رسالة في علم النفس وفلسفة الأخلاق للعالم العامل ع. ز.
(تمهيد) (١) إن للشرور أسبابًا معظمها ناتج من أوهام باطلة. فيجب إحياء الحقائق وإزهاق الأوهام. (٢) إن للأوهام أبوابًا معظمها ناشئ من الجهل - البسيط والمركب - فيفرض تنوير الأذهان بقدر العلم وإن كان قليلاً. (٣) إن للجهل أسبابًا معظمها آتٍ من قلة القراءة والكتابة الصحيحتين. فيلزم السعي في تكثير القراء الذين يفقهون ما يكتب - كتابة صحيحة - والكُتاب الذين يعرفون كيف يكتبون. (٤) إن لقلة القراءة والكتابة - الصحيحتين - أسبابًا، معظمها صادر عن رداءة أصول التعليم. فيتحتم الدلالة على الأصول النافعة وتعويد الناس عليها. (٥) إن لرداءة أصول التعليم أسبابًا جُلها من التقليد الأعمى وإهمال الفكر فلا بد من النصح والتناصح بالتفكر. (٦) إن للتقليد الأعمى أسبابًا أكثرها ناجم عن اختلال شئون النفوس في حبها وبغضها فيتعين وصف علاجات تشفي من هذا الاختلال ولو قليلاً. هذه الفرائض المشروحة لا يشك في وجوبها عاقل ولكن مَن هم المكلفون بها؟ أنتم يا علماء النفس مكلفون بهذه الفرائض. ومنذ كلفت نفسي أن تتشرف بالدخول في زمرتكم طفقت أطالع صفحات كتاب الوجود بعين البصيرة وأقيد النتائج في دفتر الذاكرة. فهذا ما شجعني اليوم على أن أشارككم في أعمالكم. ومن أجل هذه المشاركة حررت فصولاً لتأدية بعض هذه الفرائض، أكثرت فيها من التوضيح وأقللت الفضول وتوخيت أسهل العبارات وأجمل الإشارات وراعيت فيها فهم الصغير (من حيث القراءة لا من حيث السن) والكبير. ووهم الجليل والحقير، وعدلت عن قيل زيد وعبيد واستمسكت بما أرسل الله لأبصارنا وبصائرنا من الأمثال. وإليكم يا قراء المنار الزاهر أقدم هديتي هذه (نظام الحب والبغض) بمساعدة منشئه العلّامة المرشد، أعلى الله مناره وأيَّده بعنايته. قطبان في الإنسان عليهما تدور أحوال نفسه هما: الحب والبغض. فهل يمكن إدخالهما تحت أحكام نظام؟ (الجواب) في هاتين القوتين المتنافرتين تكلم الأنبياء والمرسلون. والحكماء المتبعون، والعلماء المعلمون، والشعراء الواصفون والأدباء المحاضرون، وبهما تقارب الناس وتباعدوا، وتحازبوا وتحاربوا، واجتمعوا وتفرّقوا، وتعاونوا وتخاذلوا؛ ومن أجلهما طغوا واعتدلوا، وأنصفوا وجاروا. تكلم الناس كلهم في الحب والبغض ولكن اختلفت الاصطلاحات، وتنوعت المقاصد، واختلفت المشارب، فتعددت الأسماء، وكثرت الكلمات، وتوفرت المعارضات والمجادلات. فكلام الناس فيهما الدائر على ما يجب أن يُحب وما يجب أن يُبغض يلوح ويصرح بأنه من الممكن إدخال هذين المؤثرين تحت حكم (نظام) . وعلى هذا نكون سالمين من الخطأ في تعبيرنا عن علم النفس وأخلاقها بنظام الحب والبغض. بل نكون قد أصبنا عبارة هي أوضح من أخواتها في الدلالة على هذا العلم النفيس المفيد. هذا - أي إمكان دخول الحب والبغض تحت نظام - رأي طوائف العالم على اختلافهم، به تشهد الأديان والعقول، وله تؤيد المشاهدة والتجربة. ولآخرين قليلين رأي آخر هو عدم الإمكان. وسيرى الذين يخالفون بيانًا شافيًا في هذا المقال. وسيذّكر فيه الموافقون. (ما هو الحب وما هو البغض؟) إن لحياة الإنسان (كسائر الحيوانات) نظامًا عرف بعد وجوده ولم يعرف مبتدأ وجوده. وقد عرف أن هذا النظام شبيه بنظام مملكة كثيرة الأجزاء بعض أفرادها مهم جدًّا، خلوها منه يوجب خللاً كبيرًا فيها. وبعضها من قبيل الخدم والأعوان لا يوجب خلوها منه خللاً يذكر. وقد احتاج الناس من قديم الزمان لأجل التعريف بمعروفاتهم إلى تسمية الأشياء بأسماء يتواضعون عليها. فأما التي يشيع عرفها بين الناس فتصير أسماؤها من قبيل مفردات اللغة التي يتكلمون بها، بمعنى أن استعمالها العام لمعناها المشهور يجعل معناها اللغوي المشهور عامًّا. وأما التي لا يشيع عرفها إلا بين العلماء منهم فتصير أسماؤها من قبيل مفردات العلوم التي يتداولونها، بمعنى أن استعمالها الخاص يجعل معناها المقصود عند العلماء خاصًّا. مثاله: (١) كلمة (المبتدأ) معناها العام (الأول) ومعناها الخاص عند علماء النحو: الكلمة المسند إليها حكم من الأحكام. ومثاله: (٢) كلمة (المجاز) معناها العام (الممر) ومعناها الخاص عند علماء البيان: العدول في كلمة عن معناها الأصلي. والأجزاء التي يتكون منها نظام الحياة قد سمي كل منها باسم وجرى على كل منها الاستعمال العام، أما مجموع ما به نظام الحياة فسماه القدماء من أهل لغتنا (النفس) لكن هذه الكلمة لدلالتها على مدلول عظيم شأنه قد اتخذه العلماء لمعنى غير الذي يفقهه منها العامة من الناس. ومن ثمة كانت جديرة أن نقول (إنها كلمة علمية) بمعنى أن لها معنى خاصًّا عند العلماء بخواصها وأحوالها. (والحب والبغض) من هذا القبيل أي أنهما في اعتبار العامة كلمتان من جملة ما هو مشهور المعنى من مفردات لغتهم. وفي اعتبار العلماء - علماء النفس - هما كلمتان مدلولاهما تحت النظر والبحث يتساءلون فيما بينهم عن تعريفهما. على أنه يجب أن نصرح بأن العلماء من حيث الجملة كثيرًا ما يعرفون المعروفات ويوضحون الواضحات. وكثيرًا ما ينتج من كثرة كلماتهم واصطلاحاتهم في توضيح الواضحات إيهامات يشغلون بها أذهان القارئين على غير جدوى. هذه حقيقة يجب أن لا نتغافل عنها. وأن لا نغفل ذكرها. وهي تفرض علينا أن لا نقلدهم في كل أبحاثهم وأن لا نشاركهم في الكلمات التي ابتدعوها في أكثر المواضع لا لشيء إلا حب توسيع مسافة الفرق بينهم وبين العامة. ولكن لهذا الأمر مستثنيات هي التي تفتح لحسن الظن بنيَّاتهم بابًا كبيرًا، وهذان الحرفان اللذان نحن بصددهما من مستثنيات هذا الأمر. فكلنا نحب ونبغض ولكن في الحقيقة ما كل واحد منا يعرف ما هو الحب وما هو البغض. ومن ثم اختلفت تعاريفهما أيضًا بلسان العلم. والتعريف الموافق هو أن الحب اعتقاد خير، راجع أو مناسب للنفس المحبة من الجهة المحبوبة [*] والبغض ضده فهو اعتقاد شر - إلى آخر التعريف وبهذا التعريف يمكننا بغاية السهولة أن نعرف العلة ونجيب عن هذا السؤال: (لماذا نحب ونبغض؟ !) وهذا التعريف الحقيقي هو الذي سهل لنا الحكم بأن دخولهما تحت حكم (نظام) ممكن لأن الاعتقاد قد يكون صوابًا وقد يكون خطأً شأن كل اعتقاد، فكما أمكن بواسطة العلم إرجاع كثير من الناس عن خطأهم في أشياء كثيرة يمكن إرجاع معتقد الخير والملاءمة أو الشر والمباينة في جهة من الجهات عن ذلك الاعتقاد، فبينما المرء يحب إذا هو يبغض. وإذا سلمنا التعسر أحيانًا لا نقول بالتعذر وسيوضح هذا أمثلة كثيرة. حب الذات وعلى حسب التعريف السابق للحب وضده، وعلى حسب التعليل المتقدم (لماذا نحب - لماذا نبغض) يظهر أن الإنسان لا يحب غيره إلا لأجل ذاته، فهو بهذا الحب لم يخرج عن حب ذاته إلا بحسب الصورة فقط، فهل هذا صحيح؟ وما الدليل عليه؟ وهل محبة الذات أمر نافع أم أمر ضار؟ نعم، إن الإنسان لا يحب غيره إلا لأجل ذاته، وهذه الحقيقة دقيقة جدّا يدركها البعض بالبداهة ولا يدركها البعض إلا بالإيضاح، ونحن نجمل الكلام ونذكر رؤوس المباحث التي تتعلق بأذيالها، ونشرحها قضية قضية موجزين: ١- الإنسان يحب ذاته. ٢- حب الذات في أصله طبيعي نافع. ٣- ذات غيرنا كذاتنا فلا بد من حد في الحقوق لنا ولغيرنا، فحب الذات له حدود. ٤- إذا تجاوزنا الحدود في حب الذات صار ضارًّا. ٥- إذا لم نحب غيرنا لا نقدر أن نقف عند الحدود. ٦- إذا لم نحب ذاتنا لا نقدر أن نحب غيرنا. ٧- بغض الذات مرض. ٨- قد يكون هذا المرض نافعًا إذا سلمت به النفوس من الشرور. ٩- متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم كانت السعادة. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))