للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مذهب الإباضية
في صلاة المسافر والاستفتاح والتأمين

... ... ... بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
رحم الله أستاذنا وشيخنا السيد محمد رشيد رضا وأكرمه وأعانه ونصره، أما
بعد، فإني أريد أن أعرض من آثار المسلمين أجوبة على سؤالات السائل بالمنار
الأغر الصادر بتاريخ جمادى الأولى سنة ١٣٣١.
ولم أقصد بهذه الآثار التفاضل أو التشهير بالأصوب أو الأحرى، وإنما مجرد
عرض أقوال المسلمين أهل الدعوة على معرض أقوال غيرهم؛ ليكون المجال
أوسع للمستبصرين مع أني لم أكن معترضًا ولا منتقدًا ولا مدعيًّا بل إني كثير
الجهل قليل العلم.
الجواب على (س١٠) أن القصر في السفر رخصة من الله تعالى وتخفيف،
ودليلها من الكتاب والسنة، أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} (النساء: ١٠١) وأما السنة فقوله
عليه الصلاة والسلام للفاروق رضي الله عنه حين سأله عن قصر الصلاة فقال:
(صدقة من الله تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته) وقوله عليه السلام: (إن الله يحب
أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه) .
فالمفهوم من هذا أن صلاة السفر سنة لا يجوز تركها، وأما المسافة التي
يجوز فيها صلاة السفر ففرسخان، والدليل على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم
خرج ذات يوم ومعه أصحابه حتى إذا صار في ذي الحُلَيْفَة فصلى بهم ثم رجع
فسئل عن ذلك فقال: (أردت أن أعلمكم صلاة السفر أو قيل حد السفر) .
والفرسخ عند علماء أهل الدعوة - رحمهم الله - ثلاثة أميال والميل أربعة
آلاف ذراع.
ولا بد من المسافر أن ينوي سفرًا مسافة تجاوز فرسخين فصاعدًا وإن لم ينو
السفر وتعدى الفرسخين وتجاوز بيوت مصره أو بلده ووجبت الصلاة صلاها قصرًا.
وجائز للمسافر إذا حضرت الصلاة أن يصلي خلف الإمام المقيم أربعًا،
والمسافر يلزمه القصر، وإن في بلده، ما دام لم ينو الإقامة فيها، ولا ينكسر عليه
القصر حتى يصل السور في المنزل، وفي البيت إلى بابه وفي الخص إلى أوتاده،
والمقصود دخوله الوطن فعندها يصلي تمامًا صلاة الإقامة، وقد مضت السنة أن
يقصر المسافرون وإن أقاموا عشر سنين ما لم يتخذوها وطنًا، وقد بلغنا أن
عبد الله بن عمر أقام بأذربيجان سبعة عشر شهرًا يصلي قصرًا، والله أعلم.
ومن آثار المسلمين أن الرجل إذا تزوج امرأة مسافرة وهو مقيم أتمَّت معه،
وإن اشترى عبدًا مسافرًا أتم معه، وإن تزوج امرأة حاضرة لم يتم معها إذا كان
مسافرًا هو وهي في أعداد المقيمين، ولا تقصر معه حتى تتحول معه مكانًا يتعدى
الفرسخين، وإن اشترى عبدًا وهو مسافر وكان العبد مقيمًا كان في عداد المقيمين
حتى يتحول معه ويجاوز الفرسخين.
الجواب على (س١٣) : المستحب عند المسلمين اقتداءًا بأكابر الصحابة عمر
وعائشة وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة، وجهوا لها
(بسبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) . ثم بالاستعاذة
من الشيطان الرجيم قبل تكبيرة الإحرام أو بعدها كلا الفعلين جائز، وقراءة فاتحة
الكتاب بالبسملة خلف الإمام فقط، وأما فذًّا فقراءة الفاتحة وثلاث آيات من القرآن
على الأقل؛ لقوله عليه السلام: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) فصاعدًا، وفي
رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم (أمر أعرابيًّا أن يقرأ في الصلاة فاتحة
الكتاب وما تيسر من القرآن) ، وما روي أيضا من طريق آخر أنه قال عليه السلام:
(وشيئًا من القرآن معها) والله تعالى أعلم.
وأما التأمين بعد فاتحة الكتاب فلم يبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه فعله؛ لأنه لم يكن من القرآن، وإنما التأمين في الدعاء بعد أداء الصلاة
والخروج منها؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} (الشرح: ٧) أي إذا
خرجت من الصلاة فانصب إلى الدعاء، والله أعلم.
(المنار)
يعني الكاتب بأهل الدعوة من المسلمين الإباضية أهل مذهبه، أما قوله: إن
القصر في السفر رخصة، ثم قوله: إنها سنة، فيوافق قول الشافعية وقد رجحنا في
التفسير وغير التفسير خلافه، وأنه واجب وتمام وعزيمة؛ ولذلك لم يتم النبي صلى
الله عليه وسلم الظهر والعصر والعشاء في سفر قط، وبه صرحت عائشة كما
ثبت في صحيح البخاري، وفي كتاب الجامع الصحيح للفراهيدي المعتمد عند
الإباضية، قال شارحه الشيخ عبيد الله بن حميد السالمي، وهو من أشهر علمائهم
في هذا العصر: وقد أخذ بظاهره أصحابنا والحنفية والهادوية فالقصر عندنا
واجب لا جائز فقط، وهو المروي عن عمر وعلي، ونسبه النووي إلى كثير
من أهل العلم، قال الخطابي: كان مذهب أكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار
على أن القصر هو الواجب في السفر. إلخ.
ثم أورد ما اعترض به على هذا القول وأجاب عنه، ومنه آية {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} (النساء: ١٠١) قال: إنها نزلت في صلاة
الخوف لا السفر، وإن نفي الجناح لا يستلزم نفي الوجوب.
أقول: وهو الصواب الذي حققناه في التفسير من قبل، ومنه حديث عمر:
(صدقة من الله) إلخ، وأجاب عنه بأن كونه رخصة وتخفيفًا لا ينافي كونه تمامًا،
فإنما ذلك بالنظر إلى الأربع المفروضة في الحضر، وذكر حديثا مرفوعًا بغير سند:
الركعتان في السفر ليستا قصرًا إنما القصر واحدة عند الخوف وأجاب غيره عن
حديث عمر بأن قوله صلى الله عليه وسلم: (فاقبلوا صدقته) أمر بقبول القصر
وهو للوجوب، وأما ما ذكره في مسافة القصر فهو قريب مما بيناه في التفسير وفي
مجلدي المنار السابع والثالث عشر، وأنه صح (ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ)
والاحتياط الأخذ بالثلاثة فراسخ، وما ذكره من فروع المسألة لم يذكر له دليلاً.
وأما ما قاله في افتتاح الصلاة بسبحانك اللهم وبحمدك فلم يصح فيه حديث
مرفوع كما قلنا، وأقوى ما ورد فيه أن عمر رفع صوته به؛ ليعلمه الناس فيقال:
لولا أنه سنة تلقاها عن النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل.
وأما قوله في التأمين: إنه لم يبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فجوابه أنه بلغ غيرهم، وقد صحت الرواية فيه عند أهل السنة والجماعة، ومن
حفظ حجة على من لم يحفظ، على أن الإباضية يوافقون الحنفية في هذا القول،
ومتى صحت السنة كانت حجة على كل مسلم.