للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كتاب في الشعر الجاهلي
دعاية إلى الإلحاد والزندقة
وطعن في الإسلام

(تمهيد)
أتيح لي النظر ثانية في هذا الكتاب وقرأت الكثير من كتبه وفصوله في فرص
متفرقة فحكمت بقراءتها حكمًا تفصيليًّا لا شك فيه بمثل ما أجملته في مقالتي الأولى
بعد تلك النظرة العجلى حكمت بأن الدكتور طه حسين ما ألف هذا الكتاب لتحقيق ما
يمكن الوصول إليه من الشعر الجاهلي يقينًا أو ظنًّا أو شكًّا، بل ألفه لأجل الطعن
في الإسلام والصد عن سبيل الإيمان والدعوة إلى الزندقة والإلحاد، هذا هو المقصد
والشعر الجاهلي والأدب العربي وسيلة إليه.
وقد كنت أردت أن أقرأه كله، وأحصي ما فيه من المطاعن، وأبين بطلانها ثم
رأيت أن خلس الفراغ من أيام الجمع لا تمكنني من ذلك إلا في عدة أشهر فرجعت
إلى رأيي الأول وهو ترك الرد التفصيلي للذين صنفوا، والذين لا يزالون يصنفون
كتبًا خاصة في ذلك يُعْنَى كل منهم برد نوع من أباطيل الكتاب وصاحبه أو برد عدة
أنواع منها كما فعل (مصطفى صادق أفندي الرافعي) و (محمد فريد أفندي وجدي)
فإن هذا قد بين أغلاطه وجهله من الوجهة العلمية والتاريخية دون ضلالاته الدينية
وكأنه رآه مفيدًا من هذه الوجهة بهدمه للإسلام المعروف عند أكثر المسلمين لعله
يكون وسيلة وتمهيدًا للإسلام الصحيح إسلام القرآن الحكيم؛ إذ كان كتب مقالات
في جريدة الأخبار ارتأى فيها أن المسلمين لا يمكن أن يكونوا مسلمين كما يجب إلا
إذا تركوا الإسلام المعروف عندهم وارتدوا عنه معتقدين بطلانه، ثم دعوا إلى
الإسلام الآخر، وقد حفظت هذه المقالات عندي لأبين ما فيها من خطأ وصواب عند
سنوح الفرصة.
وإنني أبدأ الآن ببيان خطة الدكتور طه في دعايته الإلحادية وما مهد لها به
في كتابه الجديد (في الشعر الجاهلي) من الدعاوى والقواعد الخادعة مع تفنيدها
وبيان ما فيها من التعارض والتناقض، ثم أقفي على ذلك ببيان أهم مطاعنه في
الدين الإلهي وفيما ختمه الله وأكمله به ببعثة خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه
وسلم -.
***
الفصل الأول
(المقاصد والأصول والمقدمات التي جرى عليها الدكتور طه حسين)
(في طعنه في الإسلام ودعوته إلى الإلحاد)
١- إن الدكتور طه حسين قد أخذ على عاتقه أن يحارب دين الإسلام والأمة
الإسلامية بالطعن فيهما وصرف الناس عنهما إلى الزندقة والإباحة. ذلك شأنه في
مصنفاته من (ذكرى أبي العلاء) إلى (في الشعر الجاهلي) وفي مقالاته التي
نشرها في جريدة السياسة تحت عنوان (حديث الأربعاء) إلى مقاله الأخير (العلم
والدين) وهي خطة قد ابتدعها بعض اليهود في أوربة لإفساد دين النصرانية على
أهله، ويقال: إن لبعض أعضاء جمعية الإلحاد والزندقة هنا صلة ببعض الجمعيات
اليهودية.
٢- إن من أساليب الدكتور طه حسين المعروفة في كل ما كتبه أنه يخترع
مسائل يجعلها من قبيل القضايا المسلمة بما يزينها من خلابة القول ثم يستدل بها أو
يورد عليها بعض الشبهات ويرد عليها دفاعًا عنها وهذا كثير في كتابه هذا وسنذكر
أمثلته عند بيان بطلانه.
٣- إن من أساليبه أنه يشكك في المسائل الثابتة بضروب من خلابة المغالطة
أو السفسطة، ويزين هذا التشكيك لقارئ كلامه ويحاول حمله على قبوله بدعوى أن
الشك في كل شئ هو الطريق اللاحب الموصل للعلم الحق والفلسفة الصحيحة
والتجديد فيجب على طالب الحقيقة أن يقبله، ولو على سبيل الفرض بأن يفرض
أن ما يؤمن به إيمانًا يقينيًّا هو باطل لا حقيقة له؛ لأجل أن يكون سالكًا للمنهج الذي
زعم أن الذي نهجه وأشرعه للناس هو الفيلسوف (ديكارت) للبحث عن حقائق
الأشياء وهو تجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل (ص١١) أو ليلذذ عقله
بالشك والقلق والاضطراب (ص ٥) أو ليتمتع بلذة قبول كل جديد ونبذ كل قديم ولا
سيما إذا كان إسلاميًّا. فيكون من المجددين الذين يكونون أشد شكًّا في القديم أو
أشد ما يملكهم الشك حين يجدون من القدماء ثقة واطمئنانا (ص٥) يعني جل لذتهم
وغبطتهم في هدم ما بناه المتقدمون.
٤- إنه قد بيَّن في التمهيد من كتابه هذا المذهب الذي يجرى عليه هو
وإخوانه المجددون للإلحاد والإباحة وزيَّنه بقوله (ص ٢) (أريد أن لا نقبل شيئًا
مما قال القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبت إن لم ينتهيا إلى اليقين فقد
ينتهيان إلى الرجحان) .
٥- إنه ذكر الفرق بين هذه المذهب ومذهب القدماء بزعمه فقال والفرق بين
المذهبين في البحث عظيم فهو الفرق بين الإيمان الذي يبحث علي الاطمئنان
والرضا والشك الذي يبعث علي القلق والاضطراب وينتهي في كثير من الأحيان
إلى الإنكار والجحود.
ثم وصف هؤلاء المجددين وثمرة مذهبهم بقوله: والنتائج اللازمة لهذا
المذهب الذي يذهبه المجددون عظيمة جليلة الخطر فهي إلى الثورة الأدبية أقرب
منها إلى شيء آخر، وحسبك أنهم يشكون فيما كان الناس يرونه يقينيًّا وقد يجحدون
ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه اهـ.
ثم وصفهم بما هو أبعد في الصراحة مدى من ذلك وهو قوله: وهم قد ينتهون
إلى الشك في أشياء لم يكن يباح الشك فيها.
٦ - إنه فصل إجمال هذا المذهب بما أوجبه على هذه الطائفة، بقوله: نعم،
يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل
مشخصاتها وأن ننسى ديننا، وكل من يتصل به وأن ننسى كل ما يضاد هذه
القومية وما يضاد هذا الدين يجب أن لا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج
البحث العلمي الصحيح ذلك أننا إذا لم ننس قوميتنا وديننا وما يتصل بهما فسنضطر
إلى المحاباة وإرضاء العواطف وسنغلّ عقولنا بما يخالف هذه القومية وهذا الدين
وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل أفسد علم القدماء غير هذا بحروفه؟ اهـ
بحروفه.
٧ - من مناهج الدكتور طه حسين في مباحثه العلمية والأدبية ومقاصده
الإلحادية الإباحية أنه يعمد إلى شيء من الباطل كالخرافات أو الروايات التي لا
تصح؛ فيقرن به شيئًا من الحق المشابه له ليوهم المطلع على كلامه أن حكمهما
واحد، ثم إنه يجعل الباطل هو الحق الذي لا مرية فيه، ولا مراء إذا كان مشككًا
في الإسلام أو مزريًا به وصادًّا عنه كما جمع بين خرافات الجاهلية في الجن
وتلقينهم الشعر للشعراء، وبين ما ثبت في الكتاب والسنة من وجود الجن وإيمان
بعضهم وكفر بعض ليوهم المسلمين، أن هذا من ذاك كل منهما خرافات.
٨ - من منطق الدكتور طه حسين في البحث والاستدلال أنه يجعل بعض
جزئيات الأخبار التي توافق هواه قواعد كلية وحججًا علمية لا يتسرب إليها شيء
من الشك الذي فرضه في كل كلام قديم حتى الكلام القديم الأزلي وهو كلام الله تعالى،
وإن لم ترو بسند صحيح، ولم تمحص بنقد ولم تثبت بدليل، كزعمه أن سعد بن
عبادة قد قتله المسلمون قتلاً، لما زعم من ذنوبه وادعوا أن الجن قتلته، وسيأتي بيان
ما فيه من الكذب المتعمد؛ فكيف إذا كانت تلك الجزيئات مأخوذة بالتسليم ومن هذا
أنه جعل وقائع الأحوال في العصبية القومية بين العرب أصلا يحمل عليه ما ليس
منه حتى أدخل في عمومه المهاجرين والأنصار الذين ألف الله بين قلوبهم بالإسلام
فأصبحوا بنعمته إخوانًا كما يشهد لهم القرآن والتاريخ الصحيح الثابت بالتواتر.
٩ - من منهج الدكتور طه أنه يأخذ كلام بعض أعداء الإسلام في الطعن فيه
بالقبول ولا يجري فيه علي قاعدته في رد كلام المتهم بعداوة، أو عصبية، ولا
بقاعدة (باكون) التي ادعى أنه لا يحيد عنها في مباحثه فقد رأيناه ينتحل بعض
كلام دعاة النصرانية التي جعلت جمعياتهم الدينية رزقهم ومادة معيشتهم وتكريمهم
الطعن في الإسلام ودعوة أهله إلى تركه من حيث يطعن في روايات أئمة المحدثين
الذين يتقربون إلى الله تعالى بتمحيص الروايات مهما يكن موضوعها حتى إن بعضهم
صحح بعض ما يعد طعنًا في الإسلام، أو يغري بالطعن فيه وحكموا بالضعف تارة
وبالوضع أخرى على أحاديث لا يختلف عاقلان في صحة معناها وتأييدها للإسلام.
١٠ - من سنن الدكتور طه ودأبه أنه يخترع للقضايا والمسائل الصحيحة
والمخترعة المفتراة منه عللا باطلة يفتجرها افتجاراً للطعن في الإسلام كما علل ما
زعمه من اختراعهم للشعر الجاهلي بأنهم كانوا محتاجين إلى ذلك لتأييد لغة القرآن
وكما علل به انتساب العرب العدنانيين إلى إسماعيل بن إبراهيم وما علل به تسمية
الإسلام بملة إبراهيم إلخ إلخ.
***
الفصل الثاني
(١) تفنيد زعمه أنه هو وأعوانه طلاب علم يقيني في الشعر الجاهلي:
زعم الدكتور طه حسين أو يوهم تلاميذه وقراء كتابه أن الغاية الثمينة النفيسة
الغالية التي ينسى هو وإخوانه المجددون للإلحاد والزندقة قوميتهم ودينهم وما
يتصل به من كتاب ربهم وسنة رسوله لأجل الوصول إليها هي تحقيق الحق في
الشعر الجاهلي ونحوه من الأدب العربي وتاريخه فإن لم ينتهوا بعد تكذيب كل قديم
فيه والبحث الجديد إلى اليقين فحسبهم الانتهاء إلى الرجحان (ص ٢ و ٣) .
ثم قال إن أول شيء يفاجأ به القارئ أنه بإلحاحه في الشك وإلحاح الشك عليه
أخذ يبحث ويفكر ويتدبر حتى انتهى به ذلك كله إلى شيء إلا يكن يقينًا فهو قريب
من اليقين؛ ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليًّا ليست من الجاهلية في
شيء وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام ثم صرح بأن المسلمين هم الذين
اختلقوا هذا الشعر واخترعوه وقد أشرك المفسرين والمحدثين والمتكلمين في هذا
الاختلاق والاختراع؛ لأنه يريد أن يعتقد تلاميذه أن جميع علماء المسلمين كانوا
كذابين أفاكين حتى أئمة الدين منهم.
لكنه نقض كل ما كان بناه في هذا الفصل وهو الأول التمهيدي وهدمه في
آخره بعد أن أطال فيما أراد أن يجعله قاعدة مسلمة في سبب ما قذف به علماء
المسلمين من الاختلاق فقال (ص١٠) :
(فإذا انتهينا من هذه الطرق كلها إلى غاية واحدة هي هذه النظرية التي
قدمتها فسنجتهد في أن نبحث عما يمكن أن يكون شعرًا جاهليًّا حقًّا وأنا أعترف منذ
الآن بأن هذا البحث عسير كل العسر وبأني أشك شكًّا شديدًا في أنه قد ينتهي بنا إلى
نتيجة مرضية ومع ذلك فسنحاوله) اهـ.
فقصارى فلسفة الدكتور وإخوانه دعاة الإلحاد أنهم يدعون تلاميذ الجامعة
المصرية وغيرهم من قراء العربية إلى أن يتجردوا من دينهم وهدايته التي هي
مناط سعادة الدنيا والآخرة حسب أصول الإيمان وأن يتجردوا من جنسيتهم ووطنيتهم
التي بها يعتزون ويتناصرون ويحافظون على شرف الاستقلال والحرية القومية
وإباء ذل العبودية، وأن يلقوا أنفسهم بعد هذا التجرد في تيار من بحر الحيرة
والاضطراب في إثبات الشعر الجاهلي يدفعهم شك ويتلقاهم ريب ولا ينتهون إلى
نتيجة مرضية {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} (البقرة: ١٦) والشك
باليقين والحيرة والاضطراب بالسكينة والطمأنينة {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ} (البقرة: ١٦) .
أما والله إن هذا مذهب باطل لا يرضاه لنفسه فاضل، وتجارة لا يختار
بضاعتها المزجاة عاقل، وإن هؤلاء المجددين للإلحاد والإباحة لا يقصدون هذا
الشك المظلم ولا يتلذذون به وإنما يتوخون التشكيك لغيرهم لينتظموا في سلك ملاحدة
أوربة الذين نسب اليهم صد أهلها عن النصرانية، إن لم يكونوا كلهم مستأجرين
لذلك من المستعمرين الطامعين أو من البلشفيين وأمثال البلشفيين.
***
(٢) تصريحه بأنهم دعاة كفر وجحود للدين:
وصف الدكتور طه حسين هذا الشك في آخر الصفحة الثانية بأنه ينتهي في
كثير من الأحيان إلى الإنكار والجحود، وقال في وصف أهله مجددي الإلحاد (في
ص ٦) (وقد يجحدون ما أجمع الناس علي أنه حق لا شك فيه) اهـ.
وهذا تصريح منه بأنهم يتعمدون الكفر والإلحاد والدعوة إليه حتى فيما يعلمون
أنه حق وهذا معني الجحود قال المحقق الراغب في مفردات القرآن: الجحود نفي ما
في القلب إثباته وإثبات ما في القلب نفيه قال عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنفُسُهُمْ} (النمل: ١٤) أقول ومنه أيضًا قوله تعالى خطابًا للنبي -صلى الله عليه
وسلم -: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: ٣٣)
والدكتور طه يعرف هذا المعني ويقصد به جحد القرآن وتكذيبه حتى فيما يعلم هو
وأولياؤه أنه حق وليس عند المسلمين إجماع على حق لا شك فيه إلا كتاب الله -
تعالي- الذي قال سبحانه في وصفه: {ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: ٢)
ورسالة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وما تواتر من سنته فهو يقصد جحود
القرآن وما فيه والرسالة والسنن حتى المتواترة وقد أكد إرادته لهذا المعنى بقوله -
صلى الله عليه وسلم - (وهم قد ينتهون إلى الشك في أشياء لم يكن يباح الشك
فيها) وأما الشعر الجاهلي وغير الجاهلي فأقواه رواية مظنون، وما عداه فمشكوك فيه
أو مردود، فليس فيه شيء أجمعوا علي أنه لا شك فيه ولا أنه لا يباح الشك
فيه.
***
(٣) بطلان ما علل به ترك الدين والقومية وما يتصل بهما:
جعل الدكتور طه الأصل والقاعدة للبحث عن الأدب العربي وتاريخه وجوب
نسيان الدين وكل ما يتصل به، أي من علم وهو الكتاب والسنة ومن عمل وهو
العبادات والفضائل والآداب الإسلامية وكذلك القومية ومشخصاتها وعلل ذلك بأن
عدم تركهما يضطر الباحث إلى المحاباة وإرضاء العواطف وغل العقل بما يلائم
القومية والدين وأن هذا هو الذي أفسد على المتقدمين علمهم دون غيره (ص١٢) .
***
نقول في تفنيد هذا الزعم الذي أراد أن يجعله من القضايا المسلمة:
(أولاً) إن مسألة الشعر الجاهلي من المسائل النقلية التي لا يمكن اليقين فيها
إلا بالنقل المتواتر فإذا كان هذا لم يحصل فيما مضى فلن يحصل الآن ولا في
المستقبل لأن موضوعه الزمن الماضي، وإذ كان اليقين فيها متعذرًا بقي الظن وما
دونه من شك ووهم وطريقة علماء الإسلام المتقدمين في ترجيح بعض الروايات
علي بعض فيه وفي كل منقول أن ينظر في حال الرواة من حيث الصدق والأمانة
وجودة الحفظ وأضدادها وعدم معارضة الراوي غير الثقة للثقات والثقة لمن فوقه
في العدالة ومما يشترطونه في عدالة الراوي إلا أن يكون متعصبًا لرأي أو مذهب أو
داعية له، وأن لا يروي عمن علم أنه لم يلقه وأن يكون السند الصحيح متصلاً
بالعدول خاليًا من العلل والشذوذ.
هذا ما يرونه من جهة التثبت من الرواة، وأما مروياتهم فيشترط فيها أن
تكون ممكنة في نفسها فإذا كانت مشتملة على ما يقوم الدليل على امتناعه لم يعتدوا
بها إلخ وبهذه الشروط ردوا كثيرًا من روايات الأحاديث وأخبار التواريخ،
ورموا كثيرًا من الرواة بالضعف والوهم والكذب وتعمد الوضع.
وأجدر الناس بالتثبت والصدق في ذلك ودقة النقد علماء الدين من المحدثين
وغيرهم لأنهم يدينون الله بتحري الصدق ويؤمنون إيمانًا قطعيًّا، بأن الله
يعاقبهم في الآخرة على الكذب واتباع الهوى فالإيمان هو الذي جعل علمهم أصح
العلم ورواياتهم أجدر روايات الأمم وأحقها بالتمحيص وقبول الصحيح منها ورد
الضعيف وقد اعترف لهم بهذه المزية المنصفون من علماء أوربة.
فإذا كان هؤلاء قد قصروا في نقد ما روي من الشعر الجاهلي بمثل دقتهم في
نقد رواية الحديث، فما علي الدكتور طه إن صدق في زعمه، أنه يقصد الوصول
في رواية الشعر الجاهلي إلى شيء قريب من اليقين إلا أن يتبع خطتهم ويسير علي
منهاجهم ومنه أن يدين الله بالتزام الصدق والأمانة واجتناب الكذب والخيانة اهتداء
بقوله تعالى {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (النحل: ١٠٥) الآية وبقول
رسوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الصحيحين وغيرهما (آية المنافق
ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان) فهذا النهج الإسلامي
أصح وأسلم وأقرب إلى الإمكان من قاعدة باكون كما فهمها الدكتور طه وهي: (أن
ينسى الإنسان جنسه ودينه وما يتصل بذلك لأجل البحث عن أمر لا مطمح في
الوصول إلى الحق اليقين فيه) ولا يعقل أن يقول ذلك العالم الرياضي مثل هذا
في تحقيق مسائل نقلية عن الأمم الخالية.
(ثانيًا) أن نسيان الجنس ومشخصاته إن كان ممكنًا؛ فإن نسيان الدين ليس
بممكن فكيف يأمر به ويوجبه على الناس ورب الناس لم يكلفهم ما ليس في طاقتهم
كما قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦) نعم، إنه يعني
بنسيانه تركه وهو لازمه وقد استعمل فيه حتى في القرآن فهو يدعو إلى ترك الدين
قطعًا، وإنما السبيل إلى تركه الارتياب فيه فهو لذلك يشكك فيه.
(ثالثًا) أن الدكتور طه يعلم أن الدين مبني على الإيمان والإيمان هو
التصديق اليقيني المقترن بالإذعان، ويعلم أنه ليس من الممكن تركه بمجرد أمر آمر
لأنه هو الحاكم على العقل والوجدان، وإنما غرضه بهذا إقناع تلاميذه المقلدين الذين
لم يصلوا في الدين إلى علم اليقين أن الإيمان والعلم بالحقائق ضدان لا يجتمعان
ليصدهم بهذا عن الإيمان والإسلام ويوهمهم أنهم بهذا دون سواه يمكن أن يكونوا
فلاسفة مجددين وأحرارًا إباحيين.
(رابعًا) نقلت الصحف أن الدكتور لما شعر بإمكان مؤاخذته على إفساد
عقائد طلبة الجامعة المصرية والطعن في دين الأمة والدولة كتب كتابًا إلى رئيسه
مدير الجامعة المصرية قال فيه إنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه واليوم الآخر
ورغب إليه أن ينشر هذا الكتاب فنشره دفاعًا عنه؛ فإن كان مؤمنًا كما كتب فكل ما
في القرآن وكل ما أجمع عليه المسلمون من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
المتواترة قطعي عنده لا يحتمل الشك؛ لأن الشك ينافي الإيمان بالضرورة العقلية
وبنص قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات: ١٥) وأمثاله من كتاب الله تعالى فكيف يتفق هذا مع قاعدته (وجوب
الشك في الدين وكل ما يتصل به) ألا إن دعواه الإيمان وتصريحه بالشك في
القرآن ضدان لا يجتمعان بل نقيضان لا يدخلان في حكم الإمكان.
(خامسًا) هب أن المؤمن الموقن يمكنه أن يشك ولكن كيف يعقل من طالب
اليقين في الشعر الجاهلي وهو لا سبيل إليه كما صرح به أن يوجب على نفسه ترك
اليقين في إيمانه وما يتصل به لطالب ما اعترف به بأنه يشك شكًا شديدًا في أنه قد
ينتهي به إلى نتيجة مرضية منه. إن الصادق في طلب اليقين يطلبه في كل شيء
يمكن الوصول إليه فيه؛ فما له يرغب عن اليقين في الدين بعد حصوله ثم يرغب
في طلبه في الشعر الجاهلي مع عدم إمكانه، أو مع الشك في الوصول إلى ما يقرب
منه فيه؟
(سادسًا) هب أنه في الإمكان الانتهاء في معرفة الشعر الجاهلي إلى اليقين
وهو ما لا يرجوه الدكتور وحق له ألا يرجوه؛ لأنه محال وإنما يرجى الممكن فهل من
المعقول أن نتوسل لهذا اليقين القليل الجدوى بترك يقين الإيمان الذي يثمر السعادة
في الدنيا والعقبى أليس هذا من الخرق، وأفن الرأي، واستبدال الذي هو أدنى
بالذي هو خير؟
(سابعًا) هب أن اليقينين متساويان في أنفسهما وفي ثمرتهما وفائدتهما
فكيف يتصور تعارضهما في الحصول والثبوت وتوقف تحصيل المفقود منهما علي
بذل الموجود والمعقول والمعروف في المنطق أن اليقيني لا ينافي اليقيني فلا بد إذا
أن يكونا أو يكون أحدهما غير يقيني ومن المعروف من طباع البشر أن النقد خير
من النسيئة المساوية له؛ فكيف إذا كان النقد هو الأفضل والأنفع؟
(ثامنًا) نذكر الدكتور طه وأعضاء حزبه وجمعيته الذين يدعون الإسلام
والإيمان ومنهم من لا يدعي ذلك بعرض قاعدتهم وجوب نسيان الدين وما يتصل به
على قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ
أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى} (طه: ١٢٤-١٢٦) والمراد بالعمى هنا عمى
البصيرة لا البصر، فهل يقول الدكتور طه: إن هذه الذكرى لا تتناوله لأنه أعمى
البصيرة والبصر معًا؛ فإذا حشر لا يمكنه أن يقول وقد كنت بصيرًا كل هذه حجج
ناهضة ودلائل بينة على أن الغرض من هذا الكتاب إفساد دين طلبة الجامعة وكل
مستعد للكفر والإلحاد من العامة لا تحصيل ما يقرب من اليقين في الشعر الجاهلي
والأدب العربي؛ فإنه قد صرح بأنه يشك شكًّا شديدًا في الوصول إلي نتيجة مرضية
منه وكلها تثبت سوء نيته في الطعن في الإسلام وإضلاله فيما زعمه من طلب
تحقيق مسألة الشعر الجاهلي.
***
كتاب الشهاب الراصد
بعد كتابة ما تقدم وجمعه وقبل طبعه أهدى إلينا الأستاذ محمد لطفي جمعة
المحامي الشهير كتابه (الشهاب الراصد) وهو بحث تحليلي انتقادي ورد علمي
تاريخي علي كتاب (في الشعر الجاهلي) وهو كتاب حافل ممتع أبطل به ما ادعاه
الدكتور طه حسين من اتباع الفيلسوف ديكارت، وهدم به ما بناه من قواعد الجهل
لإثبات الحق في الشعر الجاهلي كما زعم، وسنعود إلى تقريظه بعد أن نطالع جل
فصوله وصفحاته تزيد علي الثلاثمائة بقطع المنار وثمن النسخة منه ١٥ قرشًا
مصريًّا تضاف إليها أجرة البريد، ويطلب من مكتبة المنار بمصر.
((يتبع بمقال تالٍ))