للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التحكيم بين الزوجين في الشقاق

(س٦) الشيخ محمد نجيب التونتاري المدرس بالمدرسة التونتارية (روسيا) :
أعرض على حضرتكم مسألة كثرت البلوى بها في ديارنا، مستفتيًا من شريف
علمكم مترقبًا البيان الوافي بالمقصود في أحد أعداد المنار؛ ليعم نفعه ويكثر أجره
وهي: هل يوجد طريق شرعي من الكتاب والسنة للتفريق بين الزوجين عند طلب
الزوجة له وامتناع الزوج عنه مع وقوع الشقاق بينهما؟ وإني راجعت كتب الحنفية
الموجودة في أيدينا فوجدت أن قول إمامنا أبي حنيفة -رضي الله عنه - عدم التفريق
وقول الإمام محمد -رضي الله عنه- التفريق إذا وجد في الزوج عيب غير متحمل،
وتقع الفرقة بمجرد اختيار الزوجة كما ذكره في كتاب الآثار، وأما الإمام مالك وأحمد
والشافعي في أحد قوليه - رضي الله عنهم - فمذهبهم التفريق بسبب عيب الزوج إذا
كانت الزوجة تطلبه كما هو المنقول في كتبنا فاتفاق الأئمة سوى الإمام أبي حنيفة
يقوي القول بالتفريق فيكون العمل به أولى وأحوط. ثم إني بعدما نظرت في قوله
تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (النساء: ٣٥) الآية ظهر لي بإعانة التفاسير
أنه عند وقوع الشقاق - الشقاق هو الخلاف والعداوة على ما ذكروه - بين الزوجين
ينصب القاضي الحكمين العدلين ويوليهما أمر الجمع والتفريق كما هو المروي عن
علي - رضي الله عنه - فهذان الحكمان بعد ما يطلعان على أحوال الزوجين يجتهدان
في الإصلاح بينهما وإعادتهما إلى المعاشرة بالمعروف إن أمكن؛ وإن لم يمكن ذلك؛
فإن كان النشوز من طرف الزوج فحَكَم الزوج يفرق الزوجة نيابة عنه على سبيل
التطليق، وإن كان النشوز من طرف الزوجة؛ فحَكَم الزوجة يفرقها على سبيل
(الخُلع) فكلا الأمرين - أي الجمع بالمعروف أو التفريق بالمعروف - ينبغي أن
يكون مرادًا من الإصلاح المذكور في الآية؛ وأما الإبقاء على حال الشقاق فليس هو
من الإصلاح في شيء بل هو داخل في ضمن قوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء: ١٢٩) الآية ومناف لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء:
١٩) الآية وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ
ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا} (البقرة: ٢٣١) الآية.
والحاصل أن الإصلاح إنما هو لدفع الشقاق، ولا يتصور ذلك إلا بأحد
الأمرين: أي بالجمع بالمعروف أو التفريق بالمعروف، ففي الآية دلالة على كلا
الأمرين أي على ثبوت حق الجمع والتفريق للحكمين؛ لتضمن معنى الإصلاح ذلك.
هذا ما ظهر لي من تأمل الآية الكريمة ولا أدري أصواب أم خطأ والمأمول من الأستاذ
إيضاح هذه المسألة وتطبيقها على الكتاب والسنة خدمة للدين والملة حتى يظهر
الصواب في هذه المسألة ولكم الأجر والمنة.
(ج) إن الآية الكريمة صريحة في وجوب التحكيم بين الزوجين إن خيف
شقاق بينهما؛ لأنه يجب أن يكونا شقيقين لا متشاقين ينضوي كل منهما إلى شق
(جانب) غير الشق الذي فيه الآخر. ولا يجيز الإسلام للمسلمين أن يدَعوهما يستبد
أقواهما بأضعفهما، والخطاب في الآية للحكام في قول وللمؤمنين في قول، والقرآن
يخاطب المؤمنين عامة في الأمور العامة؛ لأنهم المسيطرون على الحكم أو لأن
الحكم شورى بينهم؛ فإذا قصَّر أميرهم في تنفيذ الشرع ألزموه به أو عزلوه، وولوا
غيره فالقولان متلازمان. ويجب على كل من الزوجين قبول ما يحكم به الحكمان
فمن أبى الخضوع ألزمه الحاكم المؤيَّد بجماعة المسلمين بقبول تنفيذ الشرع.
وقد أخرج الشافعي في (الأم) والبيهقي في السنن وغيرهما عن عبيدة السلماني
قال: جاء رجل وامرأة إلى علي - كرم الله تعالى وجهه - ومع كل واحد منهما
فئام من الناس، فأمرهم أن يبعثوا حكَمًا من أهله وحكمًا من أهلها، ثم قال للحكمين:
تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن
تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله - تعالى- بما عليّ فيه ولي، وقال الرجل:
أما الفرقة فلا، فقال علي - رضي الله عنه -: كذبت والله حتى تقرَّ بمثل الذي
أقرت به. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما - أنه قال في هذه
الآية: هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما، أمر الله - تعالى - أن يبعثوا
رجلاً صالحاً من أهل الرجل، ورجلاً مثله من أهل المرأة؛ فينظران أيهما المسيء؛
فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته، وقسروه على النفقة، وإن كانت
المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة، فإن اجتمع أمرهما على أن
يفرِّقَا أو يجمِّعَا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين، وكره ذلك
الآخر ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي كره، ولا يرث الكاره
الراضي، وليس في قول ابن عباس - رضي الله عنهما - شيء لا يفهم من الآية
إلا مسألة الإرث بعد التفريق، ويقول الأصوليون والمحدثون في مثل ذلك: إنه
شيء لا مجال للرأي فيه؛ فله حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وما قاله بعض الحنفية من أن نفوذ حكمهما يتوقف على رضى الزوجين
بالتحكيم أخذًا من قول (علي) للرجل: كذبت ... إلخ - غير وجيه؛ لأن معناه
الإلزام بالإقرار وكونه لا يصدق في الاتباع حتى يخضع له، وهذا لا ينافي إلزامه
به كرهًا، إن لم يرض طوعًا، قال في (فتح البيان في مقاصد القرآن) عند تفسير
{إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا} (النساء: ٣٥) أي على الحَكمين أن يسعيا في إصلاح ذات
البين جهدهما؛ فإن قدرا على ذلك عَمِلا عليه، وإن أعياهما إصلاح حالها ورأيا
التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد، ولا توكيل بالفرقة
من الزوجين، وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق، وهو مروي عن عثمان وعلي،
وابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي وحكاه ابن كثير عن الجمهور قالوا: لأن
الله تعالى قال: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا} (النساء: ٣٥) وهذا
نص من الله سبحانه أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان. وقال الكوفيون وعطاء
وابن زيد والحكم وهو أحد قولي الشافعي: إن التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في
البلد لا إليهما ما لم يوكلهما الزوجان أو يأمرهم الإمام أو الحاكم؛ لأنهما رسولان
شاهدان فليس إليهما التفريق: ويرشد إلى هذا قوله {إِن يُرِيدَا} (النساء: ٣٥) ،
أي الحكمان {إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: ٣٥) لاقتصاره على ذكر
الإصلاح دون التفريق. اهـ
وأنت ترى أن القول الأول هو المتبادر، ويزيده قوة أنه مروي عن أعلم
الصحابة، ولم يُرْوَ أن غيرهم منهم خالفهم فيه، وأما الاكتفاء في الآية بذكر
الإصلاح فلأنه هو المطلوب الذي ينبغي الحرص عليه وعدم المصير إلى غيره، إلا
للضرورة، والتفريق يؤخذ من المفهوم ولولا ذلك لم يقل به الصحابة والتابعون.
على أن الساعي في الإصلاح لا حكم له فيسمى حكمًا، وقد كان المسلمون في
الصدر الأول يعملون بهذه الآية على أحد الوجهين في تفسيرها وقد تركوها في هذه
الأزمنة التي انفصمت فيها عروة الدين، ونسخ الحكام المستبدون أكثر أحكام الكتاب
المبين، وأهمل الناس العناية بأمر إخوانهم المسلمين، ومن قدر على إحياء هذه
السنة كان له أجر المصلحين.