للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خوارق العادات
والخلاف في الكرامات

عرَّف الجمهور الكرامة بأنها الأمر الخارق للعادة يظهر على يد العبد الصالح،
وهو مَن يقوم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد، والأمر الخارق للعادة إما أن يكون
خرقه لها بمجيئه على خلاف سنن الكون المعروفة ونقيض ما تقتضيه، أو بكونه لم
تعرف له سنة طبيعية يندرج فيها، وإن كان في الواقع ونفس الأمر مندرجًا تحت
ناموس طبيعي غير معروف عند كافة الناس، مثال الأول العلم والتهذيب اللذين كان
عليهما نبينا عليه الصلاة والسلام مع كونه لم يتعلم ولم يتربَّ، وكانت نشأته في قوم
هم أبعد الناس عن العلوم التي جاء بها، كعلم التوحيد وعلم الشرائع وعلم الاجتماع
والسياسة المدنية والحربية، ومنه إحياء الموتى لسيدنا عيسى وعصا سيدنا موسى
عليهما الصلاة والسلام، ومثال الثاني المكاشفات ومعرفة بعض الأمور قبل وقوعها؛
فإن للنفوس البشرية والأرواح الإنسانية استعدادًا لهذا الأمر، ولله تعالى فيه سنة
روحية مخصوصة كسائر السنن الكونية، ولكن هذه السُّنَّة لم تزل من الأمور
الغامضة التي لم يهتد إليها أكثر الناس، وإن كثيرًا ممن كان لهم نصيب من الكشف
ومعرفة بعض ما يجيء به الغد لم يعرفوا حقيقة السبب في كشفهم، وأنه هو ما
اشتغلوا به زمنًا من تصفية الباطن وتقوية سلطان الروح بحيث يقدر صاحبه على
صرفه من عالم الحس وشواغل الجسد المتشعبة الكثيرة وتوجيهه إلى أمر واحد،
وإن من خواص الروح أن ينطبع في مرآته ما يتوجه إليه هذا النوع من التوجه.
وقد عرف هذه السنة الإلهية بعض الناس، ولكن طريقها لم يزل مشتبه
الأعلام، قاتم الأعماق، لا يستطيع قطعه كل سالك، وربما يجيء يوم ينجلي فيه
قتامه، وتظهر فيه أعلامه، فيذهب الالتباس، ويسهل سلوكه على أكثر الناس، وقد
بينَّا كون ما جاء به نبينا من العلم خارقًا للعادة في كتابنا (الحكمة الشرعية) عند
الكلام على معجزة القرآن العظيم، فنورده هنا إتمامًا للفائدة، وهو:
القرآن هو أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وإعجازه ليس مقصورًا
على أسلوبه البديع، وارتقائه أسمى درج البلاغة، وعلى إخباره بالمغيبات المستقبلة،
وسرده قصص الماضين من غير اطلاع عليها، بل فيما اشتمل عليه من العلوم
والمعارف في تهذيب البشر وبيان مصالحهم في أمور معاشهم ومعادهم - أعظم خارق
لحجب العوائد، لا سيما بالنسبة لمن ظهر على يديه، وإلى ذلك أشار البوصيري
رحمه الله تعالى بقوله:
كفاك بالعلم في الأميّ معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
وبيان ذلك أنه قد جرت عادة الله تعالى في خلقه بأن العلم لا يحصل للإنسان
إلا بالتعلم، لا سيما العلم الذي يتعلق برعاية الأمم؛ فإن القائم به يحتاج لمعرفة
أحوال البشر في بداوتهم وحضارتهم، واختلاف شؤون الشعوب في مذاهبهم
وعوائدهم، ويتوقف هذا على الوقوف على سير الأولين والحاضرين، مع دقة
النظر في موارد الأشياء ومصادرها، وعلل الحوادث في صعودها وهبوطها،
وغير ذلك من أحوال طبيعة العمران البشري، وإننا نرى المُبرّزين في علم
الاجتماع ومعرفة طبيعة العمران البشري وشرائع الأمم من أهل هذا العصر ما بلغوا
مبلغهم من العلم إلا بالنظر في معارف المتقدمين عليهم وضمها إلى ما اختبروه
بأنفسهم واستنبطوه من نظرهم وتجربتهم، وهم مع هذا كله عاجزون عن الإتيان
بقانون كافٍ وافٍ يضبط مصالح البشر في معاملاتهم فحسب، بل نراهم مع أخذهم
ببعض ما استنبطه علماء الإسلام من القرآن العزيز والسنة النبوية لا يستقيمون على
قانون مدة من الزمان إلا ويرجعون عن كثير من أحكامه ومسائله، ويستبدلون بها
غيرها مما يظهر لهم أنها خير منها، ولو أخذوا بأصول الشريعة الإسلامية وراعوا
قواعدها العامة لوجدوا فيها ما يطلبون، ونالوا منها ما يرغبون. وإن كان كثير من
أهلها عن ذلك غافلون.
فهل من المعهود في البشر والمألوف من عادهم أن يأتي بمثل هذه الشريعة أو
بما هو دونها رجل أمي نشأ وتربى بين الأميين، فلم يقرأ شيئًا من العلم على أحد
من الناس، ولا اطلع على سير الأمم السالفين؟ وقد أشار القرآن إلى ذلك فيما
تحدى به الناس بقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: ٢٣) بناء على
أن المراد بالمِثل: النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد تقرير المعجزة على أكمل وجه، وإلا فقد عجز عن الإتيان بالسورة القارئون والكاتبون، والناس كلهم
أجمعون.
فإن قلت: أراك قد جعلت القرآن هو الأصل في أحكام الشريعة كلها، وهو إن
كان مبينًا لجميع ما يجب اعتقاده في الدين ولأصول التهذيب، فليس مبينًا لجميع
أحكام العبادات والمعاملات التي تدور عليها مصالح البشر، بل أكثر هذين القسمين
قد أخذ من السنة واستنباط الأئمة، أقول في جوابك: إن القرآن أصل السنة وينبوع
الاستنباط، وإليه يرجع الدين كله، وجميع ما فاض على لسان النبي صلى الله عليه
وسلم مستمد منه، وكل هاتيك الأنوار العلمية مقتبسة من شمسه المضيئة، ولقد كان
يفهم منه مالا يفهمه سواه، ولا ريب أن له طريقًا في الأخذ منه غير الطرق
المعروفة عند العلماء، وهو فيها على بينة من ربه، ومعصوم من الخطأ في الفهم
والأداء لها، قال تعالى: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ
اللَّهُ} (النساء: ١٠٥) وقال تعالى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ
يُوحَى} (النجم: ٣-٤) وربما كان ذلك الطريق هو الإلهام، وهو غير تعليم
الملَك المعروف، وقد صرح الأئمة وأهل الأصول بأن السنة مبينة للقرآن وشارحه
له، وقد انتهر سيدنا عمر رضي الله عنه مَن تكلم في حضرته كلامًا رغب فيه عن
سماع السنة اكتفاءً بالقرآن، واستبان منه معرفة الصلوات الخمس من القرآن، فكان
جوابه العي والحصر، وإذا تسنَّى لفهمه تناول كونها خمسًا من نحو قوله تعالى:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ} (الإسراء: ٧٨)
ومن قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (الروم: ١٧-١٨) فمن أين يتسنى له معرفة
كون الصبح ركعتين، والمغرب ثلاثًا والباقيات أربعًا أربعًا؟ وقد أرشد القرآن
إلى اتباع الرسول، واتباع سبيل المؤمنين، وإلى استنباط أولي العلم، وهذه هي
القواعد الثلاث التي يتفرع منها كل ما لم يؤخذ مباشرة من القرآن من أحكام الدين،
وظاهره أن المراد بسبيل المؤمنين هو ما يتفق أهل الاجتهاد والنظر الصحيح منهم
على أن فيه مصلحة أو درء مفسدة، وهو المسمى في الاصطلاح الأصولي
بالإجماع، وللعلماء في الاستنباط من القرآن طرقًا دقيقة المسلك، مَن تأمل فيها لم
يستبعد رجوع أمهات الأحكام إليه بلا واسطة، وذلك كاستنباطهم قاعدة (إن وكيل
الوكيل بإذن الموكل وكيل للموكل لا ينعزل بعزل الوكيل) من قوله تعالى في أهل
القرية: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} (يس: ١٤) حيث أسند تعالى الإرسال إليه،
وإنما كان من سيدنا عيسى -عليه الصلاة والسلام - بإذنه.
ومَن تأمل ما يتبع هذه القاعدة المستنبطة من هذه الآية من الأحكام، وما تفرع
عنها من المسائل التي لم تكن تخطر -عند تلاوتها- بالبال لم يستبعد كون جميع
الشريعة راجعة إلى القرآن، وكون السنة مستمدة من بحر كتاب الله الذي لم يفرط
فيه من شيء يتعلق بمهمات الدين، لا سيما بعد العلم بأن لمن أنزل عليه فهم خاص
بمراد الله منه، والله بكل شيء عليم. اهـ باختصار.
ولا ريب أن معجزة العلم من الأمي في مجموع الكتاب والسنة أظهر منها في
الكتاب وحده، سواء كانت السنة مبينة للكتاب فحسب، أم كان فيها مع البيان زيادة
علم سكت عنه القرآن إثباتًا ونفيًا، تفصيلاً وإجمالاً، بحيث لا يستند إليه إلا بالأمر
العام بطاعة الرسول واتباعه.
أما الخلاف في جواز الكرامات ووقوعها، فليس من أصول الدين وقواعده
الاعتقادية، ولذلك لم يكفر العلماء الأئمة من أنكرها، وهم المعتزلة والأستاذ أبو
إسحاق الإسفرايني والعلامة الحليمي من أكابر علماء أهل السنة، قال في (المواقف)
وشرحه ما نصه:
(المقصد التاسع: في كرامات الأولياء وأنها جائزة عندنا خلافًا لمن منع
جواز الخوارق (واقعة خلافًا للأستاذ أبي إسحاق والحليمي منا، وغير أبي الحسين
من المعتزلة) قال الإمام الرازي في الأربعين: المعتزلة ينكرون كرامات الأولياء
ووافقهم الأستاذ أبو إسحاق منا، وأكثر أصحابنا يثبتونها، وبه قال أبو الحسين
البصري من المعتزلة. اهـ ملخصًا بحروفه.
وأما حجج المنكرين فهي خمس أوردها التاج السبكي في الطبقات الكبرى
وأجاب عنها، واستدل بعد ذلك على الإثبات بحجج خمس ترجع إلى اثنتين،
وسنبين ذلك في العدد الآتي، إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))