لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (تابع لما نشر في الجزء الماضي)
حكم المولاة بين صلاتي الجمع: والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال، لا في وقت الأولى، ولا في وقت الثانية، فإنه ليس لذلك حد في الشرع، ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة، وهو شبيه بقول من حمل الجمع بالفعل؛ وهو أن يسلم من الأولى في آخر وقتها، ويحرم بالثانية في أول وقتها، كما تأول جمعه على ذلك طائفة من العلماء أصحاب أبي حنيفة وغيرهم، ومراعاة هذا من أصعب الأشياء وأشقها فإنه يريد أن يبتدئ فيها إذا بقى من الوقت مقدار أربع ركعات أو ثلاث في المغرب، ويريد مع ذلك أن لا يطيلها، وإن كان بنية الإطالة تشرع في الوقت الذي يحتمل ذلك، وإذا دخل في الصلاة ثم بدا له أن يطيلها، أو أن ينتظر أحدًا ليحصل الركوع والجماعة لم يشرع ذلك ويجتهد في أن يسلم قبل خروج الوقت، ومعلوم أن مراعاة هذا من أصعب الأشياء علمًا وعملاً وهو يشغل قلب المصلي بغير مقصود الصلاة، والجمع شُرع رخصة ودفعًا للحرج عن الأمة، فكيف لا يشرع إلا مع حرج شديد، ومع ما ينقض مقصود الصلاة؟ فعلم أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أخر الظهر عجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء، يفعل ذلك على الوجه الذي يحصل به التيسير ورفع الحرج له ولأمته، ولا يلتزم أنه لا يسلم من الأولى إلا قبل خروج وقتها الخاص، وكيف يعلم ذلك المصلي في الصلاة وآخر وقت الظهر وأول وقت العصر إنما يعرف على سبيل التحديد بالظل، والمصلي في الصلاة لا يمكنه معرفة الظل ولم يكن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - آلات حسابية يعرف بها الوقت، ولا موقت يعرف ذلك بالآلآت الحسابية؛ والمغرب إنما يعرف آخر وقتها بمغيب الشفق، فيحتاج أن ينظر إلى جهة الغرب هل غرب الشفق الأحمر أو الأبيض؟ والمصلي في الصلاة منهي عن مثل ذلك. وإذا كان يصلي في بيت أو فسطاط ونحو ذلك مما يستره عن الغرب ويتعذر عليه في الصلاة النظر إلى المغرب فلا يمكنه في هذه الحال أن يتحرى السلام في آخر وقت المغرب بل لا بد أن يسلم قبل خروج الوقت بزمن يعلم أنه معه يسلم قبل خروج الوقت، ثم الثانية لا يمكنه على قولهم أن يشرع فيها حتى يعلم دخول الوقت وذلك يحتاج إلى عمل وكلفة مما لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يراعيه بل ولا أصحابه، فهؤلاء لا يمكن الجمع على قولهم في غالب الأوقات لغالب الناس إلا مع تفريق الفعل، وأولئك لا يكون الجمع عندهم إلا مع اقتران الفعل، وهؤلاء فهموا من الجمع اقتران الفعلين في وقت واحد أو وقتين، وأولئك قالوا: لا يكون الجمع إلا في وقتين، وذلك يحتاج إلى تفريق الفعل، وكلا القولين ضعيف. والسنة جاءت بأوسع من هذا وهذا، ولم تكلف الناس لا هذا ولا هذا، والجمع جائز في الوقت المشترك فتارة يجمع في أول الوقت كما جمع بعرفة، وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة وفي بعض أسفاره وتارة يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين، وقد يقعان معًا في آخر وقت الأولى، وقد يقعان معًا في أول وقت الثانية، وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا، وكل هذا جائز؛ لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة، ففي عرفة ونحوها يكون التقديم هو السنة. وكذلك جمع المطر، السنة أن يجمع للمطر في وقت المغرب حتى اختلف مذهب أحمد، هل يجوز أن يجمع للمطر في وقت الثانية؟ على وجهين. وقيل: إن ظاهر كلامه أنه لا يجمع وفيه وجه ثالث أن الأفضل التأخير في الجمع أفضل مطلقًا؛ لأن الصلاة يجوز فعلها بعد الوقت عند النوم والنسيان، ولا يجوز فعلها قبل الوقت بحال، بل لو صلاها قبل الزوال، وقبل الفجر أعادها، وهذا غلط فإن الجمع بمزدلفة إنما المشروع فيه تأخير المغرب إلى وقت العشاء بالسنة المتواترة، واتفاق المسلمين وما علمت أحدًا من العلماء سوغ له هناك أن يصلي العشاء في طريقه، وإنما اختلفوا في المغرب، هل له أن يصليها في طريقه على قولين. وأما التأخير فهو كالتقديم، بل صاحبه أحق بالذم، ومن نام عن صلاة أو نسيها فإن وقتها في حقه حين يستيقظ ويذكرها، وحينئذ هو مأمور بها لا وقت لها إلا ذلك فلم يصلها إلا في وقتها. وأما من صلى قبل الزوال وطلوع الفجر الذي يحصل به، فإن كان متعمدًا؛ فهذا فعل ما لم يؤمر به، وأما إن كان عاجزًا عن معرفة الوقت كالمحبوس الذي لا يمكنه معرفة الوقت؛ فهذا في أجزائه قولان للعلماء، وكذلك في صيامه إذا صام، حيث لا يمكنه معرفة شهور رمضان كالأسير إذا صام بالتحري، ثم تبين له أنه قبل الوقت ففي أجزائه قولان للعلماء، وأما من صلى في المصر قبل الوقت غلطًا فهذا لم يفعل ما أمر به وهل تنعقد صلاته نفلاً أو تقع باطلة؟ على وجهين في مذهب أحمد وغيره. والمقصود أن الله لم يبح لأحد أن يؤخر الصلاة عن وقتها بحال كما لم يبح له أن يفعلها قبل وقتها بحال فليس جمع التأخير بأولى من جمع التقديم، بل ذاك بحسب الحاجة والمصلحة فقد يكون هذا أفضل وقد يكون هذا أفضل، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد المنصوص عنه وغيره، ومن أطلق من أصحابه القول بتفضيل أحدهما مطلقًا فقد أخطأ على مذهبه. *** الأحاديث في الجمع تقديمًا وتأخيرًا: وأحاديث الجمع الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مأثورة من حديث ابن عمر، وابن عباس، وأنس، ومعاذ وأبي هريرة، وجابر، وقد تأول هذه الأحاديث من أنكر الجمع على تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية إلى أول وقتها، وقد جاءت الروايات الصحيحة بأن الجمع كأن يكون في وقت الثانية، وفي وقت الأولى وجاء الجمع مطلقًا، والمفسر يبين المطلق، ففي الصحيحين من حديث سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء، رواه مسلم، وروى مسلم من حديث يحيى بن سعيد، حدثنا عبيد الله أخبرني نافع عن ابن عمر أنه كان إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق، ويذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء. *** حديث ابن عمر في جمع التأخير: قال الطحاوي: حديث ابن عمر إنما فيه الجمع بعد مغيب الشفق من فعله، وذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع بين الصلاتين، ولم يذكر كيف كان جمعه؛ هذا إنما فيه التأخير من فعل ابن عمر لا فيما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر المثبتون ما رواه محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا حماد بن مسعدة عن عبيد الله بن عمر، عن نافع أن عبد الله بن عمر أسرع السير فجمع بين المغرب والعشاء فسألت نافعًا فقال: بعدما غاب الشفق بساعة، وقال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك إذا جدّ به السير، ورواه سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع، أن ابن عمر استصرخ على صفية بنت أبي عبيد وهو بمكة وهي بالمدينة، فأقبل فسار حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فقال رجل كان يصحبه: الصلاة الصلاة، فسار ابن عمر، فقال له سالم: الصلاة فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عجل به أمر في سفر جمع بين هاتين الصلاتين، فسار حتى إذا غاب الشفق جمع بينهما وسار ما بين مكة والمدينة ثلاثًا. وروى البيهقي هذين باسناد صحيح مشهور، قال وراه معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع، وقال في الحديث فأخر المغرب والعشاء، قال: وكان سول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك إذا جدّ به السير أو جزبه أمر (قال) ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع فذكر أنه سار قريبًا من ربع الليل ثم نزل فصلى، ورواه من طريق الدارقطني، حدثنا ابن صاعد والنيسابوري حدثنا العباس بن الوليد بن يزيد، أخبرني عمر بن محمد بن يزيد، حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر، أنه أقبل من مكة وجاءه خبر صفية بنت أبي عبيد فأسرع السير، فلما غابت الشمس، قال له إنسان من أصحابه: الصلاة. فسكت، ثم سار ساعة فقال له صاحبه: الصلاة، فقال الذي قال له الصلاة: إنه ليعلم من هذا علمًا لا أعلمه فسار حتى إذا كان بعدما غاب الشفق بساعة نزل، فأقام الصلاة وكان لا ينادي لشىء من الصلاة في السفر فأقام فصلى المغرب والعشاء جميعًا جمع بينهما ثم قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق بساعة، وكان يصلي على ظهر راحلته أين توجهت به السبحة [١] في السفر) ويخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصنع ذلك. قال البيهقي: اتفقت رواية يحيى بن سعيد الأنصاري، وموسى بن عقبة، وعبيد الله بن عمر، وأيوب السختياني، وعمر بن محمد بن زيد، على أن جمع عبد الله بن عمر بين الصلاتين بعد غيوبة الشفق، وخالفهم من لا يدانيهم في حفظ أحاديث نافع، وذكر أن جابر رواه عن نافع ولفظه: حتى إذا كان في آخر الشفق نزل فصلى المغرب ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى بنا ثم أقبل عليها فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل به الأمر صنع هكذا، وقال: وبمعناه رواه فضل بن غزوان وعطاف بن خالد عن نافع، ورواية الحفاظ من أصحاب نافع أولى بالصواب فقد رواه سالم بن عبد الله، وأسلم مولى عمر وعبد الله بن دينار، وإسماعيل بن عبد الرحمن بن ذويب، عن ابن عمر نحو روايتهم، أما حديث سالم فرواه عاصم بن محمد عن أخيه عمر بن محمد عن سالم، وأما حديث أسلم فأسنده من حديث ابن أبي مريم، أنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد بن أسلم عن أبيه، قال: كنت مع ابن عمر فبلغه عن صفية شدة وجع فأسرع السير حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعتمة جمع بينهما، وقال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جدّ به السير أخَّر المغرب وجمع بينهما، رواه البخاري في صحيحه عن ابن أبي مريم. وأسند أيضًا من كتاب يعقوب بن سفيان أنا أبو صالح وابن بكير قالا: حدثنا الليث قال: قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: حدثني عبد الله بن دينار، وكان من صالحي المسلمين صدقًا ودينًا، قال: غابت الشمس ونحن مع عبد الله ابن عمر فسرنا، فلما رأيناه قد أمسى قلنا له: الصلاة فسكت حتى غاب الشفق، وتصوبت النجوم، فنزل فصلى الصلاتين جميعًا، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جدّ به السير صلى صلاتي هذه، يقول جمع بينهما بعد ليل. وأما حديث إسماعيل بن عبد الرحمن، فأسند عن طريق الشافعي وأبي نعيم عن ابن عيينة عن أبي نجيح عن إسماعيل بن الرحمن بن ذؤيب، قال: صحبت ابن عمر فلما غابت الشمس هبنا أن نقول له: قم إلى الصلاة فلما ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء نزل فصلى ثلاث ركعات وركعتين ثم التفت إلينا، فقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل. *** حديث أنس في جمع التقديم وأما حديث أنس ففي الصحيحين عن ابن شهاب عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. هذا لفظ الفعل عن عقيل عنه، ورواه مسلم من حديث ابن وهب، حدثني جابر بن إسماعيل عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا عجل به السير [٢] يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينهما وبين العشاء حين يغيب الشفق. ورواه مسلم من حديث شبابة حدثنا الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الظهر والعصر في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما، وروراه من حديث الإسماعيلي [٣] أنا الفريابي، أنا إسحاق بن راهويه، أنا شبابة بن سوار عن ليث عن عقيل عن أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في السفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم ارتحل قلت: هكذا في هذه الرواية، وهي مخالفة للمشهور من حديث أنس. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))