نحن الشرقيين في أشد الحاجة إلى سلوك سبل المدنية القويمة مع المحافظة على الدين، فالشرق هو مهبط الوحي، ومشرق شموس الأديان، وهو الجدير بالمحافظة على الدين، وإن استهان به سائر العالمين، الدين وضع إلهيٌّ حق، يأمر بتزكية النفس وتطهيرها، ويحث على الحب والائتلاف، وينهى عن العداء والاختلاف، فهو باعث الاجتماع على التعاون، وداعي الرشاد إلى الاتفاق والاتحاد، يجمع المتفرق، ويوحد المتعدد، وذلك مبدأ المدنية أو هو هي. يذهب قوم إلى أن البشر قد يستغنون عن الدين في انتظام شملهم، وقوام مدنيتهم، وأن الإنسان يمكن أن يصل بعقله إلى كل ما فيه سعادته من غير وحي إلهي، ولا إرشاد سماوي، اكتفاء بالعقل والمشاعر والوجدان والإلهام، التي وهبها مدبر الكون لكل إنسان، وأعظم شبهة عند هؤلاء على إنكار الوحي زعمهم أنه لا حاجة إليه، فإذا قام البرهان ونهضت الحجة على حاجة البشر إلى الوحي، وأنه كمال، لا يتم نظام العالم الإنساني بدونه، يذعنون إلى أن صانع الكون الحكيم لا يبخل عليهم في إيتائهم ما هو مكمل لوجودهم النوعي، متمم لسعادتهم الإنسانية. ولما كان المنار يدعو إلى المدنية مع التمسك بالدين أحببنا أن نتحف قراءه من مسلمين ونصارى ويهود بما جاء في (رسالة التوحيد) من بيان الحاجة إلى الوحي ووقوعه، فهو البيان الكامل، والتحقيق الذي لم تأتِ بمثله الأوائل، وناهيك بحكمة مؤلف تلك الرسالة ورسوخه في العلوم الدينية، مع وقوفه التام على حقيقة المدنية، قال حفظه الله تعالى: (حاجة البشر إلى الرسالة: سبق لك في الفصل السابق ما يهم الكلام عليه من الوجه الأول، وهو وجه ما يجب على المؤمن اعتقاده في الرسل، والكلام في هذا الفصل موجه إن شاء الله إلى بيان الحاجة إليهم، وهو معترك الأفهام، ومزلة الأقدام، ومزدحم الكثير من الأفكار والأوهام، ولسنا بصدد الإتيان بما قال الأولون، ولا عرض ما ذهب إليه الآخرون، ولكنا نلزم ما التزمناه في هذه الوريقات من بيان المعتقد، والذهاب إليه من أقرب الطرق، من غير نظر إلى ما مال إليه المخالف، أو استقام عليه الموافق، اللهم إلا إشارة من طرف خفي، أو إلماعًا لا يستغني عنه القول الجلي) . وللكلام في بيان الحاجة إلى الرسل مسلكان: (الأول) : وقد سبق الإشارة إليه، يبتدئ من الاعتقاد ببقاء النفس الإنسانية بعد الموت، وأن لها حياة أخرى بعد الحياة الدنيا، تتمتع فيها بنعيم، أو تشقى فيها بعذاب أليم، وأن السعادة والشقاء في تلك الحياة الباقية معقودان بأعمال المرء في حياته الفانية، سواء كانت تلك الأعمال قلبية كالاعتقادات والمقاصد والإرادات، أو بدنية، كأنواع العبادات والمعاملات. اتفقت كلمة البشر - موحدين ووثنيين، مِلِّيّين وفلاسفة إلا قليلاً لا يقام لهم وزن - على أن لنفس الإنسان بقاءً تحيا به بعد مفارقة البدن، وأنها لا تموت موت فناء، وإنما الموت المحتوم هو ضرب من البطون والخفاء، وإن اختلفت منازعهم في تصوير ذلك البقاء، وفيما تكون عليه النفس فيه، وتباينت مشاربهم في طرق الاستدلال عليه، فمن قائل بالتناسخ في أجساد البشر أو الحيوان على الدوام، ومن ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عندما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال، ومنهم من قال: إنها متى فارقت الجسد عادت إلى تجردها عن المادة، حافظة لما فيه لذتها، أو ما به شقوتها، ومنهم مَن رأى أنها تتعلق بأجسام أثيرية، ألطف من هذه الأجسام المرئية، وكان اختلاف المذاهب في كُنْهِ السعادة والشقاء الأخرويين، وفيما هو متاع الحياة الآخرة، وفي الوسائل التي تعد للنعيم أو تبعد عن النكال الدائم. وتضارب آراء الأمم فيه قديمًا وحديثًا، مما لا تكاد تحصى وجوهه. هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة، المنبث في جميع الأنفس عالمها وجاهلها، وحشيّها ومستأنسها، باديها وحاضرها، قديمها وحديثها، لا يمكن أن يعد ضلة عقلية، أو نزعة وهمية، وإنما هو من الإلهامات التي اختص بها هذا النوع، فكما ألهم الإنسان أن عقله وفكره هما عماد بقائه في هذه الحياة الدنيا - وإن شذ أفراد منه ذهبوا إلى أن العقل والفكر ليسا بكافيين للإرشاد في عمل ما، أو إلى أنه لا يمكن للعقل أن يوقن باعتقاد، ولا للفكر أن يصل إلى مجهول، بل قالوا: إن لا وجود للعالم إلا في اختراع الخيال، وإنهم شاكُّون حتى في أنهم شاكون، ولم يطعن شذوذ هؤلاء في صحة الإلهام العام، المشعر لسائر أفراد النوع أن الفكر والعقل هما ركن الحياة، وأس البقاء إلى الأجل المحدود، كذلك قد ألهمت العقول وأشعرت النفوس أن هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود، بل الإنسان ينزع هذا الجسد كما ينزع الثوب عن البدن، ثم يكون حيًّا باقياً في طور آخر وإن لم يدرك كنهه. ذلك إلهام يكاد يزاحم البديهة في الجلاء، يشعر كل نفس أنها خُلقت مستعدة لقبول معلومات غير متناهية من طرق غير محصورة، شيقة إلى لذائذ غير محدودة، ولا واقفة عند غاية، مهيأة لدرجات من الكمال لا تحددها أطراف المراتب والغايات، معرضة لآلام من الشهوات ونزعات الأهواء ونزوات الأمراض على الأجساد، ومصارعة الأجواء والحاجات، وضروب من مثل ذلك لا تدخل تحت عدّ، ولا تنتهي عند حدٍّ، إلهام يستلفتها بعد هذا الشعور إلى أن واهب الوجود للأنواع إنما قدر الاستعداد بقدر الحاجة في البقاء، ولم يعهد في تصرفه العبث والكيل الجزاف، فما كان استعداده لقبول ما لا يتناهى من معلومات، وآلام ولذائذ وكمالات لا يصح أن يكون بقاؤه قاصراً على أيام أو سنين معدودات. شعور يهيج بالأرواح إلى تحسس هذا البقاء الأبدي، وما عسى أن تكون عليه، ومتى وصلت إليه، وكيف الاهتداء، وأين السبيل، وقد غاب المطلوب وأعوز الدليل، شعورنا بالحاجة إلى استعمال عقولنا في تقويم هذه المعيشة القصيرة الأمد لم يكفنا في الاستقامة على المنهج الأقوم، بل لزمتنا الحاجة إلى التعليم والإرشاد، وقضاء الأزمنة والأعصار، في تقويم الأنظار، وتعديل الأفكار، وإصلاح الوجدان، وتثقيف الأذهان، ولا نزال إلى الآن من هم هذه الحياة الدنيا في اضطراب، لا ندرى متى نخلص منه، وفي شوق إلى طمأنينة، ولا نعلم متى ننتهي إليها. هذا شأننا في فهم عالم الشهادة، فماذا نؤمل من عقولنا وأفكارنا في العلم بما في عالم الغيب، هل فيما بين أيدينا من الشاهد، معالم نهتدي بها إلى الغائب، وهل في طرق الفكر ما يوصل كل أحد إلى معرفة ما قدر له في حياة يشعر بها، وبأن لا مندوحة عن القدوم عليها، ولكن لم يوهب من القوة ما ينفذ إلى تفصيل ما أعد له فيها، والشؤون التي لا بد أن يكون عليها بعد مفارقة ما هو فيه، أو إلى معرفة بيد من يكون تصريف تلك الشؤون؟ هل في أساليب النظر ما يأخذ بك إلى اليقين بمناطها من الاعتقادات والأعمال، وذلك الكون مجهول لديك، وتلك الحياة في غاية الغموض بالنسبة إليك، كلا فإن الصلة بين العالمين تكاد تكون منقطعة في نظر العقل، ومرامي المشاعر، ولا اشتراك بينهما إلا فيك أنت، فالنظر في المعلومات الحاضرة لا يوصل إلى اليقين بحقائق تلك العوالم المستقبلة. أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم، الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم، والكتاب للتراسل أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعد لها بمحض فضله بعض من يصطفيه من خلقه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطر السليمة، يبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنور علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين، نهاية الشاهد وبداية الغائب، فهم من الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها، ثم يتلقون من أمره أن يحدثوا عن جلاله وما خفي على العقول من شئون حضرته الرفيعة، بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قدر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم، في ذلك الكون المغيب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله، ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة وباطنة، ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات، حتى تقوم بهم الحجة، ويتم الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه، مبشرين ومنذرين. لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد على كل حي بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيراً ولا جليلاً من خلقه، يكون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام المواهب التي اختص بها غيره، أن ينقذه من حيرته، ويخلصه من التخبط في أهم حياتَيْهِ، والضلال في أفضل حاليه. يقول قائل: ولِمَ لَمْ يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم؟ ولم يضع فيها الانقياد إلى العمل، وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل، والغفلة عن موضوع البحث، وهو النوع الإنساني. ذلك النوع على ما به وما دخل في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدًّا لكل حال بطبعه، وأن يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال، فلو ألهم حاجاته كما تلهم الحيوانات لم يكن هو ذلك النوع، بل كان إما حيواناً آخر كالنحل والنمل، أو ملكاً من الملائكة، ليس من سكان هذه الأرض. (المسلك الثاني) في بيان الحاجة إلى الرسالة يؤخذ من طبيعة الإنسان نفسه، أرتنا الأيام غابرها وحاضرها أن من الناس من يختزل نفسه من جماعة البشر، وينقطع إلى بض الغابات أو إلى رءوس الجبال، ويستأنس إلى الوحش، ويعيش عيش الأوابد من الحيوان، يتغذَّى بالأعشاب وجذور النبات، ويأوي إلى الكهوف والمغاور، ويتقي بعض العوادي عليه بالصخور والأشجار، ويكتفي من الثياب بما يخصف من ورق الشجر، أو جلود الهالك من حيوان البر، ولا يزال كذلك حتى يفارق الدنيا، ولكن مثل هذا مثل النحلة، تنفرد عن الدبر، وتعيش عيشة لا تتفق مع ما قدر لنوعها، وإنما الإنسان نوع من تلك الأنواع التي غرز في طبعها أن تعيش مجتمعة، وإن تعددت فيها الجماعات، على أن يكون لكل واحد من الجماعة عمل يعود على المجموع في بقائه، وللمجموع من العمل ما لا غنى للواحد عنه في نمائه وبقائه، وأودع في كل شخص من أشخاصها شعور مَّا بحاجته إلى سائر أفراد الجماعة التي يشتملها اسم واحد، وتاريخ وجود الإنسان شاهد بذلك، فلا حاجة إلى الإطالة في بيانه، وكفاك من الدليل على أن الإنسان لا يعيش إلا في جملة ما وهبه من قوة النطق، فلم يخلق لسانه مستعدًّا لتصوير المعاني في الألفاظ، وتأليف العبارات إلا لاشتداد الحاجة به إلى التفاهم، وليس الاضطرار في التفاهم بين اثنين أو أكثر إلا الشهادة بأن لا غنى لأحدهم عن الآخر. حاجة كل فرد من الجماعة إلى سائرها مما لا يشتبه فيه، وكلما كثرت مطالب الشخص في معيشته ازدادت به الحاجة إلى الأيدي العاملة، فتمتد الحاجة وعلى أثرها الصلة من الأهل والعشيرة، ثم إلى الأمة وإلى النوع، كما لا يخفى. هذه الحاجة خصوصًا في الأمة التي حققت عنوانها - لها صلات وعلائق ميزتها عن سواها، حاجة في البقاء، حاجة في التمتع بمزايا الحياة، حاجة في جلب الرغائب ورفع المكاره من كل نوع. لو جرى أمر الإنسان على أساليب الخلقة في غيرها لكانت هذه الحاجة من أفضل عوامل المحبة بين أفراده، عامل يشعر كل نفس أن بقاءها مرتبط ببقاء الكل، فالكل منها بمنزلة بعض قواها المسخرة لمنافعها ودرء مضارها، والمحبة عماد السلم ورسول السكينة إلى القلوب، وهي الدافع لكل من المتحابين على العمل لمصلحة الآخر، الناهض بكل منهما للمدافعة عنه في حالة الخطر، فكان من شأن المحبة أن تكون حفاظاً لنظام الأمم، وروحاً لبقائها، وكان من حالها أن تكون ملازمة للحاجة على مقتضى سنة الكون، فإن المحبة حاجة لنفسك إلى من تحب أو ما تحب، فإن اشتدت كانت ولعًا وعشقًا. لكن كان من قوانين المحبة أن تنشأ وتدوم بين متحابين إذا كانت الحاجة إلى ذات المحبوب أو ما هو فيها لا يفارقها، ولا يكون هذا النوع منها في الإنسان إلا إذا كان منشؤه أمراً في روح المحبوب وشمائله التي لا تفارق ذاته، حتى تكون لذة الوصول في نفس الاتصال لا في عارض يتبعه، فإذا عرض التبادل والتعارض، وتعلقت بالمنتفع به لا بمصدر الانتفاع، وقام بين الشخصين مقام المحبة إما سلطان القوة أو ذلة المخافة أو الدهان والخديعة من الجانبين. (ستأتي البقية) ((يتبع بمقال تالٍ))