شيء فأرضى أمثاله من المحافظين على القديم،
وأغضب طلاب الجديد، والشيخ عبد الرحمن الشربيني أشهرهم على الإطلاق وهو
لم يفعل شيئا، ولم يرض طائفة من الطائفتين.
قلت للأستاذ الإمام مرة: إن قرار مجلس إدارة الأزهر هو كقرار كل مجلس
رسمي وكل محكمة يطالب القانون بتنفيذه ويعاقب على تركه، فلماذا لا تطالب
بتنفيذ هذه القرارات الكثيرة التي يمتنع شيخ الأزهر من تنفيذها بصفة رسمية؟
فلو فعلت هذا مرة واحدة؛ لنفذ كل قرار. فقال: إن هذا لا يكون إلا بسلطة
الحكومة، وإنني أرجو أن لا أدع الحكومة تتداخل في الأزهر ما دمت فيه، فكيف
أكون أنا الذي يدعوها إلى ذلك؟ فنحن ندعو الشيوخ بالإقناع معتصمين بالصبر.
وكان يكره أن يكون (للمعية) أصبع في الأزهر، كما يكره أن يكون
للحكومة يد فيه؛ لاعتقاده أن خير الإصلاح في العلم والدين؛ ما كان بعيدًا عن
السياسة فائضًا عن اقتناع العلماء به واستقلالهم فيه، ولكن (المعية) ولعت بالأزهر
ولوعًا كاد يكون عشقًا وغرامًا، ولما رأت أن تمتعها بهذا المعشوق لا يتم مع وجود
هذا العذول الرقيب، طفقت تناهضه حتى كان ما كان من أمر استقالته من إدارة
الأزهر، وكان ما كان بعده من الخلل في هذا المكان، حتى أدى ذلك إلى إقامة نائب
عن شيخه الشربيني، يدبر الأمر من دونه عدة أشهر ثم إلى استقالته، وإعادة الشيخ
حسونة إلى المشيخة وعلى يد الشيخ حسونة تم مشروع مدرسة القضاء الشرعي،
وصدر به الأمر العالي فصدق قول المرحوم فيه: إنه أمثلهم في حياته وبعد مماته.
مما كان ينويه من إصلاح الأزهر إنشاء قسم قضائي فيه يرشح فيه الطلاب
لمنصب القضاء. زاده حرصًا عليه اقتراح المستر سكوت - المستشار القضائي
الأول - إصلاح المحاكم الشرعية، وجواز جعل المتخرجين في مدرسة الحقوق
الخديوية قضاة شرعيين. لم أر الأستاذ مهتمًّا في مقاومة شيء كاهتمامه في حمل
الحكومة على الإغضاء عن جعل متخرجي الحقوق قضاة للشرع. سعى في ذلك.
وحاول إقناع كبراء الشيوخ بأن يسعوا معه، فلم ير منهم مبالاة فكان يتململ ويقول:
إذا نفذ هذا المشروع، قضي على الأزهر، وقد نجح سعيه فلم ينفذ.
وعندما حاولت الحكومة تعيين قاضيين من محكمة الاستئناف الأهلية للمحكمة
الشرعية العليا بمصر، ولم يتم ذلك قوي عزمه، وظن أن الفرصة سنحت لإنشاء
القسم القضائي، وقد فتحنا كوة للبحث في ذلك؛ إذ أنشأنا مقالة في المنار الذي صدر
في ذي الحجة سنة ١٣١٦؛ نقترح فيه إنشاء هذا القسم القضائي، ولكن حال دون
إنشائه عزل الشيخ حسونة من المشيخة، وتولية الشيخ عبد الرحمن القطب في ٢٤
المحرم سنة ١٣١٧، ولم يلبث هذا أن توفي بعد شهر من توليته، وولي الشيخ سليم
البشري الذي وقف في عهده سير الإصلاح، وكان من أمر (المعية) من أول عهده
إلى الآن ما أشرنا آنفًا إلى أنه انتهى باستقالة المصلح العظيم من إدارة الأزهر،
وبهذا انقطع رجاء الحكومة من إصلاح حال القضاة الشرعيين الذين ضجت منهم
الأمة طالبة بلسان الجمعية العمومية ولسان مجلس الشورى إصلاح المحاكم
الشرعية، فعهدت إليه بوضع مشروع إنشاء مدرسة قضائية، يتولى هو بنفسه
أمرها.
وكان هذا المشروع آخر عمل إصلاحي عمله؛ إذ تم في أوائل مرض
الموت. وما كان يؤلمه من هذا المشروع إلا انفصاله عن الأزهر، وقصارى ما
أمكنه من وصله به، جعله تحت نظر مفتي الديار المصرية دائما، وكان للحكومة
معه وقفة في هذه المسألة.
تبارك ناصر المخلصين، أحياء وميتين. فقد قضت حكمته - عز وجل - أن
يقوم بتنفيذ المشروع، ويجعله أشد صلة بالأزهر سعد باشا زغلول ناظر المعارف لهذا
العهد، ولا يجهل أحد من المصريين من هو سعد باشا من الأستاذ الأمام، وأن يكون
ذلك في عهد مشيخة الشيخ حسونة وبعد موافقته عليه، وجعله تحت نظره، وقد علم
القراء اعتقاد المرحوم في الشيخ حسونة، وما كان من نيته في أيام مشيخته الأولى،
وهاك نص القانون في ذلك:
مشروع أمر عال
بإنشاء مدرسة القضاء الشرعي
نحن خديوي مصر:
بعد الاطلاع على قانون الجامع الأزهر الصادر به الأمر العالي بتاريخ ٢٠ محرم سنة ١٣١٤ (أول يوليه سنة ١٨٩٦) . نمرة ٣
وبناء على ما عرضه علينا ناظر المعارف العمومية، وموافقة رأي مجلس
النظار، أمرنا بما هو آت:
المادة الأولى - يخصص قسم من الأزهر؛ لتخريج قضاة ومفتين وأعضاء
ووكلاء دعاوي وكتبة للمحاكم الشرعية، ويسمى (مدرسة القضاء الشرعي) .
المادة الثانية - تكون هذه المدرسة باعتبار كونها قسمًا من الأزهر تحت
إشراف شيخه، وتكون لطلبتها من الامتيازات ما لغيرهم من الأزهريين، ويتولى
إدارتها ناظر، يعينه ناظر المعارف، ويكون لها محل مخصوص.
المادة الثالثة - تنقسم هذه المدرسة إلى قسمين: القسم الأول لتخريج كتبة للمحاكم الشرعية. والقسم الثاني لتخريج قضاة ومفتين وأعضاء ووكلاء دعاوي للمحاكم الشرعية أيضًا.
القسم الأول
المادة الرابعة - يشترط فيمن يدخل القسم الأول من مدرسة القضاء الشرعي
ما يأتي:
أولاً - أن يكون طالب علم في الأزهر أو أحد ملحقاته مدة ثلاث سنين، وأن
يكون حميد السيرة.
ثانيًا - أن يكون صحيح الجسم، سليمًا من العاهات.
ثالثًا - أن ينجح في امتحان الدخول في المواد الآتية:
(أ) حفظ نصف القرآن الكريم على الأقل.
(ب) المطالعة في الكتب السهلة مع الصحة وفهم المعنى.
(ج) الإملاء.
(د) النحو.
(هـ) الفقه.
(و) مبادئ علم الحساب.
المادة الخامسة - يكون امتحان الدخول في هذا القسم تحت رياسة شيخ الجامع
الأزهر، أو من ينيبه عنه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال مؤلفة من
عضوين ينتخبهما ناظر المعارف العمومية؛ بعد أخذ رأي لجنة الإدارة المبينة في
المادة ١٨.
المادة السادسة - تكون مدة الدراسة في هذا القسم خمس سنوات.
المادة السابعة - تدرس في هذا القسم العلوم الآتية:
التفسير - الحديث - الفقه على مذهب أبي حنيفة - التوثيقات الشرعية -
التوحيد - المنطق - آداب وأخلاق دينية - نظام المحاكم الشرعية والأوقاف
والمجالس الحسبية ونظام القضاء والإدارة - اللغة العربية - الحساب والهندسة
- التاريخ والجغرافيا - الخط.
المادة الثامنة - الامتحان النهائي للقسم الأول: يكون تحت رياسة شيخ الجامع
الأزهر أو من ينيبه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال مؤلفة من عضوين
ينتخبهما ناظر المعارف بعد أخذ رأي لجنة الإدارة المبينة في المادة ١٨.
المادة التاسعة - يكون الامتحان في مواد الدراسة بالقسم الأول تحريريًّا
وشفهيًّا على حسب التفصيل الذي تشتمل عليه اللائحة الداخلية.
المادة العاشرة - تعطى لمن نجح في الامتحان النهائي لهذا القسم شهادة الأهلية
الأزهرية، ويكون أهلاً بموجبها لأن يعين كاتبًا بالمحاكم الشرعية؛ فضلاً عن
المزايا المقررة لها بحسب قانون الأزهر.

القسم الثاني
المادة الحادية عشرة - يشرط فيمن يدخل القسم الثاني من مدرسة القضاء
الشرعي ما يأتي:
أولاً - أن يكون حاملاً لشهادة القسم الأول.
ثانيًا - أن يكون صحيح الجسم سليمًا من العاهات.
ثالثًا - أن يكون حميد السيرة؛ لم يسبق الحكم عليه بسبب أمر مخل بالشرف
وأن يكون عاملاً بأمور دينه.
المادة الثانية عشرة - تكون مدة الدراسة في هذا القسم أربع سنين.
المادة الثالثة عشر- تدرس في هذا القسم العلوم الآتية:
تفسير وحديث - الفقه على مذهب أبي حنيفة - حكمة التشريع - الأصول على
مذهب أبي حنيفة - آداب البحث - توحيد - منطق - آداب وأخلاق دينية - أصول
القوانين - نظام المحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية ونظام القضاء
والإدارة - محاضرات عامة ودراسة بعض القضايا ذات المبادئ الشرعية - اللغة
العربية - العلوم الرياضية - التاريخ - تقويم البلدان - الخواص التي أودعها الله
تعالى في الأجسام.
المادة الرابعة عشرة - الامتحان النهائي للقسم الثاني يكون تحت رياسة شيخ
الجامع الأزهر أو من ينيبه عنه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال،
وتتألف كل لجنة من خمسة أعضاء ينتخبون من علماء الأزهر وأرباب المعارف
الفنية بمعرفة ناظر المعارف بعد أخذ رأي لجنة الإدارة. المبينة في المادة ١٨.
المادة الخامسة عشرة - يكون الامتحان في مواد الدراسة بالقسم الثاني
تحريريًّا وشفهيًّا على حسب التفصيل الذي تشتمل عليه اللائحة الداخلية.
المادة السادسة عشرة - يصدر لمن نجح في الامتحان النهائي للقسم الثاني:
البيورلدي العالي - المنوه عنه في المادة ٥٣ من قانون الأزهر- وزيادة عما
لحامله من المز يا، يصير أهلاً بموجبه لأن يكون وكيل دعاوى أو قاضيًا أو عضوًا
أو نائبًا بالمحاكم الشرعية.
أحكام عمومية
المادة السابعة عشرة - يكون للمدرسة لجنة إدارية تسمى لجنة الإدارة،
وتتألف من: شيخ الجامع الأزهر أو من ينوب عنه رئيسًا، ومن مفتي الديار
المصرية، ومن ناظر المدرسة، ومن عضوين آخرين ينتخبهما ناظر المعارف
بالاتفاق مع ناظر الحقانية.
المادة الثامنة عشرة - تختص لجنة الإدارة بما يأتي:
أولاً - تحرير اللائحة الداخلية.
ثانيًا - وضع برجرامات الدراسة وتوزيعها على السنين والأوقات المختلفة
وبيان درجات كل علم.
ثالثًا - انتخاب المدرسين بالمدرسة.
رابعًا -انتخاب أعضاء لجان الامتحانات المختلفة.
خامسًا - تقرير ما ينبغي صرفه من الإعانات الشهرية لطلبة القسم الأول
والثاني.
سادسًا - تقرير الأجازات التي تعطل فيها الدارسة.
سابعًا - ما يطلب منها ناظر المعارف النظر فيه.
قرارات هذه اللجنة تكون نافذة بعد تصديق ناظر المعارف عليها.
المادة التاسعة عشرة - مرتبات الموظفين والمدرسين بهذه المدرسة تقدر على
حسب أهمية وظائفهم، وأهمية الدروس التي يكلفون بإلقائها، ويعطى لطلبتها
إعانة شهرية.
المادة العشرون- لا يصح أن ينتخب مدرس في هذه المدرسة من غير علماء
الأزهر، إلا إذا كان مسلمًا حميد السيرة، ومشهودًا له بالبراعة في الفن المعين
لتدريسه.
المادة الحادية والعشرون - ناظر المدرسة هو المكلف بضبطها، ونظامها،
وتنفيذ قرارات لجنة الإدارة فيها.

أحكام وقتية
المادة الثانية والعشرون - إذا ظهر من نتيجة امتحان الدخول في القسم الأول
في أثناء السنوات الأربع الأولى التالية لافتتاح المدرسة؛ وجود طلبة مستعدين لتلقي
دروس أي سنة من السنة الأولى وعددهم كاف لتشكيل هذه السنة، جاز تشكيلها
وذلك بطريق الاستثناء، من أحكام المادة ٦.
المادة الثالثة والعشرون - يجوز في أثناء السنوات الخمس الأولى التالية
لافتتاح المدرسة، أن يقبل بالقسم الثاني طلبة الأزهر ممن قضوا ثمان سنوات بدون
شهادة الأهلية أو العالمية إذا توفرت فيهم الشروط الأخرى المنصوصة في تلك
المادة وذلك استثناء من أحكام المادة (١١) .
المادة الرابعة والعشرون -على ناظر المعارف تنفيذ هذا القانون.
(المنار)
عرض هذا المشروع على كبيري العلماء ورئيسهم الشيخ حسونة شيخ الأزهر
والشيخ بكر الصدفي مفتي الديار المصرية؛ قبل عرضه على الحكومة رسميًّا، وبعد
مذاكرة بينهما وبين ناظر المعارف وبعد تحوير اقترحاه، فأجابهما
الناظر إليه أقرَّا المشروع. ثم أرسل ناظر المعارف نسخة إلى (المعية) والنظار
ووصل بعضها إلى جريدة اللواء فنشرته. وبعد أيام من نشره لم يسمع له فيها
صوت انبرى بعض المدرسين في الأزهر إلى انتقاد بعض مواده في الجرائد،
وكتبوا إلى ناظر المعارف عريضة. ذهب وفد منهم فقدمها إليه في النظارة، فطلب
منهم أن يختاروا أربعة منهم للكلام معه، فوعد الأربعة بإجابتهم إلى ما طلبوا، وأهمه
عدم امتحان من يطلب الدخول في المدرسة من حاملي شهادة العالمية، وكان ذلك حتمًا
مقضيًّا في المشروع، ثم ذهبت طائفة أحرى من المجاورين النبهاء، فشكوا إلى
الناظر من اشتراط كون طالب الدخول حنفي المذهب، وكونه حاملاً لشهادة العالمية،
فوعدهم بإجابة طلبهم، فانقلبوا كسابقيهم مسرورين شاكرين، وقد وفى الناظر
بوعده للفريقين.
ثم إننا سمعنا بعد ذلك من جانب الأزهر دندنة وجمجمة، وقيل: إن بعض
المشايخ جاء من خارج القاهرة فطاف على كبار الشيوخ، واجتهد في إقناعهم
بمعارضة المشروع حتى إنه ظاهر بين المتدابرين؛ لأجل الاتفاق. وتحدث الناس
بأن صدور الأمر العالي بالمشروع سيرجأ، وذكرت الجرائد ما يدل على ذلك قبل
اجتماع مجلس النظار برياسة الأمير بيوم أو يومين. ولكن المشروع عرض على
المجلس وصدر الأمر العالي به، وقضى الله أمرًا كان مفعولاً، وانفتح لطلاب
العلوم الدينية باب النظام في التعليم، وباب علوم الكون وذلك فتح مبين، ومبدأ
تاريخ في المسلمين جديد.
ولا نزال نسمع عن الشيوخ أنباء الائتمار والدعوة إلى الاتفاق على طلب
نسخ بعض مواد هذا القانون؛ بناءً على المقرر في الأصول من جواز نسخ الحكم
المشروع قبل العمل به، وإذا جاز في الدين؛ فلأن يجوز في القوانين أولى.
والمشتغل منهم بالسياسة، والمتحرك فيهم بالسياسة يقول: إن الأمر العالي الذي
صدر بتعيين قاضيين من محكمة الاستئناف الأهلية في المحكمة الشرعية العليا، قد
أوقف تنفيذه لما كان من معارضتهم. وإننى أخشى إن استرسلوا في هذا الغرور،
وغرهم بما يغريهم به الغرور، أن يلجئوا الحكومة إلى السيطرة عليهم، وتعيين
مدير للأزهر يدبر أمر التعليم وينفذ القانون، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ولكن
الرجاء في الشيخ حسونة - وقد حنكه الزمان وهو أعلم منهم بما كان - أن يتلافى
ذلك بالحكمة، ويرضي بحسن إدارته الحكومة والأمة.