للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عمر الجندي


محاريب المساجد ومذابح الكنائس

اعلم أن المحراب يطلق في اللغة على معانٍ: الغرفة، وصدر البيت وأكرم
مواضعه، ومقام الإمام من المسجد، والموضع ينفرد به الملك فيتباعد عن الناس،
والأجمة وعنق الدابة (قاموس) ، والمذبح عند أهل الكتاب هو المحراب بالمعنى
الأول، وهو مقصورة داخل حجرة إمام المعبد، تسمى تلك الحجرة الهيكل يُصْعَد
إليها بسلم ذي درجات قليلة لا يدخلها إلا الكهنة، ومن يأذنون لهم من المذنبين الذين
يطلبون المغفرة، وهذه المقصورة عبارة عن أربعة أعمدة لا يزيد ارتفاعها عن متر
إلا قليلاً، وفوقها سقف تحته خلاء توضع فيه القرابين ودم المسيح في زعمهم،
وبعض ماء المعمودية للصلاة عليها يوم العيد، ثم يخرجها الكاهن ويوزعها على
من في المعبد تبركًا، وعليها ستارة فهي كالمقصورة التي توضع على قبور بعض
أموات المسلمين بدون فرق، غير أن المذابح أقل منها طولاً، وأصغر منها حجمًا،
وأما محراب مساجد المسلمين فهو علامة بمثل حص في وسط حائط المسجد غير
مجوفة: أو تجويف في وسطه يبلغ ارتفاعه أزيد من مترين ليكون دليلاً على جهة
القبلة لمن لم يعرفها كالبوصلة (بيت الإبرة) التي اتخذت لذلك، وليكون مبينًا لمقام
الإمام من صف المأمومين؛ لأن السنة أن يقوم الإمام أمام وسط الصف، فهي
مخالفة لمذابح أهل الكتاب شكلاً ووضعًا وصورة وغرضًا، كما يعلم من بيان كلٍّ،
ومن رؤية المحاريب في المساجد والمذابح في الكنائس، فإني رأيت ثلاثة مذابح في
الكنيسة المرقسية بالإسكندرية على الشكل والوضع اللذين بينتهما أولاً، وعرفت
الغرض منها بواسطة أحد كهنة الكنيسة القس (فِلِبِّس) والمنهي عنه بقوله عليه
الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، المروي عن سالم بن
أبي الجعد (اتقوا هذا المذابح) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث موسى
الجهني: (لا تزال هذه الأمة - أو أمتي - بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح
كمذابح النصارى) هو المذبح أي المحراب بالمعنى المخصوص، وهو المقصورة
المخصوصة؛ لأنه الخاص بكنائسهم كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إنما
كانت للكنائس فلا تتشبهوا بها) لا مطلق محراب؛ لأن الغرض إبعاد المسلم عن
التشبه بهم فيما هو من اختصاصهم دينيًّا أو دنيويًّا، ولذا أتى النبي صلى الله عليه
وسلم في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما باسم إشارة المحسوس و (ال)
العهدية، وأتى في حديث موسى الجهني بأداة التشبيه، وعبر فيهما بالمذابح ولم
يعبر بالمحاريب.
لا يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك وضع هذه العلامة في المساجد مع
قيام المقتضي، فتركها سنة وفعلها بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غرز
خشبة في مسجد قوم أسامة الجهني بعد أن خطه لهم لتكون دليلاً على القبلة كما
روى الطبراني في الأوسط عن جابر بن أسامة الجهني رضي الله عنهما فإنه قال
في حديثه: (فأتيت وقد خط أي النبي صلى الله عليه وسلم لهم مسجدًا، وغرز في
قبلته خشبة فأقامها قبلة) اهـ من المنهل المورود عن السيوطي في رسالة في هذا
الموضوع، فدل ذلك على مشروعية وضع علامة للقبلة لإرشاد الضال، فهي من
قبيل التعاون على البر ولا خصوصية للخشبة إلا بدليل.
وعسى أن يكون هذا مستند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في وضع
محراب، وعلامة ثابتة للقبلة في وسط حائط مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على
شكل يخالف مذابح أهل الكتاب، وإن لم نقف على صورته مجوفًا أو غير مجوف
والمشهور أنه لم يكن لمسجده صلى الله عليه وسلم محراب في زمنه.
ولكن روى البيهقي في السنن الكبرى عن وائل بن حجر قال: (حضرت
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهض إلى المسجد فدخل المحراب ثم رفع يديه
إلى التكبير ثم وضع يمينه على يساره على صدره) ، وهو يدل على أنه كان
لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه محراب يدخله غير أنه كان مخالفًا
لمذابح أهل الكتاب بدليل النهي عنها، ولا معنى لتأويل المحراب في حديث البيهقي
بصدر المسجد وأشرف مكان فيه؛ لأن المناسب لصدر المسجد الوقوف فيه لا
الدخول الذي هو نقيض الخروج، فلم يُحْدِث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
حدثًا في الإسلام، لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن السلف
الصالح، ويبعد كل البعد أن يجهل عمر بن عبد العزيز وسلف الأمة مذابح أهل
الكتاب وكنائسهم في الشام فلا ينبغي إذًا أن يجعل محراب مسجد النبي صلى الله
عليه وسلم مثلها مع ورود النهي عن التشبه بهم، خصوصًا في شعائرهم الدينية،
ثم يقره المسلمون على ذلك مع شدة حرصهم على اتباع السنة والإنكار على من
خالفها، نسأل الله أن يوفقنا إلى اتباع السنة ويهدينا سواء السبيل.
... ... ... ... ... ... ... عمر الجندي بمعهد الإسكندرية