للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كلمة
في فوائد كتابي المغني والشرح الكبير

يقول محمد رشيد رضا صاحب منار الإسلام:
كنت رأيت كلمة سلطان العلماء في عصره الشيخ عز الدين بن عبد السلام -
رحمه الله تعالى - في تفضيل كتابي المحلى لابن حزم والمغني للشيخ الموفق على
غيرهما من كتب الفقه الإسلامي قبل أن أراهما، فدعتني الرغبة في تعرف قيمة
هذه الشهادة إلى الاختلاف إلى خزانة الكتب الكبرى (المكتبة المصرية) مرارًا؛
للنظر في الكتابين، وقرأت عدة مسائل من كل منهما، رأيتها كافية في معرفة قيمة
الشهادة وصحة الحكم، وعلمت أن العلماء الذين قالوا: إن ابن عبد السلام وصل
إلى رتبة الاجتهاد المطلق، لم يقولوا إلا الحق.
فأما كتاب (المحلى) فهو كتاب اجتهاد مطلق، وصاحبه أبو محمد بن حزم إمام
الظاهرية في عصره، وهو صاحب القلم السيال واللسان الفصيح والحجة الناهضة،
والعارضة التي تأبى المعارضة، ولولا سلاطة لسانه في الرد على مخالفيه من
أئمة أصحاب الرأي وأهل القياس لاتسع نطاق مذهبه، وكثر الانتفاع بالمحلى
وغيره من كتبه، فهو يذكر المسألة ويستدل عليها ويرد على المخالفين فيها
على قواعد الظاهرية من الأخذ بالنصوص المأثورة، أو البراءة الأصلية، ولكنه لا
يكتفي بمقارعتهم بالدليل، بل يرميهم بالجهل والتضليل، غير هياب لعلو أقدارهم،
ولا وجل من كثرة أتباعهم وأنصارهم، وإذا أراد الله تعالى أن يتجدد فقه الإسلام فلا
بد أن يعرف المجددون له من قدر كتابه ما عرف العز بن عبد السلام، ولا بد أن
يطبعوه في يوم من الأيام.
وأما (المغني) فصاحبه الموفق فقيه حنبلي، وهو مع ذلك محدث أثري، وقد
ألف عدة كتب في فقه الحنابلة، وأراد أن يكون كتابه المغني في فقه المسلمين كافة،
فهو يذكر أقوال علماء الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار المشهورين، كالأئمة
المتبوعين، ويحكي أدلة كل منهم، وإذا رجح مذهب الحنابلة في كثير من المسائل
فهو لا ينتقص غيرهم، ولا يحمله التعصب على كتمان شيء من أدلتهم، ولا على
تكلف الطعن فيها، كما يفعل أهل الجمود من المقلدين، فالمزية الأولى لكتاب
المغني أنه لخص لنا مذاهب فقهاء المسلمين المجتهدين بأدلتها في أمهات الأحكام
ومهمات المسائل؛ فأغناها عن مراجعة كتب المذاهب الكثيرة فيما نحتاج إلى
الوقوف عليه منها، وعن مراجعة كتب السنن والآثار لمعرفة أدلتها ومذاهب
الصحابة والتابعين ومسائل الإجماع والخلاف، على أن المصنفات التي تتوسع في
رواية هذه الآثار لم تطبع، ونسخها الخطية قليلة الوجود: كمصنفات ابن أبي شيبة
وعبد الرزاق وابن المنذر.
ومن المعلوم أن كتب فقه المذاهب المتبعة والخلاف منها ما لا تذكر فيه الأدلة،
ومنها ما يذكر فيها ما يؤيد مذاهب مصنفيها ويضعف المذاهب المخالفة لها، ولو
بضروب من التأويل والتحريف وتضعيف الأحاديث التي لا توافق مذهب المؤلف
وإن كانت صحيحة أو حسنة إن أمكن، وتقوية الأحاديث التي توافقه وإن كانت
ضعيفة أو السكوت عن نقل الطعن فيها، وصاحب المغني لا يتعمد مثل هذا، فهو
يرجح ما يعتقد رجحانه من أدلة الحنابلة، ولا يتكلف الطعن في أدلة من خالفهم،
ولولا هذا وذاك لما فضله ابن عبد السلام على كتب الشافعية وكان من أجل
علمائهم، وهي التي يشهد لها من لم يعرف من مزايا تحريرها ما يعرفه هو بأنها
فاقت كتب سائر المذاهب في دقة التحرير والاستدلال، والجزم بالصحيح من
الأقوال، وكان يعتمد على مراجعته في الفتوى إذ صار يفتي بالدليل ويسلك سبيل
الاجتهاد.
عرفت المغني، فتمنيت لو يسخر الله تعالى من يطبعه؛ ليعم نفعه الذي هو
عندي فوق ما كان عند العز بن عبد السلام، وكان صديقنا حسن باشا عاصم خادم
الأمة والملة - رحمه الله تعالى - يقول: إذا يسر الله لنا طبع كتاب (المحكم لابن
سيده) فإنني أموت آمنًا على اللغة العربية أن تموت. ذلك لِمَا سمعه من إمام
اللغة في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي من الثناء على المحكم وعلى
النسخة الصحيحة الموجودة منه في المكتبة المصرية، وكان كلما قال لي هذه
الكلمة أقول له: وإذا يسر الله تعالى لكتاب (المغني) من يطبعه فأنا أموت آمنًا على
الفقه الإسلامي أن يموت، ثم ما زلت أفكر في السعي لطبعة إلى أن هداني الله
تعالى إلى تبليغ أمنيتي هذه إلى السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إمام
نجد وملحقاتها، فبُلِّغت عنه (أولاً) أنه أيد الله به العلم والدين، وأعز بسيفه
الإسلام والمسلمين، عازم على طبع هذا الكتاب مع كتب أخرى لإحياء العلم
وتوسيع نطاقه في بلاده - ثم خاطبني هو (آخرًا) في طبعه مع كتاب الشرح
الكبير، وطبع تفسيري ابن جرير وابن كثير، وكتب أخرى من كتب السنة والفقه،
وتلا ذلك إرساله المغني والشرح الكبير للمقنع؛ ليطبعا معًا. وكذا غيرهما مما
عزم على طبعه، وقد شرعنا في طبعهما، والمطبعة غير مستعدة لإنجاز مطبوعات
كبيرة كثيرة؛ فأخذنا في إعدادها لذلك، وسيحصل المراد عن قريب بفضل الله
تعالى وقوته، وإنا وقد نجز الجزء الأول من الكتابين نبين بالإيجاز فوائدهما للأمة
الإسلامية، وكونهما في الفقه الإسلامي العام لا فقه الحنابلة فنقول:
تمهيد في اختلاف الأمة وسيرة الأئمة
قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:
٩٢) ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأعضاء الجسد الواحد، ولم
يكن شيء أبغض إليه بعد الكفر بالله من الاختلاف والتنازع ولو في الأمور العادية،
ولما كان الاختلاف في الفهم والرأي من طباع البشر {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ
مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: ١١٨-١١٩) خصَّ الاختلاف المذموم في
الإسلام بما كان عن تفرق أو سببًا للتفرق، وجرى على ذلك السلف الصالح
فحظروا فتح باب الآراء في العقائد وأصول الدين، وحتموا الاعتصام فيها بالمأثور
من غير تأويل، وخصوا الاجتهاد بالأحكام العملية، ولا سيما المعاملات، وكان
بعضهم يعذر كل من خالفه في المسائل الاجتهادية ولا يكلفه موافقته في فهمه.
ثم إن كثيرًا من كبار العلماء حاولوا أن يجعلوا اختلاف العلماء في مسائل
الأحكام رحمة بهذه الأمة، وتحقيقًا ليسر دينها الذي ثبت بنصوص الكتاب والسنة،
ويتقوا ما حذر الله تعالى في كتابه من مضار التفرق والاختلاف الذي أفسد على
الأمم السابقة دينها ودنياها، وأنذرنا الله تعالى أن نكون مثلهم بقوله: {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) إلى قوله {وَلاَ تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل
عمران: ١٠٥) وقد وجد في بعض الكتب حديث مرفوع، اشتهر على الألسنة
وهو (اختلاف أمتي رحمة) ولما لم يوجد له سند في شيء من كتب السنة قال
بعضهم: لعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا؛ احترامًا لمن ذكروه
في كتبهم بالقبول أو التسليم، وحرصًا على العمل بمعناه.
ولكن المتعصبين للمذاهب أبوا أن يكون الاختلاف رحمة، وشدد كل منهم في
تحتيم تقليد مذهبه، وعدم الترخيص للمنتمين إليه في تقليد غيره، ولو لحاجة أو
ضرورة، وكان من مناظراتهم في ذلك من طعن بعضهم في بعض ما هو معروف
في كتب التاريخ والتراجم وغيرها: كالإحياء للغزالي، وصار بعض المسلمين إذا
وجد في بلد يتعصب أهله لمذهب غير مذهبه: كالبعير الأجرب بينهم.
وقد وقع من الفتن بين المختلفين في الأصول وفي الفروع ما سود صحف
التاريخ، على أن الخلاف في الفروع أهون وأقل شرًّا، وقد ضعف في هذا الزمان
بضعف أسبابه في أكثر البلاد، ولكننا لا نزال نسمع بمنكرات قبيحة منه في أخرى،
من ذلك أن بعض الحنفية من الأفغانيين سمع رجلاً يقرأ الفاتحة وهو بجانبه في
الصف فضربه بمجموع يده على صدره ضربة وقع بها على ظهره فكاد يموت.
وبلغني أن بعضهم كسر سبابة مصلٍّ؛ لرفعه إياها في التشهد، وقد بلغ من إيذاء
بعض المتعصبين لبعض في طرابلس الشام في آخر القرن الماضي أن ذهب بعض
شيوخ الشافعية إلى المفتي، وهو رئيس العلماء وقال له: اقسم المساجد بيننا وبين
الحنفية؛ فإن فلانًا من فقهائهم يعدنا كأهل الذمة بما ذاع في هذه الأيام من خلافهم
في تزوج الحنفي بالشافعية، وقول بعضهم: لا يصح لأنها تشك في إيمانها؛ لأن
الشافعية وغيرهم من الأشعرية يجوزون أن يقول المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله،
وقول آخرين: بل يصح نكاحها قياسًا على الذمية.
فأين هذا التعصب والإيذاء والتفريق بين المسلمين بالآراء الاجتهادية من
تساهل السلف الصالح، وأخذهم بما أراده الرحمن من اليسر في الشرع وانتفاء
الحرج فيه، واتقائهم التفريق بين المسلمين بظنون اجتهادية، رجح بها كل ناظر ما
رآه أقرب إلى النصوص أو إلى حكمة الشارع، حتى كان أشهر الأئمة لا يستحلون
الجزم بالحكم فيها، فيقول أحدهم: أكره كذا، أو أستقبحه، أو أخشى أن يكون كذا
أو لا ينبغي ولا يصلح ولا يعجبني أو لا أحبه ولا أستحسنه، ويقول في مقابل ذلك:
يفعل السائل كذا احتياطًا أو أحب كذا أو يعجبني أو أعجب إليّ وهذا أحسن.
هكذا كان يقول الإمام أحمد في المسائل الاجتهادية أو فيما لا نص صحيح
صريح فيه من الكتاب أو السنة، ويؤثر نحوه عن غيره، ولكن مدوني المذهب جعلوا
هذه التقوى والورع في التشريع قواعد له في أحكام التكليف وطرق الاستنباط
والاستدلال، وصارت الحنابلة فرقة ذات مذهب مستقل في الفروع، بل صار
المتكلمون يعدونهم فرقة مستقلة في أصول العقائد أيضًا، وإنما كان الإمام أحمد -
رحمه الله - تعالى إمامًا لجميع أهل السنة في الأصول والفروع؛ باستمساكه في
أصول الدين والعبادات بنصوص الكتاب والسنة، وما صح عن علماء الصحابة من
فهم وهدي وعمل مفسر لهما، ولكن أصحابه حرصوا على ما نقلوا عنه من فهم
واستنباط أن يضيع؛ فدونوه كما فعل سائل الأئمة وأصحابهم لا ليقلد لذاته بل لأجل
فتح أبواب العلم وتسهيله لطالبيه من الأفراد في العبادات ومن الحكام في الأمور
القضائية والدولية، وكانوا يقرنونه بأدلته؛ ليكون الدليل هو العمدة في العمل وفي
الترجيح بينه وبين غيره، ولم يقصد أحد منهم أن يكون شارعًا أو كالشارع في
كونه يتبع لذاته، فضلاً عن التزام طائفة من الأمة للتعصب له بمثل ما وقع، ولا
أن تفترق الطوائف المقلدة لكل منهم وتتعادى فتكون كمتبعي الشرائع المتعددة
المختلفة، هذه معاصٍ مجمع على تحريمها.
قال الإمام المزني صاحب الإمام الشافعي في أول مختصره المشهور بعد
البسملة ما نصه: قال أبو إبراهيم بن يحيى المزني، رحمه الله: (اختصرت
هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - ومن معنى قوله
لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه
ويحتاط لنفسه، وبالله التوفيق) اهـ.
وقال: ملا على القاريْ الحنفي المحدث في رسالته التي ألفها في إشارة
المُسبِّحة: وقد أغرب الكيداني حيث قال: (العاشر من المحرمات الإشارة بالسبابة
كأهل الحديث) أي مثل جماعة يجمعهم العلم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم،
وهذا منه خطأ عظيم وجرم جسيم، منشؤه الجهل لقواعد الأصول ومراتب
الفروع من المنقول، ولولا حسن الظن به وتأويل كلامه بسبب، لكان كفره
صريحًا، وارتداده صريحًا، فهل لمؤمن أن يحرم ما ثبت فعله عنه صلى الله عليه
وسلم مما كاد نقله أن يكون متواترًا، ويمنع جواز ما عليه عامة العلماء كابرًا عن
كابر مكابرًا، والحال أن الإمام الأعظم والهمام الأقدم قال: لا يحل لأحد أن
يأخذ بقولنا ما لم يعلم مأخذه من الكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس الجلي في
المسألة) إلخ ما قاله ليثبت به أن قاعدة أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - في
الاتباع تقتضي رفع المُسبِّحة في التشهد؛ لثبوت الحديث به.
ولكن المتعصبين الذين يقطع بعضهم إصبع من رفع سبابته تقليدًا لمن حرمه
من أهل مذهبهم لا يعلمون أنهم هم الذين يرتكبون المحرم بالإجماع؛ عقابًا على
الواجب أو المندوب بالإجماع، أو بما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا
على مخالفة سنته صلى الله عليه وسلم كما سمعته بأذني من بعض طلاب العلم
الأفغانيين في مسجد لاهور الجامع في الهند، وقد سألتهم عن صحة ما نقل عن
بعض أهل بلادهم في ذلك، فقالوا: نعم وعللوه على مخالفة الرسول صلى الله عليه
وسلم وترك سنته: أي وعلى عداوة شرع الله تعالى واستحلال ما حرمه، إذ قال
بعض فقهاؤهم: بتحريم رفع الإصبع في التشهد، والتحريم في عرف أهل الأصول
خطاب الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا. وأين هذا الخطاب الإلهي القطعي؟ هل
هو قول مثل الكيداني المصرح بمخالفة أهل الحديث؟
إن الأحكام العملية التي هي موضوع الفقه منها ما ثبت بالدليل القطعي المجمع
عليه: كأركان الإسلام، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو ما يكون
باتباعه المؤمن به مسلمًا، وبجحده أو استحلال مخالفته كافرًا، وبمخالفته فاسقًا على
التفصيل المعروف، ومنها ما هو محل النظر والاجتهاد، وهو الذي وقع فيه
الخلاف بين علماء الأمة للاختلاف في رواية النصوص أو في دلالتها، أو لعدم
العلم بالنص والرجوع في الاستنباط إلى القواعد العامة أو القياس المختلف في
حجيته [١] ، وكانوا متفقين على أن من خالف مضمون نص لم يبلغه، أو معنى
نص غير قطعي الدلالة؛ لأنه لم يظهر له أو بذل جهده في استبانة مراد الشارع في
مسألة فترجح عنده فيها شيء فعمل به مخطئًا - فهو معذور، فهل يكون بمخالفته
اجتهاد غيره مأزورًا غير معذور؟ .
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل قوله تعالى في الخمر والميسر:
{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: ٢١٩) نصًّا في تحريمهما على جميع الأمة،
وإنما حرمهما به من فهم منه الدلالة على التحريم، فترك شرب الخمر والمقامرة -
وهو ما يقطع بمثله الفقهاء كافة - حتى إذا ما نزل فيهما وفي الأنصاب والأزلام أن
ذلك كله {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (المائدة: ٩٠) والأمر القطعي بالتحريم
وهو قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة: ٩٠) إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُم
مُّنتَهُونَ} (المائدة: ٩١) أجمعوا على تركه، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم
تشريعًا عامًّا يخاطب به كل مؤمن، وأهرق جميع الصحابة الذين كانوا يشربون
الخمر ما كان عندهم منها؛ فأخذ علماء السلف من هذا أن التشريع العام ما كان بهذه
الدرجة من الصحة والصراحة القطعية في النصوص، وأن ما دونه مما فيه مجال
للاجتهاد في الرواية أو الدلالة محل سعة، لا يكلف كل مؤمن الأخذ به، وإنما
يكلفه من ثبت عنده أو وثق بعلم مفتيه به ودينه فقلده فيه، ولم يكونوا يبيحون أن
يكون مما يجبر عليه أحد أو تفرق كلمة المسلمين فيه، وقد كان النبي صلى الله
عليه وسلم يقر كلاًّ من المختلفين في الفهم على اجتهاده فيما هو محل الاجتهاد،
كمسألة نهيه عن صلاة العصر إلا في قريظة: أقر من أخذ منهم بمنطوق النهي فلم
يُصلِّها إلا في قريظة، ومن صلى أولاً ثم أدرك معه قريظة؛ لأنهم فهموا أن المراد
من النهي عدم التخلف عن الخروج وإدراك قريظة في الوقت المراد.
وبناءً على هذا لم يرض الإمام مالك - رحمه الله تعالى - أن يحمل المنصور
العباسي جميع المسلمين على العمل بموطئه على ما كان من تحريه في روايته، ومن
مواطأة علماء دار الهجرة له عليه - وبناء عليه كان الإمام المجتهد منهم ينهى من
يستفتونه أن يتخذوا فتواه دينًا يتقلدونه، أو أن يجعلوه سببًا للتفرق - وبناء عليه
كان أحدهم يأخذ باجتهاد غيره؛ ترخصًا أو موافقة لجماعة المسلمين.
روي عن الإمام أحمد أنه كان يرى الوضوء من الجحامة والفصد، فسئل
عمن رأى الإمامَ احتجم وقام إلى الصلاة ولم يتوضأ، أيصلي خلفه؟ فقال:
كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب؟ وفي رواية أنه قال للسائل: أأنهاك
أن تصلي مع فلان وفلان؟ وكان أبو حنيفة وأصحابه يرون الوضوء من خروج
الدم، ولكن أبا يوسف رأى هارون الرشيد احتجم وصلى ولم يتوضأ - وكان مالك
أفتاه بأنه لا وضوء عليه إذا هو احتجم - فصلى أبو يوسف خلفه ولم يُعد الصلاة،
واغتسل أبو يوسف في الحمام وصلى الجمعة، ثم أُخبر بعد الصلاة أنه كان في بئر
الحمام فأرة ميتة فلم يُعد الصلاة، وقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل الحجاز: (إذا
بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) ولم يكن هذا تقليدًا منه؛ لأنه يعرف دليله وهو
حديث القلتين الذي ذكره، ولكنه غير قطعي الرواية والدلالة، كما أنه ليس دون
قولهم في حد الماء الكثير.
ونقل أن الشافعي - رحمه الله - ترك القنوت في الصبح لما صلى مع جماعة
الحنفية في مسجد إمامهم (لعله في المكان المعروف اليوم بالأعظمية من ضواحي
بغداد) ، فقال الحنفية: إنه فعل ذلك أدبًا مع الإمام، وقال الشافعية: بل تغير
اجتهاده في ذلك الوقت، والظاهر مما تقدم أنه لم يرد أن يخالف جماعة من
المسلمين مخالفة عملية، في مسألة اجتماعية غير قطعية، فإن اختلاف الظواهر
من أسباب اختلاف البواطن، كما يؤخذ من حديث (عباد الله لتسون صفوفكم، أو
ليخالفن الله بين وجوهكم) رواه الجماعة من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا،
ولكن سقط من رواية البخاري كلمة (عباد الله) قال النووي في شرح مسلم بعد
ذكر حمل الوجوه على حقيقتها: والأظهر والله أعلم أن معناه يوقع بينكم العداوة
والبغضاء واختلاف القلوب كما تقول: تغير وجه فلان: أي ظهر لي من وجهه
كراهة؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر،
سبب لاختلاف البواطن اهـ، ويؤيده رواية أبي داود له بلفظ (أو ليخالفن الله بين
قلوبكم) ، ويؤيد المعنى من المعقول والتجارب ما ثبت من أن الاتفاق في العادات
واللباس من أسباب التآلف، والاختلاف فيها من أسباب التناكر والتنافر، فكيف إذا
كان الخلاف في الدين، وكان كل فريق يعتقد أن الآخر مخالف بمخالفته لله
ولرسوله؛ بدعواه أن ما عليه أهل مذهبه هو الحق، وما خالفهم فيه غيرهم باطل؟
ولكن المتعصبين للمذاهب لا يفقهون ما يفقهه مثل الشافعي من حكم الدين،
ومقاصده، فهم يتحرون مسائل الخلاف ويلتزمونها، من حيث يترك بعضهم العمل
بكثير من مسائل الاتفاق، وإن كانت مجمعًا عليها، ولهم أشد استمساكًا بخلاف
الذين يعيشون معهم، منهم بخلاف البعداء عنهم، فهم يقيمون في المسجد الواحد
جماعتين أو أكثر في وقت واحد، ويرسل بعضهم أيديهم ويقبضها بعض في الصف
الواحد.. . وبذلك جعلوا اختلاف الاجتهاد بين العلماء نقمة، على حين كان يعد
عند أولئك العلماء نعمة، وإنما سبب ذلك اتباع الأهواء، وتنازع الزعماء، الذين
ورد في وصفهم الأثر بأنهم أشد تغايرًا من التيوس في زروبها، وما أغرى فقهاء
المذاهب المتبعة بالتعصب الذي أطال أبو حامد الغزالي نعيه عليهم في إحيائه إلا
حب الرياسة كما قال، بل ما أغراهم بالاشتغال بها دون غيرها، إلا ما بَيَّنَهُ
المقريزي المؤرخ الحكيم من وقف الأوقاف عليها والتزام بعض الملوك والأمراء؛
لتقليد بعضها والحكم به، ولولا ذلك لفعلوا بأقوال أئمة هذه المذاهب ما فعلوه بأقوال
غيرهم من علماء الصحابة والتابعين من المزج وعدم الإفراد بالتأليف والتدريس.
وجملة القول أن التفرق بين المسلمين باختلاف المذاهب والآراء، وتعصب
كل شيعة لمذهب منها في الأصول أو الفروع هو من أكبر الكبائر الثابتة بنصوص
الكتاب والسنة القطعية المجمع عليها، ولا شيء منها بقطعي مجمع عليه، فمن
مقتضى أصولهم كلهم وجوب ترك كل أسباب هذا التفرق والاختلاف حتى قال
الغزالي في القسطاس المستقيم: بالاكتفاء بالعمل بالمجمع عليه، وعد المسائل
الظنية المختلف فيها كأن لم تكن.
ثم إن ما ترتب على التفرق من الضرر والفساد المدون في التاريخ، والذي
أفضى في هذه الأزمنة إلى ضعف المسلمين وذهاب ملكهم، وتمكين الأجانب من
الاستيلاء على بلادهم، وما زالوا ينفرون بعض المختلفين في المذاهب من بعض
كما هو واقع في اليمن ونجد مع غيرهما من بلاد العرب - كل ذلك مما يؤكد
وجوب تلافي شرور هذا التفرق، وجمع الكلمة ووحدة الأمة، وكان هذا الغرض
من أهم ما أنشأنا لأجله مجلتنا (المنار) وأول ما كتبناه من التفصيل في ذلك
(محاورات المصلح والمقلد) التي نشرت في المجلدين ٣ و٤ أي من أكثر من ربع
قرن، ثم جمعت في كتاب مستقل منذ بضع عشرة سنة.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))